الصفحة 298
عن مسيئهم " (1)، فمن هذا الشعر وهذا الهتاف الذي رواه الزبير بن بكار الإمام الثقة. يمكن القول أن الأنصار علموا بعد وفاة الرسول أن صفحة جديدة ستفتح لهم. قال لهم النبي: " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني وموعدكم الحوض " (2)، وكما علمنا من قبل أن الكتاب والعترة لا يفترقان حتى يردا على الحوض وإن عليا سيدفع المنافقين عنه. ولما كان الأنصار قد اشتركوا مع علي في أرضية واحدة حيث " لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق " فإن دعوة الرسول لهم أن يصبروا حتى يلقوه وموعدهم الحوض. تعني أنه يحثهم على التمسك بالأرضية التي وقفوا مع علي بن أبي طالب ولا يفارقوه. لأن هذه الأرضية بمثابة المقدمة لنتيجة ستظهر آثارها يوم القيامة.

لقد علم الأنصار أن هناك تحولات ستحدث. وأن أي مواجهة عسكرية ستكون خسارة فادحة للفائز فيها فضلا على أنها ستحدث في الإسلام فجوات الله وحده أعلم بها. لهذا فضل أغلب الأنصار الاعتزال وعلى رأسهم أبي بن كعب.

أما سعد بن عبادة ومن معه فقد حسبوها بطريقة أخرى. لقد أرادوا أن يواجهوا الأثرة التي ستحدث لهم بعد وفاة الرسول بالاحتماء في السلطة وذلك بمزاحمة المهاجرين فيها. لعلمهم أن المهاجرين يطالبون بما ليس لهم. بمعنى أن المهاجرين زاحموا على شئ هم ليسوا من أهله فلا مانع أن يزاحمهم الأنصار.

وأي اتفاق مهما كان حجمه فسيدخل الأنصار به دائرة الأمان حتى يحدث الله بعد عسر يسرا. ولذا نجدهم في أول الأمر طالبوا بالقيادة لسعد بن عبادة. ثم تشاوروا فيما بينهم ونزلوا درجة وقالوا منا أمير ومنكم أمير. واعتقد أنه لو تأخر النعمان بن بشير وأسيد بن حضير عن المبايعة برهة من الزمن لتوصل الأنصار إلى الحصول على موطئ قدم يحقق لهم الحماية ويدخلهم في عملية التوازنات التي تشارك فيه أطراف عديدة.

والذي يؤيد ما ذهبنا إليه من أن حركة سعد بن عبادة كان هدفها حقن دماء

____________

(1) البخاري (الصحيح 312 / 2).

(2) البخاري (الصحيح 311 / 2) ورواه مسلم (الصحيح 152 / 7).

الصفحة 299
الأنصار ولكن بالمناورة على السلطة أن شعراء المهاجرين إذا هاجموا سعد بن عبادة. حزن الأنصار كلهم في الوقت الذي يهتفون فيه باسم علي بن أبي طالب!

وخروج علي بن أبي طالب وشتمه عمرو بن العاص سببه يرجع في الابتداء إلى شعر قاله عمرو في سعد والأنصار. من هذا قول عمرو كما روى الزبير بن بكار:

عجبت لسعد وأصحابه * ولو لم يهيجوه لم يهج
رجا الخزرج رجاء السراب * وقد يخلف المرء ما يرتجى
فكان كمنح على كفه * بكف يقطعها أهوج

قال الزبير: فلما بلغ الأنصار مقالته بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن عجلان... وتحدث إليه النعمان (1) ثم قال فيه شعرا جاء فيه:

وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وأهل أبو بكر لها خير قائم * وإن عليا كان أخلق بالأمر
وكان هوانا في علي وإنه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى * وينهي عن الفحشاء والبغي والنكر
وصى النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر (2)

فكما ترى شعر من عمرو بن العاص في سعد. انتهى إلى حيث انتهى.

وبعد السقيفة وقف الأنصار ومن حولهم أمثال سهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وعمرو بن العاص. وانتظم معهم في الطابور الوليد بن عقبة الذي قال عنه الزبير بن بكار: كان يبغض الأنصار لأنهم أسروا أباه يوم بدر وضربوا عنقه بين يدي رسول الله. وقال الوليد في الأنصار شعرا شتم فيه الأنصار (3)، ودخل الأنصار دائرة الصبر. يقول الزبير: وأقبل حسان بن ثابت مغضبا من كلام الوليد بن عقبة وشعره. فدخل المسجد وقال: يا معشر قريش إن أعظم ذنبنا

____________

(1) راجع الحديث في المطولات.

(2) ابن أبي الحديد 280 / 2.

(3) ابن أبي الحديد 284 / 2.

الصفحة 300
إليكم قتلنا كفاركم وحمايتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كنتم تنقمون منا حنة كانت بالأمس فقد كفى الله شرها. فما لنا وما لكم. والله ما يمنعنا من قتالكم الجبن. ولا من جوابكم العيى. إنا لحي فعال ومقال. ولكنا قلنا: إنها حرب أولها عار وآخرها ذل فأغضينا عليها عيوننا. وسحبنا ذيولنا حتى نرى وتروا فإن قلتم قلنا وإن سكتم سكتنا.

فلم يجبه أحد من قريش. ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه (1)، وظل الأنصار تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لهم فيه: " إنكم ستلقون بعدي آثرة فاصبروا " (2)، والذي قال النووي في شرحه: أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق (3)، ظلوا على أرضية الصبر حتى كان زمن علي بن أبي طالب فبايعوه كلهم وحاربوا تحت رايته. وبعد وفاة علي وفي عصر يزيد بن معاوية جاء يوم الحرة وهو اليوم الذي بايعوا فيه ليزيد على أنهم عبيد.

6 - الخلافة في قريش:

في سقيفة بني ساعدة لم يذكر فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الأئمة من قريش والروايات الواردة في الجدل الذي دار بين المهاجرين وبين الأنصار ليس فيها إلا إلى أبي بكر وعمر بأن قريشا أهل النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته وأن العرب لا تطيع غير قريش. وقول أبي بكر لهم: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش. ليس نصا مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون أبو بكر قد ذكر هذا بناءا على نص سمعه من رسول الله فنقل لهم معناه. وفي أثناء المواجهة بين المهاجرين وبين الأنصار برز علي بسطح القول: " بأن الأئمة من قريش "، وكان أول من قال به عكرمة بن أبي جهل ثم أكده عمرو بن العاص عندما عاد من سفره ثم رواه بعد

____________

(1) ابن أبي الحديد 285 / 2.

(2) رواه البخاري (الصحيح 311 / 4) مسلم (الصحيح 152 / 7).

الصفحة 301
ذلك معاوية بن أبي سفيان وغيره، وروى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " (1). وحديث الأئمة من قريش لا جدال في أنه حديث صحيح ولكن الكثير اختلف في تحديد معناه ومبناه. قال البعض: إن النسب ليس بشرط وأن الإمامة تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان سيجمعنا للشرائط المعتبرة. وقال البعض: إن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرط فيها. وقال البعض: إن النسب شرط فيها وأنها لا تصلح إلا في العرب خاصة ومن العرب فقريش خاصة. وقال في فتح الباري: وقال البعض لا تجوز إلا في بني أمية وعن بعضهم لا يجوز إلا في ولد عمر. وقال ابن حزم ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق. وبالغ ضرار بن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصى أمكن خلعه (2) وقال البعض إنها في العباس وولده من بطون قريش كلها. وقال البعض الآخر: إنها في الفاطميين.

وقال آخرون: تجوز في غير الفاطميين من ولد علي بن أبي طالب وهناك من جعلها في محمد بن الحنفية وولده، ومنهم من نقلها منه إلى ولد غيره. قال البعض: إنها سارية في ولد الحسين في أشخاص مخصوصين.

وهذا الاختلاف ليس معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك أمته ولم يبين لهم وجه الصواب في هذه المسألة. لقد بين وساق الناس إلى الصراط المستقيم. ولكن السياسة كان لها أقوال وأفعال وإليها يعود كل اختلافات الأمة.

وعلى أي حال فكل فريق وكل طائفة لديه أصوله وحججه. ولأننا نبحث هنا في المواجهة بين المهاجرين وبين الأنصار يحتم علينا البحث أن نلقي الضوء على عنوان " الأئمة من قريش ".

ونحن أمام هذا العنوان يجوز لنا أن نسأل إذا كان الأئمة من قريش فما معنى قول عمر بن الخطاب: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا

____________

(1) رواه البخاري في مناقب قريش (الصحيح 265 / /).

(2) فتح الباري 118 / 13.

الصفحة 302
لاستخلفته (1)، وما جعلتها شورى (2)، وسالم لم يكن قرشيا وإنما كان من المؤيدين الأوائل للمهاجرين يوم السقيفة. وإذا كان الأئمة من قريش فأي قريش يعنيها الحديث؟ ومن المعروف من عبد مناف خرجت شجرة بني هاشم وشجرة بني عبد شمس حيث بني أمية وبني العاص وقال ابن حجر في فتح الباري: وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد أخرجها الطبراني وغيره وبعضها جيد (3) فما معنى أن يكون على رقبة الأئمة أئمة ملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي ينظر في التاريخ نظرة المتدبر تجد معالم الفتن التي غرست في هذه العهود وإن كان يعلوها البريق والزخرف وكل أدوات التزيين. وهذه الفتن ما ترتب عليها من حركة تؤكد صحة هذه الأحاديث.

فأي قريش التي تدخل تحت سقف " الأئمة من قريش " مع العلم أن قريشا كما ذكر المسعودي خمسة وعشرون بطنا (4)، قد يقال: يدخل تحت هذا السقف من كان مستجمعا للشرائط المعتبرة. نقول: كيف؟ والأمة بها العديد من الدوائر التي هدفها الصد عن سبيل الله. وفيها أصحاب الخشوع الزائف والمنافق عليم اللسان والأئمة المضلين وجميع هؤلاء ورد فيهم أحاديث صحيحة. وغير هذا.

هل يمكن للناس الوصول إلى من يتصف بالصفات الحميدة. وهل في وسعهم الاتحاد والاتفاق على اختياره وانتخابه؟ فإذا كانت الإجابة بنعم. فما معنى اختلاف الأمة في الإصابة. وهل القرشية شرط أو أن النسب ليس بشرط. وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن الأمة ليست متفقة في الرأي وإن لكل فرد أو قبيلة رأي يخالف الباقين. ومن المعلوم أن أي اختلاف وأي افتراق لا بد وأن تدثره حجة من الله. حتى إذا اختلفوا لم يكن لهم على الله حجة. بمعنى إن الله تعالى يرشدهم إلى الحق ويحيطهم علما بذلك. فإذا بغوا كان بغيهم بعد العلم وبهذا لا يكون لهم على الله حجة.

____________

(1) الطبري 34 / 5.

(2) الإستبصار في معرفة الأنصار ص 296.

(3) فتح الباري 11 / 13 كتاب الفتن.

(4) مروج الذهب / المسعودي 276 / 2.

الصفحة 303
إن سقف الأئمة من قريش سقف واسع ولا يمكن تحديد من كان مستجمعا للشروط المعتبرة وفقا لمقاييس القلوب إلا بإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الاستجماع للشروط وفقا للصور والثياب واللون وبلاغة اللسان فهذه أمور أخرى. وليس معنى أن الأئمة من قريش أن القرشي يستحق الإمامة. كما أنه ليس المعنى إن الله كرم الإنسان إن كل إنسان سيدخل الجنة وينال رضا ربه جل وعلا. ومن الدليل أن القول بإمامة قريش قول واسع لا بد له من تحديده وخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من قريش نفسها فقال: " يهلك أمتي هذا الحي من قريش " (1)، وقال: " إن هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش " (2)، وطالب باعتزالهم فقال: " لو أن الناس اعتزلوهم " (3)، إن التعريف الواسع يدفع إلى الفتن روى الإمام أحمد عن عمران بن حصين قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أخشى على قريش إلا نفسها قلت:

وما هو؟ قال: أشحة سمرة أن طال بك عمر رأيتهم يفتنون الناس حتى يرى الناس بينهم كالغنم بين الحوضين مرة إلى هذا ومرة إلى هذا " (4)، وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولتحملنكم قريش على سنة فارس والروم ولتؤمنن عليكم اليهود والنصارى والمجوس " (5).

إن هذه حقائق. وعندما ترعرع الزرع في عهد بني أمية قال أبو برزة " إني أصبحت ساخطا على أحياء قريش " (6)، فأي قريش؟ هل يمكن تفادي ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيحدث بأن يختار الناس لأنفسهم؟ وما ذكره

____________

(1) رواه البخاري ك بدء الخلق ب علامات النبوة (الصحيح 280 / 2) مسلم ك الفتن (الصحيح 41 / 18) أحمد (الفتح الرباني 39 / 23).

(2) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ك بدء الخلق ب علامات النبوة.

(3) البخاري (280 / 2) مسلم كتاب الفتن (41 / 18) أحمد (الفتح 39 / 23).

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 248 / 5).

(5) رواه الطبراني (الزوائد 236 / 7).

(6) البخاري لا الأحكام (الصحيح 230 / 4) وأحمد والنسائي وابن ماجة والطبراني (الفتح الرباني 189 / 23).

الصفحة 304
النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في قريش قال مثله في مضر فعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن هذا الحي من مضر لا تدع لله في الأرض عبدا صالحا إلا افتتنته وأهلكته " (1)، وفي رواية: " إلا فتنوه أو قتلوه " (2) مما سبق علمنا أن عنوان الأئمة من قريش عنوان واسع، ولكي نحدد المكان الخاص تحت السقف العام. فلا بد أن نحدد أولا: أين جانب الفخر في قريش؟ هل هو في قريش أم في عبد مناف أم في أولاده. أم أن جانب الفخر في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ روى أن عبد الله بن الزبير تفاخر يوما أمام ابن عباس، بأن أبيه حواري رسول الله وأسماء بنت أبي بكر أمه وعمته خديجة سيدة نساء العالمين وأن عائشة أم المؤمنين خالته وأن صفية عمة رسول الله جدته. فقال ابن عباس: لقد ذكرت شرفا رفيعا. وإنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا أولى بالفخر منك، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما "، وقد فارقناك يا ابن الزبير من بعد قصي بن كلاب. أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ إن قلت نعم خصمت وإن قلت لا. كفرت.. فالرسول صلى الله عليه وآله هو جانب الفخر في قريش وعنده يكون الشموخ وفيه بكون الطهر. ومكانة الرسول صلى الله عليه وآله منذ نور الله ذرية آدم مكانة رفيعة فلقد جعله الله في خير الفرق وخير القبائل وخير البيوت وخير النفوس. فعن وائلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " (3)، لقد سار الفخر على امتداد التاريخ حتى استقر في المكان الذي يقف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن أراد الفخر فلا يبحث في محطة قريش وإنما يبحث في المكان الذي استقر عنده.

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار وأحد أسانيد أحمد وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح (الفتح 240 / 23).

(2) رواه أحمد (الفتاح 240 / 23).

(3) رواه مسلم ك الفضائل (الصحيح 36 / 15) والترمذي وصححه (الجامع 583 / 5).

الصفحة 305
وبما أن بني هاشم بيوت وللرسول بيتا فيهم، تم تحديد دائرة في بني هاشم وفي هذه الدائرة يوجد الفخر. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" إن الله خل‍ الخلق فجعلني في خيرهم فرقة. ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا " (1). فالدائرة التي نقصدها هي دائرة النفس. أي الدائرة التي ترتبط بالروح أكثر من ارتباطها بالأرض. وترتبط بالهدف أكثر من ارتباطها بالقبائل. ومقام النفس له معالم وامتداد. وإذا أردنا أنا نضع أيدينا عليه. فلنقرأ قوله تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (2) ففي هذه الآية وردت أحاديث تلقتها الأمة بالقبول. وقال فيها العلماء قولا واحدا هو: إن معنى (أنفسنا وأنفسكم)، رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب (وأبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة (3) فالفخر بعد رسول الله ترى معالمه في دائرة النفس والمتدبر في قول النبي لعلي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق يتبين ذلك بسهولة ويسر. ولقد قدمنا فيما سبق الأحاديث الصحيحة التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن عليا أصل شجرة الرسول. وإن أولاده هم عترة الرسول. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " (4)، وفي رواية: " إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ويل للمكذبين بفضلهم من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " (5)، واستمرارية دائرة النفس وتفضيلها على غيرها جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن خير من أبنائنا وبنونا خير من أبنائهم وأبناء بنينا خير من أبناء

____________

(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 584 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 266 / 21).

(2) سورة آل عمران: الآية 61.

(3) تفسير ابن كثير 351 / 1.

(4) رواه الطبراني عن فاطمة (كنز العمال 116 / 12).

(5) رواه ابن عساكر والحاكم عن جابر (كنز 98 / 12).

الصفحة 306
أبنائهم " (1)، وقوله: " نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد " (2).

ومهمة دائرة النفس هي سوق الناس إلى ربهم. ومن صفات أصحاب هذه الدائرة أنهم يقفون على أرضية الرسول. أرضية العبد الكريم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا " (3)، وقال: " إنا بعثت رحمة ولم أبعث عذابا " (4).

ووفقا لما تقدم نقول: إن النبي صلى الله عليه وآله إذا ذم قريشا أو أمر باعتزالها. فإن المقصود بقريش. قريش التي لا يوجد فيها. وإذا أمر بالالتفاف حول قريش فليس معنى هذا أن نبحث عن نسل عبد مناف ونجري وراء أبناء عبد شمس حديث أمية وحرب وأبو سفيان وحيث العاص والحكم ومروان وامتداد طابورهما الطويل. أو نبحث في أصول العباس التي تنتهي عند الخليفة المستعصم وإنما علينا أن نبحث أين رسول الله صلى الله عليه وآله. وكما ذم النبي صلى الله عليه وآله قريشا ذم أيضا مضر. كما قدمنا وفي مقابل ذلك قال: " إذا اختلف الناس فالحق في مضر " (5)، ولماذا يكون الحق في مضر؟

الإجابة: لأن للنبي قدم في مضر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن جبريل أخبرني أني رجل من مضر " (6)، وإذا كان للرسول امتداد إلى مضر فإن هذا الامتداد ينتهي أيضا إلى أهل البيت. وفروع مضر كان يعلمها الأوائل وهم المخاطبون بهذا الحديث. والحكمة من وراء هذا جمع القبائل عند نقطة واحدة.

وبيان أن الانتساب إلى القبائلية والشعوبية في الماضي الغابر لا جدوى من ورائه. فالإنسان لا قيمة له إلا الحق والالتفاف حول الحق. وبعد ذلك كله يمكن أن نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس تبع لقريش صالحهم تبع لصالحهم

____________

(1) رواه الطبراني عن معاذ (كنز 104 / 12).

(2) رواه الديلمي (كنز 104 / 12).

(3) رواه الترمذي (كنز 426 / 11).

(4) رواه البخاري في التاريخ (كنز 426 / 11).

(5) رواه ابن أبي شيبة والطبراني (كنز 59 / 12).

(6) ابن سعد (الطبقات 59 / 2).

الصفحة 307
وشرارهم تبع لشرارهم " (1)، ويمكن أن تفهم قوله: " يا أيها الناس لا تعلموا قريشا وتعلموا منها فإنهم أعلم منكم " (2)، ألم تر فيما قدمنا إنهم كانوا يضربون كتاب الله بعضه ببعض ويتأولونه في غير موضعه. فمن منهم الأعلم والراسخ في العلم؟ ويمكن أيضا أن نعلم موضع الإمامة في حديث مسلم الذي رواه جابر بن سمرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة " - وفي لفظ - لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا - وفي لفظ - لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة - وفي لفظ - لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة "، ثم قال جابر بن سمرة بعد أن سمع ذلك من رسول الله: " ثم تكلم النبي بكلام خفي علي " - وفي لفظ - ثم قال كلمة لم أفهمها - وفي لفظ - ثم تكلم بشئ لم أفهمه قال جابر: " فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش " (3).

والخلاصة أن الإمامة تصيب الذين يعلمون الذين يهدون إلى الحق، قال تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي) (4)، وإن القول بالأئمة من قريش قول فضفاض أريد به إخراج آل محمد من الإمامة. ثم إن هذا القول لم يظهر في السقيفة وإنما ظهر بعدها أثناء المواجهة بين المهاجرين وبين الأنصار. ومن العجيب أن الذي روج له في بداية الأمر عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ثم جاء من بعدهما عمرو بن العاص ومعاوية وغيرهما. ومن الأعجب أن الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول ذكر في قوله تعالى:

(فقاتلوا أئمة الكفر)، إنها نزلت في سهيل بن عمرو وعكرمة وأبي سفيان، وروى عن الإمام علي وحذيفة: أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. وكما علمنا أن

____________

(1) رواه أحمد وقال في الفتح، قال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 226 / 24) ورواه البخاري بلفظ آخر (الصحيح 264 / 2)، ومسلم (الصحيح 2 / 6 ط كتاب التحرير).

(2) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 636 / 2) وقال في فتح الباري: أخرجه البيهقي والطبراني والشافعي (فتح الباري 118 / 13).

(3) رواه مسلم كتاب الإمارة (الصحيح 3 / 6 ط كتاب التحرير).

(4) سورة يونس: الآية 35.

الصفحة 308
هؤلاء كانوا يعلمون من يوم الحديبية أن لهم يوما سيواجه طابورهم فيه خاصف النعل وعلى هذا وذاك لا نستبعد أن يكون الحديث على هذه الصورة وكان عن عمير.


الصفحة 309

ثانيا - دائرة الرأي

بعد السقيفة فتحت أولى صفحات دائرة الرأي. وهي دائرة تقوم على الشهادتين وعلى احترام شعائر الدين. لكنها لا تعرف السلطة الدينية ولا تعترف بها ولا تحبذ الالتزام بالمثاليات الدينية والنواحي الإدارية والسياسية وكان همها الأكبر قوة الدولة واستقرارها... وذلك لأن الحكم في دائرة الرأي أساسه رضا الناس واختيارهم فالأمة عنده هي الأصل.

وكما بينا من قبل أن أحداث السقيفة - في رأينا - جاءت بعد أن تبين كبار الصحابة ما يحيط بالدعوة من مكائد وإن العرب لا تطيع عليا. ومن السقيفة خرج نظام الخلافة. والخلافة ليست نظاما إلهيا نبويا. فهي جاءت على قاعدة إختيار الصحابة. والاختيار ليس دينا بأي حال. ونحن إذا أخذنا خطوة إلى الإمام واستبقنا الأحداث نجد أن الخلافة تحولت فيما بعد إلى ملك وجبرية فإذا بحثنا عن الأسباب وجدنا أن كبار الصحابة الذي خافوا على الإسلام من أعدائه يوم السقيفة. أقاموا حصونهم على حدود من الرمال الناعمة. فلم تتمكن الحصون من التغلب على طبيعة الموروث العشائري عند العرب ولا عن الموروث الكيدي عند كفار أهل الكتاب وغيرهم. فبعد فترة تعاون الموروث العشائري مع الموروث الكيدي في مقاومة نظام الخلافة. قامت دوائر النفاق بالنخر في الجدار ثم بالإغارة عليه وفي النهاية تركاه صريعا تسفعه الرياح بعد أن انزلقت حصونه المشيدة على حافة الرمال - وفي أعماق الشقوق رفعت أعلام

الصفحة 310
الملك والجبرية وحولها وقف علماؤهم لإرساء قواعد الاستبداد. فقالوا بفصل الدين عن السياسة بحجة أن العمل السياسي ليس عملا دينيا لكنه فعل بشري يحتمل الخطأ والصواب ويمكن نقضه أو نقده أو العدول عنه. وتحت هذه الحجة ارتكبت أفظع الجرائم في حق المسلمين ولم يستطع أحد أن ينقض أو ينقد لأن الفعل البشري تحت قبة الجبروت لا يمكن نقده أو العدول عنه. ونتيجة لهذا برزت مشكلة أساسية ألا وهي اجتزاء المسلمين على السلطة وخروجهم عليها باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة. وطمعا في الحكم تارة أخرى. لقد كانت البداية حصون على الرمال. وكانت الخاتمة شقوق ودهاليز تحت سطح الأرض. وبين هذا وذاك ترى الأحداث التي أدت إلى الخسف.

1 - من معالم الرأي:

إذا أردنا أن ننسب الرأي إلى أصوله فسنجد أن أهم أصوله عمر بن الخطاب. فقد كانت شخصيته من أبرز شخصيات الصحابة في هذا الباب يقول الدكتور عبد الحميدة متولي: لم يقتصر عمر فحسب على الاجتهاد أو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب أو سنة إنما ذهب إلى مدى أبعد من ذلك. إذ كان يعمد إلى الاجتهاد أو بعبارة أخرى. استعمال الرأي ليبحث عن وجهة العدالة أو المصلحة حتى رغم وجود نص من الكتاب أو السنة. فكان لذلك لا يفسر النص طبقا لحرفيته. وإنما يفسره طبقا لحكمته ولو أدى هذا التفسير إلى عدم تطبيق النص (1)، فمثلا قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)، لقد رأى عمر أن الحكمة التي أدت إلى تقريب ذلك الحكم الشرعي قد زالت. والأمثلة في هذا الباب كثيرة (2)، وكثير من الصحابة كما ذكر الإمام محمد عبده " كانوا إذا رأوا المصلحة في شئ يحكمون به وإن خالف

____________

(1) أزمة الفكر السياسي الإسلامي / د عبد الحميد متولي، تقديم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ص 121.

(2) سيأتي ذكر ذلك في موضعه.

الصفحة 311
السنة. كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة لا بجزئيات الأحكام وفروعها (1)، ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: وكانوا إذا لم يجدوا نصا في القرآن والسنة يدل على حكم ما عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه. وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على ملكتهم التشريعية التي تكونت لهم من مشافهة الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامة. فتارة كانوا يقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص. وتارة كانوا يشرعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة. ولم يتقيدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها. وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحا مجاله وفيه متسع لحاجات الناس ومصالحهم (2).

كانت هذه بداية الرأي. فما هي محطة النهاية؟ يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: في عهد الصحابة لما تعدد رجال التشريع منهم وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة وإن هذا الاختلاف كان لا بد أن يقع بينهم لأن فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء وربما وقف بعضهم منها على ما لا يقف عليه الآخر لأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع.

فلهذه الأسباب اختلفت فتاويهم وأحكامهم في بعض الوقائع والأقضية... ولما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بنى عليها اختلاف الصحابة بل جاوزتها إلى أسباب تتصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعية وبالمبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص. وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط بل كان اختلاف أيضا في أسس التشريع وخططه وصار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية

____________

(1) المنار / محمد رشيد رضا 310 / 4.

(2) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي / خلاف ص 40.

الصفحة 312
خاصة (1)... ثم جاء عهد التقليد الذي بدأ من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب. حين طرأت على المسلمين عدة عوامل سياسية وعقلية وخلقية واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين وأماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة بل راضوا أنفسهم على التقليد ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم. وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة. وبلغ من كونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من علماء الحنفية: ككل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ "، ثم يقول الشيخ خلاف عن أسباب وقوف حركة الاجتهاد: أهم العوامل التي أدت إلى هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة:

أولا - انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها. فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن واتقاء المكايد وتدابير وسائل القهر والغلبة وشغل الناس معهم فدب الانحلال العام وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.

ثانيا - أنه لما انقسم الأئمة المجتهدون في العهد الثالث إلى أحزاب وصار لكل حزب مدرسة تشريعية بها نزعتها وخطتها. عني تلاميذ كل مدرسة أو أعضاء كل حزب بالانتصار لمذهبهم وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل والإشادة بزعمائهم ورؤسائهم. فانشغل علماء المذاهب بهذه الأمور وانصرفوا عن الأساس التشريعي الأول وهو القرآن والسنة. وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته.

وصار الخاصة كالعامة أتباعا مقلدين.

____________

(1) المصدر السابق 72.

الصفحة 313
ثالثا - أنه لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بأن لا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم. وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت وتبع هذا تعدد الأحكام في الأقضية حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد في البلد الواحد فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة وتستباح في ناحية أخرى منها وكل ذلك نافذ في المسلمين وكله يعتبر من أحكام الشريعة.

فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد وتقيد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين فعالجوا الفوضى بالجمود.

رابعا - إن العلماء فشت فيهم أمراض خلقية حالت بينهم وبين السمو إلى مرتبة الاجتهاد فلقد فشا بينهم التحاسد والأنانية... فماتت روح النبوغ.

وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقة الناس بهم فولوا وجههم مذاهب الأئمة السابقين (1).

لقد كانت البداية البحث عن المصلحة. فجاء الخلاف وانقسام الدولة الإسلامية وتناحر ملوكها وولاتها. ثم تجرأ على الفتوى اتباع الدوائر المختلفة الذين عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم وضرب التحاسد والأنانية وجوه العديد من العلماء. وعندما جف الوقود الذي يدفع بأصحابه نحو المستقبل ولوا وجوههم نحو الخلف حيث مذاهب السابقين. وإذا كان الأوائل قد اختلفوا في الفتوى نظرا لاختلاف البيئة. فإن الاختلاف من بعدهم أوسع لأن البيئة الواحدة تمزقت إلى ألف بيئة ومعطيات العصر ألقت بآلاف المسائل، فبماذا يجدي النظر إلى الخلف لحل مشكلات الحاضر؟ ألا يفتح ذلك الباب للدخول في سنين الأولين. وخصوصا أن عندهم من المصالح ما لا يخفى على أحد وما يغري العامة والخاصة على تقليدهم واتباعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.

____________

(1) المصدر السابق ص 96 - 99.

الصفحة 314
والخلاصة: أن البحث عن المصلحة مطلب فطري. ولكن كلما كان الباحث عن المصلحة لا مصلحة له فيما يبحث - بمعنى أن يكون لا مطمع له في مال أو جاه أو غير ذلك نظير فتواه - أصابت فتواه دائرة الفطرة. وأيضا كلما كان الباحث عن المصلحة عالما بالكتاب الذي لا يمسه إلا المطهرون وبالسنة التي يشهد لها الكتاب. ساقت فتواه الناس إلى صراط الله الذي لا اختلاف فيه. فإذا لم يتوفر الطهر والعلم والعدل في الباحث عن مصالح الناس. كان الناس من سنن الأولين أقرب.

2 - نظرات على فدك:

فدك قرية تبع عن المدينة مسافة يومين أو ثلاثة. أرضها زراعية خصبة.

فيها عين فوارة ونخيل كثيرة (1) يقدر نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري (2)، وكان جماعة من اليهود يسكنون فدك ويستثمرونها حتى السنة السابعة للهجرة. فلما حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهود خيبر لنقضهم العهد بينهم وبين رسول الله وفتح حصونهم وبقي حصنان أو ثلاثة منها لم تفتح حاصرهم الرسول صلى الله عليه وآله. فلما اشتد بهم الحصار راسل أهلها رسول الله على أن يؤمنهم على حياتهم وينزلوا له عن حصونهم وأرضهم. فقبل النبي صلى الله عليه وآله بعرضهم هذا. وما حدث يوم خيبر أرعب أهل فدك. ولكن اتفاقية أهل الحصون المحاصرة مع النبي صلى الله عليه وآله فتحت أمام أهل فدك بابا للأمل. فلما جاءهم رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام أبوا أن يسلموا ولكنهم استعدوا أن يقدموا نصف أرضهم للنبي مع الاحتفاظ لأنفسهم بالنصف الآخر على أن يعملوا في أرضهم وأرض رسول الله. ومتى شاء النبي أن يجليهم عن أرضهم فعل شريطة أن يعوضهم عن أتعابهم وأرضهم فصارت فدك ملكا لرسول الله بنص القرآن الكريم

____________

(1) معجم البلدان للحموي مادة فدك.

(2) ابن أبي الحديد 16 / 236 - ط الحلبي.

الصفحة 315
(وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير) (1)، قال المفسرون: كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وآله. فأفاءه الله على رسوله. أي خصه به وملكه وحده إياه يتصرف فيه كما يشاء. فلما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) (2)، أعطى النبي صلى الله عليه وآله فدكا لفاطمة. روى أبو سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة فدكا وسلمه إليها (3) وبقي الأمر هكذا حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وضعت الدولة اليد على فدك وانتزعتها من يد الزهراء، ومن هنا بدأ نزاع فاطمة رضي الله عنها وبين أبي بكر، روى البخاري عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال، لا نورث ما تركناه صدقة.

فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم نزل مهاجرته حتى توفيت. وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر. وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فأبى أبو بكر عليها ذلك....

وروي أن عليا عندما سمع قول أبي بكر بأن الرسول قال: لا نورث وما

____________

(1) سورة الحشر: الآية 6.

(2) سورة الإسراء: الآية 26 والآيات 26، 32، 33، 57، ومن الآية 73، إلى الآية 81 مدنية.

(3) رواه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد (الدر المنثور 177 / 4) (الزوائد 49 / 7) (كنز العمال) وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس (الدر المنثور 177 / 4).

الصفحة 316
تركناه صدقة، قال علي: ورث سليمان داوود وقال زكريا: (يرثني ويرث من آل يعقوب...) هذا كتاب الله ينطق. وروى أن فاطمة نازعت في سهم ذي القربى الذي نص القرآن عليه. وكانت الدولة قد وضعت يدها عليه.

روى الإمام أحمد لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ فقال: لا بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه الله جعله للذي يقوم من بعده فرأيت أن أرده على المسلمين " (1)، وفي رواية عند ابن سعد قالت: فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله لنا وصافيتنا التي بيدك، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:

إنما هي طعمة أطعمنيها الله فإذا مت كانت بيد المسلمين " (2)، وإذا كان من العجيب أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم عترته دون أن يبين لهم حقيقة ميراثه فإن الأعجب أنه لم يبين لنسائه أيضا. روى البخاري عن عائشة قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وآله عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فكنت أنا أردهن فقلت لهن: ألا تتقين الله. ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث وما تركناه صدقة فانتهين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن " (3).

مما سبق نرى أن الزهراء طالبت بنحلتها وبالإرث وبسهم ذي القربى - ولكن أبا بكر أبى عليها وتوفيت رضي الله عنها بعد وفاة النبي بستة أشهر. وفي عهد عمر بن الخطاب. ذهب علي والعباس ينازعان في الميراث وكان في مجلس عمر يومئذ عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد. فقال لهم عمر:

أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركناه صدقة "،

____________

(1) رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح 63 / 23).

(2) الطبقات الكبرى (314 / 2).

(3) البخاري ك المغازي ب حديث ابن النضير (17 / 3) ومسلم (153 / 5) ط دار التحرير.

الصفحة 317
قالوا: نعم، قال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره قال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول "، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال فكان رسول الله يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال. أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم. أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نورث ما تركناه صدقة. فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر. وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فرأيتماني كاذب آثما غادرا خائنا. والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما ادفعها إلينا (1).

ولنا تعليق على هذه الروايات وفي البداية نقول: إن حديث " لا نورث " لم يرويه إلا أبو بكر وحده. ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وفي الحديث السابق استشهد عمر وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعدا فقالوا:

سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر. ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة الزهراء وأبي بكر روى من هذا شيئا.

وفي الحديث السابق أيضا جاء علي والعباس إلى عمر يطلبان الميراث.

وقد كان أبو بكر قد حسم هذا كله في عهد وقرر أمام أزواج النبي وأمام علي والعباس وفاطمة وعمر حيث كان من المساعدين له. أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث. فكيف يعود العباس وعلي بعد وفاة أبي بكر يحاولان أمرا قد

____________

(1) مسلم (152 / 5) ط دار التحرير في البخاري (17 / 3).

الصفحة 318
فرغ منه. اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبو بكر في هذه المسألة.

وهذا بعيد لأن عليا والعباس كانا في هذه المسألة يتهمان عمر بممالاة أبي بكر على ذلك. ألا تراه يصرح بأنهما نسباه إلى الكذب والغدر والخيانة فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر؟!

ثم إن قول عمر لعلي والعباس عن أبي بكر: فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا. ثم قال لما ذكر نفسه: فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا. فإذا كانا يزعمان ذلك. فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا أورث " قال ابن أبي الحديد: إن هذا لمن أعجب العجائب ولولا أن هذا الحديث مذكور في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه. إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته. وإنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك.

وورد أيضا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلوا عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن. ولقد ذكرنا الرواية في ذلك.. ثم وجدنا عثمان في مجلس عمر بعد ذلك وعمر يقول: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة. قالوا: نعم، ومن جملة الذين أجابوا عثمان. فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يعطيهن الميراث.

وروى أيضا أن عمر قال لعلي والعباس: أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبي بكر يطلبان الميراث على ما ذكر. وهل يجوز أن يقال: كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه؟ وهل يجوز أن يقال: أن عليا كان يعلم ذلك ويمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه. خرجت من دارها إلى المسجد ونازعت أبا بكر وكلمته بما كلمته إلا بقوله وإذنه ورأيه (1).

وإذا تم التسليم بأن النبي لا يورث. فكيف نسلم بأن النبي صلى الله عليه

____________

(1) سورة البقرة: الآية 180.