الصفحة 340
عند الحديث والتفسير بل انتهى القص إلى مرحلة أخرى يدمر فيها الأخلاق.

فلقد أخذت مواد القصص الغرامية تتكاثر وتتزايد بإطراد في أواخر العصر الأموي. حتى حمل السرور والإعجاب بها على إنشاء حلقات من القصص الغرامية تعتمد على أغاني الغزل المشهورة من ناحية. كما تشتبك بمختلف البواعث النابعة من آداب الأمم عامة من ناحية أخرى، ورواها العرب دون تحري مصادرها وإن سموا بعض الأشخاص من أبطال الغرام والعشق الذين لم يكونوا إلا من أبناء الخيال (1)، وهذا الباب ترتب عليه ثقافة وهذه الثقافة فتحت الطريق لأبواب أخرى تجد على أبوابها دعاة الصوفية والانعزالية. وتجد الذين يستدرون عطف الحكام. وتجد الذين يطبخون علوم الكلام لترى على الموائد أصنافا عديدة. من أقوال مرجئة إلى أقوال قدرية إلى علوم يونانية. وكل هذا أملاه الواقع الجديد الذي بناه القص.

قد يتبادر إلى الذهن سؤال: أين كان علماء أهل البيت من هذا؟ نقول:

كانوا يعيشون عيش العلماء وقد زهدوا في الناس وما في أيدي الناس. كانوا يقيمون الحجة ولا يتدخلوا في اختيار الناس. فالإمام علي، واجه القصاصين ونسبهم إلى النسب الصحيح فقال: أنتم أبو اعرفوني. أما الحسن بن علي رضي الله عنه فلقد روي أنه مر يوما. وقاص يقص على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الحسن: ما أنت؟ قال: أنا قاص يا ابن رسول الله، قال: كذبت! محمد صلى الله عليه وسلم القاص. قال تعالى:

(فاقصص القصص)، قال الرجل: فأنا مذكر، قال: كذبت! محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكر، قال تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر)، قال الرجل: فما أنا؟ قال له الحسن: المتكلف من الرجال (2).

والخلاصة لقد قدمنا هنا أن البداية كانت عندما فتح عمر باب القص، وشهد بذلك حديث صحيح، وإن هذا القص زيف الحقائق وشهد بذلك حديث

____________

(1) تاريخ الأدب العربي 199 / 1.

(2) تاريخ اليعقوبي 270 / 2.

الصفحة 341
عند البخاري (1)، كما أحدث القص خلط الأمور وشهد بذلك حديث عند مسلم (2)، وانتهى المطاف بالأمة إلى الاختلاف والافتراق على طريق التهوك وكل حزب من الأحزاب في جعبته حزمة من الأحاديث وقد شهد بذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وحركة التاريخ.

ب - الاقتحام بالشعر:

كان الشعر سلاحا فعالا على ساحة ضاقت فيها دائرة الرواية. ولا نقصد بذلك عموم الشعر. وإنما نقصد الشعر الذي يصد عن سبيل الله ويضرب الأخلاق في جذورها. ولأن الطريق إلى المجون يبدأ دائما من دائرة البخس. فلقد حذر تعالى من الاقتراب من هذا الطريق، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (3)، وقال: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) (4)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) (5)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) (6)، إلى غير ذلك من الآيات وقد تكلمنا عنها فيما سبق. وفي الوقت الذي أمر فيه تعالى بهذه الأوامر لحفظ دينه على امتداد الأرض. أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحصين مركز القيادة وإشعاع الثقافة الإسلامية في حديث رواه الشيخان وغيرهما. وذلك عند وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " اخرجوا المشركين من جزيرة العرب " وحدد قبائل بعينها وصفهم بأنهم شر القبائل فقال: " شر قبيلتين في العرب نجران وبني تغلب " (7)، وكانت هذه القبائل مركزا خصبا للنصرانية. وروي عن ابن عباس أنه قال: " لا

____________

(1) نقض الحديث الذي يخص القاص نوف البكالي.

(2) نقصد حديث النقل عن أبي هريرة.

(3) سورة المائدة: الآية 51.

(4) سورة آل عمران: الآية 69.

(5) سورة البقرة: الآية 109 (6) سورة الممتحنة: الآية 1.

(7) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 71 / 10).

الصفحة 342
تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب ولا تنكح نساؤهم. ليسوا منا ولا من أهل الكتاب " (1). وكان الإمام علي بن أبي طالب يقول في خلافته: " لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي. لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذريتهم " (2)، ولكنه رضي الله عنه لم يعط الفرصة لالتقاط أنفاسه.

فهل خرج المشركون من جزيرة العرب؟ من الثابت أنهم لم يخرجوا إلا قليلا منهم، أما الكثرة فرضيت الدولة منهم بدفع الجزية. روى الطبري وغيره أن الجزيرة افتتحها عمر بن الخطاب في السنة السابعة عشرة هجرية (3). وعندما أراد عمر أن يأخذ الجزية من نصارى بني تغلب فروا إلى أرض الروم. فقال النعمان بن زرعة لعمر: أنشدك الله في بني تغلب فإنهم قوم من العرب يغضبون من ذكر الجزاء وهم قوم شديدة نكايتهم، فصالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم. على أن لا ينصروا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. فأعطى بعضهم ذلك وأخذوا به وأبى بعضهم إلا الجزية (4)، ثم نقض بنو تغلب عهدهم مع عمر ونصروا أولادهم. فضاعف عمر عليهم الجزية فقالوا: إنا نرضى ونحفظ ديننا (5)، واستمر الحال على ذلك. وفي عهد عثمان بن عفان. أراد عثمان أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة. فجاءه الثبت أن عمرا أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك (6).

مما سبق نعلم أن الدولة اجتهدت في وصية النبي صلى الله عليه وسلم فبدلا من إخراجهم قبلوا منهم الجزية لما رأوا أن المصلحة في ذلك. بل لم تقف الدولة عند هذا الحد بل جاءت بسبي النصارى إلى الجزيرة. ذكر البلاذري:

لما ولي عمر بن الخطاب معاوية الشام حاصر قيسارية حتى فتحها فوجد بها من

____________

(1) فتوح البلدان / البلاذري ص 186.

(2) فتوح البلدان ص 187.

(3) الطبري 198 / 4.

(4) الطبري 198 / 4، فتوح البلدان ص 186.

(5) فتوح البلدان ص 186.

(6) فتوح البلدان ص 187.

الصفحة 343
المرتزقة سبعمائة ألف ومن السامرة ثلاثين ألف ومن اليهود مائتي ألف، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها. وقد بلغ سبي قيسارية أربعة آلاف. فلما بعث به معاوية إلى عمر بن الخطاب. قسمهم على يتامى الأنصار وجعل بعضهم في الكتاب والأعمال للمسلمين (1). وكان أبو بكر أخدم بنات أبي أمامة خادمين من سبي عين التمر فماتا فأعطاهن عمر مكانهما من سبي قيسارية (2)، ولا يخفى ما يترتب على عمل كهذا في ساحة لا رواية فيها.

ونحن سنلقي بعض الضوء على الأرضية النصرانية بالجزيرة لنمسك بأول الخيط الذي نقف اليوم في نهايته. روي أن الوليد بن عقبة كان على رأس القوة التي افتتحت الجزيرة ودخلت إلى ديار بني تغلب. وفي بني تغلب التقى الوليد بن عقبة بأبي زبيد الشاعر. فأما الوليد قال فيه صاحب كتاب الإستيعاب:

لا خلاف بين أهل العلم أن قوله الله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (3)، نزلت في الوليد بن عقبة (4). وعن ابن عباس في قوله تعالى:

(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (5)، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة، وذكر قصة في ذلك (6)، أما أبو زبيد قال فيه صاحب الإصابة: كان في الجاهلية مقيما عند أخواله بني تغلب بالجزيرة. وكان في الإسلام منقطعا إلى الوليد بن عقبة في ولايته للجزيرة ثم للكوفة (7)، وقال ابن قتيبة: لم يسلم أبو زبيد ومات على نصرانيته. وقال المرزباني: كان نصرانيا وهو أحد المعمرين. يقال عاش مائة وخمسين سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم (8)،

____________

(1) أول سبي دخل إلى المدينة من أبناء العجم كان في عهد أبي بكر (تاريخ الطبري 26 / 4).

(2) فتوح البلدان 47.

(3) سورة الحجرات: الآية 6.

(4) الإستيعاب 632 / 3.

(5) سورة السجدة: الآية 18.

(6) الإستيعاب 633 / 3.

(7) الإصابة 80 / 4.

(8) الإصابة 80 / 4.

الصفحة 344
وبقي أبو زبيد إلى أيام معاوية (1).

وبالرغم من أن الوليد بنص الحديث فاسق بما يوافق القرآن. وبالرغم من أن أبا زبيد على أكثر الآراء نصرانيا. فإن الفاروق رضي الله عنه رأى أن من المصلحة العامة أن يكون الوليد واليا على الجزيرة. أما فيما يتعلق بأبي زبيد قال ابن حجر في الإصابة: " استعمله عمر على صدقات قومه ولم يستعمل نصرانيا غيره " (2)، وفي هذه الفترة أصدر عمر بن الخطاب قرارا. روى ابن شهاب أن عمرا كتب إلى أبي موسى الأشعري: " أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام ومرهم برواية الشعر فإنه يدل على معالم الأخلاق " (3)، ورواية الشعر كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الإسلام. ولم يمدح الكتاب الشعر والشعراء بكلمة ولا السنة بالغت في أمره. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " والذي بعثني بالحق لتكونن بعدي فترة في أمتي يبتغي فيها المال من غير حلة وتسفك فيها الدماء. ويستبدل فيها الشعر بالقرآن " (4)، نحن إذا أمام دعوة لرواية الشعر وأمام إخبار بالغيب يقيم الحجة على فترة يستبدل فيها الشعر بالقرآن. وتحت ظلال دعوة رواية الشعر. تقف قبيلة تغلب التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وآله. ونصارى الحيرة الذين بقوا على نصرانيتهم حتى العصر العباسي. وقوافل قيسارية التي بعث بهم معاوية إلى عاصمة الخلافة.

وباقي دوائر الصد عن سبيل الله.

وفي عهد عثمان اتسعت الدائرة عندما أزيلت بعض الحواجز. وذلك عندما تولى الوليد بن عقبة ولاية الكوفة. ففي عهده تم الاتصال بنصارى الحيرة وبدأت قوافلهم تجوب المنطقة وراج شعر الأديرة الذي كان له نصيب من التأثير الخفي في الثقافة العقلية. ثم بدأ شعر الخمر يلقي بظلاله ومنه الذي يدعو لنبذ الإسلام

____________

(1) الإصابة 80 / 4.

(2) الإصابة 80 / 4.

(3) ابن الأنباري (كنز العمال 300 / 10).

(4) رواه الديلمي (كنز العمال 187 / 11).

الصفحة 345
صراحة. ولقد قدمنا بعضه في كتابنا " الانحرافات الكبرى " (1)، فمن أراد أن يقف عليه وعلى أصول هذه الفترة فليراجعه هناك. وتحت ظلال شعر الأديرة والخمر. كان الأمير الوليد والشاعر أبو زبيد يضربان بالأخلاق عرض الحائط.

قال صاحب الإستيعاب: أخبار الوليد في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد مشهورة كثيرة (2)، وخبر صلاته بالمسلمين وهو سكران وقوله لهم: أزيدكم بعد أن صلى الصبح أربعا مشهورة من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار (3)، وترتب على ذلك حدوث أول انتفاضة ضد حكم عثمان بن عفان. ضحى أمامها بعزل الوليد. ولكن الشعر بقي وازداد اتساعا. وتطور إلى شعر الغزل ثم إلى شعر المجون. وفي عهد معاوية راج الأدب العربي غاية رواجه وظهر الشعر الذي يحتضن سياسة الحزب الحاكم ومنازعات القبائل ومظاهر العصبية العربية.

وكان الأمويون يبالغون في ترويج الشعر. وربما كانوا يبذلون بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات والألوف من الدنانير. وانكب الناس على الشعر وروايته وأخبار العرب وأيامهم وكانوا يكتسبون بذلك الأموال الكثيرة. وبلغ من نفوذ الشعر والأدب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون بشعر شاعر أو مثل في مسائل عقلية.

وبدأ شعر الصد يتسلل في ليل الفتن. وبدأ الشعراء يزحفون نحو مركز القيادة ومن هؤلاء: الأخطل، الذي ولد بالحيرة وكان من بني تغلب. دان بالنصرانية كأكثر قبيلته. ولما ولي يزيد بن معاوية الخلافة. دعا الأخطل إليه وأكرمه. وكذلك أكرمه خلفاء يزيد بن بعده وأسبغوا عليه نعمتهم ولا سيما عبد الملك الذي فضله على سائر الشعراء وأجزل له عطاياه (4)، ومنهم: أعشى بني تغلب كان نصرانيا يقدم شعره في كل مكان ينزل به (5)، وبدأت ثقافة الفتنة

____________

(1) الانحرافات الكبرى / للمؤلف ط دار الهادي بيروت.

(2) الإستيعاب 633 / 3.

(3) الإستيعاب 634 / 3.

(4) تاريخ الأدب العربي 205 / 1.

(5) المصدر السابق 238 / 1.

الصفحة 346
تتسع حتى أصبح النصارى في عهد بني أمية لا يستغنى عنهم في تدبير السياسة كما كان عدد من نصارى الروم قائمين على تدبير الخراج. وكان لكثير منهم جاه عند الخلفاء (1)، ومن عباءة ثقافة الفتنة التي زحفت بالشعر والخمر والمجون نحو أرضية اللارواية. خرجت الآراء التي جاء بها الزنادقة. والنصرانية هي الأصل التي أتت منه جميع هذه الآراء (2)، وخرجت آراء المرجئة على أيدي يحيى الدمشقي وكان أبوه صاحب عبد الملك بن مروان. وقد صنف يحيى كتابا في فضائل النصرانية. ولم يكن عرضا أن ظهرت عند المرجئة والقدرية في الشام آراء يحيى الدمشقي. وفي هذا الطوفان عادت إلى الظهور الأوضاع القديمة لعالم قديم. وأصبحت فيها للمال قوة عظيمة حتى سحقت طاحونه الكبيرة كل قيمة أخرى. وكل شئ صار يعرض من أجل المال وبلغت وصمة حب المال والمكر لتحصيله أعلى طبقات رجال الدولة.

وفي نهاية المطاف ظهر فريق من الشعراء يحتقرون كل ما هو ديني ويجرءون على الجهر بذلك على نحو لم يسبق له نظيرا في عصر من العصور.

فكان أبو العلاء المعري الشاعر بالشام (ولد 363 ه‍) وتوفي عام (449 ه‍) يهاجم كل ما هو ديني مستندا في ذلك إلى وجهة نظر عقلية ومن شعره:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما * ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا * وبادوا وماتت سنة اللؤماء

وقال:

قد ترامت إلى الفساد البرايا * واستوت في الضلالة الأديان (3)

ثم جاء ابن الراوندي (المتوفى 293 ه‍) ليقول: إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي ما هو أحسن من القرآن (4)، ويروى عن أبي العلاء المعري أنه عارض

____________

(1) المصدر السابق 256 / 1.

(2) الحضارة الإسلامية 65 / 2.

(3) المصدر السابق 137 / 2.

(4) المصدر السابق 139 / 2.

الصفحة 347
القرآن بكتاب عنوانه " بالفصول والغايات في محاذاة السور والآيات "، وقد قيل لأبي العلاء: " ما هذا إلا جيد إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن. فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة وعند ذلك انظروا كيف يكون " (1). وهكذا تحقق الإخبار بالغيب. تحقق بركوبه الشعر أولا حيث فتح الوليد الأسوار ودخل نصارى الحيرة ليعانقوا نصارى تغلب. وشاع شعر الأديرة ثم شعر الخمور ثم شعر المجون. ثم تم التسلل نحو الكرسي الأكبر بركوبة شعر القبائل وأيام العرب وفضائل بني أمية. وعلى ساحة اللارواية نشأ التصوف تحت ضغط المشاكل السياسية. وفي مواجهة التصوف ظهرت الزندقة وتعاليم المرجئة وغيرهما وخلال هذا التطاحن كان النصارى يشرفون على جمع الخراج. ومن أراد الوزارة كان عليه أن يتقرب إليهم (2)، وتحت شجرة الشوك تكالب الجميع على المال وأعلن شعراء الانحلال والصد الحرب على الدين والقرآن بصورة لم يسبق لها مثيل.

وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب قد توعد بني تغلب إن تفرغ لهم فإن له فيهم رأيا وقال: لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذريتهم (3)، وذلك لتنفيذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم والخاصة بإخراج المشركين من جزيرة العرب (4).

فإنه رضي الله عنه كان له رأي في الشعر والشعراء، يقول صاحب تاريخ الأدب العربي: اشتهر الفرزدق بالشعر وهو شاب. فعرضه أبوه على علي بن أبي طالب بعد يوم الجمل قائلا: إنه شاعر مضر، فأوصاه أمير المؤمنين أن يقرأ القرآن خيرا له من الشعر. ويروى أن الفرزدق وضع رجليه في القيد وأقسم لا يفكهما إلا بعد أن يحفظ القرآن (5).

____________

(1) المصدر السابق 140 / 2.

(2) المصدر السابق 127 / 1.

(3) فتوح البلدان ص 187.

(4) البخاري (الصحيح 202 / 2).

(5) تاريخ الأدب العربي 209 / 1، تاريخ الطبري 2 / 94 - 108.

الصفحة 348
وأخيرا لقد أدى عدم الرواية إلى القص ورواية الشعر وكلاهما سنة عربية قديمة وإحياء هذه السنة أدى إلى عودة أوضاع قديمة لعالم قديم وكان ينقص هذا العالم لكي يكتمل خطوة أو خطوتين.

3 - إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم:

قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)، وقد روى زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته. فآتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره من الصدقات حتى حم فيها فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك "، رواه أبو داود (1)، وسهم المؤلفة قلوبهم قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه لجماعة منهم الذين يراد تأليف قلوبهم ليسلموا كسادات العرب وزعمائهم ومنهم للذين أسلموا ونياتهم ضعيفة فتؤلف قلوبهم بإجزال العطاء. ومنهم من يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم من رجالات العرب. ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى هذا السهم لأبي سفيان بن حرب وابنه معاوية (2)، والأقرع بن حابس وعيينة بن حصين، وعباس بن مرداس. وصفوان بن أمية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم منذ نزلت الآية حتى لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ولم يعهد إلى أحد من بعده بإسقاط هذا السهم إجماعا من الأمة المسلمة كافة وقولا واحدا.

وبعد وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم. جاء عيينة بن حصين والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس. وطلبوا من أبي بكر نصيبهم فكتب لهم

____________

(1) المغني / ابن قدامة 665 / 2.

(2) إعطائه أبو سفيان راجع مسلم 156 / 7 وإعطائه أبو سفيان ومعاوية راجع البداية والنهاية (359، 360 / 4).

الصفحة 349
به. وجاءوا إلى عمر بن الخطاب، وأعطوه الخط، فأبى ومزقه. وقال: هذا شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيكموه. تأليفا لكم على الإسلام. وأغنى عنكم. فإن ثبتم على الإسلام. وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: الخليفة أنت أم عمر؟ بذلت لنا الخط فمزقه عمر، فقال: هو إن شاء.

وأمضى ما فعله عمر (1).

يقول ابن قدامة: ولنا كتاب الله وسنة رسوله. فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء "، وكان النبي صلى الله عليه وآله يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة. ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ. والنسخ لا يثبت بالاحتمال. ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص.

ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وانقراض زمن الوحي.

ثم إن القرآن لا ينسخ إلا القرآن وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة.

فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم فكيف يتركون به الكتاب والسنة؟ (2).

واعتذروا عما فعله عمر وقالوا: إن الله سبحانه فرض في أول الإسلام عندما كان المسلمون ضعافا عطاءا يعطي لبعض من يخشى شرهم ويرجي خيرهم تألفا لقلوبهم. غير أن الإسلام لما اشتد ساعده وتوطد سلطانه رأى عمر بن الخطاب حرمان المؤلفة قلوبهم من هذا العطاء المفروض لهم بنصوص القرآن!!

نقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة يوم إن كان الوحي يدافع عنه أي: كان يعطيهم من موقع القوة. لفتح الطريق بتحطيم الأصنام داخل نفوسهم.

ويصل النور إلى عقولهم فتحتضنه الفطرة. وتحطيم الأصنام له وجوه.

____________

(1) فقه السنة 425 / 1، تفسير المنار 10 / 496، الدر المنثور 2 / 252.

(2) المغني / ابن قدامة 666 / 2.

الصفحة 350
فمن قبل حطم إبراهيم عليه السلام الأصنام ليصل النور إليهم ويقيم عليهم الحجة. فكيف يقال والوحي مع رسول الله أن النبي كان يعطي نظرا لضعف المسلمين. وأنهم منعوا لأن معهم آراءهم. ولوقوفهم على أرضية العز وتوطيد السلطان. ثم من الذي قطع بأن السلطان دائم؟ ألم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والافتراق من بعده وقال: " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ... " (1)، قال النووي: إن الإسلام بدأ في أحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ (2).

وهب أننا سلمنا وقلنا بما قالوا بأن السهم كان يعطى لضعف المسلمين.

أليس بين أيدينا نص يقول بأن هذا الضعف سيعود. وعلى هذا فلا بد أن يكون إعطاء السهم ممتد. والخلاصة: أن النص في إعطائهم مطلق وإطلاقه واضح في كتاب الله، وهذا مما لا خلاف ولا شبهة فيه. وليس لنا أن نعتبر إعطاءهم معللا بظروف زمنية مؤقتة هي تألفهم حينما كان الإسلام ضعيفا دون غيره من الأزمنة.

لقد افترضوا في المقدمة أن السلطان دائم وقوي. وها نحن عند النتيجة نرتجف خوفا - حتى قال صاحب المنار: إننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام. ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية الوحدة الإسلامية. أفليس المسلمون أولى بهذا منهم!؟! (3)، إننا عند النتيجة نخاف من عالم المعونات والمنح والقروض الأجنبية، لأن كل هذا يصب في النهاية في مربع المؤلفة قلوبهم ولكن لصالح دوائر الصد عن سبيل الله.

____________

(1) رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة وابن ماجة عن ابن مسعود وأنس والطبراني في الكبير عن سلمان وسهل بن سعد وابن عباس. ورواه الترمذي (صحيح مسلم 177 / 2) (كنز العمال 238 / 1) (جامع الترمذي 18 / 5).

(2) مسلم بشرح النووي 177 / 2.

(3) فقه السنة 177 / 2.

الصفحة 351
نظرات على الطريق:

إن سهم المؤلفة قلوبهم دليل على إمامة أهل البيت، وبدون قيادتهم لا يمكن للسهم أن يصرف بما يخدم الدعوة. فمن المعلوم أن الاقتراب في الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد أو الاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ويغيرهما عن الوجهة الخالصة. ولهذا نهى الله تعالى النبي وأمته من الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم ويعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية. قال تعالى: * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) * (1)، وتحديد الذين ظلموا يحتاج إلى صاحب فقه عال فإن قيل أن الأمة قادرة على هذا التحديد. قلنا وعلى رأس هؤلاء يكون من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وفي هذا نصوص. لأن الله ما طهرهم لا للدين والحياة الدينية فهم الأولى بتحديد أي عقبة على طريق الدين.

ومن المعلوم أيضا أن الأمة بها العديد من الدوائر التي هدفها الصد عن سبيل الله. ومنهم الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله عند عودته من تبوك ووصفهم النبي بأنهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا وذلك في حديث صحيح. فالتعامل مع هذه الدوائر تحتاج إلى سياسة خاصة تتألفهم في الوقت الذي تجعلهم فيه بعيد عن المناصب التي لا يطلعون فيه على الأسرار المهمة، قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) * (2)، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم المنافقون (3)، وقال ابن كثير: نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة (4)، فإن قيل أن الأمة تعرف المنافقين. قلنا: لا نسلم بهذا وإنما نسلم بمن جاء فيه نص.

____________

(1) سورة هود 113.

(2) سورة آل عمران: الآية 118.

(3) الدر المنثور 66 / 2.

(4) تفسير ابن كثير 398 / 1.

الصفحة 352
فالذي لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق هو القادر على القيادة وتحديد الذين سيتعامل معهم. ومن هو الذي سيكون قريبا من دائرة القرار ومن هو الذي ينبغي أن يكون في موقع بعيد عن الأسرار المهمة للدولة.

إن سهم المؤلفة قلوبهم لم يكن يعطى كي يعتنق البعض الإسلام. فهذا المنطق في ديار التبشير حيث ينطلق المبشرون بالخبز والدواء في كل مكان كي يعتنق الناس النصرانية. أما الإسلام فلا. لأن الآية حددت القلب كدائرة عمل قال تعالى: * (والمؤلفة قلوبهم) *، فالرسول صلى الله عليه وآله يهيئ قلوبهم ويجهزها كي تستقبل منه. ومعنى يهيئ قلوبهم أن يحدد المرض الذي على الطريق إلى القلب ثم يجهز له الدواء المناسب. فهناك من كان النبي يتألفه بوضعه على رأس سرية من السرايا. حتى إن عمرو بن العاص عندما قيل له عند موته: قد كان رسول الله يدينك ويستعملك قال: أما والله ما أدري أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني (1)، ومنهم من كان يتألفهم بمشاورتهم في بعض الأمور. ومنهم من كان يتألفه بالمال عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنه لأبغض الخلف إلي فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلي (2).

إن الرسول صلى الله عليه وآله يحدد الداء الذي في الصدر وعليه يعطي الدواء لكي يقيم الحجة على أفراد بعينهم. أنه صلى الله عليه وآله يحطم الأصنام التي تحت الجلود كي يجعل أصحابها أحرارا في اتخاذ القرار.

كما حطم إبراهيم عليه السلام الأصنام من قبل كي يرجع القوم إلى أنفسهم ويكونوا أحرارا في اختيارهم " قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كان ينطقون. * (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم

____________

(1) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح وله طرق أخرى (الفتح 310 / 22)، ورواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 263 / 1) وابن أبي شيبة (كنز العمال 549 / 11) وراجع مجمع الزوائد (353 / 9).

(2) رواه مسلم، ورواه الترمذي (جامع الترمذي 44 / 3.

الصفحة 353
الظالمون) * (1)، فالإسلام لم يأت بأجولة من الدنانير والدراهم كي يعتنقه الناس. وإنما جاء بالكلمة والحركة التي تذكر الإنسان بمخزون الفطرة وتجعله يقرأ الوجود من حوله من منطلق التوحيد. وإذا كان الإسلام قد فرض سهما للمؤلفة قلوبهم لحكمة فإنه طالب أتباعه بأن يجاهدوا في سبيل الله بالمال والولد. فهو يعطي لهدف ويأخذ لهدف والله غني عن العالمين. وروي أنه يوم حنين أعطى النبي قريشا ولم يعط الأنصار. فحزن بعض الأنصار لذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله. فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا فقال لهم: إنكم سترون بعدي آثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض. قال أنس وهو الراوي للحديث: فلم نصبر (2) فالذين أخذوا المال كان المال لهم دواء من أجل أن ينتصروا على في أنفسهم. وهناك من كان يطلب من النبي أن يعطيه. وعندما رأى أنه انتصر داخل نفسه لم يسأل مالا وتركه ليكون سبيلا إلى آخر. فعن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني. ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضر حلو. فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحد بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا.

وهناك صنف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم وهو يعلم أن الله ختم على قلوبهم فهم لا يؤمنون. وهؤلاء الذين قال فيهم الله تعالى: * (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (3)، وهناك أيضا الذين قال فيهم

____________

(1) سورة الأنبياء: الآية 64.

(2) البخاري ك الجهاد (199 / 2) مسلم (151 / 7) أحمد (الفتح الرباني 89 / 14).

(3) سورة يس: الآية 6.

الصفحة 354
تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هو بمؤمنين) * (1)، والرسول صلى الله عليه وآله كان يعطي هؤلاء يكون سهم المؤلفة عليهم علامة. يكون كالسك وعلى هذا يكونوا معروفين للأمة فتحذرهم وتتعامل معهم بفقه عال فلا توليهم المناصب العليا في الدولة حتى لا يصلوا إلى موقع القرار.

ولله تعالى على بعض عباده علامات. قال سبحانه في كفار أهل الكتاب:

* (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) * (2)، ضربت كضرب السكة على المعدن أو كضرب الخيمة على الإنسان، وسهم المؤلفة على الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين كالسك على المعدن. وليس كل من رآه المسلمين مؤمنا أن يكون بالضرورة مؤمنا فيولونه أمورهم. روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى قوما كان سعد يجلس فيهم. فترك النبي منهم من لم يعطه. وكان سعد يعجبه بعض الذين لم يعطهم النبي فقال سعد: يا رسول الله مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو مسلما. ثم تكرار هذا الموقف أكثر من مرة وسعد يقول ما قال والنبي يقول: أو مسلما. ثم قال النبي: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار (3)، وفي هذا الحديث أن سعدا كان يحكم على طرف بأنه مؤمنا وذلك وفقا لما يراه. أما الرسول صلى الله عليه وآله كان يحكم بما لا يراه سعد. وهذا المقياس له بعد النبوة امتداد. لأن الذين يقولون آمنا وهم لا يؤمنون باقون وأيضا سهم المؤلفة باقي لأنه لم ينسخ بقرآن. وعلى هذه الخلفية يمكن أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وآله بن أبي طالب: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (4)، ويضاف قوله لعلي: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " (5)، فهذا الامتداد يحفظ الدعوة من

____________

(1) سورة البقرة: الآية 8.

(2) سورة البقرة: الآية 61.

(3) رواه مسلم وغيره (صحيح مسلم 182 / 2).

(4) رواه البخاري وغيره (الصحيح 86 / 3) وسبق تخريجه.

(5) رواه مسلم وغيره وسبق تخريجه.

الصفحة 355
الذين ظلموا ويمنع تسلل بطانة السوء إلى المقاعد الأولى. لأن الاقتراب في الدين أو الحياة الدينية من هذه الدوائر بنوع من الاعتماد والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحقق الامتداد لمصلحة رآها بعض الصحابة يحفظون بها الحياة الدينية. فأمسكوا سهم المؤلفة الذي كان يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم للبعض من قريش وغيرهم فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالمال إلى أبي سفيان ليفرقه في قريش ليتألفهم (1)، ولكن رأي الصحابة نشأ عنه آثار جانبية مثل التي تنشأ عن الدواء الذي يستخدم في علاج داء معين ومن جملة هذه الآثار أن أبا سفيان دخل على عثمان بن عفان بعد أن كف بصره فقال: هل علينا من عين؟ قال: لا، فقال: يا عثمان إن الأمر أمر عاليه والملك ملك جاهلية فاجعل أوتاد الأرض بني أمية (2)، وفي رواية قال: يا معشر بني أمية إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها. وقد صارت إليكم فتلقفوها بينكم تلقف الصبي للكرة (3)، وفي مروج الذهب عنه أنه قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصرن إلى صبيانكم وراثة (3)، وروي أنه مر بقبر حمزة بن عبد المطلب فضربه برجله وقال: يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس صار في يد غلماننا اليوم يتلعبون به.

ومن جملة ذلك أيضا أن معاوية الذي ضاع من على يديه سكة سهم المؤلفة بعد التضييق على الرواية نازع على الخلافة. وجلس في المقعد الأول يقود الحياة الدينية للأمة!! ومن جملة هذا ظهور المزيد من المنافقين الذين يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس. روي أن الفاروق عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: أيها الناس ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين ظهرانينا النبي صلى الله عليه

____________

(1) رواه ابن عساكر (كنز العمال 176 / 9).

(2) الأغاني 6 / 355، تهذيب ابن عساكر 407 / 6.

(3) الأغاني 355 / 6، الإستيعاب 690 / 2.

الصفحة 356
وآله وسلم. وإذ ينزل الوحي... وإذ ينبأنا الله من أخباركم ألا وإن النبي صلى الله عليه وآله قد انطلق وانقطع الوحي وإنما نعرفكم بما نقول لكم من أظهر منكم خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه. ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. سرائركم بينكم وبين ربكم ألا أنه قد أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن يريد الله وما عنده فقد خيل إلي بآخره ألا أن رجالا قد قرأوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم (1).

في هذا الخطاب أمضى الفاروق بأن الطريق الذي بدأه بقول: " حسبنا كتاب الله " قد أنتج في عهده. من يقرأ القرآن يريد به ما عند الناس. وفي الخطاب يأس من معرفة المنافقين. وفيه أن العمود الفقري الذي تدور عليه السياسة " وإنما نعرفكم بما نقول لكم "، وقد أمر رضي الله عنه بما كان يراه لمصلحة المسلمين. ولكن الإشكال في قوله: " من أظهر لنا شرا ظننا به شرا "، لأن المنافق لا يظهر شرا!! وعلى هذا تسلل أغيلمة قريش إلى الكراسي الأولى.

وأمروا الناس بقتل الحسين واستباحة المدينة. وقتل من بقي من الأنصار وحرق الكعبة وجلد المسلمين. وكانوا يعرفون الناس بما يقولون لهم فمن أظهر لهم شرا أطاحوا برقبته وطافوا برأسه. حتى انتهى الأمر إلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمراء السور وبطانتهم. وأغلب الظن أن الصحابة في المجتمع المدني بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله تبينوا أن وجود سهم المؤلفة يحتم وجود طرف آخر تحت ضوئه يظهر النفاق، ونظرا لأن ظروفا ما حتمت إبعاد هذا الطرف سيصبح سهم المؤلفة إرثا للذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم أو أن قاعدته ستتسع لتشمل البعض من الذين لم يقطع بنفاقهم أو سيصبح نهيا ويوظف لاتجاهات أخرى الصحابة أجل من أن يخوضوا فيها، وعلى هذا فضلوا الإطاحة بالسهم وهذا العمل وفقا لأعمدة المجتمع المدني عمل لا غبار عليه ويمكن فهمه.

____________

(1) رواه أحمد وقال في الفتح إسناده حسن وأخرج البخاري الطرف الأول منه (الفتح الرباني 87 / 23) ورواه ابن خزيمة والبيهقي والحاكم وابن سعود وابن عساكر وسعيد بن منصور (كنز العمال 163 / 16).

الصفحة 357

رابعا - الأمراء والفتن

كانت سيرة النبي صلى الله عليه وآله في أمرائه الذين يبعثهم لإنجاز مهمة ما أن يحذرهم بأن معصيته هي معصية لله. وكانوا يعلمون أن الوحي يرصدهم تحت جلودهم. وكان صلى الله عليه وآله يحذرهم من اتخاذ أي قرار لم يمضه حتى لا تسيل قطرة دم بغير حق. عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري.

فرددت فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك (1)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبرأ إلى الله من أي أمير لا يتقيد بأوامره أو يجتهد في أمر اجتهاد ليس للإسلام فيه نصيب. روي أنه صلى الله عليه وآله بعث خالد بن الوليد في بعث إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا " قالوا صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. وعندما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر رفع يده وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد - مرتين - (2)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر الجنود بأن يطيعوا أمراءهم إذا كان الأمر في حدود المهمة التي أرسلوا إليها وأن يطيعوه إذا اجتهد اجتهادا لا يتعارض مع الإسلام. روي أن النبي صلى الله عليه وآله بعث سرية و أمر

____________

(1) ورواه الترمذي. وقال في تحفة الأحوازي أخرجه أبو داود والبيهقي وابن حميد وابن عدي (التحفة 565 / 4).

(2) رواه البخاري كتاب المغازي ب بعث النبي خالد (الصحيح 71 / 3).

الصفحة 358
من فيها بأن يطيعوا أميرهم. وعند تنفيذ المهمة غضب الأمير. فقال لمن معه:

أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني. قالوا: بلى، قال:

فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال: أوقدوا نارا. فأوقدوها. فقال: إدخلوها فهموا. وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي من النار (1)، فما زالوا حتى خمدت النار. فسكن غضب الأمير فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة والطاعة في المعروف (2)، وروي أن عمران بن حصين بعد وفاة النبي كان يذكر بهذا الحديث الأمراء الذين كانوا يتسعملهم زياد (3).

1 - أمراء على الطريق:

وكما ذكرنا من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل البعض على رأس السرايا تألفا منهم عمرو بن العاص وقد ولاه أميرا على أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح في غزوة ذات السلاسل (4)، وكان النبي قد وجهه إلى أخوال أبيه العاص يستألفهم بذلك و يدعوهم إلى الإسلام (5)، فلما وصل ابن العاص إلى أرض السلاسل بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمده بجيش فأمده بمأتين فيهم شيوخ المهاجرين (6)، لقد كانت هذه سيرته صلى الله عليه وسلم في تحديد الأمراء وتعيين أهداف الدعوة. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. كانت هناك مقاييس أخرى لهذه العملية. فعلى سبيل

____________

(1) أي آمنا خوفا من النار يوم القيامة ونحن الآن نأمر بالدخول فيها.

(2) رواه البخاري ك المغازي (الصحيح 71 / 3) وأحمد بإسناد صحيح (الفتح 42 / 23).

(3) رواه أحمد وفيه " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح 42 / 23).

(4) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 352 / 9) وسعيد بن منصور (كنز العمال 782 / 5) وابن حجر في الإصابة (2 / 3) والإستيعاب (510 / 2).

(5) الإستيعاب (510 / 2).

(6) الإستيعاب (510 / 2).

الصفحة 359
المثال خالد بن الوليد الذي تبرأ من صنعة النبي صلى الله عليه وسلم نجده في عهد أبو بكر يرتكب مخالفات ليست أقل خطورة مما ارتكب من قبل ولكن فعله توارى وراء تعريف " تأول فأخطأ وله أجر واحد "، وكان الشخص الذي يرتكب مخالفة للكتاب أو السنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ويراد الاعتذار عنه أو يصحح عمله يقال له: " تأول " وتطور الاعتذار إلى حد صار إلى كل جريمة ترتكب ومن أمثلة ذلك اعتذار ابن حزم عن أبي الغادية قاتل عمار بن ياسر من أنه متأول مجتهد فأخطأ فله أجر واحد هذا مع ما تواتر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار أنه تقتله الفئة الباغية.

ومخالفة خالد عندما قتل مالك بن نويرة ثم تزوج امرأته التي وصفها ابن كثير بأنها كانت جميلة (1)، قصة معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل.

فمالك بن نويرة كان على صدقات قومه بني يربوع واليا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما بلغه وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أمسك عن أخذ الصدقة من قومه حتى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أهل النقل. إن أبا بكر وصى الجيش الذي بعثه ليقاتل مانعي الزكاة. بأن يؤذنوا ويقيموا فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا عنهم. وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم (2). وعندما تقدم خالد نحو بني يربوع وكان معه أبو قتادة بن سراباه وأمر جنوده أن يدعوا القوم وأن يأتوه بكل من لم يجب. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة الذي انتهى الأمر بقتله وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال.

وكان أب قتادة الحارث بن ربعي ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا و صلوا. وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا (3). وركب أبو قتادة فرسه واتجه إلى أبي بكر فأخبره الخبر وقال له: إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي. وعندما سمع عمر بن الخطاب الخبر قال: إن القصاص قد وجب على

____________

(1) البداية والنهاية 322 / 6.

(2) الطبري 242 / 3.

(3) الطبري 243 / 3.