الصفحة 441
حتى قتلوه (1).

فكما ترى جميعهم من الصحابة وليسوا من الدهماء والرعاع كما قال البعض. ولم يكن بينهم عبد الله بن سبأ كما قال البعض الآخر من الذين أرادوا أن يقطعوا طريق البحث العلمي من قديم الزمان حتى لا يدينهم التاريخ وحتى لا تضع الأمة أيديها على موطن الداء ومركز الفتن. لم يكن هناك ابن سبأ. وكان هناك كعب الأحبار الذي كان يؤخذ برأيه في زمن عثمان في توزيع المال كما روى ابن أبي الحديد. وكان هناك أبو سفيان الذي سمعه عمار بن ياسر وهو يقول: " تلقفوها تلقف الكرة " وانطلق عمار إلى الصحابة ينقل إليهم الخبر كما ذكر المسعودي (2)، وكان هناك الفاسق الذي يعرف عند من اشتغل بعلوم السيرة والتاريخ.

وبنظرة أخيرة على أحداث الثورة نقول: إن مشكلة عثمان كانت في وضع بني أمية على رقبة الناس الأمر الذي جعل من أكلة القنافذ والضباب أصحاب خزائن كبرى مليئة بالذهب والفضة يصدون بها عن سبيل الله. وانتماء عثمان إلى قومه والعمل من أجلهم واضح وضوح الشمس. فالرسول صلى الله عليه وسلم كلما أهدر دم أحد منهم أو نفاه كان عثمان هو الملجأ. وخير دليل ما ورد في معاوية بن المغيرة بن العاص. كان النبي قد أسره بعد غزوة حمراء الأسد عند رجوعه إلى المدينة فلجأ إلى عثمان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله إن وجد بعد ثلاثة أيام. وعندما تواري بعيدا عن أعين الرسول بعت الرسول إليه بعمار بن ياسر وزيد بن حارثة وأخبرهما بمكانه وعندما وجداه قتلاه (3). وأيضا ما ورد في عبد الله بن أبي السرح والحكم بن أبي العاص الذي جاء به عثمان من منفاه. وضرب بمشاعر المسلمين عرض الحائط يوم أن أقام على قبره فسطاطا.

وكأنه أراد أن يكون وجود الحكم شاخصا حيا أو ميتا على أرض الدولة بعد نفي

____________

(1) الطبري 115 / 5.

(2) الطبري 115 / 5.

(3) السيرة الحلبية ص 591، حياة الحيوان / الجاحظ 161 / 4.

الصفحة 442
الرسول صلى الله عليه وسلم له. وعندما عاتبه الصحابة قال: إن عمر بن الخطاب أقام من قبل فسطاطا على قبر زينب بنت جحش (1).

فإذا كان هذا حال عثمان مع المطرودين فكيف يكون الحال مع غيرهم.

وإذا لم تكن بطانة عثمان التي اعترض عليها الثوار بطانة سوء. فما هي البطانة السوء التي حذر منها النبي وأخبر أنها أوشكت أن تركب بعد وفاته. هل ما زالت في بطن الغيب أم أنها جاءت وزالت بعد أن تركت جذورا وشذوذا وفتنا. لقد كان عثمان منحازا إلى بطانته وكان في إمكانه أن يتفادى الثورة عليه لو سار مع الناس بسيرة أبي بكر وعمر ولم يقم بتوسيع الدوائر التي خلفوها وراء ظهورهم.

فالدوائر كلما كانت ضيقة تكون العواصف أهدأ. ولكن عثمان لم يفعل ذلك بل لقد استعان بخبراء في توسيع الدوائر وحفرها - لقد كان عمر بن الخطاب يستمع إلى الخصم ويحقق فيما ادعاه. ولكن الأمر اختلف عند عثمان. روي أنه بعد أن تصالح مع أهل مصر عند مجيئهم الأول ذكر له ابن عديس ما صنع ابن أبي السرح بمصر وذكر تحاملا منه على المسلمين وأهل الذمة وذكر استئثارا منه في غنائم المسلمين. وقال ابن عديس: فإذا قيل له في ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي (2)، أي أنه يخبرهم أنه ما يفعل شيئا إلا بإذن عثمان. فماذا فعل عثمان؟ لقد أمر عليهم محمد بن أبي بكر وبينما هم في طريق العودة شاهدوا رسول عثمان ومعه كتابه وخاتمه إلى عبد الله بن أبي السرح يأمره فيه بجلد ظهورهم وغير ذلك. وعندما واجهوا عثمان اكتفى بقول: والله ما كتبت ولا أمرت ولا شورت ولا علمت. فقيل له: فمن كتبه؟ قال: لا أدري، فقالوا:

أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات المسلمين وينقش على خاتمك ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم؟ قال: نعم. قالوا:

فالكتاب كتاب كاتبك - أي مروان (3) - قال: أجل ولكنه كتبه بغير أمري. قالوا:

____________

(1) الإصابة 29 / 2.

(2) الطبري 119 / 5.

(3) كان محمد بن سلمة يقول: هذا من عمل مروان، الطبري 119 / 5.

الصفحة 443
والرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؟ قال: أجل ولكنه خرج بغير إذني.

قالوا: والجمل جملك، قال: أجل ولكنه أخذ بغير علمي، قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب. فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك. لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل الأمر دونه.

لضعفه وغفلته (1)، وجميع هذا قد حدث ومروان بن الحكم في مأمن تام لم يوجه إليه أي اعتراض. وذلك لعلمهم أن في ظهره ذرية من خلفاء بني أمية.

ومعاوية نفسه كان يتحدث بذلك (2) فمن أجل الحفاظ على فتنة ففتح بنو أمية أبوابا لفتنة أخرى. وحاصر الثوار دار الخلافة. واستمر الحصار أربعين يوما وكان عثمان يصلي بالناس ثلاثين يوما ثم منعوه (3). وكان علي بن أبي طالب يقدم الماء إلى عثمان في هذا الوقت وكان الحسن والحسين يقومان على حراسته. أولا: لأن ما يجري لا يستقيم مع المحاكمة العادلة. وثانيا: لأن ما يجري سيتم المتاجرة به وسيتهم علي فيه فكان التواجد حجة في ذاته. وكان علي بن أبي طالب يعلم ما ستجري عليه الأحداث وفقا لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا. وإذا كان عثمان قد دفع بالأحداث كي تصل إلى ما وصلت إليه وذلك لحفاظه على أسرته وأهل شورته. فإن التاريخ قد سجل أيضا أن الدماء التي جرت حول دار عثمان وداخلها. كانت بدايتها حفاظ عثمان أيضا على أهل شورته. فعلى الرغم من الحصار إلا أنه كانت تجري محاولات لتهدئة الخواطر. ولكن هذه المحاولات انتهت بسفك الدماء.

روى الطبري: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان. وأبى إلا الإقامة على أمره وأرسل إلى حشمه وخاصته فجمعهم. فقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يقال له: نيار بن عياص. وكان شيخا كبيرا. فنادى: يا

____________

(1) الطبري 120 / 5.

(2) سيأتي في موضعه.

(3) الطبري 107 / 5.

الصفحة 444
عثمان. فأشرف عليه عثمان من أعلى داره. فذكره الشيخ لما اعتزلهم. فبينما هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم. وقيل إن الذي رماه كثير بن الصلت الكندي. فقالوا لعثمان عند ذلك: إدفع إلينا قاتل نيار بن عياص فلنقتله به. فقال لهم: لم أكن لأقتل رجلا نصرتي وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه وخرج عليهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والمغيرة بن الأخنس كل منهم في عصابة فاقتتلوا قتالا شديدا. وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أنه مددا من أهل البصرة وأن أهل الشام قد توجهوا مقبلين (1). ولم يكن هذا قد حدث لأن معاوية كان في شغل.

وعلى هذا نقول: إن الخدعة في البداية كانت من عند بني أمية يوم أن بعثوا برسالتهم إلى ابن أبي السرح ليقتل المصريين. وإن أول قطرة دم في الأحداث كانت على أيدي بني أمية يوم أن قتلوا نيار بن عياص. قال في الإصابة: كان نيار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممن كلم عثمان في حصره وناشده الله. وقتله بعض أتباع عثمان. وقالوا: وهذا أول مقتول في ذلك الوقت (2). ونحن قد ذكرنا في بداية حديثنا عند بني أمية حديث الألف شهر وهو حديث صحيح ولكن بعض العلماء قد حكم بأنه منكر وذلك لكون مدة حكم عثمان داخلة في مدة حكم بني أمية. وسبب إنكارهم أنهم قالوا إن هذا لا يجوز لأن عثمان خليفة راشد كانت الملائكة تستحي منه. وقد سئل الحافظ السخاوي عن المواطن التي استحيت فيها الملائكة من عثمان فقال: لم أقف عليها في حديث يعتمد (3). ومن الأحداث التي دارت ومن الفتن التي خلفتها من ورائها يمكن القول بارتياح شديد إن الحديث المروي عن النبي حديث صحيح سندا ومتنا ومعنى.

وقتل عثمان. وروى الطبري وغيره: أن عثمان نبذ ثلاثة أيام لا يدفن. وقد

____________

(1) الطبري 124 / 5.

(2) الإصابة 259 / 5.

(3) التراتيب الإدارية 384 / 2.

الصفحة 445
كلم الناس عليا في ذلك فتدخل وأذن لأهله أن يدفنوه. فلما سمع الناس ذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة. وعندما شاهد الناس السرير الذي يحمل عثمان رجموا السرير وهموا بطرحه. فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفن عنه ففعلوا. وانطلق به أهله. وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع الجنازات فأبت الأنصار. وأرادوا أن يدفنوه بالبقيع فمنعوا أيضا من ذلك. وقالوا: لا يدفن في مقابر المسلمين. فدفنوه في حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم. فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان. أدخل هذا الحش في البقيع فهو اليوم مقبرة بني أمية (1).

وفي الختام. إن الجيل الأول هو الذي حكم بفشل تجربة الرأي التي انطلقت من دائرة المصلحة العامة. الجيل الأول هو الذي اعترض على بطانة السوء التي دخلت من باب إلغاء سهم المؤلفة وتأمير المنافقين. والجيل الأول هو الذي اعترض على توزيع الفئ الذي دخل من باب الخراجة. باختصار اعترض الجيل الأول على قوائم النظام الاقتصادية والإدارية والتربوية. التي عبر عنها الوليد بن عقبة. فكيف حدث هذا بعد مضي ربع قرن تقريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل خرج الناس على ما وضعه النبي أم أنهم خرجوا على شئ حذر منه النبي؟ ثم إذا كانوا قد خرجوا على ما حذر منه النبي فكيف دخل إليهم المحظور ولماذا؟ أخشى أن يقال إن الذي حدث كان قصورا في التطبيق. لأن الذين قاموا بالتطبيق صحابة عدول ثقات ولن يأتي على مر الزمان خير منهم. فإذا كان هؤلاء لم يصيبوا التطبيق الصحيح فكيف بمن دونهم. إن الذي يمكن أن يقال في هذا الموضع وإنهم أخطأوا التأويل الصحيح. لأن التأويل الصحيح له رجال يمكن أن يقاتلوا على تأويل القرآن كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم على تنزيله.

____________

(1) الطبري 143 / 144 / 5.

الصفحة 446

الصفحة 447

وظهر القمر


الصفحة 448

الصفحة 449

أولا - من معالم الحكومة الدينية

بعد ربع قرن من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظهر النفاق. ويشهد بذلك حديث حذيفة " إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون " (1)، بل إن النفاق ركب مرحلة أخرى يقول فيها حذيفة: " إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان " (2)، ويشهد بظهور النفاق استعمال عمر بن الخطاب للمنافقين وإلغائه لسهم المؤلفة قلوبهم. وبعد وفاة الرسول بربع قرن قامت السياسة على أعمدة منها عمود عدم الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد من يروي بالضرب أو النفي وهذا أيضا ثابت في أحاديث صحيحة رويت عن عمر بن الخطاب وبينت سيرته بشأن الرواية. وترتب على ذلك ظهور القص والشعر بإذن من عمر وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بربع قرن رتع بنو أمية في أموال المسلمين وذلك عندما تربعوا على الخراج الذي أنشأه عمر بن الخطاب. حتى أن مروان بن طريد رسول الله وضع يده على فدك بأمر من عثمان وفدك هذه لم تأخذها ريحانة رسول الله يوم أن نازعت فيها أبا بكر.

فالذي لم تأخذه ريحانة الرسول أخذه في نهاية الطريق ريحانة طريد رسول الله.

ولم يقف الأمر عند مروان بل التهم ابن أبي السرح الذي أهدر النبي

____________

(1) البخاري (الصحيح 230 / 4).

(2) البخاري (الصحيح 230 / 4).

الصفحة 450
دمه النصيب الأكبر من غنائم إفريقيا بأمر من عثمان الذي كان يستفتي كعب الأحبار فيما يجوز للخليفة أن يأخذه من بيت المال. وروي أن كعبا عندما أفتاه قال أبو ذر لكعب: يا بن اليهوديين أتعلمنا ديننا. وعندئذ قال له عثمان: يا أبا ذر قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي (1).

ومن نتائج هذا كله بهتت مناقب أهل البيت، وإذا كانت المناقب تشع في أذهان البعض. فإنها أخذت عند البعض الآخر تأويلا آخر فوضعوهم في دائرة (البركة والمشايخ) أي الدائرة التي لا علاقة لها بالقيادة. وحتى هذه الدائرة لم تدم لأهل البيت فيوم الشورى الذي جعل عمر الخلافة فيه في ستة نفر، كانت دائرة الشيوخ لا يوجد فيها بني هاشم وحدهم فلقد دخلها أبناء عبد شمس وغيرهم. ومن المعروف أن أبناء عبد شمس - وبنو أمية هم أشهر فروعهم - لم يكن لهم نصيب في أشرف خصال قريش في الجاهلية وهي: اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة. وبعد الشورى استحوذ بنو أمية على كل مال على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منهم إذا ركبوا الأمة.

ولكن هذا التخدير لم يكن له وجود واسع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وركب بنو أمية رقبة الأمة يوم الشورى وعملوا من أجل أن يكون الملك فيهم تعويضا لإبعادهم في الجاهلية والإسلام. وعلى امتداد حكم عثمان كانت هناك ثقافات أموية يشرف عليها أمراء عثمان ومنهم معاوية الذي قال في الشام وهو يخاطب الذين سيرهم عثمان " قد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها... وأن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازما ".

يستفاد من هذا كله أن هناك فتنة في المقدمة، وهذه الفتنة حذر القرآن منها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق الدنيا إلا وبين كل شئ. وهذه الفتنة يشهد كل قارئ للتاريخ أن نتائجها كانت بجميع المقاييس كارثة فالأمة الواحدة اختلفت وافترقت وذهب ريحها. والجميع في كل دروب الاختلاف والافتراق يقرأون كتاب الله وكل منهم يدعي أن الحق معه وغيره الباطل. ومرجع ذلك في

____________

(1) ابن أبي الحديد 240 / 1.

الصفحة 451
رأينا أن كل فريق انتقى من على أرضية الصحابة وأبناء الصحابة قدوة له فأخذ منهم دون تمحيص وانطلق في أثره. وقد تكون القاطرة تسير على قضبان الفتنة فيركب فيها الراكبون وهم لا يعلمون أنهم بركوبهم هذا يكونون قد شاركوا في الفتنة التي لم يشهدوها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " (1)، فهو مشارك في الإثم وإن بعدت المسافة بينهما (2). ودواء هذا الداء لا يكون بتلجيم العقل والسير على طريق الاحتناك الذي ترفرف عليه أعلام الزينة والزخرف والإغواء. وإنما يكمن العلاج في العلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الفتنة تجيئ فتنسف العبادة نسفا وينجو العالم منها بعلمه " (3).

فالفتنة إذا كانت في المقدمة يقع فيها الذين شاركوا فيها والذين جاءوا من بعدهم. بمعنى أن الفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وإنما تصيب الذين ركبوا القاطرة التي تسير على قضبان هذه الفتنة، أما العالم فإنها لا تصيبه عند المقدمة لأن عند المقدمة شهود. فشاهد عليه علامة تقول: " تقتله الفئة الباغية " وشاهد عليه علامة " تنبحها كلاب الحوأب " وشاهد عليه علامة " بأنه أصدق لهجة "، وآخر عليه علامة زيد وما زيد... وكثير كثير. والعالم لا تصيبه الفتنة عند النتيجة لأنه ينجو منها بعلمه بأحداثها وموطن الحق فيها.

وفتنة المقدمة ما وقعت إلا بعد أن اختار الناس لأنفسهم في جو من الأحداث لا نعلم عنه إلا القليل. فهناك من أبى أن تكون الخلافة والنبوة في بيت واحد. لأن هذا يعني أن بني عبد شمس من دون خلق الله جميعا لن يكون لهم ركوبة في جاهلية أو إسلام. لقد كانت الأبواب مغلقة بمفاتيح الدعوة ولكنها فتحت بمفاتيح الفتنة. ومن عدل الله تعالى أنه أقام الحجة على الجيل الأول في

____________

(1) رواه أبو داود حديث رقم 4323.

(2) عون المعبود 501 / 11.

(3) رواه أبو داوود وأبو نعيم والرافعي (كنز العمال 150، 178 / 10).

الصفحة 452
كل حركاته بعد وفاة الرسول، وها نحن قد رأينا أحداث أبي ذر وغيره من الذين وضع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هالات من التبشير والتحذير. لقد حاصرت حجج الله جيل الصحابة لأنهم مقدمة على أرضية دين الله. والشيطان إذا دق وتدا له في هذا الجيل ضمن ثغرة له في الجدار يدخل منها بالزينة والإغواء فيضل بذلك كثيرا من الناس. وإذا كانت الحجة قد قامت يوم غدير خم. وأن التحذير قد تم على لسان بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله من بعد وفاته. فإن إقامة الحجة بعد النبي بلغت الذروة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذه الحجة لا تنفصل عن حجة غدير خم بأي حال من الأحوال. ولكنها جاءت لتخاطب زماما قد تغير ومكانا أوشك على أن يتبعثر. وعندما جاء علي بن أبي طالب لم يأت ليخاطب المتقين بل جاء ليفتح أبواب التوبة أمام المنافقين الذين كثروا في الساحة كما شهد حديث حذيفة وغيره. جاء ليوقف تدفق الفتنة وليفتح صفحات التاريخ لتدون الأحداث التي يقف عندها أصحاب العقول والأفهام لينجو العالم بعلمه.

ولقد علمنا أن التعامل مع النفاق يخضع لفقه خاص لا يلم به كثير من الناس. والفقيه في هذا المجال لا يقوم بتعيينه سلطان أو أمير لأن هؤلاء لا يعلمون خفايا الأمور وإنما الفقيه هنا لا بد أن يحدده نص. وليس معنى هذا أن الفقيه بهذا التحديد يكون قد علم ما تخفيه الصدور، فالقول بهذا قول سقيم لتفكير غير مستقيم. وإنما الفقيه هنا هو الذي يضع سياسته على قوائم الإسلام.

أي يقيم سياسته على القرآن ونصوص الدين بشكل شامل ويتعامل مع المستجدات بالبحث عن الجوهر فيها ثم يطابقه على الجوهر الأزلي في الإسلام.

ولا يقوم بذلك إلا فقيه راسخ في العلم. ولما كان المنافق في الأساس كارها للإسلام ونظامه. فإنه يشع بعمله تحت عين الفقيه الراسخ في العلم والذي عليه نص بأن لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق. لهذا كان التعامل مع النفاق يحتاج إلى فقه خاص. وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي يتعامل مع المنافقين وفقا لحركة الدعوة وكان يجاهدهم وفقا لمطالبها. وكان يفتح لهم أبواب التوبة وفقا لشروط خاصة. وبعد وفاته صلى الله عليه وآله

الصفحة 453
وسلم. كانت حجة الله على المنافقين يرفعها علي بن أبي طالب الذي رفضوه في أول الأمر. ولنتدبر هذه الآيات الكريمة التي أمرت وحذرت وفتحت الأبواب أمام النفاق في عهد الرسول ومن بعده في أيام علي بن أبي طالب لأنه عليه نص بأنه يقاتل على التأويل وأن على صفحته يكشف النفاق. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) (1).

قال ابن كثير: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. يعني: مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه) (2)، أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ولهذا قال ههنا (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) أي حجة عليكم في عقوبته إياكم (3)، وبعد هذه المقدمة أخبر تعالى عن المنافقين فقال سبحانه: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) أي يسكنهم في أسفل درك من النار ويقطع بينهم وبين كل نصير ينصرهم وشفيع يشفع لهم. وهذا يتفق مع حديث الورود على الحوض. الذي يقال فيه لبعض الصحابة: سحقا سحقا أي مكانا بعيدا ليس فيه ناصر ولا شفيع. ولقد بينا في هذا البحث أن علي بن أبي طالب سيكون مع النبي عند الحوض وهو الذي سيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وبعد أن أخبرت الآيات عن مكان المنافقين يوم القيامة استثنت الذين تابوا منهم وبينت أن طريق التوبة الخاص بهم له علامات وهو قوله تعالى:

____________

(1) سورة النساء: الآية 144 - 146.

(2) سورة آل عمران: الآية 28.

(3) تفسير ابن كثير 570 / 1.

الصفحة 454
(إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم فأولئك مع المؤمنين) فالطريق يبدأ من الخروج من جماعة المنافقين واللحوق بصف المؤمنين. وهذا الخروج لا يتم إلا بالتوبة وهي الرجوع إلى الله. ولا ينفع الرجوع والتوبة حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل. ولا ينفع الاصلاح إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ولا ينفع الاعتصام إلا إذا أخلصوا دينهم لله وطهروا أنفسهم من بصمات الشرك والظلم قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (1).

فإذا سلكوا هذا الطريق حتى نهايته كانوا مع المؤمنين قال تعالى: (فأولئك مع المؤمنين) ولم يقل: فأولئك من المؤمنين. لأنهم يلحقون بالمؤمنين ما داموا على طريق التوبة ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الأوصاف على استقرارها.

وطريق التوبة في الجيل الأول لا بد له من سياسة تظهر الاصلاح وعلى هذا يظهر المؤيد والمعارض لسياسة الاصلاح. وتنادي بالاعتصام بالله وعلى هذا يظهر دعاة القبائلية والحزبية وتعمل من أجل إخلاص الدين وعلى هذا يظهر النبلاء الذين كان الدين مصدرا لثروتهم. وبالجملة: لا بد من سياسة تظهر عورات التأويل الذي وضع في غير موضعه. ولما كان هذا التأويل يستند إلى كتاب الله ويقوم به جيل الصحابة فإن هذا يعني أن هذا التأويل سيكون له امتداد نظرا لأن الذين قالوا به من الذين سمعوا وشاهدوا النبي وهنا يكمن الخطر على المستقبل. وينتهي الأمر بالاختلاف والافتراق إلى أكثر من سبعين شعبة وإلى التسكع في طرقات أصحاب أعلام الأديان السابقة واتباعهم شبرا بشير وذراعا بذراع. وقبل أن يحدث هذا كانت حجة الله على جيل الصحابة في بدايته وفي نهايته ليدون التاريخ ويعلم اللاحق أين موضع السابق. وشاء الله أن يكون الفصل بين الحق والباطل في هذه الأحداث على صهيل الخيول وضربات السيوف كي تنطبع الأحداث في ذاكرة كل منتسب إلى الأمة وتشده شدا إلى البحث عن الحقيقة. ومعارك التأويل

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 82.

الصفحة 455
خاضها الإمام علي بن أبي طالب الذي شاء الله أن يجعله في المقدمة بعد وفاة الرسول الأعظم ليرى الله كيف يعملون وفقا لدائرة اختيارهم. ولعلمه سبحانه بأن الاختلاف واقع لا محالة أحاط سبحانه النبي بالعلم وبين له مواطن الاختلاف والفتن من بعده. وكان فوق كل موطن من المواطن حجة كأبي ذر والمقداد وسلمان وعمار وأويس وجندب وزيد وغيرهم. وآخر هؤلاء جاء الفقيه الزاهد العالم إمام المتقين علي بن أبي طالب ليواجه دائرة النبلاء التي أخذت شرعيتها من تأويل وضع في غير موضعه. وكان هذا لطفا من الله كي يشع الماضي أمام الحاضر لينتقل إلى المستقبل.

لقد جاء علي في خاتمة عصر الصحابة القادة. ليفتح أبواب التوبة كي يتنفس المستقبل الأمان ولا يحدث الاختلاف ولا تخرج الفرق التي تستمد وقودها من عهود قبل معارك التأويل أو من عهود ما بعد معارك التأويل. جاء علي ليدخلهم تحت راية واحدة لتشق الدعوة طريقها وتسوق الناس إلى صراط العزيز الحميد. وليجد المستقبل أن ماضيه لا خلاف فيه. جاء ليفتح أبواب الشكر والإيمان في عالم اكتناز الذهب والفضة وكأنه يتلوا قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما) (1). ولكننا سنرى ماذا ترتب على فتح هذه الأبواب. وهل المعارك التي دارت كانت من أجل قميص عثمان. أم أن هذا القميص كان كقميص يوسف الذي حمله أبناء يعقوب إلى أبيهم ليخفوا به مقاصدهم التي بدأوها بالحسد وانتهوا بجريمة تغيب يوسف في أعماق الجب ليخلو لهم مركز الصدارة عند أبيهم؟ أم أن هذه المعارك خاضها طرف من أجل الدفاع عن تأويل حق بينما خاضها أطراف أخرى لوقف التأويل الحق نظرا لأن وجوده سيكشف ما ضاع من رواية وسيطيح بنبالة قريش؟ وعلى أي حال فإن ما بين أيدينا من حديث يثبت أن المعارك التي دارت كانت من أجل التأويل وهذا يعري حملة القمصان ويثبت أن القميص ما كان إلا شعارا أجوفا حملته الوصول إلى أهداف أخرى، روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه

____________

(1) سورة النساء: الآية 147.

الصفحة 456
وسلم أنه قال: فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله " (1)، قالوا: من؟ قال: خاصف النعل وكان أعطى عليا نعا يخصفها (2)، وعن علي قال: " عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (3)، قال في لسان العرب: ومنه حديث علي: " أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " الناكثون أهل الجمل والنكث نقض العهد. وأهل الجمل كانوا قد بايعوه ثم نقضوا بيعته وقاتلوه. والقاسطون أهل صفين لأنهم جاروا في الحكم وبغوا عليه. والمارقون الخوارج لأنهم مرقوا من الدين لغلوهم فيه (4)، والآن هل رأيت للقميص مكانا في نصوص رسول الله؟ أم أنك رأيت نقضا للعهد وجورا في الحكم وبغيا على الحجة ومروقا من الدين؟ وجميع ذلك مرجعه إلى تأويل وضع في غير موضعه وأهواء وآراء تصب في وعاء المطامع ومن أجل هذا كان ظهور الحجة في نهاية عصر الصحابة القادة له حكمة ومن وراء الحكمة هدف.

أولا - النداء الحق:

بعد دفن عثمان تحرك الناس في إتجاه علي بن أبي طالب ليبايعوه (5) منهم من رأى فيه الزهد فيما بين يدي الناس وسوف يتعامل مع الذهب والفضة تعامل العابد الزاهد العادل. ومنهم من وجد فيه الأمانة في النصح لعثمان ومعارضيه على امتداد عصر الأزمات. ومنهم من تذكر الأيام الأولى وعلم أنه لا سبيل إلى الاصلاح إلا بالعودة إلى الأمر الأول. ومنهم من كان يعلم حقيقة الأحداث ولم ينسها يوما وعندما جاء أوان الظهور لم يكن في حاجة إلى بيعة لأنه كان قد بايع

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 244 / 6) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 123 / 3).

(2) رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، قال الهيثمي (الزوائد 186 / 5).

(3) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 238 / 7).

(4) لسان العرب مادة نكث ص 4536، ومادة قسط ص 3627، ومادة مرق 4185.

(5) رواه الحاكم.

الصفحة 457
بقلبه من قبل.

والذي يستحق التسجيل هنا. أنه قبل أن تتم مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هرول الناس إلى أكابر الصحابة يسألونهم بماذا ينصحون؟ وعلى سبيل المثال قال عبد الله بن بديل لأم المؤمنين عائشة عندما خرجت الثورة على عثمان: ما تأمرني؟ فقالت: الزم عليا!! (1)، ولقد ذكرها ابن بديل بهذا الحديث بعد هزيمتها يوم الجمل فسكتت. ولم تكن أم المؤمنين وحدها التي نصحت بذلك. فكثير من الناس كانوا يتدافعون على حذيفة صاحب سر رسول الله ليعرفوا رأيه في الأحداث لأن حذيفة كان يقول: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة (2)، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال. ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال " (3)، أي أن البداية لا تصيب إلا في نهايتها فالشر في الشر والخير في الخير.

وروى بسند صحيح " لما قتل عثمان قالوا لحذيفة: يا أبا عبد الله قتل هذا الرجل وقد اختلف الناس فما تقول؟ قال: سندوني. فسندوه إلى ظهر رجل فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبو اليقظان على الفطرة لا يدعها حتى يموت (4) وفي رواية: آمركم أن تلزموا عمارا قالوا: إن عمارا لا يفارق عليا!! قال: إن الحسد هو أهلك الجسد وإنما ينفركم من عمار قربه من علي فوالله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب وإن عمارا لمن الأحباب. وهو يعلم أنهم إن لزموا عمارا كانوا مع علي " (5). من الواضح هنا أن سياسة اللارواية كانت قد بلغت منتهاها. فهؤلاء القوم لم يكن

____________

(1) أخرجه ابن أبي شيبة بسند جيد (فتح الباري 57 / 13).

(2) رواه مسلم (الصحيح 15 / 18) ك الفتن.

(3) رواه أحمد والبزار ورجال رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

(4) رواه البزار والطبراني في الأوسط باختصار ورجالهما ثقات (الزوائد 295 / 9).

(5) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

الصفحة 458
في ذاكرتهم أي منقبة لأهل البيت وربما كان في ذاكرتهم تشويش على أهل البيت ويظهر هذا في قولهم إن عمارا لا يفارق عليا. وحذيفة قد فطن لهذا الأمر برده الجامع الشامل. ولم يكن هؤلاء فقط الذين ذهبوا إلى حذيفة ولكن هناك آخرين ذهبوا إلى حذيفة فقال لهم: انظروا إلى الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها فإنها على الهدى (1). ومما يذكر أن حذيفة كان بالكوفة عند مبايعة الناس لعلي، وعندما علم بمبايعة الناس قال: أخرجوني وادعوا الصلاة جامعة. فوضع على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله ثم قال: أيها الناس. إن الناس قد بايعوا عليا فعليكم بتقوى الله وانصروا عليا ووازروه فوالله إنه لعلى الحق آخرا وأولا وإنه لخير من مضى بعد نبيكم ومن بقي إلى يوم القيامة - ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال: اللهم اشهد أني قد بايعت عليا. الحمد الله الذي أبقاني إلى هذا اليوم. ثم قال لابنيه صفوان وسعيد احملاني وكونا معه فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من الناس. فاجتهدوا أن تستشهدا معه فإنه والله على الحق ومن خالفه على باطل. ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام (2) وقال صاحب فتح الباري: بايع حذيفة لعلي وكان حريصا على المبايعة له والقيام في نصره (3) وقال ابن الأثير: قتل ابناه صفوان وسعيد مع علي بصفين بوصية أبيهما (4).

ولم يكتف حذيقة رضي الله عنه بندائه وهو مريض. وإنما أطلقه أيضا عند الموت، فعن بلال بن يحيى قال: لما حضر حذيفة الموت قال لنا: أوصيكم بتقوى الله والطاعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (5)، وأغمض حذيفة عينيه في هدوء وصعدت روحه إلى بارئها. ولقد ترك لنا رواياته في الفتن وغيرها والتي بدونها ما كان الباحث أن يصل إلى الحقيقة بسهولة ويسر. فجزاه الله عنا خير الجزاء. وبعد رحيل حذيفة لم يقف النداء. فكما سمعه أهل العراق سمعه

____________

(1) رواه البزار ورجاله ثقات (الزوائد 236 / 7)، وفتح الباري 55 / 13.

(2) مروج الذهب / المسعودي 394 / 2.

(3) فتح الباري / ابن حجر 40 / 13.

(4) الكامل 147 / 3، مروج الذهب 425 / 2.

(5) رواه الحاكم (المستدرك 380 / 3).

الصفحة 459
أيضا أهل المدينة وما حولها. لقد كان أبو سعيد الخدري يقول. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال:

الموفون الطيبون إن الله يحب الخفي التقي. ومر علي بن أبي طالب فقال النبي:

الحق مع ذا الحق مع ذا " (1)، وكان أبو ليلى الغفاري يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم: سيكون بعدي فتنة فإذا كان فالزموا علي بن أبي طالب فإنه الفاروق بين الحق والباطل (2)، وزاد في رواية: " وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين (3)، وكان كعب بن عجرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق - يعني عليا (4). وهكذا أقيمت الحجة بالنداء.

1 - الظهور:

عندما جاء الناس إلى علي بن أبي طالب ليبايعوه. كان علي يعلم أن من أمامه أياما عصيبة. فالنبي عهد إليه بقتال الناكثين أولا. وهذا يعني أن بين الذين سيبايعونه من سينقض البيعة ويقاتله. ومن جهة أخرى فإنه أكثر الذين سيبايعونه لا يعلمون شيئا عن مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يخوض بهم المعارك وهو لم يسهر على تربيتهم وتدريبهم في وقت تطفح فيه خزائن الذهب والفضة عند ألد أعداء الدعوة. لقد كان هذا كله شاخصا أمام الإمام علي وهم يعرضون عليه أن يبايعوه. وكان عليه أن يبين لهم حقيقة ما يعلمه ولا يعلمونه. ويخبرهم أنه إن أجابهم لما يريدون فإنه مثله لن يتراجع عما عهد إليه من النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه الحالة لن يلتفت إلى قول القائل منهم، ثم يخبرهم. إما أن يقبلوا بهذا أو أن يتركوه ويبحثوا عن غيره. وهذا المعنى كان فيما روي عنه رضي الله عنه أنه قال لهم: " دعوني والتمسوا غيري

____________

(1) رواه أبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 235 / 7).

(2) رواه أبو نعيم (كنز العمال 612 / 11).

(3) الإصابة 167 / 7.

(4) رواه الطبراني (كنز العمال 621 / 11).

الصفحة 460
فإنا ستقبلون أمرا له وجوه وألوان. لا تقوم له القلوب ولا ثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت. واعلموا إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزير خير لكم مني أمير " (1).

لقد أخبرهم بأن الأيام في بطونها كثير في وقت بهتت فيه الحقيقة ودثرها الغمام في عالم اللارواية ثم خيرهم إما أن يجيبهم ويركب بهم ما يعلم وإما أن يتركوه. وهو ما قال هذا إلا لأمرين:

أولهما: أن الناس أعداء ما جهلوا (2). فأراد أن يبين لهم الخطوط الرئيسية حتى يكونوا على علم بما جهلوا.

وثانيهما: أنه أخبرهم بخطة عمله كما أخبر من قبل في يوم الشورى على عهد عمر. ليكونوا على بينة من أمرهم ويضعهم في دائرة الاختيار كما وضع غيرهم من قبل. وهذا شأن الحجة في كل زمان ومكان فالحجة تفتح الأبواب ولا إكراه في الدين. وهذا في حد ذاته أسمى معاني الحرية. وقبلت أعداد غفيرة أن يبايعوه على ذلك فقال فيما رواه الطبري: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس (3)، ولم يتخلف أحد من الأنصار إلا بايع (4)، وروي كان أول من بايعه طلحة ثم الزبير (5) وروى ابن حجر في فتح الباري: عن الأشتر قال: رأيت طلحة والزبير بايعا عليا طائعين غير مكرهين (6).

____________

(1) ابن أبي الحديد 597 / 2، الطبري باختصار 156 / 5.

(2) هذا القول للإمام علي.

(3) الطبري 152 / 5.

(4) الطبري 155 / 5، البداية والنهاية 227 / 7.

(5) البداية والنهاية 227 / 7.

(6) فتح الباري 54 / 13.

الصفحة 461
وروي أن الناس عندما بايعوا عليا تربص سبعة نفر فلم يبايعوه منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وصهيب وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وسلمة بن وقش وأسامة بن زيد (1)، وروي أن عمار بن ياسر قال: يا أمير المؤمنين قد بايعك الناس كافة إلا هؤلاء النفر فلو دعوتهم إلى البيعة كي لا يتخلفوا في ذلك عن المهاجرين والأنصار. فقال: يا عمار لا حاجة لنا في من لا يرغب فينا. وعندما قال الأشتر بمثل قول عمار قال الإمام: يا مالك إني لأعرف بالناس منك دع هؤلاء يعملون برأيهم.

وذكر ابن أبي الحديد أن هؤلاء لم يتخلفوا عن البيعة وإنما تخلفوا عن الحرب (2)، وروي أن مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة حضروا عند علي. فقال الوليد وكان لسان القوم: يا هذا إنك قد وترتنا جميعا.

أما أنا فقد قتلت أبي صبرا يوم بدر. وأما سعيد فقد قتلت أباه يوم بدر وكان أبوه ثور قريش. وأما مروان فقد شتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه. وإنا نبايعك على أن تضع عنا ما أصابنا. وتعفي لنا عما في أيدينا وتقتل قتلة صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم وأما وضعي عنكم عما في أيديكم مما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا. ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فمن ضاق الحق عليه فالباطل عليه أضيق. وإن شئتم فإلحقوا بملاحقكم (3)، وروى الطبري: هرب سعيد والوليد إلى مكة وتبعهم مروان (4) وهرب قوم إلى الشام (5).

وهكذا تمت البيعة التي لم يكن فيها إكراه. وروى أن الإمام علي اشترط

____________

(1) الطبري 155 / 5.

(2) ابن أبي الحديد 746 / 1.

(3) تاريخ اليعقوبي 125 / 2.

(4) الطبري 156 / 5، البداية والنهاية 227 / 7.

(5) الطبري 154 / 5، البداية والنهاية 227 / 7.

الصفحة 462
أن يكون مفتاح بيت المال معه وأخبرهم بأنه لن يأخذ منه درهما وليس له أمر دونهم. ثم قال: رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (1)، وروى عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة. فإذا فعل فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا (2)، وروى عندما بويع الإمام علي بن أبي طالب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر:

فإذا نحن بايعنا عليا فحسبنا * أبو حسن مما نخاف من الفتن
ووجدناه أولى الناس بالناس إنه * أطب قريشا بالكتاب وبالسنن
وإن قريشا ما تشق غباره * إذا ما جزى يوما على الضمر البدن
وفيه الذين فيهم من الخير كله * وما فيهم كل الذي فيه من حسن (3)

2 - إصلاحات علوية:

بدأ أمير المؤمنين عملية الاصلاح عقب مبايعته. ولم تكن عملية الاصلاح في محيط الغصون أو الثمار وإنما بدأت من عند الجذور حيث توجد سياسة تعيين المنافقين وسياسة عدم الرواية والتصريح بالقص والشعر وإغماض الطرف عن صناعة الخمور وسياسة الخراج وتأويل الآيات ووضعها في غير موضعها واكتناز الذهب والفضة إلى غير ذلك من سياسات، ولم تكن عملية الاصلاح والتغيير عملية سهلة فلقد برزت العقبات وجاءت موقعة الجمل بسرعة ومن بعدها هبت رياح هدفها تحطيم كل شئ. ونحن هنا سنلقي الضوء على بعض التغييرات والإصلاحات وليتدبر الباحث في جوهرها.

  • - قرار عزل أمراء الفتن:

    عندما قتل عثمان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ

    ____________

    (1) الطبري 152 / 5.

    (2) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم (كنز العمال 764 / 5).

    (3) الحاكم (المستدرك 114 / 3).

    الصفحة 463
    بدمه (1). فورد به على معاوية فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس. وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر، فتباكى الناس حول المنبر. وأصدر معاوية قرارا بأنه لا يقرب الرجال النساء حتى يأخذوا بثأر عثمان (2) وذكر ابن كثير: أن الناس تباكوا حول القميص سنة واعتزلوا النساء في هذا العام (3) وما فعله معاوية يدل على أنه قد أصر على البقاء ولن يرضخ لأي محاولة لعزله. وكان علي قد بعث على الشام سهيل بن حنيف بدل معاوية. فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شئ، قال: على الشام، قالوا: إن كان عثمان بعثك فهلا بك وإن كان غيره فارجع. فقال: أوما سمعتم الذي كان - أي هل وصلكم أخبار ما حدث؟! قالوا: بلى، فرجع إلى علي (4)، وعندما جاء ابن عباس وكان يؤدي مناسك الحج دخل على أمير المؤمنين وقال له: يا أمير المؤمنين أنا أشير عليك بأن تثبت معاوية فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله.

    فقال الإمام: لا والله لا أعطيه إلا السيف. ثم تمثل بهذا البيت:

    ما ميتة إن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها

    فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع... أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة. قال الإمام: بلى يا ابن عباس لست من هنيآتك وهنيآت معاوية في شئ. تشير علي وأرى. فإذا عصيتك فأطعني فقال: أفعل إن أيسر ما لك عند الطاعة (5)، وكان المغيرة بن شعبة قد قال له قبل ذلك: إني لك ناصح وإني أشير عليك برد عمال عثمان عامك هذا فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم. فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت فقال الإمام: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري. قال المغيرة: فإن كنت قد أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية

    ____________

    (1) روى ابن أم حبيبة أرسلت القميص مع النعمان إلى معاوية (مروج الذهب 379 / 2).

    (2) مروج الذهب.

    (3) البداية والنهاية 228 / 7.

    (4) البداية والنهاية 230 / 7، الطبري 161 / 5.

    (5) الطبري 161 / 5.