الصفحة 138
يستيقظ (1)، وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة (2).

لقد أخبرهم بأنهم يتثاقلون إلى الأرض وهم تريكة الإسلام وبقية الناس.

وبين لهم ما هم فيه حيث العدل في العطاء، وتلقي العلم النافع من مصادره النقية، وكان من نتيجة ذلك ظهور ما كانت عقولهم وأذهانهم تنفر عنه من الأمور الدينية، وبعد معرفتهم هذا اعتقدوه، وأخبرهم أنه فعل معهم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية. ولكن أفعالهم تدل على أن الهوى والعصبية والإصرار على اللجاج صفحات عليا في ساحتهم.

ومما لا شك فيه أن بذرة التخاذل وضعت عند رفع المصاحف. فبعد قتل عمار بن ياسر تلقى أهل الشام ضربات قوية ليلة الهرير. وكان الأشتر وقواته على أعتاب خيمة معاوية وفي هذا الوقت رفعت المصاحف ودخل التخاذل عن هذا الباب، وبعد ذلك رأينا الذين أضروا على التحكيم هم أنفسهم الذين قاتلوا عليا لسيره في طريق التحكيم، والعجيب إنهم خرجوا بمقولة طالما روج لها معاوية، لقد أجازوا الخلافة لكل العرب ولكل مسلم ولو كان عبدا حبشيا، ما دامت شروط الإمامة متوفرة فيه. باختصار: بعد رفع المصاحف وضع البيض كله في سلة معاوية. فالخوارج وإن كانت جرائمهم الظاهرة هي القتل والتخريب، إلا أن عقيدتهم قبل رفع المصاحف لم تكن بحال هي نفس العقيدة بعد ذلك. وأغلب الظن أنهم عندما خالفوا الإمام وهددوه بالقتل إذا لم يقبل التحكيم وأن ذي الثدية بدأ يعمل في هذا الوقت بالذات. ثم وضع لمساته على اعتقاداتهم بعد ذلك.

لتلتقي هذه اللمسات مع لمسات الذين سيتخذون دين الله دغلا تحت إذاعة واحدة وإعلام واحد، مما ساعد إلى حد كبير في التخاذل عن أمير المؤمنين.

إن علماء الأمة أقروا أحاديث تقول بأن ذي الثدية كان شيطان الردهة، وأقروا أحاديث تذم بني أمية وأنهم ملوك من شر الملوك. وعقيدة الخوارج في

____________

(1) أي أني قد فعلت معكم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم.

(2) ابن أبي الحديد 417 / 3.

الصفحة 139
الخلافة معروفة، وهي تنسجم إلى حد كبير مع الذين فرقوا دينهم شيعا. لهذا قلنا إن التخاذل وضعت بذرته عند رفع المصاحف، وإن الإمام علم هذا منذ البداية ولهذا أمرهم بالقتال. فلما أبوا عليه بدأ يضع حجته على كل رأس وفي كل خيمة، وعندما تبين الجميع نتيجة الخدعة، دعاهم الإمام إلى أمرة الله، ولكن دعوته واجهت ساحة أوسع من التخاذل، نتيجة لإعلام لم يعد يتحدث عن رفع المصاحف، وإنما يتحدث عن تحكيم أعطى الخلافة لمعاوية، يقابله إعلام الخوارج الذي دق وتدا فيه أن الخلافة لكل العرب.

وبذرة التخاذل عندما وضعت وجدت من يرعاها. وهناك دائرتان خرج منهما الماء لهذه البذرة:

الأولى: أن الله تعالى جعل للشهادة في سبيله مقاييس ومعايير، وجعل الجنة للمؤمنين من عباده، والطريق إلى الجنة يمر بابتلاءات وامتحانات عديدة.

وكلما كانت الأجيال قريبة من عهد النبوة كانت الابتلاءات أقوى وأشد. وفي عهد الإمام علي كان الإمام يحدث أتباعه بأن معاوية سيظهر عليهم وأن هذا أمرا لا مرد له. ثم يأمرهم الإمام بعد ذلك بأن يأخذوا بالأسباب لوقف هذه الفتنة التي هي نتيجة لمقدمة أوجدتها. فموقف كهذا لا يحتاج إلا إلى قلب مؤمن يعلم أن الغيب لله وأن الأخذ بالأسباب تكليف إلهي للإنسان. لهذا فلا بد أن يأخذ به، وأن معركته لن تكون بحال معركة خاسرة رغم ظهور عدوه في نهايتها، وأنه قد لا يشهد انتصاره، ولكن بالتأكيد ستأتي أجيال تذكر أعلامه وخطاه. وعلى ذلك قاتل العديد حول الإمام، كانوا يقاتلون بأمر الله عدوا ما زال في علم الله بهدف حماية الفطرة، للوصول إلى غاياتهم العليا بعد الموت، فهنا يكمن الإيمان الحق، إيمان الأحرار لا إيمان التجار.

وفي عهد الإمام علي، كان الاختيار عظيما. فعلى مدى سنتين تقريبا خاض الإمام ثلاث معارك، كان لكل معركة منهم حصيلتها من أحاديث الإخبار بالغيب. وعندما قتل أكثر الصحابة في هذه المعارك أخذ أماكنهم رؤساء القبائل.

ومنهم من أبلى وقاتل ابتغاء مرضاة الله، ومنهم من كتب إلى معاوية بعد أن علم أنه سيظهر والتمس عنده الأيادي. وأغلب الظن أن الخوارج خرجوا من بطن

الصفحة 140
واحد من هؤلاء. وباختصار: اتباع هذه الدائرة هم ضعاف الإيمان، الإيمان عندهم صورة وليس عمل. وجدوا أن المعركة لها تكاليف وهم ليسوا على استعداد لدفع هذه التكاليف. ثم أعد لهم منهجا للحكم يزاحموا به معاوية عندما يظهر، فهم بإيمانهم يكونوا في دائرة الحكم أفضل من وجودهم خارجها.

أما الدائرة الثانية التي ساعدت على التخاذل، فهي دائرة الذهب والفضة والزبيب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين " (1)، وكان علي يقول: " أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجرة "، وفي رواية: " والمال يعسوب الظلمة " (2)، ولقد ذكرنا فيما سبق كيف فر أقوام من المدينة في اتجاه معاوية، وهناك العديد من الأمثلة في تفضيل أكثر الناس للمال في فترة التخاذل. وروي أن عليا قال لرجل: أآثرتم معاوية. فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب (3) الأصفر والبر الأحمر والزيت الأخضر.

4 - غارات معاوية:

بعد التحكيم بدأ معاوية في ترتيب أوراقه، فوضع عينه على مصر، وكان عليها يومئذ محمد بن أبي بكر عاملا لعلي، وكان معاوية يريد مصر ليجرد أمير المؤمنين من خراجها ويستعين به. وعندما علم معاوية أن عليا قد ولي الأشتر على مصر بدلا من محمد بن أبي بكر عظم ذلك عليه، لمعرفته أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، ومن هنا بدأ عمل معاوية للالتفاف حول أمير المؤمنين، فبعث إلى رجل من أهل الخراج، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت فاحتل له بما قدرت عليه. وخرج الرجل حتى أتى القلزم وأقام به، وعندما انتهى الأشتر إلى القلزم

____________

(1) رواه ابن عدي (كنز العمال 14 / 11).

(2) رواه أبو نعيم (كنز العمال 119 / 13).

(3) القسب / التمر اليابس.

الصفحة 141
استقبله الجايستار، وهو المكلف من قبل معاوية بقتله، وقال للأشتر: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر فجاء الرجل إليه بطعام حتى إذا طعم آتاه بشرية من عسل قد جعل فيها سما. فسقاه إياها فلما شربها مات (1).

ولم يخطط معاوية للجريمة فقط بل استثمرها، فقال لأهل الشام: إن عليا وجه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر. وعندما جاء الذي سقاه إلى معاوية وأخبره بمهلك الأشتر خطب معاوية وقال: أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، قطعت إحداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني الأشتر (2). وبعد ذلك بعث معاوية عمرو بن العاص، وكان قد صالحه على أن تكون مصر طعمة له ما بقي، بعثه إلى مصر للاستيلاء عليها. وعندما نزل مصر اجتمعت إليه العثمانية من أهلها، وقاومهم محمد بن أبي بكر بمن معه، ولكن أهل الشام حاصروا قوات محمد بن أبي بكر، وخرج محمد يمشي في الطريق حتى انتهى إلى مكان في ناحية الطريق. وظل معاوية بن خديج يبحث عن ابن أبي بكر حتى وجده، فقال له: لأقتلنك يا ابن أبي بكر، فقال: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله عز وجل، أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا. فقال له معاوية بن خديج: أتدري ما أصنع بك. أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلتم بي ذلك فطال ما فعل ذلك بأولياء الله... فقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار (3). وقال المسعودي: فأخذه معاوية بن خديج وعمرو بن العاص وغيرهما فجعلوه في جلد حمار، وأضرموه بالنار، وذلك بموضع في مصر يقال له: كوم شريك. وقيل:

إنه فعل به ذلك، وبه شئ من الحياة (4). وبلغ معاوية قتل محمد وأصحابه،

____________

(1) الطبري 54 / 6، مروج الذهب 455 / 2، الكامل 178 / 3، ابن أبي الحديد 312 / 2.

(2) الطبري 55 / 6، الكامل 178 / 3، ابن أبي الحديد 312 / 2.

(3) الطبري 60 / 6.

(4) مروج الذهب 454 / 2.

الصفحة 142
فأظهر الفرح والسرور، وبلغ عليا قتل محمد وسرور معاوية، فقال: جزعنا عليه على قدر سرورهم، فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحروب جزعي عليه كان لي ربيبا، وكنت أعده ولدا، وكان بي برا، وكان ابن أخي. فعلى مثل هذا نحزن وعند الله نحتسبه (1).

ومع بداية عام تسع وثلاثين هجرية، بدأ معاوية يبعث سرايا لتغير على أطراف أمير المؤمنين، وكذلك كان علي يبعث من يمنع سرايا معاوية من أذية الناس، ومن السرايا التي بعثها معاوية، سرية النعمان بن بشير التي أغارت على عين التمر، وسرية سفيان بن عوف أغارت على هيت والأنبار والمدائن، وحملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها ورجعوا إلى معاوية. وسرية عبد الله بن مسعدة أغارت على تيماء، فنهب الأموال وتصدى له أهل تيماء فخرج في أصحابه ليلا إلى الشام، وسرية الضحاك بن قيس أمره معاوية أن يمر بأسفل واقصة وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي. فسار فأخذ أموال الناس وقتل من لقي من الأعراب (2).

كانت هذه السرايا مقدمات لسرية بسر بن أرطأة، وبسر كان من الذين بعثهم عمر بن الخطاب مددا لعمرو بن العاص في فتح مصر (3). قال الدارقطني:

بسر له صحبة ولم تكن له استقامة بعد النبي صلى الله عليه وآله، هو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن عباس (4)، وقال يحيى بن معين: بسر رجل سوء. وقال أبو عمر: ذلك لأمور عظام ركبها في الإسلام (5)، وروي أن معاوية عندما وجه بسر لقتل شيعة علي، قام إليه نفر منهم زياد بن الأشهب الجعدي وقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين. نسألك بالله وبالرحم أن لا تجعل لبسر على قيس سلطانا. حتى لا

____________

(1) مروج الذهب 454 / 2.

(2) الطبري 78 / 6.

(3) الإستيعاب 155 / 1.

(4) الإستيعاب 156 / 1.

(5) الإستيعاب 155 / 1.

الصفحة 143
يقتل قيسا بما قتلت به بنو سليم من بني فهر وكنانة يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (1)، وروي أن أبا ذر كان يقول: يوم العوراء، وما يوم العوراء. فقيل له: ما يوم العوراء؟ قال: إن نساء من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، وإني دعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ولعلكما تدركانه. قال راوي الحديث:

فأرسل معاوية بسر بن أرطأة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن في السوق (2)، وقال في الإستيعاب: أغار بسر على همدان وسبي نساءهم فكن أول نساء مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياء من بني سعد (3).

وروي أن معاوية بعد تحكيم الحكمين أرسل بسر في جيش، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة، ففر منهم أبو أيوب الأنصاري، وصعد بسر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى على المنبر: يا دينار ويا نجار شيخي شيخي عهدي به بالأمس فأين هو - يعني عثمان - ثم قال: يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إلى معاوية، ما تركت بها محتلما إلا قتلته. ثم بايع أهل المدينة، وأرسل إلى بني مسلمة فقال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فانطلق جابر إلى أم المؤمنين أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ماذا ترين؟ إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة. قالت: أري أن تبايع. فآتاه جابر فبايعه (4).

وهدم بسر دور بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله، فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. ثم مضى بسر إلى اليمن وقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وقتل ابنه. ووجد ابن عبيد الله بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل

____________

(1) الإستيعاب 157 / 1.

(2) الإستيعاب 157 / 1.

(3) الإستيعاب 157 / 1.

(4) الطبري 80 / 6، الكامل 193 / 3، البداية والنهاية 322 / 7.

الصفحة 144
البادية. فلما أراد قتلهما قال الكناني: على ما تقتل هذين ولا ذنب لهما، فإن كنت قاتلهما فاقتلني. قال بسر افعل. فبدأ بالكناني فقتله ثم قتلهما، وقتل بسر في مسيره هذا جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن، وبلغ عليا خبر بسر فوجه جارية بن قدامة في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين، وهرب بسر وأصحابه (1).

كان هذا هو منهج معاوية في القتال. تجنب ملاقاة على في الميدان، والإغارة وسلب ما يمكن سلبه ثم الارتداد للخلف نحو الشام، وقتل كل من في الطريق، طفلا أو شيخا، وعرض النساء المسلمات في الأسواق، ومن قبل وضع من فيه شئ من حياة في جلد حمار، ثم إشعال النار فيه. كانت هذه سيرته في بداية الطريق، وسنرى فيما بعد كيف كانت سيرته على امتداد الطريق.

وينبغي في هذا المقام أن نذكر تقديم ابن كثير لغارات معاوية، وهو تقديم يجعل الباحث في حيرة. فهو عندما تحدث عن التحكيم قدم الروايات التي أجمعت عليها الأمة وتفيد بأن أبي موسى وعمرو اتفقا على خلع علي ومعاوية.

وعندما خلع أبو موسى صاحبه، وجاء الدور على ابن العاص فعل ما فعل، وبرر ابن كثير ما فعله عمرو بأنه رأى أن ترك الناس بلا إمام يؤدي إلى مفسدة طويلة!! (2)، هذا ما قاله هناك، ثم نراه يقول هنا، وهو يتحدث عن غارات معاوية، إن أبا موسى وعمرا كانا قد اتفقا على خلع علي - ولم يشر إلى معاوية - وأن معاوية تحرك على هذه الخلفية حيث إنه كان يعتقد أنه الإمام الذي يجب طاعته. وإليك ما قاله ابن كثير بنصه: جهز معاوية جيوشا كثيرة فرقها في أطراف معاملات علي. وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي. إن ولايته وقعت الموقع فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقد. ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره، فلا يحصل بمباشرته المقصود من الإمارة والحالة هذه، فهو

____________

(1) الطبري 81 / 6، الكامل 193 / 3، البداية والنهاية 323 / 7، ابن أبي الحديد 273 / 1.

(2) البداية والنهاية 284 / 7.

الصفحة 145
يزعم أنه أولى منه إذا كان الأمر كذلك " (1).

إن هذا التحليل يلتبس بعضه على بعض، ولا يقود أي باحث إلى حقيقة.

فلا يوجد نصا واحدا يقول أن عمروا خاف على الأمة ففعل ما فعل، ولا يوجد نصا يقول أنه اتفق على الأشعري على عزل علي وحده. والإسلام لا يقر أن عدم طاعة مصر من الأمصار لأمير المؤمنين ويعطي الحق لمن يطيعه رجاله في مصر آخر بأن تغير على الأطراف ليقتل ويسرق، تحت لافتة أن هذا هو المقصود من الإمارة والحالة هذه. والإسلام لا يقر أيضا أن يقوم الأولى بقتل الأطفال وعرض النساء المسلمات في الأسواق. علما بأن الأمة لم تعط لمعاوية لقب " الأولى " في حياة علي، والخلاصة: أننا نفهم أن بتر النصوص عند الحديث عن أهم الأحداث التاريخية دون توضيح لا يكون مفيدا للباحث في جميع الأحوال.

5 - ليلة بكى فيها القمر:

روي أن عليا خطب الناس بعد أن تخاذلوا عنه فقال: " أيها الناس إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها، ورب السماوات والأرض. أن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي: " إن الأمة ستغدر بك بعدي " (2). لقد أعلنها الإمام واضحة جلية على أسماعهم. إن أفعالهم التي بها يستحقون الثواب والعقاب. الله تعالى أعلم بها من أنفسهم، وأنهم اختبروا لينظر الله كيف يعملون. وأن نتيجة أعمالهم عهد بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي. وعلى هذا فإن الإمام كان يعلم أن الضربة التي ستأتيه، ستأتيه من طريق غدر طويل. وعلى الرغم من هذا فإنه على امتداد هذا الطريق لم يكن يعبأ بما سيفعله أهل الغدر. وإنما كان يدعو ويصحح الأخطاء فكان بذلك شاهد على جيل الصحابة، وكان السلف بذلك شاهد على الخلف. فالإمام هو الإنسان الوحيد الذي قاتل داخل سور الأمة على تأويل

____________

(1) البداية والنهاية 320 / 7.

(2) ابن أبي الحديد 813 / 1 والحديث رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح (البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 297 / 11).

الصفحة 146
القرآن. وبما أن حجية القرآن قائمة على امتداد التاريخ، فإن حجية الأحداث التي تعلقت بالقرآن قائمة أيضا.

وعندما أعلن الإمام أمامهم أن طريق الغدر الذي يقفون عليه، أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عليا. قال: أما والذي نفسي بيده، ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطلهم.

وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا. وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهود كغياب، وعبيد كأرباب (1). اتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها، وأوعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبأ (2)، ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم (3).

أقومكم غدوة، وترجعون إلى عشية كظهر الخية (4). عجز المقوم وأعضل المقوم (5). أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلي بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم.

يا أهل الكوفة.. منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذو أسماع، وبكم ذو كلام، وعمي ذو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم (6) يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها. كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر، والله لكأني بكم فيما

____________

(1) عبيد كأرباب / يصفهم بالكبر.

(2) أيادي سبأ / مثل يضرب للمتفرقين.

(3) تتخادعون عن مواعظكم / أي تمسكون من الاتعاظ والانزجار.

(4) كظهر الخية / الخية القوس. يريد اعوجاجهم كما أن ظهر القوس معوج.

(5) اعضل المقوم / أي أعضل داؤه.

(6) تربت أيديكم / أي لا أصبتم خيرا.

الصفحة 147
أخاكم (1) ألو حمى الوغي (2)، وحمى الضراب، قد انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (3). وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبي، وإني لعلى الطريق الواضح القطه لقطا (4)... (5).

يقول ابن أبي صالح الحنفي: رأيت علي بن أبي طالب أخذ المصحف، فوضعه على رأسه، حتى إني لأرى ورقة يتقعقع ثم قال: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه، فاعطني ثواب ما فيه، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، اللهم فابدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني.

اللهم أمت قلوبهم موت الملح في الماء (6).

وعندما بلغ أمير المؤمنين غارة معاوية على هيت والأنبار، قال بعد أن تثاقل أهل الكوفة: لا يدرك الحق إلا بالجد والصدق، فأي دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون. المغرور من غررتموه، ومن فارقكم فاز بالسهم الأصيب. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خيرا لي منكم، وأعقبكم من هو شر لكم مني. أما إنكم ستلقون بعدي ثلاثا: ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وآثره قبيحة يتخذها فيكم الظالمون سنة. فتبكي لذلك أعينكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون عند ذلك المواطن، فتودون أنكم رأيتموني وهرقتم دماءكم دوني، فلا يبعد الله إلا من ظلم (7).

____________

(1) فما أخالكم / أي فما أظنكم.

(2) حمى الوغي / اشتد وعظهم. والوغي / الأصوات والجلبة.

(3) انفراج المرأة عن قبلها / أي وقت الولادة.

(4) القطه لقطا / أي أنا التقط طريق الهدى من بين طريق الضلال لفظ من هاهنا وهاهنا.

كما يسلك الإنسان طريقا دقيقة اكتنفها الشوك.

(5) ابن أبي الحديد 624 / 2.

(6) رواه ابن عساكر (كنز العمال 195 / 13) ابن كثير (البداية 12 / 8) المسعودي (مروج الذهب 139 / 3).

(7) ابن عساكر (كنز العمال 356 / 11).

الصفحة 148
وعندما بلغه أن سرايا معاوية تقتل شيعته ويعرضون النساء المسلمات في الأسواق. خطب الناس فقال: أيها الناس. إني قد بثثت لكم المواعظ (1) التي وعظ بها الأنبياء أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء (2) إلى من بعدهم، وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا. وحدوتكم (3) بالزواجر فلم تستوسقوا (4)، لله أنتم. أتتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق (5)، ويرشدكم السبيل؟ ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان مدبرا. وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى.

ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين ألا يكونوا اليوم أحياء، يسيغون الغصص، ويشربون الرنق. قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم، أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم (6) الذين تعاقدوا على المنية (7) وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ (8).

قال راوي الحديث: ثم ضرب عليه السلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة. فأطال البكاء، ثم قال: أوه على إخواني الذين قرأوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه! أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا إلى الجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه (9). ثم نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد الله. ألا

____________

(1) بثثت لكم المواعظ / فرقتها ونشرتها.

(2) الأوصياء / الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية أو الذين لهم الإمرة والولاية.

(3) حدوتكم / سقتكم كما تحدى الإبل.

(4) فلم تستوسقوا / أي لم تجتمعوا.

(5) يطأ بكم الطريق / أي يحملكم على المنهاج الشرعي.

(6) أين نظراؤهم / يعني الذين قتلوا بصفين من الصحابة.

(7) وتعاقدوا على المنية / جعلوا بينهم عقدا.

(8) وابرد برؤوسهم / أي حملت رؤوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها. والفجرة هنا هم أمراء الشام.

(9) وثقوا بالقائد / يعني نفسه فاتبعوه في حرب من حارب وسلم من سالم.

الصفحة 149
وإني معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج (1). وروي أنه ضرب برجله على المنبر حتى سمع قدمه في آخر المسجد، وقال: والله لتطأون هكذا هكذا. ثم لتستعملن عليكم اليهود والنصارى حتى تنفوا، ثم لا يرغم الله إلا بآنافكم (2).

لقد أخبرهم أولا بظهور أهل الشام عليهم، ثم أخبرهم ثانيا بأن اليهود والنصارى سيقودوهم إلى عالم النفي أي عالم التردية، حيث تكون مهمتهم تقليد اليهود والنصارى في كل شئ، ثم أخبرهم ثالثا بأنهم سيركبون المرحلة الأخيرة معهم، وهي التي لا يرغم الله إلا بآنافهم، وهذه الأرضية هي أرضية الخنزيرية حيث يطبخون في المادة حتى يأتيهم الدجال.

وروي أن الإمام بعد أن خطبهم خرج بنفسه ماشيا إلى المعسكر. فأدركه بعض الناس، وكان يريد أن يتوجه لقتال أهل الشام. ومن العجيب أنه بعد أن عزم على ضرب أهل الشام جاءته الضربة القاتلة من أشقى الناس عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وعندما جاءت الضربة تراجع العساكر فكانوا كأغنام فقدت راعيها، تخطفها الذئاب من كل مكان (3).

6 - وغاب القمر:

روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي: ألا أحدثك بأشقى الناس.

رجلين: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه (يعني رأسه) حتى تبتل منه هذه (يعني لحيته) (4)، وقال له: " إن الأمة ستغدر بك

____________

(1) ابن أبي الحديد 436 / 3.

(2) الدولابي في الكنى والأسماء، ابن أبي شيبة (كنز العمال 780 / 5).

(3) ابن أبي الحديد 437 / 3.

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9)، والحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3)، (كنز 136 / 13) (البداية والنهاية 218 / 6).

الصفحة 150
بعدي، وأنت تعيش على ملتي وتقتل على سنتي. من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه ستخضب من هذا (يعني لحيته من رأسه) (1). وروي أن أنسا قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على علي وهو مريض.

وعنده أبو بكر وعمر. فقال أحدهما لصاحبه: ما أراه إلا هالكا. فقال النبي: إنه لن يموت إلا مقتولا. ولن يموت حتى يملأ غيظا (2).

وروي أن أبا فضالة الأنصاري خرج ليعود علي في مرض أصابه، وأثناء حديثه مع علي قال علي: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أموت حتى تخضب هذه من هذه (يعني لحيته من هامته) (3). وعن أبي سنان أنه عاد عليا في شكوى اشتكاها، فقال لعلي: لقد تخوفنا عليك في شكواك هذه. فقال: ما تخوفت على نفسي، عهد إلي أن لا أموت حتى تخضب هذه من هذه (4). وروي أن رجلا من الخوارج يقال له الجعد بن بعجة قال لعلي: اتق الله يا علي فإنك ميت، فقال: بل مقتول، ضربة على هذا تخضب هذه. عهد معهود وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى (5)، وروي أن عليا كان يعرف قاتله وذلك لأن النبي وصفه له وسماه واسم أبيه، وعندما جاء ابن ملجم مع الناس ليبايع عليا قال علي:

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك (6) من خليلك من مرادي (7)

____________

(1) رواه أحمد وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11).

(2) قال السيوطي في الخصائص الكبرى رواه الحاكم (الخصائص 210 / 2).

(3) قال ابن كثير رواه الطبراني (البداية والنهاية 218 / 6).

(4) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 137 / 9) والحاكم وصححه (113 / 3).

(5) رواه أحمد (الفتح الرباني 163 / 23) والطبراني والبغوي والضياء بسند صحيح (كنز العمال 297 / 11) والحاكم (المستدرك 143 / 3)، وقال ابن كثير رواه الطيالسي (البداية 218 / 6).

(6) أي هات من يعتذر منك.

(7) رواه ابن سعد ووكيع (كنز العمال 191 / 13).

الصفحة 151
وكان يقول هذا كلما رآه، وروي أنه لما دخل شهر رمضان، كان يفطر عند الحسن ليلة وعند الحسين ليلة، وليلة عند عبد الله بن جعفر، ولا يزيد على اللقمتين أو ثلاث. فقيل له في ذلك فقال: إنما هي ليال قلائل، يأتي أمر الله وأنا خميص (1). وفي اليوم الذي قتل فيه جاءه ابن النباح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة، فقام يمشي وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا (2)

وقال: والله ما كذبت وكذبت، وإنها الليلة التي وعدت فيها (3). وعندما خرج، أقبل الوز والبط يصحن في وجهه، فطردوهن عنه فقال: ذروهن فإنهن نوائح (4)، وكان ابن ملجم قد أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة، فخلا به في بعض نواحي المسجد، ومر بهما حجر بن عدي، فسمع الأشعث يقول لابن ملجم: النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح. فقال حجر: قتلته يا أعور، وخرج مبادرا إلى علي ليخبره (5)، وقال أبو الفرج: وللأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها (6). ولم يلتق حجر بن عدي بعلي، وسبقه ابن ملجم فضربه، فأقبل حجر والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين (7). وعن أبي عبد الله بن محمد الأزدي قال: إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر، كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره. إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة. قياما وقعودا وركوعا وسجودا ما يسأمون إذ يخرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر. فأقبل

____________

(1) رواه ابن عساكر والعسكري (كنز 190 / 395 / 13).

(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 196 / 13) وابن أبي الحديد 339 / 2.

(3) مروج الذهب 459 / 2.

(4) ابن كثير (البداية 14 / 8)، (مروج الذهب 459 / 2، ابن عساكر 195 / 13.

(5) ابن أبي الحديد 340 / 2، مقاتل الطالبين.

(6) مقاتل الطالبين، ابن أبي الحديد 340 / 2.

(7) مقاتل الطالبين، ابن أبي الحديد 340 / 2.

الصفحة 152
ينادي: الصلاة الصلاة، فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول: الحكم لله يا علي لا لك. ثم رأيت بريف سيف آخر وسمعت علي عليه السلام يقول: لا يفوتنكم الرجل (1).

قال أبو الفرج: فأما بريق السيف الأول، فإنه كان شبيب بن بحير ضربه فأخطأه، ووقعت ضربته في الطاق، وأما بريق السيف الثاني، فإنه ابن ملجم ضربه فأثبت الضربة في وسط الرأس، وشد الناس عليهما من كل ناحية حتى أخذوهما (2)، وانصرف الناس من صلاة الصبح، فأحدقوا بابن ملجم ينهشون لحمه بأسنانهم ويقولون: يا عدو الله ماذا صنعت؟ أهلكت أمة محمد وقتلت خير الناس. وأنه لصامت لا ينطق (3).

وأمر أمير المؤمنين علي إذا مات من الضربة أن يفعلوا بقاتله كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله. وهو أن يقتل ويحرق بالنار (4). وطريقة القصاص من قاتله تدل أيضا على منزلة أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروي أن الناس أخذوا ابن ملجم وأدرجوه في بواري ثم طلوها بالنفط وأشعلوا فيها النيران فاحترق (5).

ورحل الإمام علي عليه السلام من الدنيا. وروي أنه قال: إن خليلي صلى الله عليه وآله وسلم حدثني أن أضرب لسبع عشر قضى من رمضان، وهي الليلة التي مات فيها موسى عليه السلام، وأموت لاثنين وعشرين من رمضان، وهي الليلة التي رفع فيها عيسى عليه السلام (6). وبعد أن صعدت روح الإمام

____________

(1) رواه الطبراني (الزوائد 141 / 9)، الطبري 84 / 6، ابن أبي الحديد 340 / 2.

(2) مقاتل الطالبين، ابن أبي الحديد 340 / 2.

(3) مقاتل الطالبين، ابن أبي الحديد 341 / 2.

(4) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 163 / 23)، (الزوائد 142 / 9) والحاكم (المستدرك 144 / 3).

(5) مروج الذهب 461 / 2.

(6) كنز العمال 697 / 13. وهذا الحديث اعترض عليه ابن الجوزي. وكم رد ابن الجوزي أحاديث صحيحة. ولقد تصدى له السيوطي وبين أنه لم يصب الحق في الكثير من =

الصفحة 153
إلى بارئها وقف الحسن بن علي في الناس خطيبا ثم قال: " أيها الناس. لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأولون بعلم ولا يدركه الآخرون، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه بالراية جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينصرف حتى يفتح الله له، وزاد في رواية - وما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطاء، كان يرصدها لخادم لأهله، ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه (1).

وروى الطبري: لما إنتهى إلى عائشة قتل علي بن أبي طالب قالت:

فألقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد. قالت:

فإن يك بك نائيا فلقد نعاه * غلام ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب ابنة أبي سلمة: العلي تقولين هذا؟ فقالت: إني أنسى فإذا نسيت فذكروني (2)، وكانوا قد قالوا لعائشة أيام صفين: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة؟ فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر (3).

وبعد مقتل الإمام أنشد الخارجي عمران بن حطان (4) شعرا يمدح فيه قاتل عليا فقال:

يا ضربة من تقي ما أراد بها * ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا (5)

____________

= اعتراضاته. والحديث رواه أبو يعلى وابن جرير وابن عساكر (كنز 693 / 13).

(1) رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 164 / 23) وابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن عساكر وابن جرير (كنز العمال 193 / 13)، مروج الذهب 461 / 2.

(2) الطبري 67 / 6.

(3) البداية والنهاية 131 / 8.

(4) قال في الإصابة: كان من رؤوس الخوارج.

(5) مروج الذهب 462 / 2، البداية والنهاية 329 / 7.

الصفحة 154
وعمران بن حطان هذا له رواية في صحيح البخاري، الذي قيل فيه أنه أصح كتاب بعد كتاب الله، وممن عاب على البخاري إخراجه حديث عمران بن حطان الدارقطني فقال: عمران متروك لسوء اعتقاده وسوء مذهبه (1). وأخرج أبو داوود أيضا حديث عمران عن عائشة. وقال: إن الخوارج أصح أهل الأهواء حديثا (2). والخوارج هم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم:

" يمرقون من الدين " (3)، أي أن أهواءهم خارج نطاق الدين. وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا بأنهم " لن يعودوا إلى الدين " (4). وبين أنهم " لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال " (5). فالطريق واضح فكيف يكونوا أصح أهل الأهواء حديثا وهم الذين أرادوا هدم الدين من رأس؟ يقول شاعرهم ابن مياس المرادي في قتل علي:

ونحن خلعنا ملكه من نظامه * بضربة سيف إذ علا وتجبرا
ونحن كرام في الصباح أعزة * إذا الموت بالموت ارتدي وتأذرا

وقال أيضا:

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم (6)

ولقد رد القاضي أبو الطيب على شعر عمران بن حطان فقال:

إني لأبرأ مما أنت قائله * عن ابن ملجم الملعون بهتانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها * ألا ليهدم للإسلام أركانا
إني لأذكره يوما فألعنه * دنيا وألعن عمران ابن حطانا

____________

(1) الإصابة / ابن حجر 180 / 3.

(2) الإصابة 119 / 3.

(3) رواه أحمد (البداية والنهاية 292 / 3).

(4) رواه أحمد (البداية والنهاية 297 / 7).

(5) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 229 / 6).

(6) الطبري 87 / 6، البداية والنهاية 329 / 7.

الصفحة 155
وقال:

أنتما من كلاب النار جاء به * نص الشريعة برهانا وتبيانا (1)

7 - لهيب الليل:

لم ير الناس إلا ابن ملجم وأصحابه عندما قتل أمير المؤمنين، وفي الحقيقة كان هناك طابور طويل يقف وراء ابن ملجم ولا يراهم إلا الله وحده.

لقد شارك الكثير من الناس في قتل علي بن أبي طالب، وفي كتاب الله الكريم.

عقر ناقة صالح عليه السلام فردا واحدا قال تعالى: (إذ انبعث أشقاها)، وبعد إتمام عملية القتل قال تعالى: (فكذبوه فعقروها) (2)، وفي هذا يقول الإمام علي: أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا، فقال سبحانه: (فعقروها فأصبحوا نادمين) (3). فما كان ألا خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة. أيها الناس: من سلك الطريق ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه (4). ولا يخفى أن حديث قتل علي بن أبي طالب فيه أحيمر ثمود قاتل الناقة، والذي يضرب عليا على رأسه فتخضب لحيته من رأسه. فأشقى الناس هنا يقابله أشقى الناس هناك، وقتل علي هنا يقابله قتل الناقة هناك. والعذاب الذي وقع هناك لا بد وأن يقابله عذاب هنا. ولذلك كان علي بن أبي طالب يخبرهم بالذل الشامل الذي سيحل بهم بعد مقتله كما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والعذاب الذي يشق طريقه الظالمون من الأمة الخاتمة، يستقيم مع رسالة الأمة ودوامها حتى قيام الساعة. بمعنى أن ثمود ضربهم عذاب الاستئصال. أما الأمة الخاتمة فلها عذاب يستقيم مع الاستئصال بصورة من الصور حتى يأتي أمر الله.

____________

(1) مروج الذهب 462 / 2.

(2) سورة الشمس: الآية 14.

(3) سورة الشعراء: الآية 157.

(4) ابن أبي الحديد 549 / 3.

الصفحة 156
ولما كان الدجال خارج لا محالة في آخر الزمان. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة " (1). ولما كانت جميع الفتن منذ كانت الدنيا تصب شذوذها في سلة لها موضع عند الدجال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة أو كبيرة إلا لفتنة الدجال " (2)، فإن ملامح العذاب الذي يصيب الظالمين من الأمة ترى صورته على طريق الدجال. وطريق الدجال داخل مربع الأمة يبدأ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند دائرتين: " ثلاثة من نجا منها فقد نجى، من نجا عند موتي، ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه فقد نجا، ومن نجا من فتنة الدجال فقد نجا " (3). فالدائرة الأولى حادث أو موقف ينشأ عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، والدائرة الثانية قتل خليفة يعمل بالحق ويسير بالحق وهدفه الحق. فالذي ينجو من الدائرة الأولى، ويدخل في أمان الدائرة الثانية تسوقه أقدامه إلى أمان الدائرة الثالثة والتي يكون مركزها الدجال. فالأمان يدفع إلى أمان. ومن وقع في فتنة الدجال، فإن لوقوعه أسباب سلك طريقها يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها " (4).

فهذا باختصار طريق العذاب وبعض ملامحه. والله تعالى لا يظلم الناس.

والعذاب الذي يرونه ما هو إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم. والله تعالى أخذ على نفسه الرحمة، وأنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. ولقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى طريق الهداية. وحذرهم من كل سبيل

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 55 / 18) الترمذي (الجامع 232 / 4) وأحمد (الفتح الرباني 76 / 24) الحاكم (المستدرك 536 / 1).

(2) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

(3) رواه أحمد والطبراني والضياء بسند صحيح (كنز العمال 180 / 11) والحاكم وصححه (المستدرك 101 / 3).

(4) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

الصفحة 157
ليس لله فيه راية. وبالغ في التحذير فقال: " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " (1)، وقال: " أول فرقة تسير إلى السلطان في الأرض لتذله يذلهم الله تعالى يوم القيامة " (2)، قال في تحفة الأحواذي: أي من أهان من أعز الله أهانه الله. وفي الأرض متعلق بسلطان الله. قال تعالى لداوود عليه السلام: " إنا جعلناك في الأرض خليفة " وإضافة السلطان إلى الله إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله " (3).

فالنبي حذر من إهانة سلطان الله، وحذر أيضا من إهانة وليه الذي هو ولي الله فقال: " من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة " (4)، وقال: " من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " (5)، وقال: " من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة (6)، وقال: " من آذى لي وليا فقد استحل محارمي " (7)، وقال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: " أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم " (8)، وقال: " من آذى عليا فقد آذاني " (9)، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وانصر من نصره واخذل من خذله " (10)، وقال:

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني (كتاب السنة 489 / 2) والترمذي (كنز العمال 184 / 1).

(2) رواه الديلمي عن حذيفة (كنز 215 / 1).

(3) تحفة الأحواذي 476 / 6).

(4) رواه الطبراني وأبو نعيم عن أبي إمامة (كنز 229 / 1).

(5) رواه ابن عساكر عن أنس (كنز 229 / 11).

(6) رواه الطبراني عن ابن عباس (كنز 231 / 1).

(7) رواه أحمد وأبي يعلى والطبراني وابن عساكر عن عائشة (كنز 230 / 1).

(8) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 149 / 3) والضياء بسند 640 / 13) والترمذي (الجامع 699 / 5).

(9) رواه أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات، ورواه الطبراني والبزار وابن حبان في صحيحه (الزوائد 129 / 9) والحاكم صححه (المستدرك 122 / 3) وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9)، وابن سعد وابن أبي شيبة (كنز 142 / 13).

(10) رواه البزار وابن جرير وقال الهيثمي رجاله ثقات (كنز العمال 158 / 13) والألباني وصححه (الصحيحة 343 / 5).

الصفحة 158
" سبعة لعنتهم ولعنهم الله " منهم " المتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله. والمستحل من عترتي ما حرم الله " (1).

والنبي وهو يحذر كان يعلم أن الأمة ستقع في الفتن، ولكن ما على الرسول إلا البلاغ، ولقد ساق الناس إلى الهدى آخذا بجميع الأسباب للوصول بهم إلى هذا الهدف. كان يعلم بأنهم سيكذبوه وأنه سيهاجر ويترك لهم الديار في سبيل الله وأنهم سيقاتلونه وأن بني أمية سيصعدون منبره في نهاية المطاف، فلم يحول هذا العلم بينه وبين الدعوة، وإنما جاهد ونصح حتى لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة. ومما روي عن النبي وهو يخبر بالغيب عن ربه " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم ويرث دنياكم شراركم " (2). ففي الحديث بداية تسفر عن قتل إمام، ثم اجتلاد بالسيوف، ثم يجلس الرويبضه والغلمان السفهاء على المقاعد الأولى وبين أيديهم دنيا فعلوا من أجلها الأفاعيل.

وهكذا يستقيم البدء مع الختام. فالناس لم يروا سوى ابن ملجم وأصحابه عند قتل الإمام علي، كما أن ثمود لم تر سوى عاقر الناقة وأصحابه. وروي أن الناقة عندما قتلت رفعت ببصرها إلى السماء. وروي أن جماعة تبعوا فصيلها لما هرب منهم فرماه أحدهم بسهم فأصاب قلبه، وأن فصيلها رغا ثلاث مرات إلى السماء (3)، وروي أن الإمام علي قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي. فقلت: يا رسول الله. ما لقيت من أمتك من الأود واللدد.

فقال: ادع عليهم. فقلت: اللهم ابدلني بهم من هو خير لي منهم. وأبدلهم بي من هو شر مني (4)، وهذا الدعاء جهر به الإمام أمام القوم عندما خذلوه. ثم

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وحسنه الألباني (كتاب السنة 24 / 1).

(2) رواه الترمذي (الجامع 468 / 4) وقال في تحفة الأحواذي، رواه ابن ماجة (التحفة 391 / 6).

(3) ابن كثير في التفسير (229 / 2) والميزان (315 / 10).

(4) البداية والنهاية 12 / 8، الطبقات الكبرى 36 / 3، العقد الفريد 289 / 2، مقاتل الطالبين ص 16.

الصفحة 159
رحل الإمام وأمامه البشرى. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أبشر يا علي حياتك معي وموتك معي " (1)، وقال: " إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان " (2)، وقال لفاطمة: " إني وإياك وهذا النائم (3) وهما (4) لفي مكان واحد يوم القيامة " (5).

وإذا كانت البشري دائرة عاش فيها الإمام علي في الدنيا، فإن البشري يوم القيامة ستكون حقيقة يعيشها الإمام علي بجانب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبما أن ساحة الأمة يوجد عليها إمام مقتول، فإننا نلقي الضوء هنا على الدماء يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أول ما يقضي بين الناس في الدماء " (6)، وفيما يتعلق بالأمة في هذا الشأن يقول الإمام علي: " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " (7)، وروي أنه قال: " أنا حجيج المارقين وخصيم الناكثين المرتابين " أي: يوم القيامة (8).

وروي أنه عندما نزل قوله تعالى: " (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) (9) قال الزبير يا رسول الله. أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: نعم فقال الزبير: إن الأمر إذا لشديد (10).

وروي أن الإمام علي قال: يؤتى بي وبمعاوية يوم القيامة فنختصم عند ذي

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 112 / 9).

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 667 / 5) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 137 / 3).

(3) أي عليا.

(4) أي الحسن والحسين.

(5) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 137 / 3).

(6) رواه البخاري ومسلم والترمذي (كشف الخفاء 826 / 1)، (الجامع 10 / 4)، (كنز العمال 20 / 15).

(7) رواه البخاري (الصحيح 5 / 3.

(8) ابن أبي الحديد 378 / 2.

(9) سورة الزمر: الآية 31.

(10) رواه الترمذي وصححه (الجامع 371 / 5).