الصفحة 184
من وقائع زرعت في قلوب نفاقا وردة وشقاقا - وزادت المؤمنين إيمانا.

فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني في أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه (1).

وروي أن عكرشة بنت الأطرش بن رواحة دخلت على معاوية متوكئة على عكازها، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست. فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين. قالت: نعم إذ لا علي حي، فقال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم، مستظهرين بالصبر على طلب حقهم. إن معاوية دلف إليكم العرب غلف القلوب. لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم بالدنيا فأجابوه واستدعاهم إلى الباطل فلبوه. ثم قال:

فكأني أراك على عصاك هذه، وقد انكفأ عليك العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش، فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم)، وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته. قال: صدقت فاذكري حاجتك. قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا فقدنا ذلك، فقال معاوية: هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا (2).

لم يكن سهلا على معاوية أن يتلقى صفعات الحقائق من النساء المسلمات، ولكن معاوية عندما يستمع فإنما يستمع لهدف. ولقد اختار من النساء التي تشتهر بين قومها بالبلاغة، واختار أن يسمع من النساء، لأن الكلمات

____________

(1) العقد الفريد 119 / 2.

(2) العقد الفريد 112 / 2.

الصفحة 185
ستخرج بلا خوف من سيوف وقيود. وبعد أن استمع، تحرك ركبه إلى المدينة.

وروي أنه لما قدم المدينة، تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك، فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة. فقصد المسجد ثم قال: أما بعد فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه. وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك. وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي. وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم. غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكن فيه مواكلة حسنة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة. فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه... وإياكم والفتنة فلا تهموا بها... (1).

وأهم معالم الخطاب أن لكل خليفة طريقة، وبما أن معاوية لا يدرك فضل الذين سبقوه رضوان الله عليهم، فإنه ستكون له سنة خاصة به فيها منفعة له ولهم. وفي جميع الأحوال فهو قد وضع نفسه في دائرة الخير " فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم "، وفي جميع الأحوال فهو في دائرة الحق " وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه "، وفي جميع الأحوال فإن هذا هو الدين الذين نزل به جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.

وروي أن معاوية لقي أبا قتادة الأنصاري في المدينة فقال له: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار. فقال: لم يكن لنا دواب. قال: فأين النواضح؟

فقال: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. ثم قال: إن النبي صلى الله عليه

____________

(1) البداية والنهاية 132 / 8.

الصفحة 186
وآله وسلم قال لنا: إنكم سترون بعدي آثرة. فقال معاوية: فما أمركم؟ قال:

أمرنا أن نصبر. فقال معاوية: فاصبروا وعندما بلغ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ذلك قال:

ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير المؤمنين نبأ كلامي
فإنا صابرون ومنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (1)

وروي أنا أبا أيوب الأنصاري قال لمعاوية: أنبأني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سنرى بعده أثرة. فقال معاوية: فيم أمركم. قال: أمرنا أن نصبر.

فقال: اصبروا إذا (2)، وروي أن مروان أقبل فوجد أبا أيوب الأنصاري عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم واضعا وجهه على القبر ويبكي، فقال له مروان:

أتدري ما تصنع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله (3).

وروي أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية، وهي عجوز كبيرة، فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك، ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون. وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور، فوليتم علينا بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون. وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صلى الله عليه

____________

(1) تاريخ الخلفاء 188 / 1.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح (الزوائد 323 / 9).

(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره (الزوائد 245 / 5) ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4) ورواه أحمد (الفتح الرباني 32 / 23).

الصفحة 187
وسلم بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة، وغايتكم النار، فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، واقصري من قولك مع ذهاب عقلك. إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له: وأنت يا ابن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن الأجرة. ادعاك خمسة نفس من قريش، فسألت أمك عنهم فقالت: كلهم أتى فانظروا أشبههم به فالحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به. فقال مروان: كفى أيتها العجوز واقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم. ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك. فإن أمك القائلة في قتل حمزة:

نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر * وشكر وحشي علي دهري
حتى ترم أعظمي في قبري

فأجابتها بنت عمي وهي تقول:

خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنة جبار عظيم الكفر

فقال معاوية: عفا الله عما سلف، هات حاجتك. قالت: ما لي إليك حاجة وخرجت عنه (1)، وروي أن سعنة بن عريص قال لمعاوية: أنشدتك الله يا معاوية أما تذكر يا معاوية لما كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء علي بن أبي طالب، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قاتل الله من يقاتلك وعادى من يعاديك، فقطع عليه معاوية حديثه وأخذ معه في حديث آخر (2).

ما زلنا نرى الأحداث ومعاوية في المدينة، ولم يبق أمامنا إلا أن نرصده عند بيت عثمان الذي كان قميصه لافتة كبرى عند بداية الأحداث. روي أن واثلة صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على معاوية. فقال له معاوية:

____________

(1) العقد الفريد 121 / 2.

(2) قال في الإصابة رواه ابن شيبة (الإصابة 94 / 3).

الصفحة 188
ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره فلم ينصره. فقال: وما منعك من نصره؟ قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجب عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادا (1)

وروي أن معاوية عندما دنا إلى باب دار عثمان بن عفان صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها. فقال لها معاوية: يا بنت أخي، إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب. وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا، شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم. ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعته. فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا. وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين. أحب إلي أن تكوني أمة من إماء المسلمين. ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك (2).

وهكذا اندثرت لافتة " قميص عثمان " بعد أن حققت أهدافها، وأصبح معاوية نعم الخلف لأبناء عثمان بعد أبيهم. وعلى امتداد الطريق من الكوفة إلى المدينة، وضع معاوية يده على حقائق منها أن حب علي بن أبي طالب في القلوب، وأن تعاليمه راسخة رسوخ الجبال، ولن يكون من السهل انفراد الحكام ببيوت المال، وأن حقه واضح ومنزلته من الرسول لا تحتاج إلى بيان طويل.

وفوق كل هذا علم معاوية أن تاريخه الأموي تاريخ مكشوف أمام المهاجرين والأنصار، وأن كل ما ادعاه في حربه مع علي أصبح مفضوحا على ساحة المدينة وما حولها. وأما هذا وغيره، أقدم معاوية على سياسة يتم من خلالها التعتيم على دائرة الطهر، وفي الوقت نفسه تصنع له تاريخ.

____________

(1) تاريخ الخلفاء 187 / 1.

(2) البداية والنهاية 133 / 8.

الصفحة 189

5 - نظرات في مقعد جديد:

من الشام بدأ معاوية في إدارة شؤون الخلافة وروي أنه قال على منبر دمشق: " أيها الناس اعقلوا قولي. فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني... " (1). وكان قد أعلن في المدينة من قبل: " فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم ". فمعاوية وضع نفسه في دائرة العلم ودائرة الخير، ولكن الباحث يجد أن الحقيقة تخالف ذلك. أولا: لأن الأمة على أعتاب توجيه ضربة إلهية بما قدمت يداها وهذا ثابت في أحاديث صحيحة، كما أن فتح أبواب كل شئ على الذين نسوا ما ذكروا به سنة كونية وحقيقة قرآنية. وقد تكون دوائر العلم والخير الخاصة بمعاوية في ظاهرها علم وخير، ولكن الحقيقة التي لا جدال فيها أن في باطنها فتنة ليس فيها علم يرى. وثانيا: أن بني أمية بالذات على أيديهم يأتي ما ذكرناه في أولا. فمعاوية وإن كان يعمل لصالح نفسه أو أسرته هو في الحقيقة صورة من صور العذاب، كما أن الحجاج بن يوسف صورة من صوره. وقتال الإمام علي لمعاوية كان في الحقيقة أخذا بالأسباب لصد هذه الصورة التي تحمل معالم العذاب، والتي هي نتيجة طبيعية لأعمال الناس. وصد الإمام لهذه الصورة لا يكون إلا بدفع الناس إلى الصراط المستقيم، لأن أعمالهم على الصراط المستقيم ستفتح عليهم بركات من السماء، بينما أعمالهم على أي خط آخر ستأتي بصور العذاب حيث تفتح عليهم أبواب كل شئ عدا البركة. فالدعوة تعمل من أجل فتح أبواب وغلق أبواب، كي تصل القافلة البشرية سالمة غانمة إلى كمالها وأهدافها العليا.

فإذا وجدنا معاوية يخطب على المنابر، فيجب أن نضع نصب أعيننا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك عندما أراه الله بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. وإذا قال معاوية على منبر دمشق: " لن تجدوا أعلم مني بأمور الدنيا والآخرة " فيجب أن نعلم أن معاوية باغي، وأن الناس تخاذلوا ولم يردوه عن

____________

(1) البداية والنهاية 132 / 8.

الصفحة 190
بغيه، لهذا عبر إلى المنبر، وأن للباغي عقوبة عند الله، ومن ركب قطاره أصابته العقوبة. أخرج ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث قد فرغ الله من القضاء فيهن. لا يبغين أحدكم. فإن الله تعالى يقول: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم)، ولا يمكرن أحد، فإن الله تعالى يقول: (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله "، ولا ينكث أحد. فإن الله تعالى يقول: (من نكث فإنما ينكث على نفسه) (1).

إنها محطات ثلاث، من ركب في قطار واحدة منهن فلا يلومن إلا نفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعرض الفتن على القلوب، فأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء. حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه " (2)، أو قال: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها،، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " (3).

إنها محطات ثلاث، ولا تخفى واحدة على أحد، أخرج ابن جرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم.

قيل: كيف؟ فقرأ قوله تعالى: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) (4)، يعني أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذر (5).

إن معاوية نزل بالخلافة إلى أرض الشام، بل وحاول أن ينقل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هناك. وإذا كان قد أعلن من هناك، أنه

____________

(1) الدر المنثور 303 / 3.

(2) رواه أحمد والحاكم وصححه (كنز العمال 119 / 11)، (المستدرك 468 / 4).

(3) رواه أبو داوود حديث 4345.

(4) عون المعبود 502 / 11.

(5) عون المعبود 502 / 11.

الصفحة 191
أعلم الناس بأمور الدنيا والآخرة، فإن الباحث يرد عليه قوله، ويقول: إن هذا القول يعارض الحقيقة التي أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لابن حولة: يا ابن حولة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام... " (1).

وقال الأمين الصادق صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا. يظهر النفاق، وترفع الأمانة وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن الخائن " (2).

6 - إتهام الأمين:

كان التعتيم على مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شيئا طبيعيا على امتداد القرن الأول بصفة خاصة. فعمر بن الخطاب عندما خاف على الإسلام أمر بعدم الرواية، وهدد العديد من الصحابة الذين كانوا يروون الحديث. ولقد سجل البخاري منع عمر للرواية وعدم الأخذ بها من حديث أبي موسى عندما استأذن (3). ولقد تحدثنا عن ذلك في موضعه، وذكرنا أنه قد ترتب على ذلك خفوت أصوات وظهور أصوات أخرى. وعندما جاء عهد علي بن أبي طالب، كان القص قد غذى الساحة بعد أن خلت من الرواية. لهذا واجه الإمام صعوبات كثيرة ليبين للناس من هو، وشقت الرواية طريقها في الصخور، وعلم الناس بعض مناقب الإمام. ولم يكن كل من علم راسخ العقيدة، وذلك لأن الإمام لم يسهر على تربيتهم، فالغالب الأعم منهم كان قريبا من ثقافة الوليد بن عقبة وأبو

____________

(1) رواه الإمام أحمد وأبو داوود والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي " الفتح الرباني 29 / 24 ".

(2) عند البخاري ضياع الأمانة. إذا أسند الأمر إلى غير أهله (الصحيح 128 / 4) ك الدعوات، ب رفع الأمانة.

(3) رواه الحاكم (كنز العمال 127 / 11) وروى صدر الحديث أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم.

الصفحة 192
زبيد الشاعر. وعندما رأى معالم العدل تحت راية الإمام ابتعد عن ثقافة الوليد وغيره، واقترب من ثقافة الإمام. وهؤلاء منهم من نصر الإمام، ومنهم من خذله. وكانت حركة الإمام تعتمد على الصحابة الأجلاء، وعلى الصادقين من التابعين. وعندما قتل هؤلاء لم تكن الخطورة قط على الجانب العسكري، وإنما كانت أيضا على دوام الرواية.

وإذا كان بين أيدينا حديث صحيح يقول: إذا نزلت الخلافة الأرض المقدسة فقد دنت البلايا، وإذا كان بين أيدينا أحاديث تحذر من البغي ومن بني أمية، فلا عجب إذا رأينا بني أمية يعملون من أجل تشويه الخط الرسالي، فإذا لم يشوهوا هذا الخط فأي خط يشوهون؟ وإذا كان تشويههم لغير الخط الرسالي فلماذا كان حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراه الله بني أمية على منبره؟ إن معنى وجودهم على المنبر إشارة إلى اغتصابه، وإشارة إلى أنهم نازعوا الأمر أهله. ومعنى تشويه الخط الرسالي، أي العمل من أجل تزيين خط آخر يكون مشابها للخط الرسالي في الصورة، بهدف أن يهرع أصحاب الأهواء إلى الخط المزخرف نظرا لوجود مطالب كل صاحب هوى على هذا الطريق. ونظرا لأن هذه المطالب تحميها فتاوى علماء الضلال الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة منهم. قال حذيفة: "... قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟

قال: نعم. دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (1).

فهؤلاء لا بد من وجود من يمهد إليهم، لا بد من وجود من يمهد لأكثر من سبعين فرقة وتنجوا واحدة. وإذا كان الحديث قد صرح بأنه سيكون زمان لا

____________

(1) رواه البخاري ك بدء الخلق (الصحيح 280 / 2) ورواه غيره ولقد تكلمنا عن الحديث فيما سبق.

الصفحة 193
جماعة فيه ولا إمام، فإن هناك حديث آخر صرح بأنه من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (1). لهذا لم يهمل الحديث الذي رواه حذيفة موضع الإمام في الزمان الذي لا يكون فيه جماعة ولا إمام، وهو قوله: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة ". لم يقل اعتزل وكفى ولا تحققت الموتة الجاهلية، وإنما قال: " ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "، وفي رواية: " قال حذيفة: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال " (2)، فإذا كان الدجال شجرة رجس، فأي شجرة التي تقابل الرجس؟ فإذا قلنا إنها شجرة المهديين؟ فما هو الدليل على أنهم مهديين؟

ونحن لا نريد أن نطيل في هذا البحث. وبالجملة فلن يكون معاوية صاحب هذه الشجرة، أعني شجرة المهديين، وذلك لوجود أحاديث تقول خلاف هذا. وإذا أردنا أن نضع أيدينا على أصل الشجرة فإني أسوق الحديث الصحيح الذي أورده السيوطي في تاريخ الخلفاء، فقال: أخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس من شجر شتى، وأنا وعلي من شجرة واحدة (3)، وروى الديلمي: " أنا وعلي من شجرة واحدة والناس من أشجار شتى " (4) وروى الحاكم: " يا علي الناس من شجر شتى " وأنا وأنت من شجرة واحدة " (5).

فالظالمين من بني أمية هدفهم تشويه الخط الرسالي، وذلك بإنشاء خط جديد مشابه له. والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا، وأغلق الأبواب أمام هذه الأعمال، فقال:

"... فإن للقرآن منار كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه وما أنكرتم فردوه إلى

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وحسنه الألباني (كتاب السنة 503 / 4) ورواه غير واحد ولقد بينا ذلك فيما سبق.

(2) رواه أبو داود حديث 4244.

(3) تاريخ الخلفاء 160 / 1.

(4) الديلمي (كنز العمال 168 / 11).

(5) الحاكم (كنز العمال 168 / 11).

الصفحة 194
عالمه " (1). ولقد قتلوا عالمه، ونتيجة لذلك يمكن أن نفهم قوله النبي صلى الله عليه وسلم: " كتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم " (2)، فهم ضلوا لأن هناك أشياء لا يعلمونها في كتاب الله. وبما أنهم قتلوا عالمه واعتزلوا أهل بيته لا يستبعد أن يتحقق الضلال، ويرتفع النفاق، ليتحقق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها " (3).

من هنا يمكن أن نعلم حقيقة الخط المشابه للخط الرسالي. الذي أخذ على عاتقه تمزيق الأمة ولكن تحت الراية المزخرفة التي تقول بالجماعة. لا يهم أن تتمزق الأمة ولكن المهم أن تكون الجماعة على رأس الحكم.

وتيارات التشويه دائما ما تلجأ إلى التشويه الغير مباشر، فكتاب الله لا يمكن أن تمتد إليه يد أو عقل لإحداث تشويه فيه، فهذا من المحال. وإنما تمتد عقولهم إلى تفسيره وتأويله، فتفرغه من المحتوى السياسي الذي يتعارض مع أهداف جماعة الحكم. والقارئ للقرآن يعلم أنه يتعرض للأحداث الكبرى ويقدم لها الحلول، ولقد سلط الأضواء على الانحرافات الكبرى على امتداد التاريخ البشري وبينها للأمة الخاتمة - وحذر من الوقوع على طريقها، وهذا كله عند تيارات التشويه لا يلتفت إليه إلا في حدود. وفي الغالب الأعم يقرؤن القرآن قراءة لا تجاوز تراقيهم في المآتم وحول الأضرحة، وفي أندية النفاق حيث المباخر والشعوذة والدجل.

وكما أن كتاب الله لا يمكن أن تمتد إليه يد أو عقل للتشويه فيه، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فتيار التشويه داخل الأمة لا يقترب من مكانة النبوة، وإلا سيفقد وجوده على الكرسي. ولكي يتجنب ذلك يفعل ما فعله مع القرآن، بمعنى أن يكذب على النبي فيحدث التباسا بين ما قيل وبين ما لم يقال.

وهذا الطريق ينتج الإنسان المشوه. أو يقوم بضرب الخط الذي ينتسب إلى النبي

____________

(1) رواه الطبراني (الزوائد 187 / 1).

(2) رواه ابن أبي عاصم وفيه من ضعف (كتاب السنة 132 / 1).

(3) رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي أحد أسانيد أحمد ثقات أثبات (الزوائد 229 / 6).

الصفحة 195
، أقصد الخط الرسالي، أو ينسب إلى كل ما هو برئ منه.

فإذا حدث هذا فهو أمام العامة لم يقترب من ساحة النبوة، بمعنى روي في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آذى عليا فقد آذاني " (1). فخط التشويه يوجه الأذى إلى علي، ويمكن للعامة أن تتقبل ذلك.

ولكن الحقيقة أن عليا لم يكن هو الهدف، وهذا لا يفهمه إلا عاقل منصف.

ولقد كان النبي يغضب عندما يؤذي أحد عليا. فعن سعد بن أبي وقاص قال:

كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي، فنلنا من علي، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه فقال: ما لكم وما لي!!؟ من آذى عليا فقد آذاني (2)، لم يقل: ما لكم وعلي، وإنما قال: ما لكم وما لي. وعلي هذا المقياس نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سب عليا فقد سبني " (3).

وروي أن رجلا من أهل الشام جاء فسب عليا عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدو الله أذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " (4).

وروي أن معاوية أصدر العديد من القرارات بعد عودته من المدينة إلى الشام. روى المدائني: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة:

برأت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء من كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون عليا ويبرأون منه ويوقعون فيه وفي أهل بيته " (5)، ثم كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: " لا تجيزوا لأحد من شيعة علي

____________

(1) رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9).

(2) رواه أبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9).

(3) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح 130 / 9) والحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).

(4) رواه الحكم وأقره الذهبي (المستدرك 152 / 3).

(5) ابن أبي الحديد 595 / 3.

الصفحة 196
وأهل بيته شهادة " (1)، ثم كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يرون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته " (2). وبعد أن كثر الحديث في فضائل عثمان ومناقبه كتب إليهم: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة. فإن هذا أحب إلى وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته " (3)، ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته.

فامحوه من الديوان. وأسقطوا عطاءه ورزقه " (4)، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به واهدموا داره " (5).

وترتب على هذه القرارات أن الكذابين والجاحدين وجدوا لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلد، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا ما لم يقله الخط الرسالي وما لم يفعلوه ليبغضوهم إلى الناس، وقرأت الكتب على الناس، ورويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها. وترتب على ذلك اشتداد البلاء ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي كان يخاف من خادمه ومملوكه. كان هذا في زمن معاوية وتفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام، وبعد أن ولي عبد الملك بن مروان وأتي بالحجاج بن يوسف. فلم يبق أحد إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.

____________

(1) المصدر السابق 595 / 3.

(2) المصدر السابق 595 / 3.

(3) المصدر السابق 596 / 3.

(4) المصدر السابق 596 / 3.

(5) المصدر السابق 596 / 3.

الصفحة 197
إن للصحابة فضائل ومناقب ولم يكونوا في حاجة إلى إضافات جديدة.

ولكن هذه الإضافات لم يقصد بها الصحابة، لأن العديد منهم كانوا في رحمة الله ولا تفيدهم زيادات، وإنما كان المقصود أن تزاحم مناقب الصحابة مناقب أهل البيت ليحدث الالتباس. ولكن أهل الحديث الراسخين في علم الحديث. ذكروا كثيرا من الأحاديث الموضوعة، وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم. إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ (الصحبة) على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطأة وغيره. ونحن لا نجحد فضل أحد من الصحابة، ولكننا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيهم موضوع.

وقرار سب علي بن أبي طالب على المنابر وقف منه الصحابة في دائرة الخوف. فمعاوية اهتم اهتماما ملحوظا بالأمن الداخلي، فبث العيون وسلح الحاميات العسكرية، وأعطى للأمراء في الأمصار حق التصرف في هذه القضايا.

وأمام الأسوار حول المدن التي تمثل أي خطر عليه حتى مكة، يقول ابن كثير.

" كانت أبواب مكة لا أغلاق لها وأول من اتخذ لها الأبواب معاوية " (1).

وليس معنى أن الصحابة كانوا في دائرة الخوف أنهم قبلوا ثقافة السب.

فمنهم من رفضها وقتل في ذلك كحجر بن عدي وغيره، ومنهم من رفضها بحذر، ومنهم من رفض ووعظ، ومنهم الجهاز الذي أشرف على إتمام ثقافة السب، كعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وبسر بن أرطأة، ومعاوية بن خديج وغيرهم.

ولقد سجل مسلم عملية السب في صحيحه، وبهذا التسجيل لا يمكن أن يدعي مدعي أن السب كان خرافة أو لا أساس له من الصحة، وسجله غير مسلم في روايات صحيحة. وبداية عملية السب روي أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة فلما أمره عليها دعاه وقال له: لست تاركا إيصاءك بخصلة. لا

____________

(1) البداية والنهاية 139 / 8.

الصفحة 198
تترك شتم علي وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له. والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم. والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم " (1). فهذه الوصية التي رواها صاحب الكامل هي إجمالي ما رواه ابن أبي الحديد من قبل. وبدأت عملية السب، روى الطبراني بسند صحيح أن عمرو بن العاص صعد المنبر، فذكر عليا ووقع فيه، ثم صعد المغيرة بن شعبة، ووقع في علي، وكان الحسن بن علي بالمسجد. فقيل له اصعد. فقال: لا أصعد ولا أتكلم حتى تعطوني إن قلت حقا أن تصدقوني، وإن قلت باطلا أن تكذبوني، فأعطوه، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أنشدك بالله يا عمرو ويا مغيرة. ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله السابق والراكب أحدهما فلان، قالا اللهم بلى. قال: أنشدك الله يا معاوية ويا مغيرة، ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن عمرو بن العاص بكل قافية قالها لعنة، قالا: اللهم بلى. قال: أنشدك يا عمرو ويا معاوية، ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن قوم هذا قالا: بلى، فقال الحسن: فإني أحمد الله الذي وقعتم فيه تبرأ من هذا (2).

وهذا الحديث يحتاج إلى تفسير. فأما قوله: " لعن الله السابق والراكب.

أحدهما فلان " فيقصد بذلك معاوية كما روى البغوي (3) وقوله: " أن رسول الله لعن عمرو بن العاص بكل قافية قالها لعنة ". فلقد روي أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي مكة: أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن الزيعري، وعمر بن العاص، وضرار بن الخطاب (4)، وكان أشدهم عمرو بن العاص وروي أن رسول الله قال: " اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر، فاهجه والعنه عدد ما

____________

(1) الكامل 234 / 3، الطبري 108 / 6.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رواه عن شيخه زكريا بن يحيى وقال الذهبي: أحد الأثبات ما علمت فيه جرحا أصلا (الزوائد 247 / 7).

(3) رواه الطبراني والبغوي (الإصابة 5 / 4).

(4) أسد الغابة 5 / 2.

الصفحة 199
هجاني " (1) وإن كان في إسناد هذا الحديث مقال. فإن حديث الحسن يشهد بصحته. أما قوله: " إن رسول الله لعن قوم هذا " فإنه يقصد المغيرة بن شعبة، والمغيرة بن ثقيف (2)، وفي الحديث الصحيح. إن بني أمية وثقيف وبني حنيفة من أبغض الناس إلى رسول الله (3).

وهكذا رفع عنهم الحسن رضي الله عنه الغطاء الذي وضعه على جلودهم عالم اللارواية. لقد وقفوا ليلعنوا وهم في الحقيقة عليهم من الله لعنة. قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله. لعنهم الله في الدنيا والآخرة). ومن الذين سهروا من أجل انتشار ثقافة السب مروان بن الحكم الذي كان سببا رئيسيا في محاصرة الثوار لعثمان، ومروان هو قاتل طلحة يوم الجمل، ومروان وأبيه عليهما لعنة من الله على لسان رسوله. وصرح بذلك روايات صحيحة.

وأخرج ابن سعد أن مروان بن الحكم كان يسب عليا كل جمعة على المنبر (4)، وروى أنه قال للحسن: أهل بيت ملعونون. فقال الحسن: أقلت أهل بيت ملعونون. فوالله لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلب أبيك (5). وروي عن أبي كثير قال: كنت جالسا عند الحسن بن علي فجاءه رجل فقال: لقد سب عند معاوية عليا سبا قبيحا رجل يقال له معاوية بن خديج. فلم يعرفه الحسن،، فقال: إذا رأيته فأتني به، فرآه الرجل عند دار عمرو بن حريث، فأراه إياه، فقال الحسن: أنت معاوية بن خديج؟ فسكت فلم يجبه - ثلاثا - ثم قال: أنت الساب عليا عند ابن أكلة الأكباد؟ أما لئن وردت عليه الحوض، وما أراك ترد، لتجدنه مشمرا حاسرا عن ذراعيه يذود الكفار والمنافقين عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قول الصادق

____________

(1) رواه ابن عساكر (كنز العمال 548 / 13).

(2) الإصابة 131 / 6.

(3) البيهقي (البداية والنهاية 268 / 6.

(4) البداية والنهاية 280 / 8، تاريخ الخلفاء 177 / 1.

(5) رواه أبو يعلى (الزوائد 240 / 5) وابن سعد وابن عساكر (كنز العمال 357 / 11) وذكره ابن كثير (البداية 8 / 280).

الصفحة 200
المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم (1). ومعاوية بن خديج ذكره ابن سعد فيمن ولي مصر من الصحابة. أمره معاوية على الجيش الذي جهزه إلى مصر وبها محمد بن أبي بكر عاملا لعلي، فأخذوا ابن أبي بكر ووضعوه في بطن حمار وأشعلوا فيه النار.

أما الصحابة الذين لم يقبلوا ثقافة السب، ما رواه مسلم عن سهل، قال:

استعمل على المدينة رجل من آل مروان، فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، فأبى سهل. فقال له: أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب. فقال: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها (2)، وروى مسلم أيضا أن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب (3)؟ فعد عليه سعد بعض مناقب علي وقال: لو أن تكون لي واحدة منهن خيرا من أن تكون لي حمر النعم.

وعن عبد الرحمن بن البليماني قال: كنا عند معاوية. فقام رجل فسب عليا بن أبي طالب فقام سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل فقال: يا معاوية إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هو مني بمنزلة هارون من موسى " (4) وعن أبي عمار قال: إني لجالس عند واثلة بن الأسقع، إذ ذكروا عليا فشتموه فلما قاموا. قال: اجلس أخبرك عن الذي شتموا. إني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى عليهم كساءا ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس

____________

(1) رواه الطبراني بإسنادين (الزوائد 131 / 9)، والحاكم (المستدرك 138 / 3)، وابن أبي عاصم (كتاب السنة 360 / 2).

(2) رواه مسلم (الصحيح 182 / 15) في فضل علي.

(3) رواه مسلم في فضل علي (الصبح 175 / 15) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 109 / 3).

(4) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 602 / 2).

الصفحة 201
وطهرهم تطهيرا " (1).

وعن خالد بن عرفطة قال: أتيت سعد بن مالك فقلت: بلغني أنكم تعرضون على سب علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: " معاذ الله والذي نفس سعد بيده، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي شيئا لو وضع المنشار على مفرقي ما سببته أبدا " (2)، ويقصد سعد يوم أن عاد من اليمن ودخل ليشكوا عليا وكان معه أبو بكر. فبينما هو في وسط كلامه قال له النبي:

" سعد بن مالك بن الشهيد. مه بعض قولك لأخيك علي. فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله "، فقال سعد: فقلت في نفسي ثكلتك أمك سعد بن مالك.

ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري. لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدا سرا ولا علانية (3).

وروي أن أبا الأسود الدؤلي وكان من شيعة علي ينزل بالبصرة في بني قشير، وكان جيرانه يرجموه بالليل لمحبته عليا وأهل بيته. فإذا ذكر رجمهم له قالوا: إن الله يرجمك فيقول لهم: تكذبون لو رجمني الله لأصابني، ثم باع الدار، فقيل له: بعت دارك! فقال: بل بعت جاري (4). وروى الزمخشري في ربيع الأبرار: سأل زياد بن أبيه أبا الأسود عن حب علي فقال: إن حب علي يزداد في قلبي كما يزداد حب معاوية في قلبك، وإني أريد الله والدار الآخرة بحبي عليا، وأنت تريد الدنيا وزينتها بحبك معاوية. ويقصد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين " (5).

وروي أن معاوية قال لصعصعة بن صوحان. اصعد المنبر فالعن عتيا.

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 161 / 9) (2) رواه أبو يعلى وإسناده حسن (الزوائد 130 / 9) ابن أبي عاصم (كتاب السنة 604 / 2).

(3) رواه البيهقي (البداية والنهاية 346 / 7) ولقد قدمنا الحديث بطوله في موضعه.

(4) حياة الحيوان / الدميري في آخر باب الدال.

(5) رواه ابن عدي وغيره (كنز العمال 4 - 6 / 11).

الصفحة 202
فامتنع من ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا. فصعد صعصعة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس إن معاوية أمرني أن ألعن عليا. فالعنوه لعنه الله (1).

وهكذا مرت ثقافة السب. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الثقافة وبين أهدافها الحقيقية. روى عن عبد الله الجدلي أنه قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ قلت: معاذ الله أو سبحان الله. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني (2).

أنظر إلى قول أم المؤمنين: أيسب رسول الله فيكم؟ إنها لم تقل: أيسب علي فيكم: لأن عليا درجة على طريق طاهر طويل. وفي مواجهة أخرى قالت أم المؤمنين أم سلمة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى (3). ولقد أخبر الإمام علي عن هذه الثقافة فقال: " إنكم ستعرضون على سبي فسبوني، فإن عرضت عليكم البراءة فلا تتبرأوا مني فإني علي الإسلام "، وفي رواية - فإني على الفطرة (4).

وفي رواية: فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة (5).

وروي أن ابن عباس قال لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربوا عليه الصغير ويهرم فيه الكبير (6). وهذه الاستمرارية التي

____________

(1) العقد الفريد 466 / 2، والحاكم (المستدرك 358 / 1).

(2) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 130 / 9) (الفتح الرباني 121 / 23)، ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 121 / 3) وأورده السيوطي في تاريخ الخلفاء 162 / 1.

(3) رواه أحمد والحاكم (كنز العمال 602 / 11)، (المستدرك 121 / 3).

(4) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 358 / 1) والمحاملي وابن عساكر (كنز العمال 302 / 11) ورواه البلاذري (أنساب الأشراف ص 119 / 1) وابن أبي الحديد 776 / 1.

(5) ابن أبي الحديد 776 / 1.

(6) ابن أبي الحديد 222 / 4.

الصفحة 203
يصر عليها معاوية. أخبر عنها وعن غيرها النبي فقال: كيف أنتم إذا لبستم فتن يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة. فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة (1). إنها الفتن التي تنسف العبادة نسفا، وتترك الناس لا يعقلون فتن اللسان فيها أوقع من السيف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الفتنة تجئ فتنسف العبادة نسفا، وينجو العالم منها بعلمه " (2)، وهل ثقافة السب تحافظ على عبادة أو تنفع معها عبادة، لقد ألقوا في الساحة بأحاديث يزاحم بعضها بعضا. وتمهد لخروج أكثر من سبعين فرقة كل فرقة معها أحاديثها. وكل فرقة لها لسان يضرب كضرب السيف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف (3). قال في عون المعبود: وصفت الفتنة بهذه الأوصاف بأوصاف أصحابها. أي لا يسمع فيها الحق، ولا ينطق به، ولا يتضح الباطل عن الحق، وقيل المعنى: لا يميزون فيها بين الحق والباطل، ولا يسمعون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من تكلم بحق أوذي ووقع في المحن، ومن أشرف لها: أي من اطلع عليها وقرب منها. استشرفت له. أي: اطلعت تلك الفتنة عليه وجذبته إليها. وإشراف اللسان. أي: إطلاقه وإطالته كوقوع السيف أي: في التأثير (4).

وإذا كان إشراف اللسان في هذه الفتنة كوقوع السيف، بمعنى إذا كانت الكلمة في هذه الفتنة تعمل عمل السيف. فإن الذين سبوا عليا يكونوا في منزلة الذين قتلوه. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله " (5). وبهذا تكون بني أمية بثقافة السب قافلة من القتلة ولا يعرف حقيقتهم إلا العالم. وشاء الله أن يكون على امتداد تاريخ

____________

(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4).

(2) رواه أبو نعيم وأبو داوود والرافعي (كنز العمال 150، 178 / 10).

(3) رواه أبو داوود حديث 4244.

(4) عون المعبود 346 / 11 (5) رواه البخاري (الصحيح 57 / 4).

الصفحة 204
بني أمية العديد من العلماء الأفاضل، فكانوا يحذرون من الحفرة قبل الوقوع فيها. حدث هذا في جميع الأحداث الكبرى بل والصغرى التي جرت تحت أعلام بني أمية. ولقد رأينا كيف كانوا ينهون عن السب في كل زمان ومكان.

لقد أنتجت ثقافة السب جيلا مشوها، كان من السهل عليه أن يقتل الحسين، ويجتاح المدينة، ويضرب الكعبة. ولقد ظلوا يسبون الإمام حتى ضاع ذكره عند الذين يقفون تحت رايات بني أمية. يقول المسعودي: قيل لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصا من لصوص الفتن (1). وروي أن فقيها آخر ذهب ليشتكي جاره إلى الوالي فقال: إن جاره مرجئ قدري ناصبي رافضي، يبغض معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص. فقال له الوالي: ما أدري على أي شئ أحسدك. على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب (2).

وروي في سنن أبي داوود أن في عصر بني مروان لم يكن فطاحل العلم وجهابذته يعدون عليا من الخلفاء، وعندما بلغ سفينة ذلك قال: كذبت استاه بني الزرقاء (3).

وظل الحال هكذا حتى جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وسنتحدث عن ذلك في حينه.

7 - ائتمان الخائن:

من قبل أن يحدث الاختلاف والافتراق أعلن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة أن " الإسلام والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس (4)، والسلطان حارث. وما لا أس له يهدم، وما لا

____________

(1) مروج الذهب 42 / 3.

(2) مروج الذهب 42 / 3.

(3) ذكره الألباني في تحقيقه كتاب السنة 564 / 2.

(4) أس / أصل البناء.

الصفحة 205
حارث له ضائع " (1). ثم بين فضل أهل بيته ووجوب مودتهم في أحاديث كثيرة منها " النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي " (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (3)، وقوله: " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (4)، وغير ذلك من الأحاديث التي أوردناها في موضعها.

فمن هذا نفهم أن معنى الإسلام والسلطان يكون أقرب للفهم إذا وضعنا أمامنا في دائرة السلطان أهل البيت. بمعنى أن نقول: أن الإسلام وأهل البيت توأمان، وذلك لأن الروايات حددت معنى السلطان الذي يستقيم مع الكتاب.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وضع الأمة على الصراط المستقيم وعلم من ربه جل وعلا أن الأمة ستختلف من بعده، فأقام الحجة على الناس، وهم في طريق الاختلاف، كما أقامها من قبل أن يتشعبوا في دروب الاختلاف فقال:

"..... إن رحى الإسلام دائرة. وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فدوروا مع الكتاب حيث دار " (5). فإذا كان الكتاب كما في الحديث الصحيح لن يفترق عن أهل البيت. فإننا يمكن أن نفهم أن الدوران مع الكتاب يعني في مقدمته الدوران مع أهل البيت.

____________

(1) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).

(2) رواه الطبراني وأبو يعلى وابن عساكر وابن أبي شيبة عن سلمة ابن الأكوع (كنز العمال 96، 102، 12) ورواه أبو يعلى والبزار والحاكم عن أبي ذر (الخصائص الكبرى 466 / 2).

(3) رواه البزار عن ابن عباس وعن الزبير (كنز العمال 955 / 12) ورواه الحاكم وابن جرير والطبراني عن أبي ذر (كنز العمال 95، 98 / 12) وطريق أبو ذر طريق ضعيف. وجميع من ساق هذا الحديث ساقه من طريقه الضعيف ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(4) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).

(5) رواه الطبراني عن معاذ وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1).