الصفحة 169


الفصل السابع
الثلاثي وتحريف الحقائق


  المؤرخون
  المحدثون
  الكُتّاب



الصفحة 170

الصفحة 171

أولاً: المؤرخون

  دور التاريخ في استنهاض الأمة:

إن الأمم التي تتقدم هي الأمم التي تستفيد من عبر التأريخ، وتستخلص قمة التجارب في حاضرها، بعد أن تعي سنن التاريخ وقوانينه التي تقود الأمة نحو التحضر، بالإضافة إلى معرفة أسباب انحلال الأمم وتراجعها، فلم يخص الله قوماً بقانون دون قوم، بل هي سنة واحد لا تتغير قال تعالى: (فلن تجد لسنة اله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً). فالحياة قائمة على حقيقة واحدة وهي الصراع الدؤوب بين الحق والباطل وكل الأحداث التي تجري في تاريخ الإنسانية لا تخرج عن كونها واجهة من واجهات الصراع بين الحق والباطل، فيمكننا بهذه البصيرة أن نغوص في التاريخ ونجعله حيوياً يتفاعل وحياتنا اليومية، ويمكننا إدراك أعمق ما يمكن إدراكه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا الإسلامية التي تعيش أعنف التقسيمات المذهبية، ومن أجل ذلك لا بد أن نتجاوز انفعالاتنا النفسية وانشداداتنا العاطفية نحكم قواعدنا وبصائرنا القرآنية، حتى نتمكن من القدرة الموضوعية على التحليل والنظر من سطح الأحداث إلى جوهرها، فنصل إلى رؤية واضحة وواقعية بدلاً عن الرؤية الخاطئة والمشوشة. فلنبدأ كما لو أن القرآن نزل علينا من جديد، فنقرأ التاريخ من وحيه قوله تعالى:


الصفحة 172
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقب الذين من قبلهم، كانوا اشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وبالعكس تماماً تجد الأمة الجامدة عاجزة عن فهم التاريخ وقوانينه وتجاربه فتفقد بذلك الرؤية والبصيرة التي تجعلها قادرة على استيعاب الحاضر والسير نحو المستقبل.

  السلطات وتحريف التاريخ:

إذن فكل سؤال أو استنكار في البحث التاريخي بداعي عدم إثارة الفتن القديمة أو أي داعي آخر لا محل له، وإن دل فإنما يدل على جهل صاحبه، وفي الواقع إن كانت هناك فتنة فهي بسبب ما حدث في التاريخ من تزييف وتحريف، وإلا فالتاريخ بما هو، هو مرآة صافية تعكس الماضي للحاضر من غير خداع أو دجل، ولكن عندما سقط التاريخ في أيدي السياسات المنحرفة تذبذبت صورته وتبدلت أشكاله، ومن هنا تعددت الآراء واختلفت المذاهب، وغلا لو كان التاريخ سليماً لانكشف زيفها وعُرف باطلها.

وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من فرقة وشتات وتمزق في الصفوف ما هوإلانتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت فيالتاريخ من تدليس المؤرخين وكتمهم للحقائق، فهم جزء لا يتجزأ من المخطط الذي استهدف مدرسة أهل البيت من أجل مصالح سياسية، فقد عمل هذا المخطط على كافة الأصعدة والمستويات ليشكل تياراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي. وبما أن التاريخ شاهد عيان ينقل رأى فلا بد للمخطط أن يسكته أو يعمِّيَ عليه حتى لا يفضحه ويكشف حيلته، ومن هنا كان التاريخ تحت قبضة السياسة الحاكمة يدور معها حيثما دارت.،

الصفحة 173
فأصبح المؤرخون تحت تهديد أو إغراء السلاطين ترتعش الريشة في أيديهم لتزييف الحقائق، إن السياسة التي اتبعها التيار الأموي ومن بعده العباسي كانت تستهدف من الأساس تشويه صورة أهل البيت (ع)، فكان مجرد التظاهر بالحب لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيل بهدم الدار وقطع الرزق ـ حتى تتبع معاوية شيعة علي قائلاً: اقتلوهم على الشبهة والظنة ـ وحتى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تغتفر، وللتعرف على المأساة التي لاقوها أئمة أهل البيت وشيعتهم في التاريخ ارجع إلى كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الاصفهاني.

فما بال المؤرخين، هل يتسنى لهم في تلك الظروف القاسية تدوين مناقب وفضائل أهل البيت وذكر سيرتهم العطرة؟!

وهكذا أصبحت الأمة تتوارث جيلاً بعد جيل حقائق مشوهة، بل تطور الأمر إلى أكثر من ذلك عندما أصبح العلماء المتأخرون يبررون للسابقين وينقلون عنهم من غير تأمل أو تدبر، فتأصلت حالة العداء لأهل البيت وشيعتهم وحالة الجهل والغفلة في الآخرين، فليس غريباً من ابن كثير عندما أتي لذكر جعفر بن محمد الصادق (ع) في حوادث مائة وثمان وأربعين هجرية لا يزيد على قوله: وفيه مات جعفر بن محمد الصادق، فيذكر موته ولا يروق له ذكر شيء من حياته، والشواهد على تحريف المؤرخين كثيرة.. نكتفي بذكر نماذج منها:

  كيف أرخوا لتاريخ التشيع؟

آـ فقد أرَّخ الطبري ـ أول مؤرخ في الإسلام ـ ومن نقل عنه من المؤرخين، إن مؤسس الشيعة هو يهودي، اسمه عبد الله بن سبأ من أهل صنعاء.


الصفحة 174
وأذكر أن أول ما سمعت بهذا الاسم كان من أحد أقاربنا وهو تابع للوهابية، فكان يقول: الشيعة يهود يرجعون في الأصل إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، وبعد البحث في هذا الأمر، وجدتهم يضربون على نفس طبول إحسان إلهي ظهير، وأنا أكتب هذا الكلام وبين يدي كتابه (الشيعة والتشيع) وهو ينقل هذه الأكاذيب من الطبري وغيره من المرخين، وهنا ننقل عنه ما نقله عن الطبري: (ولقد ذكره أقدم المرخين الطبري بقوله ك (كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل (إن الذين فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله (ص)، ووثب على وصي رسول الله (ص) وتناول أمر الأمة، ثم قال لهم بعد ذل إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله (ص) فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في اسر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم.. الخ).


الصفحة 175
وبهذا ينسبون عقائد الشيعة وتاريخهم إلى عبد الله بن سبأ وبذلك جعلوا حواجز نفسية بين الباحثين والحقيقة، وعندها ساروا على موال المؤرخين من غير بحث أو تدقيق، فنجد الكاتب أحمد أمين مثلاً في كتابه ـ فجر الإسلام ـ بعد أن ينقل قصة عبد الله بن سبأ ويرسلها إرسال المسلمات، يجد الطريق أمامه مفتوحاً لكيل التهم والأكاذيب على الشيعة فيقول ص269: (ولم يكتف غلاة الشيعة بهذا القدر في علي، ولم يقنعوا بأنه أفضل الخلق بعد النبي وأنه معصوم، بل آلهوه فمنهم من قال: (حلَّ في علي جزء إلهي، واتحد بجسه فيه، وبه كان يعلم الغيب) ثم بعد ذلك ينقل خرافة ابن سبأ ويحلل فيها ثم يستخلص هذه النتيجة قائلاً: (والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإٍسلام لعداوة أو حقد.. ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية..) وهو يقول ذلك مرتجلاً من غير بحث او تدقيق، بل كحاطب ليل لا يعي ما يقول، ولكن ليس اللوم عليه، فما جاء به هو ناج لانحراف التاريخ والمؤرخين.

وهكذا كان التاريخ وكانت السبأئية وبحثوها بكل تجرد ودقة فلم تظهر أمامهم إلا قصة مفتعلة، ولقد أفرد لها العلامة مرتضى العسكري مجلدين سماهما ـ عبد اله بن سبأ وأساطير أخرى ـ تتبع فيها رواية ابن سبأ في كل المصادر التاريخية، ولا يسعني المجال لسرد الأدلة التي تكشف حقيقتها فأكتفي هنا بإشارات:

ـ ترجع هذه الأكذوبة إلى راوٍ واحد وهو ـ سيف بن عمر ـ مؤلف كتاب.. (الفتوح الكبيرة والردة) و(الجمل ومسيرة عائشة وعلي ونقل عنهما الطبري في تاريخه موزعاً على حوادث السنين، وابن عساكر والذهبي في تاريخه الكبير.


الصفحة 176

قول العلماء في سيف بن عمر:

1ـ قال يحيى بن معين (ت 233 ه): ضعيف الحديث فلس خبر منه.

2ـ أبو داوود (ت 275 هـ): ليس بشيء كذاب.

3ـ وقال النسائي صاحب الصحيح (ت 303 هـ): ضعيف ومتروك الحديث ليس بثقة ولا مأمون.

4ـ وقال ابن حاتم (ت 327 هـ): متروك الحديث.

5ـ وقال ابن عدي (ت 365 هـ): يروي الموضوعات عن الأثبات، أتهم بالزندقة، وقال: قالوا كان يضع الحديث.

6ـ وقال الحاكم (ت 405هـ): متروك، وقد أتهم بالزندقة.

7ـ وَهّاهً الخطيب البغدادي (ت 406 هـ):

8ـ ونقل ابن عبد البر (ت 463 هـ) عن ابن حبان أنه قال فيه: سيف متروك، وإنما ذكرنا حديثه للمعرفة) ولم يعقب ابن عبد البر على هذا الحديث شيئاً.

9ـ وقال الفيروز آبادي، صاحب تواليف، وذكره مع غيره وقال عنهم: ضعفاء.

10ـ وقال ابن حجر (ت 852هـ) بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه: فيه ضعفاء أشدهم سيف.

11ـ وقال صفي الدين (ت 923هـ): ضعَّفوه، روى له الترمذي فرد حديث. وهذا رأي العلماء في سيف بن عمر مدى العصور.

فكيف بهذه البساطة يسترسل المؤرخون مع روايته؟! وكيف بنى عليها الباحثون آراءهم، وهذا بالإضافة للاختلافات التي وقعت في اسمه. هل هو ابن السوداء؟! أم عبد الله بن سبأ. والاختلاف الذي وقع في ظهوره بين

الصفحة 177
الروايات، هل ظهر في أيام عثمان كما يقول الطبري، أم كما يقول سعد بن عبد الله الأشعري في المقالات والفرق: أنه ظهر في أيام علي أو بعد موته!

ولماذا سكت عنه عثمان الذي لم يسكت حتى عن أكابر الصحابة أمثال أبي ذر وعمار وابن مسعود؟!

بل هو في الواقع حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج). وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة، مثل الولاية والعصمة، فلم يجد أعداؤهم طريقاً غلا ربط هذه العقائد بجذر يهودي، يكون بطلها شخصاً خيالياً اسمه عبد الله بن سبأ فيلقي اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه، وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة تنزيههم عن اللوم والعتاب، بما جرى بينهم من فرقة واختلاف انتهت بقتل عثمان، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة، حيث راح ضحيتها آلا من الصحابة، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلا تغطية على تلك الفترة الزمنية الحرجة، فألقوا مسؤولية ما حدث على هذه الشخصية الوهمية وأسدلوا على ذلك الستار، وغلا من غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عما حدث، من انشقاق الأمة وتفرقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ولكن هيهات، لا يدفع الخطر عن النعامة إذ وارت رأسها في التراب فقد جاؤوا بعذر أقبح من ذنب. فكيف يتسنى لهذا الدخيل أن يعبث كل هذا العبث، حتى غيَّر تاريخ الإسلام العقائدي، والصحابة شهود على ذلك؟!!!

نموذج آخر:

ب ـ هناك حذف تام لفضائل علي وأهل بيته بصورة متعمدة من كتب التاريخ، فهذا ابن هشام ناقل سيرة ابن إسحاق، يقول في مقدمة كتابه:


الصفحة 178
(وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب.. وأشياء يشنع الحديث بها، وبعض يسوء الناس ذكره..).

ممهداً بذلك إلى كتم الحقائق ودفنها، فمن بين هذه الأشياء التي يسوء الناس ذكرها، خبر دعوة الرسول لعبد المطلب عندما أمره الله (وأنذر عشيرتك الأقربين) فقد ذكرها الطبري بإسناده، قال رسول الله (ص): فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنها جميعاً، وقال علي (ع) أنا يا نبي الله أكون وزيرك.. قال الرسول: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1).

فهل هذه الرواية مما يسوء الناس ذكرها؟! أو يشنع الحديث بها؟!

لا يعجبك ذكر الطبري لهذه الحادثة، فسرعان ما تراجع عن ذلك فروى في تفسيره هذه الحادثة مع تدليسها وتحريفها قال: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا.. ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا(2).

فماذا تعني كذا وكذا؟!

أما ابن كثير في تاريخه عند ذكر هذه الحادثة فأعجبه ما صنعه الطبري في تفسيره فسار على خطته من غير حياء أو أمانة علمية، فقال: كذا وكذا..!(3).

فانظر إلى هذه الحادثة الواحدة التي تتناول فضيلة من فضائل أمير المؤمنين وأحقيته في الخلافة، انظر كيف فعل بها المؤرخون، فابن هشام لم

____________

1- الطبري بتلخيص ـ ط. الأولى، مصر ج2 ص216ـ217.

2- تفسير الطبري. ط بولاق ج19ص 72.

3- البداية والنهاية ج3 ص40.


الصفحة 179
يستطع أن يتحايل عليها فحذفها من الأساس، وأما الطبري وتبعه ابن كثير فزيّفاها وأيهما معناها.. فتأملوا.

ج ـ وإليك نموذجاً آخر من تحريفات المؤرخين للحقائق، فكما أنهم يخفون فضائل علي (ع) وأهل بيته، ففي المقابل يخفون كل ما يشين وينقص من حق الصحابة وبالخصوص الخلفاء، وإليك هذه الحادثة التي تجمع كلا الاتجاهين من إخفاء لفضائل علي (ع) وإخفاء لفضائح الخلفاء:

أخفى المؤرخون وأولهم الطبري، الرسائل التي جرت بين محمد بن أبي بكر ـ من شيعة أمير المؤمنين ـ ومعاوية بن أبي سفيان. لأن فيها إثباتاً لوصاية الإمام علي (ع) وكشفاً لأمر الخلفاء، فاعتذر الطبري بعدما ذكر إسناد الرسالتين، بأن فيهما ما لا يتمل العامة سماه، ثم جاء من بعده ابن الاثير وفعل ما فعله الطبري، ثم سار على نهجهم ابن كثير فأشار إلى رسالة محمد بن أبي بكر، وحذف الرسالة وقال: (وفيها غلظه). وما فعله المؤرخون الثلاثة، هو من أبشع أنواع كتم الحقائق، فهو يكشف بكل وضوح عدم أمانتهم العلمية.

فماذا يقصدون من قولهم: (عدم احتمال العامة سماع ما فيهما؟

هل لأن العامة لا تبقى على عقيدتها بالخلفاء بعد سماع الكتابين؟

وإليك مختصراً من رسالة محمد بن أبي بكر إلى معاوية، ورد الأخير عليه، من كتاب ـ مروج الذهب للمسعودي ـ:

.. من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر ـ ثم ذكر الرسول (ص) والثناء عليه.. ـ وبعثه رسولاً ومبشراً ونذيراً، فكان أول منجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب: صدقه بالغيب المكتوم وأثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول وحارب حربه وسالم سلمه.. لا نظير له.. اتبعه، ولا مقار له في فعله،

الصفحة 180
وقد رايتك تساميه وأنت أنت، وهو هو، أصدق الناس نية، وأفضل الناس ذرية، وخير الناس زوجة.. وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله (ص) الغواية وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال، وتؤلبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك، وعليه خلفته..

ـ ثم ذكر أنصار علي وأتباعه وقال: يرون الحق في أتباعه، والشقاء في خلافه، فكيف يا لك الوي!، تعدل أو تقرن نفسك بعلي وهو وارث رسول الله (ص) ووصيه وأبو ولده: أول الناس أتباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسره، ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهن ثم يتبين لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي آمنت كيده ويئست من روح، فهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى(1).

رسالة معاوية في الرد على محمد بن أبي بكر ـ باختصار ـ:

(من معاوية بن يخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر.. ـ يتحدث عن رسالة محمد بن أبي بكر قائلاً:

ذكرت فيه ابن أبي طالب، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول الله (ص)، مواساته إياه في كل هول فكان احتجاجك علي وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده وأتم له ما

____________

1- مروج الذهب ـ للمسعودي ـ ج3 ص20 ، تحقيق محمد محي الدين، دار المعرفة بيروت.


الصفحة 181
وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه، فكان أبوك وفاروقه أولمن ابتزه حقه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفاقاً واتساقاً، ثم إنهما دعوه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادا به العظيم، ثم إنه بايعهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله. أبوك مهد مهاده وبنى لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خلافنا ابن أبن طالب، وسلمنا إليه، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك. والسلام على من أناب)(1).

فقد عرفت بذلك السر الذي منع الطبري وابن الأثير وابن كثير من نقل هذه لأنها تكف واقع الصراع والخلاف الذي حدث بين المسلمين في أمر الخلافة، التي هي حق لعل، فهذا معاوية يعترف بذلك ولكنه يعتذر بأن خلافته هي امتداد لخلافة أبي بكر، ويشنع بذلك على ابنه (محمد بن أبي بكر) حتى يسكته عن الكلام في هذا الأمر.

.. ولكن لا عليك يا معاوية فإن لم يسكت محمد بن أبي بكر ولم يستر أمرك فقد سكت عنها الطبري وابن الأثير وابن كثير.

والشواهد على ذلك كثيرة من تزييف المؤرخين وتحريفهم للحقائق، يطول بنا المجال باستقصائها، والمتبع في التاريخ يجد ذلك جلياً، ومن العجب أن المؤرخين لا يسترون ما فعلون من التحريفات، فتجد إشارة واضحة على ما فعلوه، فمثلاً فيما حدث لأبي ذر من إهانات جرت له من سوء معاملة عثمان له، ففي هذا يقول الطبري: فقد ذكر في سبب إشخاصه ـ أي أبي ذر ـ إياه منها أ أي من الشام ـ أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها)!

وبهذه الصورة الواضحة نكتشف تحريف الطبري للحقيقة.

____________

1- المصدر السابق ص21.


الصفحة 182

الصفحة 183

ثانياً: المُحدِّثون

عندما تقف أمام المؤامرات التي حيكت في الحديث، وتبديل حقائقه، تشعر بضرورة نظرية الشيعة، أي لا بد من حاكم وإمام معصوم نزيهاً فسوف يُسخّر الدين لخدمة الدين وأهدافه وسياساته ويحرف الحديث لمصلحته، هذا إذا لم يحاربه ويمنع من كتابته ونشره، كما مر عليك من فعل الخلفاء الثلاثة ـ أبي بكر، عمر، عثمان ـ الذين منعوا من رواية الحديث واحرقوا ما عند المسلمين وحبسوا الصحابة بالمدينة حتى لا ينشروا الحديث في المناطق الأخرى، وقال الإمام علي (ع) في ذلك: (قد عملت الولاة قبلي أعملاً خالفوا فيها رسول الله متعمدين بخلافه، ناقضين لعهده، مغيرين لسنته..).

وأنا لن أتناول هذه الفترة في هذا الفصلين، وسأكتفي بالإشارات السابقة، وإنما سوف أتناول هنا عهد تدوين الحديث الذي يعتبر عند أهل السنة العصر الذهبي للحديث، مع الإشارة لما فعله معاوية من وضع الأحادي وكتم فضائل أهل البيت.

  الحديث في عهد معاوية:

ويمكن أن نطوي فترة معاوية بما نقله المدائني في كتاب الأحداث، يقول: (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة(1) أن: (برئت

____________

1- هو العام الذي جمع فيه معاوية شيعته سنة 42هـ وسماهم أهل السنة والجماعة بذلك اشتهر بعام الجماعة.


الصفحة 184
الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب ـ أي الإمام علي (ع) ـ وأهل بيته)، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته. وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة علي (ع)، فاستعمل عليهم زياد بن سميه، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع)، فقلتهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وكتب إليهم، أن أنظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائه ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا غلي بكل ما يروي رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إيهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطايع، ويعظمهم في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فلبس يجيء أحد مرود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً).

ويضيف المدائي بقول: (ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي واقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله).


الصفحة 185
ثم يواصل قوله: (فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجري حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقى على معلمي الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم، وخدمهم، وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله).

ويضيف: (ثم كتاب إلى عماله نسخة إلى جميع البلدان: انظرا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي (ع) ليأتيه من يثقبه، فيدخل بيته، فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه مملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الإيمان الغليظة، ليكتمن عليهم، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاء والولاة. وكان أعظم الناس في ذلك بلية، القراء المرأؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقدروا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين، الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها)(1).

ويتضح لك من ذلك شدة المؤامرة التي حيكت لتزييف الحقائق إلى درجة أنهم أحلو الكذب على رسول الله (ص)، وكل هذا يرجع للعداء الشديد الذي يحمله معاوية لعلي وشيعته، ولذلك جند معاوية كل إمكانياته

____________

1- تأملات في الصحيحين ص 42ـ44.


الصفحة 186
للوقوف في وجه علي وشيعته، فكانت أول خطوة هي تعرية الإمام (ع) من كل فضيلة ومنقبة بل لعنه على المنابر لمدة ثماني عاماً. والثانية هي تشكيل سياج ذي مظهر ميل خلاب حول مجموعة من الصحابة حتى يكنوا رموزاً بدلاً من الإمام علي (ع)، فتحت تهديدات معاوية وإغراءاته انجرف لخدمته مجموعة من المنافقين يضعون الأحاديث كذباً على رسول الله (ص) تحت ستار أنهم صحابة رسول الله (ص).

قال أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه ـ منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبه، ومن التابعين عروة بن الزبير)(1).

فهكذا باع هؤلاء القوم آخرتهم بدنيا معاوية، فهذا هو أبو هريرة كما يروي ال'مش. قال: لما قدم أبو هرية العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس، حثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار؟! والله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: عن لكل نبي حرماً وإن حرمي بالمدينة ما بين عير على ثور(2)، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، واشهد بالله أن علياً أحدث فيها. فلما بلغ معاوية قوله أجازه، وأكرمه، وولاه المدينة(3).

____________

1- أبو هريرة ـ محمود أبو ريه ـ ص 236.

2- قال ابن أبي الحديد في شرحه: الظاهر أنه لغط من الراوي، لأن ثور بمكة .. والصواب ما بين عير واحد.

3- أحاديث أم المؤمنين عائشة ص 399.


الصفحة 187
وإليك سَمُرَةَ بن جندب نموذجاً آخر من عمال معاوية في وضع الأحاديث. جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد: روى أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشه الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)(1). أن الآية الثانية نزلت على ابن ملجم ـ قاتل علي بن أبي طالب ـ وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)(2). فلم يقبل ـ أي سمرة ـ فبذل ـ أي معاوية ـ له مائتي ألف رهم فلم يقبل أيضاً. فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل)(3).

روى الطبري: سُئل ابن سيرين، هل كان سمرة قتل أحداً؟! فقال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب؟! استخلفه زياد على البصرة، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس. وروى أنه قتل في غداة واحدة سبعاً وأربعين كلهم قد جمعوا القرآن(4).

فيا تُرى هل يكون هؤلاء المقتولين غير شيعة علي (ع)؟!

وقال ـ أي الطبري ـ: مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب، فأغره معاوية أشهراً، ثم عزله فقال سمرة: لعن الله معاوية، والله لن أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا(5).

____________

1- سورة البقرة: 204.

2- البقرة: 207.

3- أحاديث أم المؤمنين ص 400.

4- في حوادث سنة خمسين من تاريخ الطبري ج6 ص 132، وابن الاثير ج2 ص193.

5- في حوادث 52 من تاريخ الطبري ج 6 ص 164، وإبن الأثير ج 3 ص 195.


الصفحة 188
أما المغيرة بن شعبة فقد صرح بهذه الضغوط اتي سلطها عليه معاوية.

روى الطبري عنه: (أن المغيرة بن شعبه قال لصعصعة بن صوحان العبدي ـ وكان المغيرة يومذاك أميراً على الكوفة من قبل معاوية ـ: إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس، وإياك أن يبلغني عنك أنك تذكر شيئاً من فضل علي علانية فإنك لست بذاكر من فضل علي شيئاص أجهله. بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان ـ يقصد معاوية ـ قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه ـ أي علي ـ للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنابه، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية، فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك، وفي منازلكم سراً، وأما علانية في المسجد، فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا ولا يعذرنا فيه..)(1).

وهكذا استجاب لمعاوية جمع من الصحابة والتابعين، ومن رفض قتل، كالشهيد حجر بن عدي وميثم التمار وآخرين.

وبهذا ظهرت في تلك الفترة آلاف من الأحاديث المكذوبة التي تنسج فضائل وبطولات للصحابة وخاصة للخلفاء الثلاثة ـ أبي بكر، وعمر، وعثمانـ ثم تناقل هذه الأحاديث جيل بعد جيل حتى دونت في المصادر المعتمدة.

وإليك بعض النماذج من الأحاديث المكذوبة، ومن أراد التوسع فليرجع إلى موسوعة الغدير للعلامة الأميني ج7، 8، 9.

1ـ الشمس تتوسل بأبي بكر:

قال النبي (ص): (عُرض عليَّ كل شيء ليلة المعراج حتى الشمس فإني سلمت عليها وسألتها عن كسوفها فأنطقها الله

____________

1- تاريخ الطبري ج6 ص108 في ذكر حوادث سنة 43 هـ.


الصفحة 189
تعالى وقالت: لقد جعلني الله تعالى على عجلة تجري حيث يريد فانظر إلى نفسي بعين العجب فتنزل بي العجلة فأقع في البحر فأرى شخصين أحدهما يقول: أحد، أحد، والآخر يقول: صدق صدق. فأتوسل بهما إلى الله تعالى فينقذني من الكسوف، فأقول يا رب من هما؟! فيقول: الذي يقول أحد، أحد هو حبيبي محمد (ص)، والذي يقول صدق، صدق هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه(1).

2ـ أبو بكر في قاب قوسين:

بلغنا أن النبي (ص) لما كان قاب قوسين أو أدنى أخذته وحشة فسمع في حضرة الله تعالى صوت أبي بكر رضي الله عنه، فاطمأن قلبه واستأنس بصوت صاحبه(2).

3ـ أبو بكر ألف القرآن:

ما نزل في أبي بكر من القرآن كثير، نكتفي بألف القرآن: (آلم، ذلك الكتاب) فالألف: أبو بكر، واللام الله، والميم محمد(3).

ولم يتركوا فضيلة عمر فحدث ولا حرج، ونذكر منها ما كان له من ولاية تكوينية، وقد قال الرازي في تفسيره: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض، وقال: اسكني بإذن الله، فسكنت وما حدثت الزلزلة في المدينة بعد ذلك!.

____________

1- الغدير ج7 ص 288، نقلاً عن نزهة المجالس، ج2 ص184.

2- الغدير ج7 ص 293 نقلاً عن العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص 154، وقال: هذه كرامة للصديق انفرد بها وحده.

3- الغدير ج7، نقلاً عن عمدة التحقيق، العبيدي المالكي ص134.


الصفحة 190
ونقل أيضاً: وقعت النار في بعض دور المدينة، فكتب عمر على خرقة: يا نار اسكني بإذن الله، فألقوها في النار فانطفأت في الحال.

ب ـ رواة الحديث وتدليس الحقائق:

وهنا فنون كثيرة ومتعددة لتزييف الحقائق وتحويرها عند كتاب الأحاديث، فطابع التعصب واضح في كتبهم، فحينما يتعرضون لأحاديث تتضمن فضيلة لعلي (ع) أو تمس وتكشف منقصة عند الخلفاء والصحابة، تمتد إليها أياديهم لتقلب حقيقتها، وإليك نماذج من هذه الفنون حتى تقف على الدور الخطير الذي لعبه المحدثون في تزوير الحقائق.

1ـ النموذج الأول:

لما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أشد المعارضين لبيعة يزيد. خطب مروان في مسجد الرسول (ص) وكان والياً على الحجاز من قبل معاوية فقال: إن أمير المؤمنين قد اختاركم، قلم يأل، وقد استخلف لابنه يزيد بعده، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: كذبت والله يا مروا! وكذب معاوية، ما الخيار أردتماه لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلمات مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل اله فيه والذي قال لوالديه (أف لكما) الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب، فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان، يا مروان!ـ فأنصت الناس، وأقبل مروان بوجهه ـ، فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن، كذبت والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان، ولكنه فضض من لعنه الله. وفي رواية، فقالت: كذب والله ما هو به.


الصفحة 191
ولكن رسول الله (ص) لعن أبا مروان، ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله عز وجل(1).

ثم تعال وانظر كيف حرّف البخاري ما يشين بمعاوية ومروان:

(كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر (شيئاً) فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله في (والذي قال لوالديه أف لكما) أتعذر؟! فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فيه شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري)(2).

فحذف قول عبد الرحمن وأبدله بقول: (قال (شيئاً) كما أبدل قول عائشة، كل هذا محافظة على صورة معاوية ومروان. وقد أورد هذه الحادثة ابن حجر في تفح الباري مفصلاً، فانظر إلى أي مدى بلغت النزاهة بالبخاري في نقل الحقائق.

2ـ النموذج الثاني:

حذف البخاري فتوى عمر بعدم الصلاة.

روى مسلم عن شعبه قال: حدثني الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه: أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. فقال: لا تصلي.

فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي

____________

1- تاريخ ابن الاثير ج3 ص149 في ذكر حوادث سنة 56 هـ.

2- البخاري ج3 ص126 باب، والذي قال لوالديه من تفسير سورة الأحقاف.


الصفحة 192
(ص) إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك!.

فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به(1).

بما أن الحديث ظاهر في جهل عمر بأبسط الأحكام الشرعية الضرورية التي يعرفها كل مسلم (التيمم) والتي صرح بها القرآن وعلمهم رسول الله (ص) كيفيتها، ورغم ذلك يفتي عمر بعدم الصلاة، مما يدل على جهله أولاً، ويدل على عدم اهتمامه بالصلاة، بل عدم الصلاة في حالة كونه جنباً كما صرحت الرواية.

وأذكر في هذا المقام أن أحد الأصدقاء كان يناقشني في علم عمر، فقال لي: إن عمر كان يوافق القرآن قبل نزوله.

قلت له: هذه مجرد أخبار لا تمت إلى الواقع بصلة، وإلا كيف يوافقه قبل نزوله وهو لم يوافق القرآن بعد أن نزل في حادثة التميم وتحديد مهور النساء. وقد كان هذا الحديث أعنف صدمة لاقتني في بحثي عن شخصية عمر، لأنه يكشف تماماً عن وزنه العلمي والديني، ومما زاد استغرابي هو إصرار عمر على جهله بعد أن أخبره عمار بالحكم الشرعي في المسألة.

ثم انظر إلى البخاري الذي لم يرق له أن يروي هذه الفتوى التي لم يفتها حتى جهلاء السوق، فأخرج في صحيحه بنفس السند وبنفس المتن غير أنه أسقط الفتوى.

(جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني اجنبت فلم أصب الماء.

فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر..)(2).

____________

1- صحيح مسلم باب التيمم ج 1.

2- صحيح البخاري ج1 كتاب التيمم، باب التيمم، هل ينفخ فيها.


الصفحة 193

3ـ النموذج الثالث:

أخرج ابن حجر في فتح الباري في شرح صحح البخاري ج17 ص31 حديث: (إن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: (وفاكهة وأباً) ما الأب؟!

قال عمر: (نهينا عن التعمق والتكلف).

قال ابن حجر: أنه جاء في رواية أخرى عن ثابت عن أنس أن عمر قرأ: (وفاكهة وأبّاً) فقال ما الأب؟!، ثم قال: (ما كُلفنا) أو قال: (ما أمرنا بهذا).

ثم انظر ماذا فعل التعصب بالبخاري فهو يعمل قصارى جهد لينزه عمر والخلفاء من كل ما يلصق بهم فكيف يا ترى يروي هذا الحديث وهو يثبت جهل عمر بالقرآن، لأن ما سأل عنه في غاية البساطة لمن عرف القرآن وأسلوبه، واحتجاج عمر بعدم التكلف لا وجه له لأنه ليس مورداً من موارد التكلف، فالعذر أقبح من الذنب، وعندما سئل الإمام علي (ع) نفس هذا السؤال، قال الجواب في نفس الآية (فاكهة وأباً، متاعاً لكم ولأنعامكم) الفاكهة متاع لنا والاباء متا للأنعام، وهو نوع من العشب.

قال البخاري في صحيحه عن ثابت عن أنس قال: (كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف)(1).

إن هذا الحديث كغيره من عشرات الأحاديث التي كانت لا تنسجم مع معتقدات البخاري فاعتمد هذه الطريقة من إسقاط وتبديل وحذف للخبر كالماص، كما فعل بحديث الثقلين (كتاب الله وعترتي..) الذي أخرجه مسلم والحاكم على شرطه، وغيره من الأحاديث الصحيحة التي لم يستطع

____________

1- صحيح البخاري ج9 كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعلم.


الصفحة 194
البخاري توجيهها وتحريفها، فتجنب تدوينها في كتابه، وهذا هو السبب الأساسي الذي جعل صحيح البخاري لدى الحكام أصح كتاب بعد كتاب الله ولا أعرف له سبباً غير هذا.

4ـ النموذج الرابع:

وإليك هذه الحادثة التي يظهر لك من خلالها إلى أي مدى يتعمد البخاري تحريف الحقائق، فقد روى علماء السنة وحفاظهم مثل الترمذي في صحيه، والحاكم في مستدركه وأحمد بن حنبل في مسنده، والنسائي في خصائصه والطبي في تفسيه، وجلال الدين السيوطي في تفسيره (الدر المنثور)، والمتقي الهندي في كنز العمال، وابن الاثير في تاريخه وغيرهم كثيرون، رووا:

(أن رسول الله (ص) بعث أبا بكر رضي الله عنه وأمره بأن ينادي بهذه الكلمات وهي براءة من الله ورسوله..)، ثم أتبعهم علياً (ع) وأمره بأن ينادي بها هو. فقام علي (ع) في أيام التشريق فنادى: إن الله برئ من المشركين ورسوله، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان) ورجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: لا ولكن جبرائيل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك).

وهنا وقع البخاري في معضلة، فهذه الرواية تخالف تماماً مذهبه وعقيدته. فهي تثبت فضيلة لعلي (ع) وما أعظمها من فضيلة، وفي المقابل تنتقص أو لا تثبت شيئاً لأبي بكر، فكيف له أن يحور هذه الرواية إلى مصلحته وعقيدته، فيثبت بها منقبة لأبي بكر ولا شيء لعلي.

تعالوا، لكي تنظروا، كيف خرج البخاري بذكائه من هذه المخمصة.