فيكشف عن الساق.
صحيح البخاري ج6، تفسير سورة النساء ـ ج9 كتاب التوحيد.
صحيح مسلم ج1، باب معرفة طريق الرؤية.
ـ عن جرير بن عبد الله، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم عياناً.
صحيح البخاري ج9 كتاب التوحيد، قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
... وغيرها من عشرات الأحاديث التي وردت في الصحاح، يقول ابن حجر حول أحاديث الرؤية: (جمع الدار قطني الأحاديث الواردة في رؤيته تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدار قطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية صحاح(1).
وبهذه الأحاديث التي زعموا صحتها بنوا اعتقادهم برؤية الله تعالى يوم القيامة حتى تطرف إمام الحنابلة وكفّر كل من يخالف هذا الاعتقاد، ولم يقفوا عند هذا الحد بل جوزوا إمكانية رؤيته في الدنيا.
قال الاسفرائيني: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال، ولكل حي من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر(2).
بل قالوا بوقوع رؤيته في المنام، وادعوا ــ كذباً وزوراً ــ أن أول من رأى ربه في المنام رسول الله (ص) وقد تقدم ذكر الخبر.
____________
1- فتح الباري، في شرح صحيح البخاري ج13 ص371.
2- الفرقُ بين الفِرق ص5.
فقال: كلامي يا أحمد.
فقلت: يا رب، بفهم أو بغير فهم؟
قال: بفهم أو بغير فهم(1).
ويدعي الألوسي في تفسيره روح المعاني رؤية الله ثلاث مرات: (فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناماً ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة رأيته جل شأنه له من النور ماله، متوجهاً جهة المشرق، فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلفة ألوانه فأمة سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما، فرأيت ما رأين ولله تعالى الفضل والمنة(2).
هذا ملخص عقيدتهم في رؤية الله سبحانه،... وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
.. وما قدروا الله حق قدره.
ومن الواضح أن هذا الاعتقاد يستلزم مما لا شك فيه وبأدنى تفكر الآتي:
____________
1- طبقات الشعراني ج1ص44 وعن ابن الجوزي في مناقب أحمد ص343، نور الأبصار للشبلنجي ص225.
2- تفسير روح المعاني ج9 ص52 ـ دار إحياء التراث العربي بيروت ط1985 م.
ـ ويستلزم أيضاً أن الله يتغير ويتشكل بصور مختلفة (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون).. والطريقة التي يعرفونه بها هي (الساق) فله ـ سبحانه ـ ساق تكشف وتغطى..!!
وهذه العقائد التي تستلزم الكفر صراحة هي ناج طبيعي للأحاديث الإسرائيلية التي سلم بها إخواننا أهل السنة لورودها في البخاري ومسلم، فقد استهما مقدمة على قداسة الله وتنزيهه، وإلا لولا هذه الأحاديث لما ذهب عقل سليم لهذا القول.
ولذلك تجد أهل البيت عليهم السلام وقفوا في وجه هذه العقيدة وكل العقائد التي تودي إلى التجسيم والتشبيه، وكذبوا تلك الأحاديث التي دسها كعب الأحبار اليهودي، ووهب بن منبه اليماني اللذان روجا فكرة التجسيم والرؤية كثيراً. وهذه العقيدة قد حفلت بها كتب أهل الكتاب وهي بعيدة كل البعد عن المعارف القرآنية.
وخلاصة القول: إن هذه الأحاديث مهما كثرت لا قيمة لها في أصول العقائد تعد حكم العقل، وإذا تنازلن وسلمنا بدخولها في مجال تقسيم الأفكار العقائدية فيقابلها كم هائل متضافر متواتر وارد عن أهل البيت (ع) تنفي التجسيم ولوازمه والرؤية وكل ألوان الإحاطة بالله تعالى.
نماذج من أحاديث أهل البيت في نفي الرؤية:
دخل المحدث أبو قرة على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد، فقال أبو قرة:
إنا روينا أن الله عز وجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية:
فقال أبو الحسن (ع): فمن المبلغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجن والإنس (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (و لا يحيطون به علماً) (وليس كمثله شيء).. أليس محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: بلى.
قال (ع): فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (ولا يحيطون به علماً) (وليس كمثله شيء)، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر.
... أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر!!
قال أبو قرة: فإنه يقول (و لقد رآه نزلة أخرى).
فقال أبو الحسن (ع): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) يقول: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)... فآيات الله عز وجل غير لله، وقد قال: (و لا يحيطون به علماً) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات.
فقال أبو الحسن (ع): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت بها.
ــ حضر أبو عبد الله بن سنان عند الإمام أبي جعفر عليه السلام، فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟
قال (ع): الله.
قال: رأيته.
قال (ع): لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو.
... قال أبو عبد الله بن سنان: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(2).
ــ كتب أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام يسأله عن الرؤية وما فيه الناس، فكتب عليه السلام:
(لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء وعدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي من ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان في ذلك التشبيه، لان الأسباب لابد من اتصالها بالمسببات)(3).
ــ كتب محمد بن عبيدة إلى الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة، فكتب عليه السلام بخطه:
____________
1- التوحيد للصدوق ص 112 حديث رقم9.
2- المصدر السابق ص109 حديث رقم1.
3- المصدر السابق ص 108 حديث رقم 5.
أدلة الأشاعرة عقلياً على جواز الرؤية ومناقشتها:
آـ عدم الممانعة العقلية في إمكان الرؤية البصرية، لأن هذا الإمكان لا يقتضي إثبات محذور أو محال عقلي على الله تعالى:
1ـ فليس في جواز الرؤية إثبات حدوثه، لأن المرئي لا يكون مرئياً لأنه محدث وإلا لكان من اللازم أن يرى كل محدث.
2ـ وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى في المرئي، لأن الألوان مرئيات ولا يجوز حدوث معنى فيها لأنها أعراض.
3ـ وليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه الباري تعالى، ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته، لأنا السواد والبياض فلا يتجانسان ولا يشتبهان بوقوع الرؤية عليهما.
... ونلاحظ على هذا الادعاء الآتي:
ـ ولنا أن نقول على الأول، صحيح أن الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية، بل لا بد من انضمام شروط أ أخر، كالمسافة المناسبة والكثافة التي
____________
1- المصدر السابق حديث رقم 8.
ونقول عن الثاني (وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى...): إن المعنى يحدث باتصال الضوء والمقابلة، وإن لم يكن اتصال ضوء ولا مقابلة لم تكن رؤية بصرية.
ونقول عن الثالث: إنها مجرد دعوى كسوابقها فالتشبيه متحقق لا مفر منه فإن حقيقية الرؤية قائمة بالمقابلة، والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان، وليس أظهر من هكذا تشبيه، حيث الجهة والجسمية، وتعالى ليس كمثله شيء.
ب ـ يقول الباقلاني: (والحجة على ذلك أنه تعالى موجود: والشيء إنما يصح أن يرى من حيث كان موجوداً إذا كان لا يرى لجنسه، لأنا لا نرى الأجناس المختلفة ولا يرى لحدوثه إذا أنا نرى الشيء في حال لا يصح أن يحدث فيها، ولا لحدوث معنى فيه إذا قد ترى الأعراض التي لا تحدث المعاني)(1).
وبتقرير آخر: (إننا ما دمنا نرى الأعراض فإننا نرى الجواهر بالضرورة)(2).
(إن الرؤية مشتركة بين الجواهر والأعراض، ولا بد للرؤية المشتركة من علة واحدة وهي: إما الوجود أو الحدوث، والحدوث لا يصح للعلية لأنه أمر عدمي، فتعين الوجود.. فنتج أن صحة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن)(3).
____________
1- د. عبد الرحمن البدوي، مذاهب الإسلاميين ج1 ص316.
2- د. حسن حنفي (من العقيدة إلى الثورة) ج2 ص253.
3- الملل والنحل للسبحاني ج2 ص200.
ولذا اعترض عليه كثير من الأشاعرة أنفسهم كشارح المواقف، والتفتازاني في شرح المطالع، وكذا القوشجي في شرح التجريد(1).
ومع أن لفظ (الوجود) أصح من (الحدوث) في جعله من شرائط الرؤية إلا أن مقولة كل موجود تجوز رؤيته غير صحيحة بإطلاقها، وحتى تصح لا بد أن تقيد بسائر شروط الرؤية، وهذه الشروط لا تنسجم إلا مع الموجودات المخلوقة أما بشأن الرب تعالى فلا يمكن المقايسة بين الخلق والخالق (ليس كمثله شيء) ولا يخفى أن إجراء القوانين الطبيعية على الرب تعالى هي عين التشبيه والجهل.
وبهذه الأدلة المتساقطة التي زعموا أنها عقلية أثبتوا الرؤية لله سبحانه وتعالى، والله بريء مما يقولون.
أدلة الأشاعرة على الرؤية من القرآن ومناقشتهما:
آ ـ قال تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة - وتذرون الآخرة - وجوه يومئذ ناضرة -إلى ربها ناظرة -ووجوه يومئذ باسرة -تظن أن يفعل بها فاقرة) القيامة 20ـ25 وقد ميز الأشعري بين معنى كلمة (النظر)، بمعنى الاعتبار (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) الغاشية 17، وبمعنى الانتظار (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) يس 49 وبمعنى الرحمة (لا ينظر الله إليهم) آل عمران 11، وبمعنى الرؤية.
____________
1- دلائل الصدق للمظفر ج2 ص184.
واستدل أيضاً بأن النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار لأن الانتظار معه تنقيص وتكدير وذلك لا يكون يوم القيامة، لأن الجنة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب(1).
ويلاحظ عليه:
1ـ أما قوله كلمة النظر إذا كانت بمعنى الرؤية تعدت بالحرف إلى وإذا كانت بمعنى الانتظار تعدى بنفسها، يجاب بأن (ناظرة) اسم فاعل، وهو في عمله فرع الفعل، والفرعية تسبب ضعف العامل فيفتقر إلى ما يقويه، كما أن المعمول هنا مقدم، والتقديم سبب آخر لضعف العامل ومن هنا عدي ب (إلى).
كما أن تعديته ب (إلى) مستعملة في كلام العرب، كما في قول جميل بن معمر:
____________
1- الملل والنحل، للشهر ستاني ج2 ص203
وإذا نظرت إليك من ملك | والبحر دونك زدتني نعما |
أي: وإذا انتظرتك.
وقال حسان بن ثابت:
وجوه يوم بدر ناظرات | إلى الرحمن يأتي بالفلاح |
أي: منتظرات.. وهو كثير الاستعمال.
وقد عدى القرآن الكريم اسم الفاعل (ناظرة) بالباء في قوله تعالى:
(فناظرة بم يرجع المسلمون) النمل.
ومعنى هذا الكلام أن (ناظرة) تتعدى بنفسها وبالحرف.
2ـ أما أن الانتظار فيه تنقيص، ولا يناسب أهل الجنة..نتساءل، من أين عرف أن الآيات تتحدث عن الجنة؟
بل هي ظاهر في الموقف -الحساب -بدلالة السياق (تظن أن يفعل بها فاقرة) فالآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم إلى مستقرهم ومأواهم، لأنهم إن دخلوا النار فقد فعل بهم الفاقرة يقيناً.
فمعنى الانتظار، وارد جداً، ولا سيما أنه استعمال حقيقي في لسان العرب فلا يحق للأشعري أن يصادر هذا المعنى فإذا قلنا (النظر) بمعنى الانتظار، فذلك ينفي الرؤية الحسية لله سبحانه، وإذا قلنا أن (النظر) بمعنى الرؤية فيكون المراد منه الاستعمال المجازي، وقد قرر هذا الاستخدام الشيخ السبحاني، وذلك بتقدير حذف مضاف (إلى ثواب ربها ناظرة) ويبرر هذا التقدير حكم العقل بعد المقابلة بين الآيات، فالآية الثالثة تقابل الآية الأولى، والآية الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:
آـ (وجوه يومئذ ناضرة) يقابلها قوله (وجوه يومئذ باسرة).
وبما أن الآية الرابعة (تظن أن يفعل بها فاقرة) واضحة المعنى تكون قرينة على المراد من الآية الثانية (إلى ربها ناظرة)
فإذا كان المقصود من الآية الرابعة أن الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها، يكون ذلك قرينة على أن الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته متوقعة لفضله وكرمه، لا النظر لذاته وهويته سبحانه وإلا لخرج المتقابلان عن التقابل وهو خلف.
(يجب أن يكون المتقابلان -بحكم التقابل -متحدي المعنى والمفهوم ولا يكونان مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات)(1).
وبهذه المقابلة تكون الآية واضحة الدلالة غير متشابهة، ولا سيما أن الآيات الشريفة تتحدث عن المواقف، فما غير الثواب والرحمة يرتجى.
وإلى هذا تشير جملة من الأخبار مثل ما ورد في توحيد الصدوق عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى (وجوهٌ يومئذٍ ناظرة إلى ربها ناظرة) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها(2).
وبهذا عرفنا أن رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته خارج عن إطار هذه الآية بكلا الاحتمالين، فسواء كان المعنى من (ناظرة) الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية، وإذا كان بمعنى الرؤية فهي كناية عن النظر إلى رحمة الله، مثلاً يقال: فلان ينظر إلى يد فلان. وهذا سائد في التعبيرات العرفية، وعلى هذا قول الشاعر:
إني إليك لما وعدت لناظرٌ | نظر الفقير إلى الغني الموسر |
____________
1- الملل والنحل، للسبحاني ج2 ص205 0
2- التوحيد للصدوق ص 116.