الإهداء
إلى كلّ باحث عَن الحقيقة....
أهدي هذا الكتاب
المؤلّفِ:
باحث عن الحقيقة، جاهد في سبيل الوصول إليها جهاداً مريراً حتى هداه الله إلى سواء السبيل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
ولد في قرية دير الغصون في الضفة الغربية بفلسطين المحتلة. أنهى دراسته الثانوية ثم سافر إلى الأردن فحصل على دبلوم في المهن الهندسية. ثم سافر إلى الفليبين فحصل على البكالوريوس في الهندسة المدنية ثم الماجستير في إدارة الإنشـاءات Construction Mangement وهو على وشك الحصول على شهادة الدكتوراه في الإدارة الحكومية بعد إنجاز بحثه:
Islamic Puplic Administration.
المقدمة
كم هو مؤسف حال المسلمين في أيامنا وقد تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الآكلة على قصعتها، بعد أن نجح الاستعمار في بث الفتنة والتفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وتوسيع هوة الخلاف بينهم تحقيقاً لأغراضه الخبيثة، والتي لا تتحقق إلاّ بضرب المسلمين بعضهم ببعض.
وقد صعب على أعداء الإسلام، أن يروا تنامي الصحوة المباركة في نفوس أبناء أمتنا الإسلامية، والسعي لتحكيم القرآن والسنة في بلداننا، لا سيما بعد نجاح إحدى هذه المحاولات والتي أحدثت صدمة هائلة للاستكبار العالمي الذي ما انفك يحاول القضاء عليها بشتّى الوسائل والسبل، فأخذ يثير في السنوات الأخيرة ما كان دفيناً طوال مئات السنين الماضية من الخلافات الطائفية والتعصبات المذهبية بين أهل السنة والشيعة، وقد أوكلت هذه المهمة لعملاء
وقد تعرّضت ـ كغيري من المسلمين ـ لهذه الحملة، والتي كانت تقوم بها بعض الحركات وكأنّ مهمتها فقط هو حماية أهل السنة من الخطر الشيعي، وتوعيتهم بعقائد هذه الطائفة التي على حدّ قولهم تنبع من اليهودية والمجوسية. وقد استنكرت في البداية هذه الحملة نظراً للطريقة البعيدة عن الأدب والموضوعية التي يصفون بها حقيقة الشيعة، والتي كنت الاُحظ أنها تتسم أيضاً بالمبالغة والتهويل في أغلب الأحيان.
فالبرغم من أنّني ولدت لأبوين سنّيين في فلسطين، والتي غالبية سكانها الساحقة من أهل السنة والجماعة، وبالرغم مما كنت أعتقده بأنّ طائفة أهل السنة والجماعة هي الطائفة الصحيحة، إلاّ
فكل ما كنت أعلمه بشأنهم، هو رفعهم من منزلة علي، وتفضيلهم له على باقي الصحابة دون أن أعرف سبباً لذلك وهي غير المنزلة التي يعتقدها معظم أهل السنة باستحقاقه لها، والتي لا تتعدى كونه رابع الخلفاء الراشدين فهو صحابي يساوونه بمنزلة باقي الصحابة بمن فيهم معاوية وعمرو بن العاص، إلاّ أن هذه المبالغة بمنزلة علي لم تكن بنظري لتخرجهم من دائر الإسلام، وهذا بالرغم أيضاً من أنّه كانت تتردد أقاويل عندنا بأنّ الشيعة يفضلون علياً على خاتم الأنبياء، واعتقادهم بخطأ جبريل في تنزيل الرسالة بل تأليههم له في بعض الأحيان، وإنّ عندهم قرآناً غير قرآننا وغير ذلك. إلاّ أنني لم أكن ألقي لذلك بالاً، حيث أنّني لا أنسى ما حييت ما قاله مرة أستاذي في موضوع التربية الإسلامية في المدرسة الثانوية: (إنّ الشيعة طوائف متعددة منها ما كان يؤلّه علياً فعلاً، ولكن الطائفة الإمامية الإثني عشرية ـ أو كما تسمى بالجعفرية ـ هي أقرب الطوائف إلى أهل السنة، وأتباعها مسلمون) وبما أنّ هذه الكلمات كانت صادرة ممن أعتقد بصلاحه وتقواه وسعة علمه واطلاعه، وكذلك اعتداله وموضوعيته بنقد الآخرين من أصحاب المبادىء والنظريات المخالفة للإسلام أو لمذهبه السني، فإنّ هذه الكلمات ظلت ترنّ في أذني على مر الأيام والسنوات، وهذا فضلاً عن تأثري أيضاً بأحد
وقد تزامن سفري إلى بلاد الغربة لتكملة دراستي الجامعية في منتصف الثمانينات، مع اشتداد سعير هذه الفتنة وتزايد ارتفاع الأصوات المحذرة من العقيدة الشيعية، والتي كانت غالباً مصحوبة بالطعن بالثورة الإسلامية في إيران وبشخص قائدها والذي كنت أعتقد بأنّه المستهدف الحقيقي من كل تلك الحملة، وكنت أحياناً كثيرة أجد نفسي معرضاً للنقد لا لشيء إلاّ لعدم اعتقادي بكفر الشيعة، وكلما كنت أحاول أن أدافع فإنّ الهجوم التالي كان يأتي أشدّ من سابقه، حتى أن أحدهم قال لي مرة بأنه يجب علي أن اختار طريقاً واحداً وأحدد مذهبي بوضوح، فلا يجوز أن أكون سنياً ومتعاطفاً مع الشيعة ومؤيداً للثورة الاسلامية في إيران في نفس الوقت، لأن هذه المسألة على حد رأيه مسألة (عقيدة!) لا يمكن التساهل فيها، ولا أخفي بأنه كانت تواجهني بعض اللحظات الصعبة والمحرجة لعدم معرفتي بتفاصيل المذهب الشيعي، فكنت لا أدري ما أجيب به على ادعاء البعض بأنّ ما عند الشيعة من عقائد مثل الإمامة والعصمة والتقية وتكفير الصحابة، فإنّها تخرجهم من الملة، حتى بدأ الشك يداخلني فعلاً حول حقيقة الشيعة، وتولد عندي اهتمام كبير بالاطلاع على هذه (العقائد)، وهكذا فقد وجدت نفسي مدفوعاً إلى
ولم يبق أمامي سوى تقصّي الحقيقة من كتب الشيعة، ولكن هذا الخيار كنت أستبعده كلياً في البداية، لأنني كنت أعتقد بأنّ الشيعة في مؤلفاتهم سيستدلون على ما هم عليه من اعتقاد من خلال أحاديثهم وطرقهم الخاصة بهم، والتي بالطبع لا تعتبر حجة عندنا. إلاّ أنّني حصلت لاحقاً على كتاب يسمى "المراجعات" من صديق لي تعرفت عليه حينها، وكان لحسن الحظ مهتماً مثلي بالبحث عن حقيقة الشيعة، وكان بدوره قد حصل على ذلك الكتاب من أحد أصدقائه الشيعة الذي نصحه بقراءته بعد أن طلب منه صديقي أن يعطيه كتاباً يتعرف من خلاله على عقائد الشيعة.
وكتاب "المراجعات"، هذا، وبالرغم من أن كاتبه شيعي إلاّ أنّه
وقد وجدت فيه ما يشجع فعلاً على البحث عن هذه الحقيقة التي حيّرت الناس وفرّقتهم، وكنت أحاول دائماً أن أشترك مع بعض الأصدقاء بالبحث والمناقشة حول ما حواه هذا الكتاب الذي كان عبارة عن مراسلات بين عالم سني هو شيخ الأزهر سليم البشري، وآخر عالم شيعي هو الإمام شرف الدين العاملي من لبنان حول أهم المسائل الخلافية بين السنة والشيعة، ولا أخفي بأنّ ما قرأته في ذلك الكتاب كان مفاجأة كبيرة لي، ولا أبالغ بالقول أنه كان صدمة العمر، فلم أكن أتوقع أبداً بأن الخلاف بين أهل السنة والشيعة هو بتلك الصورة التي رأيتها فعلاً من خلال ذلك الكتاب، واكتشفت بأنّني كنت جاهلاً بالتاريخ والحديث شأني شأن كل من اطّلع على هذا الموضوع ممن رأيت وقابلت، والذين كان من ضمنهم من يحمل الدكتوراه في الشريعة، كما سترى ذلك من خلال تفاصيل هذا البحث. وكان لشدّة وقع بعض الحقائق التي ذكرت في ذلك الكتاب علينا وبالرغم من ادعاء كاتبه بوجود ما يدل على ذلك من القرآن والصحيحين، فإنّ بعضنا أخذ يشك فعلاً بصحتها حتى أن أحد الأصدقاء قال: (لو صحّ فعلاً ما يزعمه هذا الكاتب الشيعي بوجود مثل هذه الحقائق في صحيح البخاري، فإنني سأكفر بجميع أحاديث البخاري بعد اليوم)،
وأصبح ضرورياً أن نتحقق مما جاء في كتاب "المراجعات" من خلال رؤيتنا لصحيح البخاري بأنفسنا، وقد وفقنا الله تعالى وبعد جهد جهيد من الحصول على نسخة من صحيح البخاري. ولم أتفاجأ أبداً بوجود كل ما أشار إليه ذلك الكاتب الشيعي في موضعه فعلاً في صحيح البخاري.
ولعل البعض يتساءل: لماذا كل هذا التركيز على صحيح البخاري؟ فمن المعلوم أن ما يحتج به من كتاب الله يحتاج إلى تأويل في أغلب الأحيان، ويحتمل له أكثر من معنى حسب تفسيره بالطبع، فمثلاً قوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى....)(1)، فهذه الآيات لم تذكر اسم العابس ولا الأعمى، فكان دور الحديث المروي ليوضح ذلك، وهكذا فقد احتلّ صحيح البخاري المكانة الأولى في الاعتبار من حيث الصحة بعد كتاب الله عند أهل السنة الذين ألزموا أنفسهم بكل ما فيه، وبذلك فإن الحديث يحسم ما اختلف عليه في تفسير آيات الكتاب الكريم.
____________
1- عبس: 1 ـ 2.
إنّني عندما بدأت بحثي حول هذه المسألة الحسّاسة، فإنّ أقصى أهدافي كانت بأن أتحقق من أن الشيعة مسلمون أم لا، ولم يكن عندي أي شك بأن الطريقة التي عليها أهل السنة والجماعة هي الطريقة الصحيحة، ولكنه وبعد الاطلاع والتقصي والتفكير ملياً في هذا الأمر، فإنّ النتيجة التي توصلت إليها كانت مفارقة مدهشة، ولكنني لم أتردد لحظة واحدة من قبول الحقيقة التي وجدتها. ولماذا لا أقبلها ما دام هناك ما يساندها من حجج وبراهين مما يعتبر حجة عند أهل السنة، وما دامت متمشية مع العقل الذي اعتبره جل وعلا حجة على الخلائق أجمعين؟ وقد تقبّل هذه الحقيقة أيضاً عدد لا بأس به من الطلبة عندنا، الأمر الذي أزعج بعض المتعصبين والذين
وأمام هذا الجهل والتعصب من جهة، ومظلومية الشيعة من جهة أخرى، فقد ارتأيت أن أكتب خلاصة بحثي وأقدمه لكل باحث عن الحقيقة، وليطلع الملأ عليها. فما دام هناك من يفتري على الشيعة كذباً وتضليلاً، وقد جوّز لهم البعض ذلك، فإن الحق أحق بأن يكتب وينشر.
وبالرغم مما قد يسببه هذا الكتاب من الآم وجروح لبعض المتعصبين، إلاّ أنّني أسألهم: من الملام في ذلك؟ فبالنسبة لهذا الكتاب والذي يحوي عرضاً لآراء الفريقين وتفنيدهما في أهم المسائل المختلف عليها، فإنّه لم يرد فيه شاردة أو واردة إلاّ ودعمت بالأدلة والبراهين، مما هو موضع الاعتبار والتصديق عند أهل السنة كصحيحي البخاري ومسلم بالدرجة الأولى. فلماذا لا يلومون الجهل الذي منعهم من معرفة هذه الحقائق؟ أو أئمتهم المتعصبين الذين أخفوها عنهم؟ أو لماذا لا يلومون البخاري ومسلم وغيرهما من علماء الحديث الذين أخرجوا في كتبهم ما سبب لهم هذه الصدمة؟
26 شعبان 1411 هـ
أسعد القاسم
مانيلا
الفصل الأوّل
الإمامة
إنّ الإمامة أو الخلافة تعني القيادة، وقد أصبحت مصطلحاً لقيادة المسلمين بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي لا يمكن لأحد أن ينكرها بهذا المفهوم، ذلك أنّ القيادة مطلب فطري لأية جماعة، وقد كان اختلاف المسلمين من السنة والشيعة حول طريقة تعيين الإمام أو الخليفة والدور الذي يقوم به، وهو يعدّ من أعظم الاختلافات بينهم على الاطلاق، وإنّ باقي الاختلافات ما هي إلاّ نتيجة طبيعية لهذا الاختلاف الكبير، ذلك أنّ الإمامة كما يراها الشيعة بنص من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ومختصة بالأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، وأنّ معرفة أحكام الإسلام بعد رحيل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)يكون بالرجوع إلى هؤلاء الأئمة أو إلى الصحيح مما روي عنهم، وإذا تعارض قولهم مع قول غيرهم فإنّه يجب الأخذ بقولهم بوصفهم الخزانة الأمينة لسنة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا الإمامة عند أهل السنة فإنّهم قالوا: إنّها بالشورى، ولكنّهم
وما دامت الحال هكذا، وبوجود الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة، فالأجدر قبل إصدار حكم ببطلان مذهب أو تفضيل طريقة على أخرى التريّث والنظر فيما ذهب إليه كل فريق من حجج وبراهين، وقد خصصنا بحثنا لهذا الغرض، حيث نجمل فيما يلي النصوص التي تمسك بها الشيعة كأدلة تثبت مذهبهم في الإمامة ورد أهل السنة على ذلك على النحو التالي:
أولاً: الأدلة في إثبات إمامة أهل البيت.
ثانياً: الأدلة في إثبات عدد أئمة أهل البيت.
ثالثاً: الأدلة في إثبات استخلاف النبي لعلي بن أبي طالب(عليه السلام).
نصوص الإمامة
أولاً: الأدلة في اثبات إمامة أهل البيت(عليهم السلام)
إنّ النصوص المروية عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في إمامة أهل البيت على الأمة من بعده كثيرة، نورد هنا أشهرها:
فمن صحيح مسلم، بسنده عن زيد بن أرقم قال: إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإنّي تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.... وأهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي" (1).
ومن صحيح الترمذي، بسنده عن جابر بن عبدالله قال: "رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي" (2).
____________
1- صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل علي ج4 ص2873 ح36.
2- صحيح الترمذي ج5 ص663 ح3788.
وبالرغم من أن مسلماً وكثيراً غيره من علماء الحديث من أهل السنة قد أخرجوا هذا الحديث في صحاحهم ومسانيدهم، إلاّ أنّه ولدهشتي الكبيرة أجد معظم أهل السنة يجهلونه بل وينكرونه عند سماعهم به وكأنه غير موجود، ومحتجين بأن الصحيح في ذلك هو ما رواه أبو هريرة بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "إنّي قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبداً ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي"(1).
وعند التقصي عن مصدر هذه الرواية، وجدت أنّها لم تروَ في أي من الصحاح، وقد ضعّفها (2) كل من البخاري والنسائي والذهبي
____________
1- السـنن الكبـرى للبيهقـي ج10 ص114، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: ص94.
2- ذكر الدكتور أحمد بن مسعود بن حمدان في تحقيقه لكتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص80: "سنده ضعيف: فيه صالح بن موسى الطلحي، قال فيه الذهبي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك".
وعلى فرض عدم تعارض الروايتين، فإنّه لابد من التسليم بأن المقصود بكلمة "سنتي" في رواية الحاكم هو السنة المأخودة عن طريق أهل البيت النبوي وليس غيرهم كما يتبين بوضوح في رواية مسلم.
أما التمسك برواية الحاكم ".... كتاب الله وسنتي" وترك رواية مسلم ".... كتاب الله وعترتي أهل بيتي" فإنّ في ذلك مخالفة ليس فقط لما أجمع عليه علماء الحديث من أهل السنة بتقديم أحاديث مسلم على أحاديث الحاكم، بل ومخالفاً أيضاً للمنطق والعقل، ذلك أنّ كلمة "سنتي" مجردة كما في رواية الحاكم لا تفيد علماً، فجميع الطوائف الإسلامية تزعم أنها تتبع سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالنظر إلى وجود الاختلافات الكثيرة بين هذه الطوائف، والتي غالباً يكون سببها الاختلاف في السنة النبوية المنقولة إليها عبر طرق مختلفة والتي تعتبر مفسرة ومكملة للقرآن الكريم الذي أجمعت جميع طوائف المسلمين على صحة نقله، وهكذا فإن الاختلاف في الحديث المنقول ـ والذي أدّى إلى الاختلاف أيضاً في تفسير القرآن ـ أصبحت
____________
1- المستدرك ج1 ص93.
وهنا يطرح سؤالان لا تكتمل الصورة وضوحاً إلاّ بالإجابة عليهما:
أولهما: من هم أهل البيت المقصودون في الحديث السابق؟
ثانيهما: لماذا خصص الحديث الأخذ عن أهل البيت فقط وليس عموم الصحابة كما يقول أهل السنة؟
من هم أهل البيت؟
يروي مسلم في صحيحه، بسنده عن صفية بنت شيبة قالت: "قالت عائشة: خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم
فمن الحديثين السابقين يتبين أنّ أهل البيت في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم: علي وفاطمة وابناهما، ولكن ماذا بالنسبة لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
يروي مسلم في صحيحه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، بسنده عن زيد بن أرقم أنّه قال: "... ألا وإنّي تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عزَّوجلّ هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة، وفيه فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وأيم والله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة
____________
1- الأحزاب: 33.
2- صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل الحسن والحسين ج4 ص1883 ح61.
3- آل عمران: 61.
4- صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل علي ج4 ص1871 ح32.
ومن صحيح الترمذي بسنده عن عمرو بن أبي سلمة ربيب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لما نزلت هذه الآية ـ ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ـ في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً وعلي(عليه السلام) خلف ظهره، فجللهم بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء هم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خير" (2).
ومن مسند أحمد بسنده عن أم سلمة: "أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال لفاطمة(عليها السلام): وائتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساءً فدكياً (قال) ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إنّ هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد إنّك حميد مجيد، قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: إنك على خير" (3).
وبالرغم من وضوح الأدلة السابقة في تعيين أهل البيت، إلاّ أنّ البعض يعارض ذلك محتجاً بالآيات التالية من سورة الأحزاب في
____________
1- صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل علي ج4 ص1873 ح36.
2- صحيح الترمذي ج5 ص663 ح3787.
3- مسند أحمد ج6 ص323.
1 ـ إنّ نزول الآيات القرآنية بشأن تهديد نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالطلاق، ومن ثم إرادة الله بتطهير أهل البيت جاء متتابعاً، لا يعني بالضرورة أن يكون المقصود بالمناسبتين هو نساء النبي، ذلك أنّه يوجد كثير من الآيات في القرآن الكريم من هذا النوع حيث تجدها تحوي أمرين مختلفين ولعل سبب وقوعهما معاً في نفس الآياية هو التوافق في زمن حصول المناسبتين، ومن أمثلة هذه الآيات: (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت
____________
1- الأحزاب: 28 ـ 33.
2 ـ ما يؤكد عدم دخول نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقصود هذه الآية هو أنّ الكلام بشأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)جاء بضمير الجمع المؤنث، كنتن.... منكن.....لستن.... تخضعن...وقرن في بيوتكن....تبرجن....وعندما بدأ الكلام بشأن التطهير تحول ضمير المخاطب إلى ضمير الجمع المذكر ـ عنكم..... ويطهركم ـ وليس عنكن.... ويطهركن.
3 ـ الأحاديث الصحيحة السابقة من صحاح مسلم والترمذي ومسند أحمد وغيرها تثبت بدلالة قاطعة عدم دخول نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ضمن أهل البيت. حيث كانت إجابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عندما سألته أم سلمة(رضي الله عنه) ـ....وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك أنت على خير ـ، وفي رواية مسلم: ".... من أهل بيته؟ نساءه؟ قال: لا....".
4 ـ وفي حديث الثقلين الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما:
____________
1- المائدة: 3.
5 ـ إن الرجس المقصود في الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)يعني في اللغة القذر وهو للدلالة على الإثم، والطهارة في اللغة تعني النظافة وهي للدلالة هنا على التقوى.
فالمراد من إذهابه سبحانه وتعالى الرجس عنهم هو تبرئتهم وتنزيههم عن الأمور الموجبة للنقص فيهم، وأي ذنب مهما صغر فإنّه موجب في نقص مقترفيه، وهذا يعني أنّ الله تعالى أراد تطهير أهل البيت من كل الذنوب صغيرها وكبيرها، وما ذاك إلاّ العصمة والتطهير. وأما إذا قيل أنّ المراد بالتطهير في هذه الآية هو مجرد التقوى الديني بالاجتناب عن النواهي والامتثال للأوامر، فإن ذلك
وهكذا، فإنه إذا سلمنا بعصمة من نزلت الآية بحقهم، فإن نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لسن من ضمنهم لأنهن لسن من المعصومات، فبالإضافة إلى أنّه لم يقل أحد من الأولين أو الآخرين بذلك فإنّه عرف تهديد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لهن بالطلاق وغير ذلك مما ستراه في فصل لاحق.
شواهد إضافية على عصمة أهل البيت:
1 ـ حديث الثقلين: "...إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي" حيث يظهر من هذا التوجيه النبوي أنّ شرط عدم الضلالة هو التمسك بالكتاب والعترة، وليس من المعقول أن من يحتمل وجود الخطأ أو الزلل فيه يكون مأمناً من الضلال، وهذا دليل على عصمة الثقلين، كتاب الله (الثقل الأكبر) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأهل البيت (الثقل الكبير).
2 ـ الآية القرآنية: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهنّ *
____________
1- المائدة: 6.
ففضلاً عن أنّ هذه الآية تشير إلى علو منصب الإمامة ورفعته، فإنّها تدلّ كذلك على أنّ نيل عهدالله (إمامة البشرية) لا يمكن أن يكون من نصيب ظالم، والخطيئة بصغيرها وكبيرها تجعل من مرتكبها ظالماً، فكان لابد أن يكون الإمام معصوماً عن ارتكاب أي خطيئة أو إثم.
3 ـ وفي مستدرك الصحيحين، يروي الحاكم بسنده عن حنش الكناني: "قال: سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ بباب الكعبة: يا أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ومن أنكرني فأنا أبوذر، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" (2). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
4 ـ وفي مستدرك الصحيحين أيضاً، بالسند عن ابن عباس: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا
____________
1- البقرة: 124.
2- مستدرك الصحيحين ج2 ص343.
5 ـ ولمزيد من التوضيح في تبيان تلك المنزلة الرفيعة التي حظي بها أهل البيت، نذكر بعض الأحاديث المروية في صحيح البخاري والتي تشير إلى نعت أهل البيت بكلمة(عليهم السلام) وقد اختصوا بهذا النعت دون غيرهم من جميع الصحابة وأزواج النبي، وهذه أمثلة لذلك كما رواها البخاري في صحيحه:
"عن علي(عليه السلام) قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم، وكان النبي (ص) أعطاني شارفاً من الخمس، فلما أردت أن ابني بفاطمة(عليها السلام) بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)..."(2) وكذلك: "... وطرق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)باب فاطمة وعلياً(عليهما السلام) ليلة للصلاة"(3) وفي رواية أخرى: "... قال: رأيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الحسن بن علي(عليهما السلام) يشبهه...."(4) وكذلك: "...عن علي بن الحسين(عليهما السلام)أخبره...."(5)، وقد يقول قائل إن ذلك لا يدل على تميزهم، ولكن السؤال: لماذا اختصوا بها وحدهم دون غيرهم؟
____________
1- مستدرك الصحيحين ج3 ص149.
2- صحيح البخاري ج3 ص78 كتاب البيوع باب ما قيل في الصواغ.
3- صحيح البخاري ج2 ص62 كتاب التهجد.
4- صحيح البخاري ج4 ص227 كتاب المناقب باب صفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
5- صحيح البخاري ج9 ص168 كتاب التوحيد باب في المشيئة والإرادة.
ويفهم من جميع ما سبق أنّ الله جل وعلا قد اختص أهل البيت(عليهم السلام)بالعصمة والتطهير، بوصفهم من يملأ الفراغ الذي
____________
1- صحيح البخاري ج8 ص95 كتاب الدعوات باب 1 لصلاة على النبي.
2- صحيح البخاري ج6 ص3 كتاب المغازي باب غزوة تبوك.
فالإمامة بذلك تعتبر امتداداً للنبوة في وظائفها العامة عدا ما يتصل بالوحي فإنّه من مختصات النبوة، والمقصود بامتدادية الإمامة للنبوة هو حفظ الشرع علماً وعملاً، فلزمت عصمة الأئمة للزوم ضرورة نقل التشريع الإلهي للأجيال اللاحقة عن طريق نقية وأصيلة والتي تمثلت بالأئمة الإثني عشر من أهل البيت النبوي.
____________
1- البقرة: 75.