الصفحة 167
عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير يقرأون هذه الآية هكذا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن" (1)، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره موضحاً ذلك:

"ومن البعيد أن يؤمن هؤلاء بتحريف القرآن، فلابد أن يراد بذلك التفسير لا القراءة..."، ولكن الطوائف الإسلامية اختلفت بشأن دوام حلية هذا النوع من النكاح وأصبحت المعضلة هي: هل حرم نكاح المتعة أم بقي على حله؟

فالحديث التالي يثبت بما لا يقبل أي شك أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد مات دون أن ينهى عن نكاح المتعة:

عن عمران(رضي الله عنه) قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء"(2).

حيث تشير الرواية أعلاه إلى أنّ رجلاً قد اجتهد برأيه في هذا الزواج، ومن صحيح البخاري أيضاً وتحت باب التمتع على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، جاءت نفس الرواية السابقة ولكن مقطوعة كما يلي:

____________

1- تفسير ابن كثير ج1 ص486، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص179، قراء ابن مسعود.

2- صحيح البخاري ج6 ص33 كتاب التفسير باب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج.


الصفحة 168
عن عمران(رضي الله عنه): "تمتعنا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل القرآن، وقال رجل برأيه ما شاء" (1).

وقد جاء في شرح الباري على صحيح البخاري أنّ الرجل المقصود هنا هو الخليفة عمر بن الخطاب (2)(رضي الله عنه). وتأكيداً لذلك ما يرويه مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي نضرة قال:

"كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما" (3).

وفي صحيح مسلم أيضاً بالإسناد إلى عطاء قال:

"قدم جابر بن عبدالله معتمراً فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر" (4).

____________

1- صحيح البخاري ج2 ص176 كتاب الحج.

2- فتح الباري على صحيح البخاري ج3 ص339، شرح النووي على صحيح مسلم ج8 ص205.

3- صحيح مسلم ج2 ص1023 ح17 كتاب النكاح باب المتعة بشرح النووي ج9 ص184.

4- صحيح مسلم ج2 ص1023 ح15 كتاب النكاح باب المتعة بشرح النووي ج9 ص183.


الصفحة 169
وأخرج أيضاً مسلم في صحيحه بالإسناد إلى جابر بن عبدالله أنّه قال:

"كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث" (1).

وقصة عمرو بن حريث هذا هي أنّ امرأة فقيرة طرقت بابه متوسلة إليه بأن يعطيها طعاماً تسد رمقها به، فأبى ذلك الرجل أن يعطيها شيئاً إلا إذا أعطته نفسها زاعماً أنّ ذلك هو نكاح المتعة، وعندما قبلت المرأة هذا الشرط مكرهة وعلم الخليفة عمر بذلك، غضب غضباً شديداً، مما دفعه إلى هذا التحريم، بل قرر رجم كل من يمارس هذا النكاح، كما يظهر ذلك من الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه بالإسناد إلى أبي نضرة قال:

" كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكرت ذلك لجابر فقال: تمتّعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر قال: إن الله يحل لرسوله بما شاء، فأتموا الحج والعمرة، وابتّوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة" (2).

____________

1- صحيح مسلم ج2 ص1023 ح16 كتاب النكاح باب المتعة بشرح النووي ج9 ص183.

2- صحيح مسلم ج2 ص885 ح145 كتاب الحج باب مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، شرح النووي ج8 ص168.


الصفحة 170
ومن صحيح الترمذي عن عبدالله بن عمرو وقد سأله رجل من أهل الشام عن متعة الحجّ فقال: هي حلال، فقال: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال ابن عمر: "أرأيت إن كان أبي ينهى عنها وصنعها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، تترك السنة وتتبع قول أبي" (1).

وقد اشتهر حبر الأمة عبدالله بن عباس(رضي الله عنه) برأيه أنّ آية المتعة لم تنسخ، كما يورد ذلك الزمخشري في تفسيره الكشاف، حيث ينقل عن ابن عباس أنّ آية المتعة من المحكمات. وفي صحيح البخاري ما يؤكد ذلك أيضاً، فعن أبي جمرة قال:

"سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى: إنّما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم" (2).

وقد أخرج الطبراني والثعلبي في تفسيريهما بالإسناد إلى علي(عليه السلام) أنّه قال: "لولا أن نهى عمر عن المتعة ما زنى إلاّ شقي" (3)أي قليل.

(وبالرغم من وضوح كل تلك الأدلة وضوح الشمس في رابعة النهار بشأن دوام حلية زواج المتعة، فإنّ الذي عليه غالبية جمهور

____________

1- صحيح الترمذي ج3 ص185 ح824.

2- صحيح البخاري ج7 ص16 كتاب النكاح.

3- تفسير الطبراني ج5 ص9، تفسير الثعلبي.


الصفحة 171
أهل السنة اليوم عكس ذلك، وإنّ الآية الخاصة في هذا النكاح يزعمون أنّها نسخت، وقد اختلفوا في الناسخ، فمنهم من قال بأنّه آية من الكتاب، ومنهم من قال أنّ الناسخ روايات من السنة، ونرد كلا الرأيين بالأحاديث السابقة القطعية الثبوت والتي دلت على أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مات دون أن ينهى عن المتعة، وأما من قال بأن الناسخ هو آية من الكتاب هي: (والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)(1)، وهذه الآية "مكية"، واية المتعة "مدنية" أو حكم تشريع زواج المتعة "مدني" والسابق لا ينسخ اللاحق.

وأما من قال بأن الناسخ كان السنة المروية عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الأحاديث التي يزعمون بأنها ناسخة، تتناقض مع بعضها البعض فمنهم من قال إنّها نسخت في خيبر، وآخر في أوطاس وثالث يوم فتح مكة، ورابع في غزوة تبوك، وخامس في عمرة القضاء وسادس في حجة الوداع، وما اضطراب تلك الروايات وتناقضها إلاّ دليلاً على عدم صحتها، هذا بالإضافة إلى أنّ تلك الروايات لا تخرج عن كونها من أخبار الآحاد التي لا تصلح أن تكون ناسخة لحكم نصّ عليه القرآن وثبت تشريعه بإجماع المسلمين، لأن النسخ لا يقع بخبر الآحاد إجماعاً، والآية لاتنسخها إلاّ آية بدليل قوله تعالى: (وما

____________

1- المؤمنون: 5.


الصفحة 172
ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها) (1).

ولذلك فإنّه مع وجود كل تلك النصوص الصريحة والتي تثبت مشروعية نكاح المتعة وعدم نهي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها، وبقاء حلها حتى نهى الخليفة عمر عنها زمن خلافته، فإننا لا نجد حلاً لهذه العقدة إلاّ أنّ الخليفة عمر قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها ـ بنظره ـ للمسلمين في زمانه وأيامه، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً لا دينياً لمصلحة زمنية، حيث أنّ الخليفة عمر(رضي الله عنه) أجلّ مقاماً وأسمى إسلاماً من أن يحرّم ما أحلّ الله أو أن يدخل في الدين ما ليس من الدين وهو يعلم أنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة، فلابد أن يكون مراده المنع الزمني والتحريم المدني لاالديني، وموقفه المتشدد بشأن نكاح المتعة ليس الأول من نوعه، فقدعرف عنه الشدة والخشونة في عامة أموره ويجتهد في ذلك مبتغياً المصلحة العليا ـ بنظره ـ للإسلام وإقامة الشرائع) (2).

ومن الأمثلة على اجتهاد عمر في بعض الأحكام وتشدده فيها هو عندما أمر المسلمين أن يؤدوا نافلة رمضان (ما يسمى بصلاة التراويح) جماعة بعد أن كانت تؤدى فرادى على عهدي رسول

____________

1- البقرة: 106.

2- بتصرف عن كتاب أصل الشيعة وأصولها للعلامة محمد آل كاشف الغطاء: ص101.


الصفحة 173
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر(رضي الله عنه)، وقد أخرج البخاري بسنده إلى أبي هريرة: "إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما.قال: خرجت مع عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ; قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله " (1).

وقد اجتهد أيضاً في تلك النافلة (التراويح) بزيادة عدد ركعاتها إلى عشرين، فعن عائشة(رضي الله عنه)قالت: "ما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" (2).

ولكن بعض المعاصرين للخليفة عمر، ومن بعده بعض المحدثين البسطاء، لما غفلوا عن معرفة سر نهي الخليفة عن زواج

____________

1- صحيح البخاري ج3 ص58 كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان.

2- صحيح البخاري ج2 ص67 كتاب التهجد.


الصفحة 174
المتعة استكبروا منه أن يحرم ما أحلّ الله، واضطروا إلى استخراج مبرر لذلك، فلم يجدوا سوى دعوى النسخ من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الإباحة فارتبكوا ذلك الإرتباك واضطربت كلماتهم ذلك الإضطراب.

وانظر في الرواية التالية لترى مدى الإضطراب والإرتباك الذي نتحدث عنه، والأدهى أن واضعيها نسبوها إلى علي(عليه السلام)، حيث أخرج البخاري في صحيحه: "أن علياً(رضي الله عنه) قيل له: إنّ ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عنهايوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية، وقال بعض الناس: ان احتال حتى تمتع، فالنكاح فاسد، وقال بعضهم: النكاح جائز، والشرط باطل" (1)، فلو فهم هؤلاء علة نهي الخليفة عنها لأغناهم عن كل ذلك التكلف والإرتباك.

كان فيما سبق النظر في زواج المتعة من وجهتها الدينية والتاريخية. أما النظر فيها من الناحية الأخلاقية والإجتماعية، فقد جاء تشريعها رحمة للبشر ورخصة للكثيرين لاسيما المسافرين في طلب علم أو تجارة أو جهاد أو مرابطة ثغر، ومع امتناع الزواج الدائم لما له غالباً من التبعات واللوازم والتي لا تتمشى مع حالة المسافرين وخصوصاً وهم في ريعان الشباب وتأجج سعير الشهوة، وهم في ذلك أمام خيارين: إمّا الصبر ومجاهدة النفس الموجب للمشقة التي

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص31 كتاب الاكراه باب الحيلة في النكاح.


الصفحة 175
تؤدي إلى أمراض مزمنة وعلل نفسية مهلكة وغير ذلك من الأضرار التي لا تخفى على أحد. وإما الوقوع في الزنا الذي ملأ الدنيا بالمفاسد والأضرار.

وهذه الأسباب هي نفسها التي دفعت بأحد الوعاظ الخليجيين ويدعى الشيخ أحمد القطان بأن يفتي للطلبة العرب في الفليبين بجواز ممارسة نكاح مؤقت ولكن بإسم مختلف سماه "زواج بنية الطلاق"، وشرط هذا النكاح أن يضمر الزوج في نفسه الطلاق ودون أن يعلم أحداً بهذه النية، أي إنّه نكاح مؤقت في نية الزوج ودائم حسب علم ونية الزوجة، حيث يقوم الزوج بطلاق زوجته عند انتهاءالمدة التي أضمرها في نفسه.

وبالرغم من اعتراف مبتدعي هذا النوع من الزواج بأنّه يتضمن الكذب على الزوجة وخداعها، وبالرغم من عدم وجود أي دليل عليه من الكتاب أو السنة النبوية فإنهم يبررون تشريعهم له بالقول بأن ضرره على كل حال يبقى أخف وطأة من مفاسد الزنا!

وقد أفتى شيخنا السالف الذكر بهذا بعد أن سئل عن رأيه بنكاح المتعة وفتوى ابن عباس بجوازه، حيث كان جوابه بحرمة هذا النكاح وأنّ ابن عباس قد اخطأ بتلك الفتوى، وأضاف معلقاً: "لو تتبعنا زلة العلماء لتزندقنا"!!

وهكذا أصبحت بدعة "الزواج بنية الطلاق" على رأي القطان

الصفحة 176
بديلاً عن نكاح المتعة الذي جاء حله في الكتاب والسنة (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)(1) ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

متعة الحج:

(وأما متعة الحج فقد عملها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر بها مصداقاً لقوله تعالى: (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج... ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) (2). والمقصود بذلك هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، وهو فرض على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقد قيل عنه التمتع بالحج لما فيه من المتعة: أي اللذة بإباحة محظورات الاحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين ـ إحرام للعمرة وإحرام للحج ـ)(3) وهذا ما كرهه الخليفة عمر أيضاً ونهى عنه بالرغم من أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مات دون أن ينهى عنها، فقد أخرج البخاري بالإسناد إلى سعيد بن المسيب قال:

"اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلاّ أن تنهى عن أمر فعله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما

____________

1- البقرة: 61.

2- البقرة: 196.

3- الفصول المهمة للإمام شرف الدين.


الصفحة 177
رأى ذلك علي أهلّ بهما جميعاً" (1).

وانظر في الحديث التالي الذي أخرجه البخاري في صحيحه والذي يظهر بوضوح أنه كان هناك من يجتهد في نصوص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الصريحة فعن الحكم قال:

"شهدت عثمان وعلي رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما. فلما رأى عليَّ أهلّ بهما: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لقول أحد" (2).

والرجل الذي أشار إليه علي(عليه السلام) في قوله أعلاه هو عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) كما بينّا ذلك في مواضع سابقة، وأمّا عذر عثمان في رأيه ذلك هو أنّه عندما أخذت البيعة له كخليفة، اشترط عليه عبدالرحمن بن عوف بأمر من الخليفة عمر قبل موته أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين. فالنهي عن المتعتين كان يعتبر من ضمن سيرة الشيخين الذي لا يستطيع عثمان أن يحيد عنها، وإلاّ لما كانت الخلافة لتؤول إليه لو لم يبايع على ذلك الشرط. وقد تواتر عن الخليفة عمر(رضي الله عنه) قوله: "متعتان كانتا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما" (3)، ويقصد بذلك متعتي النساء والحج.

____________

1- صحيح البخاري ج2 ص176 كتاب الحج.

2- صحيح البخاري ج2 ص175 كتاب الحج.

3- التفسير الكبير للرازي ج5 ص167.


الصفحة 178
وكلام الخليفة عمر هذا يظهر بأن التصرف في حكمهما، إنّما هو منه لا من سواه، حيث روى أنّ المتعتين كانتا على عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يرو نهيه(صلى الله عليه وآله وسلم)عنهما، بل أسند النهي عنهما إلى نفسه بقوله: "...وأنا أنهى عنهما".

ورحم الله من قال بشأن قول الخليفة عمر السابق:

"قبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه".

والحقيقة أنّ من يتصفح تأريخنا الإسلامي بموضوعية وبعيداً عن التعصب، فإنّه سيجد الكثير من الأحكام الأخرى (وإضافة إلى المتعتين والتراويح) مما هو من اجتهاد الخليفة عمر(رضي الله عنه) وبالرغم من وجود ما يعارضها من نصوص ثابتة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). إلاّ أنّ أهل السنة قد تقبلوا هذه الإجتهادات عبر الأجيال ظنّاً منهم أنّها من صنع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)!!


الصفحة 179

الفصل السادس
المهدي المنتظر والفتن

تتفق جميع الفرق الإسلامية على ظهور رجل في آخر الزمان يملأ الدنيا بالقسط والعدل، ويقيم دولة الحق لتشمل جميع أرجاء المعمورة مصداقاً لقوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) (1) وقوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (2) وكذلك: (ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون... ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(3).

وقد بين المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ هذا الرجل المنتظر هو من أهل بيته بقوله: "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي

____________

1- الانبياء: 105.

2- القصص: 5.

3- التوبة: 32 - 33.


الصفحة 180
يواطىء اسمه اسمي" (1).

وعن أبي سعيد الخدري، قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً" (2).

وعن أبي هريرة، قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوله الله عزَّوجلّ حتى يملك رجل من أهل بيتي، يملك جبل الديلم والقسطنطينية" (3).

وعن أم سلمة، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "المهدي من عترتي من ولد فاطمة".

وقد أخبر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ عيسى(عليه السلام) الذي سيظهر في آخر الزمان أيضاً سيصلي وراء المهدي، فعن أبي هريرة، قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" (4).

وقال الحافظ في شرح صحيح البخاري: "تواترت الأخبار بأنّ المهدي من هذه الأمة وأنّ عيسى بن مريم سينزل ويصلي خلفه" (5).

____________

1- صحيح الترمذي ج4 ص505 ح2230، سنن أبو داود ج4 ص107 ح4282، مسند أحمد ج1 ص376 و377.

2- مستدرك الصحيحين ج4 ص577، مسند أحمد ج3 ص36.

3- سنن ابن ماجة ج2 ص928 ح2779، باب الجهاد.

4- صحيح مسلم ج1 ص137 ح244 باب نزول عيسي بن مريم.

5- فتح الباري ج6 ص385.


الصفحة 181
وقد أصدر المجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي الفتوى التالية بشأن المهدي المنتظر والمؤرخة في 31 أيار 1976:

"المهدي(عليه السلام) هو محمد بن عبدالله الحسني العلوي الفاطمي المهدي الموعود المنتظر، موعد خروجه في آخر الزمان، وهو من علامات الساعة الكبرى يخرج من المغرب ويبايع له في الحجاز في مكة المكرمة بين الركن والمقام بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود الملتزم.

ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كله ويخضع له الرقاب بالإقناع تارة وبالحرب أخرى.

وسيملك الأرض سبع سنين وينزل عيسى(عليه السلام) من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله بباب لد بأرض فلسطين. وهو آخر الخلفاء الراشدين الإثني عشر الذين أخبر عنهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في الصحاح....

وإنّ الإعتقاد بخروج المهدي واجب وإنّه من عقائد أهل السنة والجماعة ولا ينكره إلا جاهل بالسنة ومبتدع في العقيدة" (1).

وهكذا فإنّ أهل السنة يتفقون مع الشيعة بأنّ الإمام المهدي هو آخر الخلفاء الإثني عشر الذين بشر بهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث

____________

1- مؤامرة المتاجرين بالدين: ص29.


الصفحة 182
كثيرة، ويتفق الفريقان كذلك حول معظم النقاط الأخرى المتعلقة بالإمام المنتظر. وأمّا أهم الإختلافات بينهما بشأنه فهي:

الأول:يعتقد معظم أهل السنة أنّ الإمام المهدي(عليه السلام) سيولد في آخر الزمان بينما يعتقد الشيعةُ بأنّه ولد في عام 255 هـ لأبيه الإمام الحسن العسكري وهو حادي عشر أئمة أهل البيت، ولكن الله تعالى غيّبه عن العيون لحكمة رآها، ولا يزال حياً وسيظهره في آخر الزمان.

الثاني: يعتقد أهل السنة كما في الفتوى أعلاه أنّ المهدي هو من ولد الحسن(عليه السلام) وأنّ اسم أبيه هو عبدالله استناداً إلى رواية عندهم "....يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " بينما يعتقد الشيعة أنّ المهدي ينحدر نسله من الإمام الحسين(عليه السلام) وقد ولد لأبيه الحسن العسكري، وأن الرواية الأخيرة هذه يروونها: "... يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم ابني" إشارة إلى حفيد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الحسن السبط (عليه السلام).

وحاول بعض الكتاب من أهل السنة التشنيع والطعن في الشيعة لإعتقادهم بولادة الإمام المنتظر وتسلمه مقاليد الإمامة وعنده من العمر 5 سنوات. ويرجع هذا التشنيع في المقام الأول إلى التعصب لما هم عليه من اعتقاد، فكل ما يخالف اعتقادهم أو ما ألفوه أو ورثوه فإنهم يحكمون في الحال ببطلانه دون النظر إلى ما احتج به غيرهم. ورداً على ذلك نقول:


الصفحة 183
أولاً: إنّ هناك كثير من علماء أهل السنة يعتقدون بأن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري وأنّه لا يزال حياً حتى يظهره الله موافقين بذلك ما يقوله الشيعة الإمامية الإثني عشرية. ومن هؤلاء العلماء:

1 ـ محي الدين ابن العربي في فتوحاته المكية.

2 ـ سبط ابن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص.

3 ـ عبدالوهاب الشعراني في كتابه عقائد الأكابر.

4 ـ ابن الخشاب في كتابه تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم.

5 ـ محمد البخاري الحنفي في كتابه فصل الخطاب.

6 ـ أحمد بن إبراهيم البلاذري في كتابه الحديث المتسلسل.

7 ـ ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة.

8 ـ العارف عبدالرحمن في كتابه مرآة الأسرار.

9 ـ كمال الدين بن طلحة في كتابه مطالب السؤول في مناقب الرسول.

10 ـ القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة. وغيرهم (1).

ثانياً: لا يوجد أي دليل شرعي يثبت عكس ذلك، وغيبة

____________

1- أخذت هذه المصادر من كتاب "لأكون مع الصادقين" للعلامة الدكتور محمد التيجاني ص196.


الصفحة 184
الإمام المنتظر لها ما يشابهها الكثير من المعجزات التي أخبر بها القرآن الكريم، فنوح(عليه السلام) لبث في قومه 950 سنة يدعوهم ( فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين )(1) وقد عاش بالطبع أطول من ذلك، ولبث أهل الكهف 309 سنوات وهم نائمون، ورفع الله تعالى عيسى(عليه السلام) إليه ونجاه من القتل وسيعيده إلى الدنيا في آخر الزمان أيضاً، والخضر(عليه السلام) لا يزال حياً غائباً عن العيون.

وأمّا بالنسبة لصغر سن المهدي(عليه السلام) عند تسلمه الإمامة بعد وفاة أبيه الحسن العسكري حادي عشر أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فإنّ هناك معجزات تماثلها بل وأكبر منها، فقد جعل الله عيسى بن مريم(عليه السلام)نبياً وهو في المهد رضيعاً: (فأشارت إليه * قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ قال: إنّي عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)(2)، وأعطى الله تعالى كذلك الحكم ليحيى(عليه السلام) وهو صبياً ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً) (3).

وإذا قيل بأن هذه المعجزات كانت للأنبياء، فنقول بأنّه ليس هناك أي دليل شرعي يشير إلى توقف المعجزات بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعجزات ليست للأنبياء فقط، فأهل الكهف لم يكونوا أنبياء، وحتى سيد الشياطين "إبليس" فإن الله قد أمد في عمره حتى

____________

1- العنكبوت: 14.

2- مريم: 29 ـ 30.

3- مريم: 12.


الصفحة 185
قيام الساعة. ومن ناحية أخرى، فإنّ الذين يعترضون على الإعتقاد بغيبة الإمام المنتظر فهو راجع أيضاً لجهلهم بمقامه وحقيقته فالمهدي(عليه السلام)سيكون إماماً لعيسى(عليه السلام) الذي جعله الله نبياً وهو في المهد رضيعاً، وهكذا فإنه لو علم أهل السنة وتيقنوا بأن الله تعالى هو الذي اختار الأئمة الإثني عشر من أهل البيت ليكونوا خلفاء للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وحفظة للرسالة المحمدية، فإنّ استغرابهم بما أحاطه الله من عناية بخاتم هؤلاء الأئمة ـ حتى يظهره ويتم على يده نصر الحق المبين وإظهاره على الدين كله ـ سيزول ولن يكون له أي مبرر. فأغلبية أهل السنة لا يستغربون لما أخذوه من طريقهم أو من كل ما ينسجم مع مذهبهم بل يضعونه محل القبول والتسليم، وهذا ليس فقط بشأن تلك المعجزات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والتي لا يستطيع أحد بالطبع أن يثير أي شبهة حولها، وإنّما يشمل هذا الإعتبار ما أخذوه من روايات صحيحي البخاري ومسلم، فكما يروون مثلاً نزول الله إلى السماء الدنيا آخر الليل وكشفه عن ساقه ووضع قدمه في جهنم يوم القيامة (والعياذ بالله)، أو احتمال سهو النبي ووقوعه تحت تأثير السحر ونسيانه للقرآن أو فقأ موسى(عليه السلام)لعين ملك الموت، ورجحان إيمان أبي بكر على إيمان الأمة بكاملها، أو اختراق رؤية عمر للآفاق آلاف الأميال والتي عرفت قصة "سارية" المشهورة عند أهل السنة، أو قولهم "لو كان نبي بعدي لكان عمر" أو قولهم بأن الملائكة تستحي من عثمان وإلى غير ذلك الكثير الكثير من

الصفحة 186
الحكايات التي يتقبلها غالبيتهم كما هي وبالرغم من وجود العلل الكثيرة فيها، وأمّا ما يعتقده غيرهم فيستنكرونه جملة وتفصيلاً وينفونه دون أي تأمل أو بحث. وأنا متأكد بأنه لو وجدت عقيدة غيبة الإمام المنتظر عند أهل السنة لما أحاطوها بأية شبهة أو تساؤل!

وفي هذا المقام تحضرني عدة طرائف صادفتني خلال حديثي مع بعض الأخوة، فأحدهم وفي سياق استنكاره لزواج المتعة الذي يعتقد الشيعة بجوازه لم يكن يعلم بأنّ الرق لم يحرّم في الإسلام، بل كان يطعن في ذلك لعدم انسجام ذلك مع عقله، وعندما بينت له أنّ أهل السنة جميعاً يقولون بعدم حرمته فإنّه سلم بذلك على الفور، وأمّا نكاح المتعة وبالرغم من رؤيته لما يؤيد عدم تحريمها من صحيح البخاري فإنّه أصرّ على عدم الإقتناع بها لا لشيء إلاّ لأن عموم أهل السنة يعتقدون بحرمتها!؟! والأطرف من ذلك أنّني كنت أقول للآخرين أثناء دفاعي عما اهتديت إليه من إتباع لصراط أهل البيت أنّ الشيعة يعتقدون بنسيان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لبعض آيات القرآن أو تمكن أحد اليهود من سحره أو قصة موسى مع ملك الموت وغير ذلك فإنّهم كانوا يستنكرون ويسخرون من هذه الإعتقادات، وعندما بينت لهم بأنّ هذا بعض ما يشنّع به الشيعة على أهل السنة والمثبت في أصح كتب الحديث عندهم كصحيح البخاري مثلاً، فإن بعضهم كان ينقلب ليدافع عنها ويحاول أن يجد مبرراً لها ويصرّ على عدم التنازل عنها وكأنها أصل من أصول الإعتقاد. وما ذاك إلاّ ما يسمى بالتعصب

الصفحة 187
المذهبي الأعمى الذي لن يجدي بمواجهة الحقيقة لأن إغماض العين عنها لا يعني انتفاء وجودها، وإنّ مثل هؤلاء كمثل النعامة التي تعرفون.

وخلافاً لما يتصوره البعض، فإنّ الإمام المنتظر وبالرغم من اعتقاد جميع الفرق الإسلامية بظهوره في آخر الزمان فإنه سيختلف عليه حين ظهوره وسيكون موضع امتحان كبير للمسلمين كافة، بل ولأصحاب جميع الرسالات السماوية فاليهود والنصارى أيضاً يعتقدون بقدوم المنقذ الموعود.

وقد أخبرت الروايات أنّ المسلمين سيُفتنون بالدجال الذي سيحارب المهدي حتى أنّ كثيراً منهم سيقاتل في صفه والذي تصفه بعض الروايات بالأعور الدجال.

والحقيقة كما أراها أبعد مما يعتقده بعض أهل السنة بأنّه سيكون مكتوباً على جبين الدجال كلمة "كافر"، حيث أنّه من المستبعد أن يُفتن به أحد من المسلمين مادام بإمكانه قراءة تلك الكلمة التي تدل على حقيقته، وأمّا زعم بعضهم بأنّ المؤمن فقط هو الذي سيتمكن من قراءة تلك الكلمة على جبينه، فهذا أيضاً مرفوض لأنّه يعني بأنّ الإمتحان يكون قد حُسمت نتيجته قبل رؤية الدجال، ولا يوجد أي معنى في هذه الحالة للفتنة التي أخبرت عنها الروايات، ونفس الأمر ينطبق بالنسبة لإدعائهم بأنّه سيكون أعور العين.

ولهذا السبب فقد كنت سابقاً أتعجّب كيف يمكن للمسلمين

الصفحة 188
عدم مبايعة المهدي عند ظهوره بل ومحاربته بالرغم من انتظارهم لظهوره ويقينهم بأنّ الله ناصره!؟؟ إلاّ أنّه وبعد بحثي لمسألة الخلاف بين أهل السنة والشيعة وعلمت ما لهذا الرجل من علاقة وثيقة بما يعتقده الشيعة وخصوصاً قولهم بأنّه إمامهم الثاني عشر، فقد بدت لي هذه الفتنة بصورة أكثر جلاء من قبل. فعندما يظهر الإمام المنتظر على حسب مواصفات الشيعة، فإنّهم سيبايعونه في الوقت الذي سيقول فيه المتعصبون من أهل السنة على الفور بأنّ هذا المهدي هو شيعي وليس الذي ننتظره والذي سيكون سنياً بلا شك!

ونستطيع أن نلمس آثار هذه الفتنة في حياتنا المعاصرة من خلال التشنيع والطعن الذي قام به المتعصبون من أهل السنة ضد الثورة الإسلامية في إيران ومفجرها، أو غض نظرهم عنه في أغلب الأحيان لا لشيء إلاّ لأنّه "شيعي"، ودون علم منهم غالباً بحقيقة باعثي هذه الفتنة ومؤججي نارها من أبناء جلدتنا والذين سخرهم أعداء الأمة لهذا الغرض الخبيث، وذلك بالرغم من أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد بشر بهذه الصحوة المباركة وباعثيها في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه بالسند إلى أبي هريرة الذي قال:

كنا جلوساً عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزلت عليه سورة الجمعة ـ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لنا له

الصفحة 189
رجال أو رجل من هؤلاء" (1).

وقد أشار الله تعالى أيضاً في كتابه العزيز إلى هؤلاء القوم بقوله: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)(2) فعن أبي هريرة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تلا هذه الآية سألوه: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بناثم لا يكونوا أمثالنا، فضرب على فخذ سلمان ثم قال: "هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس" (3) وقد نبه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك إلى الفئة التي ستأخذ على عاتقها خلق الفتن بين المسلمين في زماننا، فعن ابن عمر قال: "ذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: هناك

____________

1- صحيح البخاري ج6 ص188 كتاب التفسير باب ـ وآخرين منهم لما يحلقوا بهم ـ، صحيح مسلم ج4 ص1972 ح2546 كتاب الفضائل باب فضل أهل فارس بشرح النووى ج16 ص100.

2- محمد: 38.

3- تفسير ابن كثير ج4 ص196، والقرطبي ج16 ص258، والطبري ج26 ص42، والدر المنثور ج6 ص67.


الصفحة 190
الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" (1).

وهذه الفئة المقصودة في هذا الحديث لم أرى لها تفسيراً إلاّ بالطائفة الوهابية والتي ولد مبتدعها محمد بن عبدالوهاب في إحدى قرى نجد تسمى "العيينة"، هذه الطائفة والتي تحت غطاء التوحيد الذي جعلت منه واجهة لمقاصدها الخبيثة في رمي غيرها من الطوائف لاسيما أتباع أهل البيت(عليهم السلام)بالكفر والشرك، فعلى سبيل المثال فإنّهم يعتبرون التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين شركاً عظيماً بالرغم من وجود ما يناقض ذلك في صحيح البخاري ومما فعله الخليفة عمر(رضي الله عنه). فعن أنس: "إنّ عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون" (2).

وأما سبب تركيز الوهابية على هذا الجانب، فهو لأن اتباع أهل البيت(عليهم السلام)عُرِف عنهم أكثر من غيرهم بتمسكهم واحترامهم لقدسية شخص النبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من بعده لأنهم يرون عظم منزلتهم عندالله تعالى، والذين لولاهم لما اهتدى بشر إلى صراط الله المستقيم ولبقي البشر على غيهم وضلالهم.

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص67 كتاب الفتن باب الفتنة من قبل المشرق.

2- صحيح البخاري ج2ص34 كتاب الإستسقاء.


الصفحة 191
ويكفي في الرد على الوهابية ومبتدعها ما أخرجه البخاري في صحيحه أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه. قيل: ما سيماهم؟ قال: سيماهم التحليق، أو قال: التسبيد" (1).

ومعنى التسبيد هو كما جاء في الحديث الشريف "قدم ابن عباس ـ مسبداً ـ رأسه" أي حالقاً شعر رأسه (2)، وهذه الصفة اشتهر بها الوهابيون كما عرف ذلك من تاريخهم" (3).

والمهدي (عليه السلام) سيأتي لنصرة المستضعفين في الأرض على قوى الإستكبار كلها، فماذا تتوقعون من أعدائه؟ أو ليس إنّهم سيحاولون تسخير المنافقين من المسلمين ووعاظ السلاطين وأئمة الضلال لمحاربة هذا القادم الجديد؟

أو لم تروا في أيامنا هذه كيف استطاع حاكم العراق الذي اشتهر بفسقه وكفر طريقته بأن يغرر بملايين المسلمين الذين خرجوا يهتفون باسمه، عندما تظاهر بالإيمان والإعتماد على الله وإعلان الجهاد ضد الكفار والمشركين حتى اعتقد كثير من البسطاء بأن هذا

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص198 كتاب التوحيد باب قراءة الفاجر والمنافق.

2- مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي: ص282 ط دار التراث العربي للطباعة والنشر.

3- فتنة الوهابية ص77 ط استنبول 1978 م.


الصفحة 192
الدجال أصبح إمام المسلمين حقاً!

وفي ذلك ما يكفي للإشارة إلى ما سيكون عليه حال المسلمين وقت تعرّضهم لحوادث أكبر وأشد، وقد بين المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يجب على المسلمين عمله لضمان النجاة من الغرق في مستنقع هذه الفتن بعد رحيله بالتمسك بكتابه والعترة الطاهرة من أهل بيته ـ كما مر شرحه في الفصل الأول.

فعن حذيفة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله. إنّا كنّا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (1).

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص65 كتاب الفتن باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.


الصفحة 193
والحديث هذا يبين بكل وضوح وجوب الإلتزام بجماعة المسلمين وإمامهم، وإنّه في حال الإلتباس في الأمر وعدم إمكانية معرفة الحقيقة، فإن التوجيه النبوي يأمرنا "بالسكوت"، ويبين الحديث أيضاً أن "الدعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" ليسوا من العجم وإنّما من جلدة العرب الأمر الذي يؤكد ما جاء في الأحاديث السابقة بشأن الطائفة المبتدعة.

والحقيقة أنّ هذه الفتنة التي نمر بها وقد حذرنا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)من مغبة الوقوع في حبائلها، فإنّه يلزمنا أن نكون في أشد حالات الحيطة والحذر باختيارنا للطريق الذي يوصلنا بأمان إلى سنة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وخصوصاً مع وجود الطرق المتعددة والتي يصل عددها إلى ثلاث وسبعين - كما في بعض الروايات ـ وكل من هذه الطوائف تزعم أنّها الحق، إلاّ أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن لنا أنّ واحدة منها فقط هي الناجية ومادونها فهي دون ذلك. وقد وعد الله بنصر هذه الطائفة الناجية بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".

والمسلم بات في أيامنا حائراً ومستغرباً لكل ما يجري حوله من هذه الضجة الكبرى والفتنة العظمى وهو يرى نفسه مطالباً بإعادة النظر بإسلامه وبكثير من الحوادث الهامة في تاريخنا الإسلامي، مما يعتبر مصداقاً لقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ....".


الصفحة 194
ولا شك أنّ من يمعن النظر في تأريخنا الإسلامي وإلى يومنا هذا، ويتأمل بالذي حل بأهل البيت لاسيما الأئمة منم من مصائب ومحن واستضعاف، ويفكر في سبب ضياع الحقيقة بين أهل السنة فإنه سيدرك معنى عودة الإسلام (الغريبة) والتي على ما يبدو قد بدأت فعلاً في السنوات الأخيرة وقد انقشع جزء من الظلمة التي خيّمها الظالمون على اتباع هذا الطريق على مر العصور ومصداقاً لما نطق به المصطفى الهادي(صلى الله عليه وآله وسلم):

"إنّا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي أثرة وشدة وتطريداً في البلاد حتى يأتي قوم من ههنا ـ وأشار بيده نحو المشرق ـ أصحاب رايات سود فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون ويعطون ما شاؤوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً، فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبواً على الثلج" (1).

اللهم عجل فرجه واجعلنا من السائرين تحت لوائه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

____________

1- سنن ابن ماجة ج2 ص1366 رقم الحديث 4082 ـ 4088، مسند ابن ابي شيبة ج15 ص235 ح19573.