الصفحة 58
حاول المسيحيون إيجاد تبريرات لهذه الاختلافات لم يتمكنوا من إيجاد جواب مقنع لها. إذ ينقل كتاب (قاموس الكتاب المقدس) ما نصه النسب المذكور في إنجيلي متي ولوقا هناك شئ من الصعوبة في فهم جدوليهما، إذ نجد فروقا جمة فسرت تفاسير شتى. وهذه الفروق تبرهن استقلال كل من البشيرين عن الآخر في ما كتبه واعتماده على مصادر تختلف عن مصادر أخرى (1).

ويذكر ثلاثة آراء لهذه الاختلافات يبطل اثنين منها ويبقي الآخر، ولكنه أيضا غير مقنع. فإن لوقا يذكر 25 اسما بين داود وزربابل، أما متي فذكر خمسة عشر اسما فقط، وجميع الأسماء تقريبا مختلفة الواحد عن الآخر في الجدول.

2 - في إنجيل متي ومرقس ولوقا يذكر أن رجلا أسمه سمعان هو الذي حمل صليب عيسى (عليه السلام) وأما في إنجيل يوحنا فيذكر أن عيسى (عليه السلام) هو الذي حمل صليبه إلى جلجثة.

3 - أن المسيح (عليه السلام) بعد قيامته وحسب إنجيل متي أمر التلاميذ بالذهاب إلى جميع الأمم وأن يعمدوهم (باسم الأب والابن والروح القدس) أما في إنجيل مرقس فأمرهم بالذهاب إلى العالم أجمع وأن يكرزوا بالإنجيل. وفي إنجيل لوقا وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. وغيرها الكثير. مما سنذكره في

____________

(1) قاموس الكتاب المقدس: ص 1037.

الصفحة 59
مسألة الصلب والقيامة.

خامسا: وإضافة إلى ذلك فإن عددا كبيرا من علماء الكتاب المقدس يرون أن هذه الأسفار الموجودة في العهد الجديد ليست كلها على الأقل مكتوبة بالوحي الإلهي، والاختلافات فيها قائمة إلى يومنا هذا، رغم محاولات الخنق التي قامت بها الكنيسة للآراء والعقائد المخالفة لها.

فمثلا ينقل عن الدكتور موريس بوكاي أن قراءة كاملة للأناجيل يمكنها أن تشوش المسيحيين بصورة هائلة إذ بعد دراسته للعهد الجديد وجد أن التناقضات وعدم التجانس تجتمع على حقيقة أن الأناجيل تحتوي على فصول ومقاطع ما هي إلا الانتاج الوحيد للخيال البشري (1). وكذلك يقول: الدكتور كنيث كراج: أن الأناجيل جاءت من خلال فكر الكنيسة وآراء المؤلفين وأن الأناجيل تمثل التجربة والتاريخ (2). أما كارل أندري أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية في جامعة بول فيقول أن الأناجيل الأربعة قد كتبت من قبل أشخاص متحمسين في الحركة المسيحية المبكرة وأنها تعطينا فقط جانبا واحدا من القصة وهي إلى درجة كبيرة نتاجات افتراضات المؤلفين (3).

وكذلك الدكتور جراهام سكروجي الذي يقول: نعم إن الكتاب

____________

(1) نظرة عن قرب في المسيحية: ص 62.

(2 - 3) نفس المصدر: ص 75.

الصفحة 60
المقدس بشري... هذه الكتب قد مرت عبر عقول الناس، وهي مكتوبة بلغة الناس وخطت بأقلام الناس وأيديهم وتحمل في أساليبها خصائص البشر (1). وغيرهم الكثير، فمنذ القرون الأولى لقبول الكنيسة لهذه الكتب كان يدور هناك النقاش والجدال حول صحتها.

وخلاصة البحث نقول أن العهد الجديد الذي تتمسك به الكنيسة على أنه كتاب سماوي وإلهي، وتستمد منه عقائدها، لا يمكن على أقل تقدير نسبته جميعه إلى الوحي الإلهي، إن لم نقل أنه كتاب تاريخي يحكي بعض الوقائع عن زمان يسوع المسيح (عليه السلام) فهو كتاب من نتاج الخيال البشري ليس إلا. إذ أنه مجموعة من القصص كما ذكر ذلك لوقا، فلا يد للغيب فيه..

____________

(1) نفس المصدر ص 76.

الصفحة 61

عيسى (ع) وحياته في (العهد الجديد)

من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية والتي يحملها كل مسيحي، والتي كنت أحملها بكل وجودي، هو العشق المفرط ليسوع المسيح (عليه السلام) لأني كنت أعتقد أنه ابن الله الحبيب الذي أرسله الله الأب لخلاص العالم، وهو حمله الذي فدى به البشرية جمعاء، فهو ليس انسانا، لأنه ليس له أب كبقية الناس، فكان اسمه دائما يشير إلى الله أبيه، وكذلك العشق لمريم العذراء (عليها السلام) فهي (والدة الله) كما كنا نردد في صلاتنا.

ولم يكن ليخطر في بالي يوما من الأيام أن يسوع المسيح (عليه السلام) هو إنسان كسائر البشر، وذلك لأن تعاليم الكنيسة كانت تؤكد دائما على الجنبة اللاهوتية له، فالأجواء التي كنت أعيشها في البيت وفي الكنيسة، وحتى في المجتمع المسيحي الصغير الذي كان يحيطني، كلها كانت تساعد على تركيز هذا المعنى في قلبي وعقلي، فلم يكن

الصفحة 62
هناك أي مجال للشك في هذه العقيدة.. ولكن من دون التعمق والتفكر فيها، فهي من الأمور المسلمة، وهي سر الله الذي تجسد في يسوع المسيح (عليه السلام) أخيرا.

ولم أكن ألتفت إلى التناقضات في هذه العقيدة، حالي في ذلك حال معظم المسيحيين إذ لا وقت لذلك، والسؤال حول هذه الأمور شبه ممنوع، فالمسيحي عليه أن يتبع ما تقوله الكنيسة ويأخذه أمرا مسلما، فقد نشأنا وتربينا على هذا الاعتقاد.

ولكن بعد المطالعة والتحقيق، والانتباه من الغفلة، أتضح لي الخطأ في الاعتقاد الذي كنت أحمله في المسيح (عليه السلام)، إذ لا يمكن قبول فكرة (البنوة) عقليا فضلا عن القول بالتجسيد.

وقبل الإشارة إلى ما قيل في المسيح (عليه السلام) نقدم نبذة عن حياته كما ترويها الأناجيل والأسفار (العهد الجديد).

2 - ولادته وحياته (عليه السلام):

لقد أختلف العلماء المسيحيون في سنة ولادة المسيح (عليه السلام)، وأول من كتب عن التقويم الميلادي للمسيح (عليه السلام) هو رئيس دير يدعى ديونيسيوس اكسيجؤس الذي مات قبل عام (550) ميلادي فاختار هذا الراهب أن ولادة المسيح (عليه السلام) هي في سنة 754 لتأسيس روما وهذه السنة تقابل العام الأول الميلادي، إلا أن ما ذكره

الصفحة 63
المؤرخ يوسيفوس يظهر بوضوح أن هيرودس الكبير الذي مات بعد ولادة المسيح (عليه السلام) بوقت قصير مات قبل عام 754 لتأسيس روما فعلى الأرجح أنه مات حوالي عام 750 لتأسيس روما، الذي تقابل سنة 4 ق. م.

إذن فميلاد المسيح (عليه السلام) تم أما في أواخر سنة 5 ق. م أو في أوائل سنة 4. ق. م (1).

إن من الغريب في الأناجيل التي تروي حياة المسيح (عليه السلام) وتعاليمه، أنها لم تذكر قصة ولادته إلا في إنجيلين هما (متي - ولوقا) على اختصار شديد، وأما إنجيل مرقس فلم يذكر شيئا بتاتا عن ولادته (عليه السلام)، وأما إنجيل يوحنا فقد اكتفى بذكر التجسد الإلهي بقوله في أول الإنجيل في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب مملوءا نعمة وحقا.

فإنجيل متي يذكر أن الحبل بيسوع المسيح (عليه السلام) كان عن طريق روح القدس (متي: 1 - 18) أي أنه لم يكن هناك تقارب بشري بل كان معجزة إلهية، ولكن متي لا يذكر شيئا عن كيفية هذا الحبل بل يكتفي بذكر مريم (عليها السلام) وهي حبلى قبل أن تدخل إلى بيت يوسف (متى: 1: 19 - 21) ويذكر رؤية يوسف للملاك قائلا له أن الذي حبل

____________

(1) قاموس الكتاب المقدس: 864.

الصفحة 64
به فيها هو من الروح القدس. وأما إنجيل لوقا فهو يذكر الحوار بين الملاك ومريم (لو: 1: 27 - 38) الملاك الذي بشر مريم بيسوع (عليه السلام).

ولما حان وقت الولادة، ولد يسوع (عليه السلام) في بيت لحم في عهد الملك هيرودس الكبير، ويذكر (متي ولوقا) بشارة الملاك للرعاة بالولادة.

ويذكر لوقا أن ختانه (عليه السلام) كان في اليوم الثامن (لو: 2 = 21) - وهذا كل ما تذكره الأناجيل عن ولادته، وأما طفولته فلم تذكر الأناجيل شيئا عنها، سوى إنجيل لوقا الذي يروي زيارة المسيح (عليه السلام) للهيكل وقد بلغ الثانية عشرة من عمره (لو: 2: 41 - 51).

ومما يؤسف له إننا لا نملك أية معلومات عن حال هذا الطفل المعجزة، ولكن هناك بعض الأناجيل الأخرى والرسائل التي تشير إلى بعض تفاصيل حياة سيدنا يسوع المسيح (عليه السلام) ولكن الكنيسة لم تعتمدها ضمن الكتب الملهمة فضاعت أكثرها ولم يبق من البعض منها إلا الاسم فقط.

وتنتقل الأناجيل بعد ذلك لذكر يسوع المسيح (عليه السلام) وهو في سن الثلاثين من العمر أي حوالي سنة 27 ميلادي (لو 3: 23) إذ أنه ترك الناصرة واعتمد من يوحنا المعمدان (يحيى) (عليه السلام)، واقتيد يسوع (عليه السلام) إلى برية اليهودية كي يجربه إبليس (مت: 4: 1 - 11) (فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه

الصفحة 65
المجرب...).

وعندما سجن يوحنا المعمدان، بدأ يسوع المسيح (عليه السلام) دعوته الرسالية في الجليل، فدعا تلاميذه الأولين، وبدأ بإظهار المعاجز وأول معجزة ظهرت للمسيح (عليه السلام) هو تحويله الماء إلى خمر في عرس قانا بالجليل (يو 2: 1 - 11). وعندما أعلن في مجمع الناصرة أنه هو النبي المقصود، رفضه قومه وأهل بلدته (لو: 4: 6 - 30).

ومن بعد هذا أنحدر يسوع (عليه السلام) إلى كفرناحوم واتخذها مركز بث دعوته ونشر رسالته، وبقيت كفرناحوم مركزا له مدة تزيد على سنة كاملة من خدمته، فكان يعلم فيها وفي أنحاء أخرى من الجليل ويعمل المعجزات، وأختار من بين تلاميذه وأتباعه اثنا عشر تلميذا ليكونوا تلاميذه المقربين، وقد علمهم ليكونوا رسله، فذاعت شهرته بسبب هذه التعاليم والمعجزات بين جماهير الجليل، كما وصلت هذه الشهرة إلى الذروة في معجزة إطعام الخمسة آلاف.

وقد عزمت الجماهير على تتويجه ملكا ولكن المسيح (عليه السلام) رفض وانصرف إلى الجبل. وذهب بعد ذلك إلى منطقة صور وصيدا وقيصرية فيلبس. واستمرت معاجزه (عليه السلام) فيها وتبليغ دعوته ورسالته إلى أن اقترب موعد رحيله فقصد أورشليم في المساء السابق لصلبه، فغسل أرجل تلاميذه، ثم صلى، ثم جاء يهوذا الإسخريوطي الخائن مع جمع كثير فسلمه إليهم وهرب التلاميذ كلهم (متي: 26: 56).


الصفحة 66
ويعتقد المسيحيون أنه (عليه السلام) قد صلب ومات وقام من الأموات في اليوم الثالث. وبعد ذلك ظهر لتلاميذه ليبشرهم بقيامته ويرسلهم إلى جميع الأمم لتبليغ تعاليمه وإرشاداته.

هذه باختصار حياة المسيح (عليه السلام) كما تذكره الأناجيل وتعتبر مسألة صلب المسيح (عليه السلام) وقيامته من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية إذ بدونها لا تكتمل فصول عقيدة الفداء والخطيئة الأصلية، ولنلق نظرة عن كيفية صلبه وقيامته، ومن ثم عن موضوع الفداء والخطيئة الأصلية حسب الأسفار الملهمة.


الصفحة 67

الصلب والقيامة

أن قصة صلب المسيح (عليه السلام) في الأناجيل الأربعة فيها الكثير من الاختلاف، وكذلك قيامته.

ففي الأناجيل الثلاثة المتوافقة وعند القاء القبض عليه ينقل أن يهوذا الإسخريوطي تقدم إلى المسيح (عليه السلام) وقبله، وكان قد اتفق مع العسكر على علامة وهي تقبيله للمسيح (عليه السلام) فألقوا القبض عليه (متي: 26: 47 - 55) (مر: 14 - 43 - 46) (لو: 22 - 47 - 51). وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح (عليه السلام) هو الذي خرج إليهم وقال من تطلبون؟، أجابوه يسوع الناصري، قال لهم يسوع (عليه السلام) أنا هو وكان يهوذا واقفا معهم (يو: 18: 2 - 9).

فلا ينقل يوحنا تقبيل يهوذا للمسيح (عليه السلام) بل أن المسيح (عليه السلام) هو الذي عرف نفسه، فهرب التلاميذ كلهم بعد تسليم المسيح (عليه السلام) نفسه، فلم يشهدوا ماذا جرى بعد ذلك، إلا أنها تنقل أن بطرس تبعه

الصفحة 68
من بعيد.

وكذلك تختلف الأناجيل في قصة محاكمته عند بيلاطس، وكذلك في حمله للصليب فتقول الأناجيل المتوافقة أن رجلا قيروانيا اسمه سمعان هو الذي حمل الصليب، (لو: 23: 26 - 27) وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح (عليه السلام) هو الذي حمل صليبه: فخرج وهو حامل صليبه، (يو: 19: 17).

وعند موته أيضا (عليه السلام) تختلف الأناجيل فيما بينها، إذ ينقل متي ومرقس أن يسوع المسيح (عليه السلام) وقبل أن يسلم روحه صاح بصوت عظيم معاتبا ربه (إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني) (مت: 7 2: 46 - 50) ومن ثم صرخ أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، أما لوقا فإنه ينقل أن المسيح (عليه السلام) لم يعاتب ربه، بل أسلم روحه بكل طمأنينة فيقول: ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح (لو: 23: 45 - 47). وأما يوحنا فإنه لم ينقل شيئا عن تلك الصرخة العظيمة بل ينقل أنه عندما أخذ يسوع الخل الذي سقوه قال قد أكمل ونكس رأسه و أسلم الروح (يو: 19: 30).

وأما دفنه فتنقل الأناجيل المتوافقة أنه نحت في صخر، وأما إنجيل يوحنا فيقول: (إنه كان في الموضع الذي صلب فيه بستان و في البستان قبر جديد) (يو: 19 - 40 - 41).


الصفحة 69
وأما عن قيامته فالاختلاف أكثر، لأن الأناجيل المتوافقة هي أيضا مختلفة، فبعد ما طلب رؤساء الكهنة من بيلاطس أن يضع حراسا على القبر كي لا يسرقه التلاميذ ويدعون أنه قد قام استجاب لأمرهم، وعند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم أخرى معها فنظرتا إلى القبر، فحدثت زلزلة عظيمة لأن ملاك الرب نزل من السماء و دحرج الحجر الذي على باب القبر وجلس عليه، وكان لباسه أبيض (متي: 28: 1 - 3).

وأما مرقس فإنه ينقل أنهن لم يسمعن صوت الزلزلة العظيمة، وأن الحجر كان قد دحرج والملك بصورة شاب جالس في داخل القبر على اليمين (مر: 16: 4 - 6)، وأما لوقا فإنه ينقل أنهن دخلن القبر فلم يجدن يسوع (عليه السلام) وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة (لو: 24 - 1 - 4) ويزيد لوقا أنه كان مع النساء أناس آخرون.

وأما يوحنا في إنجيله فإنه يقول أن مريم المجدلية كانت لوحدها، وعندما جاءت ونظرت الحجر مرفوعا عن القبر، ركضت إلى سمعان (بطرس)، والتلميذ الآخر وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه، وجاء بطرس ومعه التلميذ إلى القبر، فدخل بطرس ورأى الأكفان موضوعة، ومن ثم دخل التلميذ الآخر فآمن، لأنهم لم يكونا بعد يعرفون أنه ينبغي أن يقوم من الأموات، فمضى

الصفحة 70
التلميذان وبقيت مريم المجدلية وهز تبكي فنظرت إلى القبر وإذا بملاكين بثياب بيض (يو: - 20: 1 - 13).

وأما ظهوره لتلاميذه ولآخرين فهو الآخر مختلف فيه، فمتي ينقل أنه ظهر لمريم المجدلية ومريم الأخرى وسجدتا له وأمرهما أن يقولا لأخوته أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونه (متي: 28: 9 - 20) وذهب التلاميذ ولما رأوه سجدوا له وبعضهم شكوا (متي 28: - 16 - 18).

وأما مرقس فإنه يذكر في إنجيله أن الملاك الذي رأته مريم المجدلية هو الذي قال لها وللنساء اللاتي معها (إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه) (مر: 16: 7 - 8)، ويردف مرقس أنه ظهر أولا لمريم المجدلية وحدها التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين، فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه ولم يصدقوا (مر: 16: 9 - 12) وبعد ذلك ظهر لاثنين منهم وأخبرا البقية فلم يصدقوا (مر: 16 - 12 - 13) وأخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام (مر: 16: 14 - 16).

وأما لوقا فإنه ينقل أن الرجلين اللذين وفقا بهن بثياب براقة هما اللذان ذكرا النساء بأن المسيح (عليه السلام) قال إنه يقوم من القبر، فتذكرن كلامه (عليه السلام) فأخبرن الأحد عشر ولم يصدقوهن (لو: 24: 4 -

الصفحة 71
12) ويضيف لوقا أنه ظهر لاثنين منهم ويسرد القصة بتفصيل عجيب كأنه كان معهم (لو: 24 - 13 - 33). ويردف لوقا قائلا: (ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم ويقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان (لو: 24: 34 - 35) وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا، فأكل معهم سمكا وعسلا (لو: 24: 35 - 44).

وأما يوحنا في إنجيله فهو ينقل: عندما رأت مريم المجدلية الملاكين، قالا لها (لماذا تبكين؟ قالت لهما أنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه، ولما قالت هذا التفت إلى الوراء فنظرت يسوع وافقا ولم تعلم أنه يسوع، قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟ فظنت أنه البستاني فقالت له يا سيدان كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه، قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت وقالت ربوني الذي تفسيره يا معلم. قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي، ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ) (يو:

20: 12 - 19)، ويضيف يوحنا في إنجيله أيضا (أنه ظهر للتلاميذ عشية ذلك اليوم أول الأسبوع وسلم عليهم وأراهم يديه وجنبه وقال لهم كما أرسلني الرب أرسلكم أنا، أما توما أحد الاثني عشر فلم

الصفحة 72
يكن معهم حين جاء يسوع (عليه السلام) وعندما أخبروه قال لا أؤمن حتى أراه وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم فجاء يسوع (عليه السلام) وسلم عليهم، فآمن توما أيضا) (يو: 20: 19 - 28)، ويذكر يوحنا أيضا (وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه) (يو: 20 - 30 31).

ويذكر في إنجيل يوحنا أيضا في الأصحاح الذي يشك الكثير من علماء الكتاب فيه، ويقولون بأنه إلحاقي وليس من تأليف يوحنا، (والكلام الذي ذكرناه آنفا يدل على أن يوحنا قد أنهى إنجيله ولم يذكر شيئا آخر، وأما الكنيسة فقد اعتمدته وقبلته ضمن إنجيل يوحنا) أنه ظهر (عليه السلام) للتلاميذ على بحر طبرية ويسرد القصة بالتفصيل. (يو: 21:

1 - 23).

هذه هي خلاصة ما ذكرته الأناجيل عن قصة صلب يسوع وقيامته وظهوره لتلاميذه ولآخرين، وفي الحقيقة فإن القارئ للأناجيل الأربعة ينتابه الشك في هذه القصص، فإن صدق بواحدة منها كذب الأخرى، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، لهذا لا أعتقد أن هناك باحثا أو محققا يستطيع الجزم بمسألة صلب المسيح (عليه السلام) وقيامة وظهوره من خلال مطالعته للأناجيل، حيث يصيبه الشك في صحتها لتناقضها.


الصفحة 73
وهنا أقف على بعض النقاط التي أرى لا بد من التوقف عندها فأقول: - أن من الأمور المتيقنة في قصة القبض على المسيح (عليه السلام) والتي لا تختلف حولها الأناجيل هي أن التلاميذ كلهم قد هربوا وتركوه (مر:

14 = 51) (متي: 26 = 56) والذي تبعه حسب بعض الأناجيل هو بطرس فقط، وهو حسب الأناجيل أنكر معرفة المسيح (عليه السلام) وحلف ولعن إني لا أعرف الرجل، وعند صياح الديك خرج وبكى (متي: 26:

71 - 75)، والتفاصيل في قصة متابعة بطرس للمسيح (عليه السلام) وجلوسه أو وقوفه خارج أو داخل الدار كلها متناقضة في الأناجيل، فيبقى السؤال هنا: كيف ينقل متي ويوحنا وهما من التلاميذ قصة حوار رئيس الكهنة مع المسيح (عليه السلام) وهما لم يكونا موجودين؟

فيأتي الجواب من قبل المسيحيين بأننا نقول بأن الالهام والوحي الإلهي هو الذي أوحى إليهما بذلك، ولكن من خلال متابعة قصة القبض على عيسى (عليه السلام) وحتى تفاصيل المحاكمة وصلبه كلها كانت غير متطابقة بل ومتناقضة، فأحدهم يذكر أنه حمل صليبه، والآخر يقول غيره قد حمل الصليب، والبعض يقول قد سقي خمرا والآخر يقول خلا.

فلا يبقى مجال للشك بأن الذي كتب في هذه الأناجيل هو ما كان متداولا على ألسن الناس في ذلك الزمان، والدليل على ذلك قصة

الصفحة 74
ظهور المسيح (عليه السلام) للرجلين حسب إنجيل لوقا (24: 18) إذ يذكر لوقا بالنص فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام.

فمسألة صلب المسيح (عليه السلام) لم ينقلها التلاميذ شهودا، ولا يد للوحي والإلهام الإلهي فيها، بل هي مذكورة كما كانت متداولة بين الناس في ذلك الوقت، والحدث الذي يدور على ألسنة الناس ومن فم إلى فم لا يسلم دائما من الزيادة والنقصان فلا يمكن الوثوق به.

وكذلك مسألة قيامة المسيح (عليه السلام) فهي الأخرى دونت بسبب تداولها بين الناس، إذ نجد في الأناجيل أن مسألة القيامة من أكثر المسائل تناقضا في الأناجيل، فإنجيل يذكر أن من رأى القبر قد دحرج عنه الحجر هي مريم المجدلية ومريم أخرى، والبعض الآخر يقول جاء معهما أناس، وإنجيل آخر أنهن كن نسوة كثيرات، وأيضا الملاك الذي دحرج الحجر، وأحدث زلزلة عظيمة رأته مريم المجدلية جالسا عليه (الحجر) هذا حسب متي (28: 1 - 3) و أما مرقس فإنه يقول أن مريم المجدلية رأت الملاك في داخل القبر على اليمين (مر:

16: 4 - 6)، وأما لوقا، فإنه يؤكد أن النسوة لم يجدن الملاك لا جالسا على الحجر، ولا داخل القبر، بل يذكر فيما هن محتارات إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة (لو 24: 1 - 4) وأما يوحنا فإنه كما ذكرنا يذكر

الصفحة 75
أن مريم المجدلية لم تر ملاكا قط، بل ذهبت إلى بطرس وجاءت به، وبعد مضي بطرس والتلميذ نظرت مريم المجدلية إلى القبر فرأت ملاكين بثياب بيض (يو: 20: 1 - 13).

فهذه القصة لم يروها شاهد عيان، ويبقى السؤال: كيف ينقل كاتب شيئا لم يره؟ فيأتي الجواب كالسابق أن الوحي والإلهام الإلهي هو الذي ألقى في روع الكاتب تدوين هذه القصة، وأعتقد أن هذا الجواب أقبح من السكوت مع هذه التناقضات في هذه القصة.

فلا يبقى لنا سوى أن نقول: أن مسألة صلب المسيح (عليه السلام) وموته وقيامته كانت نتيجة ما انتشر بين الناس من أحاديث، وأعتقد أن الكتب الأخرى التي حرمتها الكنيسة لو كانت موجودة لكشفت لنا الكثير من الحقائق، ولكنها للأسف ضاعت أو ضيعت.

وأما مسألة ظهوره لتلاميذه فهي الأخرى ليست بأحسن حال من الصلب والقيامة وما ذكرته من الاختلافات فيها يكفي لردها..

والمسألة الأخرى المهمة أيضا هي يهوذا الإسخريوطي، فالأناجيل الأربعة لا تذكر عنه شيئا إلا إنجيل متي (27: 3) حيث يذكر (أن يهوذا ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ثم مضى وخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء).

وأما في أعمال الرسل فيذكر لوقا نهاية أخرى ليهوذا إذ ينقل

الصفحة 76
عن بطرس في حديثه عن يهوذا فإن هذا أقتني حقلا من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دم أعمال الرسل: 1: 15 - 20)، وكلام بطرس كان بين التلاميذ الذين يذكرهم لوقا بأسمائهم، ومن ضمنهم (متي) صاحب الإنجيل، فكيف خفي على (متي) نهاية يهوذا وأنه هو الذي اشترى الحقل لا رؤساء الكهنة، وأنه سقط وانسكبت أحشاؤه فمات، ولم يمت مخنوقا، فإذا كانت هذه القصة حسب أعمال الرسل مشهورة ومعلومة عند سكان أورشليم كيف خفي ذلك على (متي) الرسول؟

إذن اعتقد أن مسألة خيانة يهوذا صحيحة ولكن كيفية موته ونهايته متناقضة، لذا فإن التفسير الاسلامي لمسألة صلب المسيح (عليه السلام) وأنه يصلب ولكن شبه لهم هي الصحيحة، ويؤيد ذلك إنجيل برنابا الذي يذكر أن يهوذا هو الذي صلب بدل عيسى (عليه السلام) ويحتمل أن نهايته هذه كانت قد ذكرت في الكتب (المنحولة) الأخرى التي رفضتها الكنيسة.

والآن يمكننا أن نفهم لماذا رفضت الكنيسة في القرن الرابع الميلادي كل تلك الكتب، واختارت كل ما يصب في صالح العقيدة التي تريد أن تلبسها للمسيح (عليه السلام) وتعاليمه فتجعلها ديانة منسوبة إليه

الصفحة 77
أسما.

والمسألة الأخرى التي أراها مهمة هي أن الأناجيل كلها والأسفار لم تذكر شيئا واحدا عن مريم العذراء (عليها السلام) وهي والدة المسيح (عليه السلام) والشخصية المقدسة الثانية في المسيحية بعد المسيح (عليه السلام) فهي لم يذكر عنها أنها رأت المسيح (عليه السلام) بعد قيامته ولم تحضر عند قبره، وهل يعقل أن المسيح (عليه السلام) يظهر لمريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين، ولا يظهر لأمه العذراء مريم (عليها السلام) ليهدئ ويخفف من آلامها وحزنها؟ ألم تكن هي الأجدر بالظهور لها، لأنها أمه أولا ولمنزلتها الرفيعة المباركة ثانيا؟ وأعتقد أن لهذا السكوت دلائل ومؤشرات وتساؤلات نتركها لعلماء الكنيسة ليجيبوا عنها..

كانت هذه خلاصة عن صلب المسيح (عليه السلام) وقيامته وأما قصة الفداء والخطيئة الأصلية فنشير إليها مختصرا.


الصفحة 78

الصفحة 79

الفداء والخطيئة الأصلية

أن من العقائد الأساسية والمهمة في الديانة المسيحية، والتي كنت أعتقد بها هي مسألة الفداء. ومن أجل فهم هذه العقيدة يجب الرجوع، إلى الخطيئة الأولى التي اقترفها أبونا آدم (عليه السلام).

فنحن كمسيحين كنا نعتقد أن آدم وحواء (عليهما السلام) وبسبب خطيئتهما منذ الزمن الأول، فإن الإنسان قطع علاقته مع ربه وخالقه، وتخلى عن الله سبحانه، وآدم (عليه السلام) بهذه الخطيئة جعل ذريته كلها في حال ابتعاد وانفصال عن الله، وكان نتيجة هذا الانفصال موت الإنسان، وهكذا دخل الموت إلى جميع الناس كعقاب للخطيئة.

وهذا الموت هو روحي وأبدي وانتقلت هذه الخطيئة إلى ذريته جيلا بعد جيل، فيولد الإنسان وهو حامل لها، ومتلوث بها، وبسبب هذه الخطيئة خسر الإنسان الطهارة وبانت عورته شهواته وأهواؤه الآثمة.


الصفحة 80
وآدم (عليه السلام) بعمله هذا هدم صورة الله فيه وحطم التضامن والمحبة بينه وبين الله، ولكن بما أن آدم (عليه السلام) قد تاب من خطيئته وقبل الله توبته، لم يتخل الله عنه نهائيا، وذلك بسبب توبته الصادقة، بل وعده بالخلاص وبانتصاره على عدوه اللدود (الشيطان)، ووعد بإرسال المخلص والمفدي الذي يفدي البشرية عن خطاياها، ويحمل هو تلك الخطايا عنهم، فتفتح أبواب الملكوت بمجيئه وتتم المصالحة بين الله والانسان من خلاله.

وعندما تم الزمان بعد طول انتظار أرسل الله سبحانه ابنه الحبيب ليفدي البشرية كلها عن خطاياها ويفتح عهدا جديدا بين الله والانسان، وبالآلام والصلب الذي يتحمله هذا الابن (الوحيد) ترفع الخطيئة عن كاهل الإنسان ويتطهر منها، ليعيش حياة جديدة وسعيدة مع هذا الحدث الإلهي الموعود.

هذا باختصار ما كنا نؤمن به من عقيدة الفداء، ولهذا ومن أجل إكمال فصول هذه العقيدة رأينا كيف أن العهد الجديد يذكر لنا قصة آلام المسيح (عليه السلام) وصلبه وقيامته ويؤكد عليها.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه العقيدة (الخطيئة الأصلية والفداء) لا نجدها في الأناجيل الأربعة المهمة، فهذه الأناجيل لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى موضوع آدم وخطيئته الأولى، وأنما ظهرت هذه العقيدة من رسائل بولس ولا سيما رسالته إلى

الصفحة 81
الرومانيين، فهو يقول في (5: 12) (من أجل ذلك كأنما بانسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع، فإنه حتى الناموس كانت الخطيئة في العالم).

فبولس هو أول من تكلم عن الخطيئة الأصلية وأن البشرية كلها قد تلوثت بسبب هذه الخطيئة، ويعود بولس مجددا ليبين أنه كما بانسان واحد دخلت الخطيئة والموت إلى العالم كذلك الحياة والخلاص يكون بانسان واحد وهو المسيح (عليه السلام)، إذ يقول بولس في رسالته إلى الرومانيين (5: 17 - 19) لأنه كان بخطيئة الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح (عليه السلام). فإذا كما بخطيئة واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة.

فهنا وجه شبه بين آدم (عليه السلام) والمسيح (عليه السلام) وهو أنه كما كان آدم سبب الخطيئة و الموت لكل الذين يتعلقون به بالولادة الطبيعية كذلك المسيح (عليه السلام) هو علة التبرير والحياة لجميع الذين يتعلقون به بالولادة الروحية (1).

فيمكننا القول بأن واضع حجر الأساس لهذه العقيدة هو بولس

____________

(1) تفسير العهد الجديد: 390.

الصفحة 82
وليس المسيح (عليه السلام)، وهنا أيضا نشير إلى بعض التساؤلات والنقاط حول هذه العقيدة فنقول:

أن مسألة مهمة وأساسية في العقيدة المسيحية (كمسألة الخطيئة الأصلية والفداء) هل يمكن القول أن المسيح (عليه السلام) تجاهلها أو نساها فلم يتحدث عنه (على الأقل حسب ما تنقل الأناجيل الأربعة الملهمة) وسكت، وجاء بعد ذلك رجل متعصب لليهودية (بولس) ومضطهد وقاتل لأتباع المسيح (عليه السلام) فيعلن عن هذه العقيدة فقبلتها الكنيسة واعتبرتها ركنا من أركانها، هل يليق هذا بالمسيح (عليه السلام)؟ ومع أن هدفه (والقول للمسيحيين) خلاص البشرية و فدائها، ولكنه لا يوضح المهمة الأساسية التي أرسل من أجلها، ولا يفهم الناس أنهم كلهم ملوثون بخطيئة آدم (عليه السلام) الأولى وهو الذي ينقذهم من هذه الخطيئة، بل يوكل الأمر إلى بولس ليبينها ويعلنها مع أنه ليس من التلاميذ الذين أختارهم المسيح (عليه السلام) في حياته.

أولم يكن من الأولى للمسيح (عليه السلام) أن يبين هذه العقيدة بشكل واضح لتلاميذه على أقل تقدير، ليتسنى لهم توضيحها للناس وخصوصا أنه أرسلهم إلى كل الأمم ليبشروا بالإنجيل وتعاليمه.

فنحن نجد أن الأناجيل الأربعة ولا سيما إنجيلي متي ويوحنا (الذين يزعم المسيحيون أنهما منسوبان لمتي ويوحنا الرسولين) لا تتحدث ولا تشير إلى خطيئة آدم (عليه السلام) أبدا، بل حتى مرقس (تلميذ

الصفحة 83
الوصي والرسول بطرس) هو الآخر لم يذكرها في إنجيله مع أنه حسب ما ينقل كان من المقربين لبطرس، بل أن إنجيله كما يذكر هو زبدة تعاليم بطرس، وإضافة إلى ذلك فقد كان مرافقا لبولس نفسه فكيف لم يسمع بهذه المسألة المهمة ولم يدونها، وكذلك الحال بالنسبة إلى لوقا فإنه كان رفيق بولس في بعض أسفاره، ولكنه لم يذكر شيئا عن الخطيئة الأصلية والفداء.

وتساؤلات أخرى كلها تثير الشكوك حول هذه العقيدة، التي لم ينطق بها المسيح (عليه السلام) ولا تلاميذه ورسله، بل كانت من وحي وخيال بولس، وأعتقد أن بولس باضطهاده وقتله للمسيحيين بشدة قبل توبته أشعرته بعظم الخطيئة التي ارتكبها بعد التوبة والإيمان، وللخلاص من تأنيب الضمير وتبرير تلك الأفعال والخطايا التي قام بها، جاء بهذه الفكرة وألبس البشرية كلها ثوب الخطيئة والمصيبة إذا عمت هانت هذا كله إذا أحسنا الظن بالقديس بولس وإيمانه وتوبته الصادقة وصحة الرسائل المنسوبة إليه.

إضافة إلى كل هذا يبقى هناك سؤال مهم يطرح نفسه حول هذه العقيدة وهو: ما ذنب الناس منذ القرون الأولى للبشرية أي منذ زمن آدم (عليه السلام) حتى زمن المسيح (عليه السلام)، فهل كلهم خطاة ولم يغفر لهم، مع أن فيهم كما يذكر الكتاب المقدس بعهديه، أنبياء وأولياء وأتقياء وشهداء استشهدوا في سبيل الله كما يذكر عيسى (عليه السلام) نفسه في العهد الجديد

الصفحة 84
عن مقتل زكريا، فماذا كان مصيرهم؟

وللحرج الذي يقع فيه المسيحيون من هذا السؤال يجيبون عنه جوابا أعتقد أنه مخالف للفطرة والعقل البشري وفيه إهانة كبيرة إلى كل الأنبياء العظام فيقولون أما مصير الذين ماتوا قبل هذه الساعة فقد هلك الخطاة، وأما أصحاب القلوب النقية - يقول المسيحيون - فقد ماتوا على رجاء الخلاص، وهذا ما يفسر بوضوح نزول المسيح (عليه السلام) إلى الجحيم ليحرر هذه النفوس التي كانت تنتظر مجيئه (1).

فعلى هذا يجب أن نقول أن نوحا نبي الله وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وداود وإسحاق ويعقوب والأنبياء العظام كلهم (صلوات الله وسلامه عليهم) يصلون الجحيم منتظرين نزول المسيح (عليه السلام) إليهم لإنقاذهم!!!

فأي عقل سليم يقبل مثل هذا الهراء؟ إضافة إلى ذلك فإنه مخالف للعهد الجديد نفسه إذ يقول متي في إنجيله (8 - 1 1) وأقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق المغارب ويتكئون مع إبراهيم و إسحاق ويعقوب في ملكوت السموات.

وأيضا من تصريح المسيح (عليه السلام) من أن الأطفال والأولاد لهم ملكوت السموات، فإن كان المسيح (عليه السلام) يعظم الأنبياء في أماكن

____________

(1) المسيح في الفكر الاسلامي: 345.