وأما تسميته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن له أسماء كثيرة أشهرها اسمان أحدهما (أحمد) إذ سمته أمه بذلك كما أمرت في المنام، وسماه جده عبد المطلب في اليوم السابع (عندما عق عنه بكبش واحتفل بميلاده) (محمد) وعندما سئل عن سبب تسمية المولود بهذا الاسم أجاب أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض (2) وقد اشتهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذين الاسمين منذ صغره ونرى ذلك واضحا في أشعار عمه أبي طالب.
رضاعه
كان المشهور من عادة العرب أن يدفعوا أولادهم الرضع إلى
____________
(1) سيد المرسلين 1 / 202، تاريخ اليعقوبي 2 / 5، السيرة الحلبية 1 / 67، وغيرها.
(2) السيرة الحلبية 1 / 78.
أولا: ثويبة: مولاة (أبي لهب) فقد أرضعته لفترة أربعة أشهر فقط، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدر عملها هذا حتى آخر لحظات حياتها، فكان يكرمها كثيرا لعملها هذا.
ثانيا: حليمة السعدية التي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن، وكانت مراضع بني سعد مشهورات بهذا الأمر بين العرب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد إلى مكة، وكانت هذه القبيلة تسكن أطراف مكة، وكانت نساء هذه القبيلة يأتين كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء ويذهبن بهن إلى البادية، وقد دفع جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (عبد المطلب) حفيده إلى حليمة السعدية، وبقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بني سعد خمس سنوات وفي بعض الكتب أربع سنوات، ثم أرجعته إلى أمه آمنة بنت وهب، ويذكر المؤرخون بعض المعاجز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الفترة أيضا (1).
وتذكر حليمة أن الخير والبركة حلا بحلول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دارها،
____________
(1) راجع السيرة الحلبية 1 / 90، سيرة المصطفى (هاشم معروف الحسني):
ص 43، وغيرها.
طفولته
بعد فترة من رجوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من البادية إلى أحضان والدته آمنة بنت وهب، أخذته أمه لزيارة قبر والده (عبد الله) الذي توفي في يثرب على أثر مرض ألم به، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رآه قط، وهي الزيارة الأولى التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبر والده، وعند العودة من هذا السفر، شاءت الأقدار الإلهية أن يفقد هذا اليتيم أمه أيضا، قبل وصوله إلى مكة، في منطقة يقال لها الأبواء وله من العمر ست سنين، وقيل أكثر من ذلك قليلا (2).
فذاق هذا الطفل الحرمان منذ طفولته، و قد تكفل به جده عبد المطلب سيد قريش، وكان يحبه كثيرا، وشديد الرعاية له، فإنه كان يفضله على جميع ولده، وكانت ملامح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والبركات والمعجزات التي رافقته منذ ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم) تدفع جده إلى التنبؤ بمستقبل عظيم لهذا اليتيم، حيث ينقل المؤرخون عنه أنه كان يقول:
____________
(1) السيرة الحلبية 1 / 89.
(2) سيد المرسلين: ص 227.
ولم يدم هذا الحنان والعطف الذي أحاطه به جده (عبد المطلب) كثيرا، إذ أن الموت، سنة الله في خلقه، نزل به ولم يكمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثامنة من عمره، واعتصر قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألما وحزنا على فراق جده العطوف، الذي كان بلسما لجراحات يتمه، وأوصى به جده حين وفاته ابنه (أبا طالب) عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان أخا لعبد الله والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أم واحدة، فتكفله أبو طالب، وشمله برعايته وعطفه، فكان خير كفيل له في صغره، وخير ناصر ومعين عندما أحتاج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأنصار لنشر دعوته، وكان أبو طالب معروفا بين أهل مكة بجوده وكرمه، فهو سيد بني هاشم، ومع أنه كان فقيرا فقد خضع له القريب والبعيد.
وقد جاء عن وصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: إن أبي ساد الناس فقيرا، وما ساد فقير قبله (1)، وكانت زوجة أبي طالب أيضا تشمله برعايتها الخاصة، وتحرص عليه أكثر من أولادها، ويمكن القول بأن أبا طالب وزوجته فاطمة بنت أسد استطاعا أن ينسيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارة اليتم، بالرعاية التي أحاطاه بها، وتنقل كتب التاريخ أن فاطمة بنت أسد كانت في سني الجدب
____________
(1) سيرة المصطفى 49.
ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثانية عشرة من عمره الشريف، اصطحبه معه أبو طالب في سفره التجاري إلى الشام، ولما وصل إلى منطقة تدعى بصرى، وقعت حادثة أدت إلى أن يرجع أبو طالب إلى مكة مع ابن أخيه قبل أن يصلا إلى الشام، وتلك الحادثة تنقلها كتب التاريخ بتفصيل، ونحن ننقلها هنا باختصار:
لما نزل الركب (بصرى) من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، وينقل أنه كان قد انتهى علم الكتاب إليه، إذ توارثه كابر عن كابر، عن أوصياء عيسى (عليه السلام) فلما نزلوا، وكانت القوافل التجارية لقريش كثيرا ما تمر من هذا المكان فلا يكلمهم الراهب بشئ، ولكنه في هذه المرة، عندما رأى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه غمامة تظله من بين القوم، صنع لهم طعاما ودعاهم إليه، فقال رجل منهم للراهب أن اليوم لك شأنا، ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا، فقال الراهب: صدقت ولكنكم ضيف وأحببت أن أكرمكم، ولما جاءوا إلى الصومعة، جعل بحيرا الراهب يلحظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا، أنفرد الراهب بالنبي (صلى الله عليه و آله وسلم) وسأله عن أشياء في حاله، في يقظته ونومه، فأخبره
شبابه
لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما يتصف به من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، قدوة بين قومه و عشيرته منذ شبابه، ومثالا للنبل والشرف والشجاعة والصدق والأمانة، فكانوا يلقبونه (بالصادق الأمين)، فقد حضر (صلى الله عليه وآله وسلم) (في حلف الفضول) (2) وهو لم يبلغ العشرين من عمره.
وينقل التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشتغل في فترة شبابه في رعي الغنم، وقضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شطرا من عمره في هذا المجال، وبسبب
____________
(1) تاريخ الطبري 1 / 519، السيرة الحلبية 1 / 231، وغيرها من الكتب التاريخية.
(2) وكان الهدف من هذا الحلف هو الدفاع عن حقوق المظلومين والوقوف بوجه العدوان وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بعثته لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ولو دعيت إلى مثله لأجبت.
فقبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك العرض، وخرج بمال خديجة ذلك العام قاصدا الشام للتجارة، ووصل إلى الشام وباع البضاعة، وربح ربحا كبيرا، كما أنه اشترى بضاعة لبيعها في مكة، وأقبل راجعا إلى مكة ومعه الربح الكثير، وأخبر أحد الغلامين واسمه (ميسرة) خديجة عند رجوعه إلى مكة، بحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض الكرامات التي لمسها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عن أخلاقه وخصاله الكريمة، وأبلغها بالربح الكبير الذي أصابهم من تجارتهم هذه فينقل عنه أنه قال لقد
____________
(1) سيد المرسلين 1 / 254.
ففرحت خديجة (رضي الله عنها) عندما سمعت ذلك من الغلام، وكانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا، وأكثرهن مالا، وأحسنهن جمالا، وأقواهن عقلا وفهما، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدة عفتها، ولمكانتها الرفيعة كان أشراف قريش كلهم حريصين على الاقتران بها (إذ أنها لم يكن لها زوج وقد بلغت الأربعين من عمرها كما تذكر كتب التاريخ) وكانوا يقدمون لها العروض المغرية، ولكنها كانت ترفضهم الواحد بعد الآخر، ولكن بعد ما سمعت ورأت من صفات وأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثت إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت له: يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، وعرضت عليه الزواج منها، فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبا طالب وأخبره بأنه يريد الزواج من خديجة، ففرح عمه بذلك، فقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نفر من أعمامه يتقدمهم أبو طالب طالبا خديجة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان والدها قد توفي، فخطبها عمه أبو طالب من عمها (عمر بن أسد) وخطب أبو طالب خطبته وقال:
الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم (عليه السلام) وذرية إسماعيل (عليه السلام) وجعل لنا بيتا محجوبا، وحرما آمنا وجعلنا الحكام
____________
(1) بحار الأنوار 16 / 5.
وقد أنجبت له (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أولاد: ولدان، وأربع بنات وهم:
القاسم (وقد كني به (صلى الله عليه وآله وسلم)) و عبد الله اللذان كان يدعيان أيضا ب الطاهر والطيب وأربع بنات هن: رقية، زينب، أم كلثوم، وفاطمة (عليها السلام)، وأما الذكور من أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) فماتوا قبل البعثة،
____________
(1) سيرة المصطفى: ص 59.
ومما تذكره كتب التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعبد صنما قط طوال حياته، وأما سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ زواجه من خديجة وحتى بعثته، فالمشهور عنه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشتغل باللعب واللهو أبدا كما كان يفعل الرجال، بل كان يعيش كالحكماء والأنبياء حتى قبل بعثته، فبالرغم من الأموال الطائلة التي وضعتها خديجة تحت تصرفه، كان يعيش الحياة البسيطة الخالية من كل ترف وبذخ، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقضي معظم أوقاته في التفكر والتأمل، وكثيرا ما كان يلجأ إلى سفوح الجبال المغارات للخلوة مع ربه، والاشتغال بعبادته جل وعلا، وكان إذا تأخر (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خديجة علمت أنه يتعبد خارج مكة.
ومن الأحداث المشهورة في كتب التاريخ والتي تشير إلى حكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي حادثة هدم الكعبة وبنائها من جديد، فينقل المؤرخون أنه تم هدم الكعبة وبناؤها من جديد لأنها تصدعت من أثر السيل الذي أصابها، ولما تكامل البناء إلى موضع الركن، وقعت الخصومة بينهم فيمن يرفع الحجر الأسود ليضعه في مكانه، وكاد أن ينشب القتال بينهم، لأنهم يرون أن من يضع الحجر الأسود في مكانه يكون له الفضل والسيادة والفخر، ثم تشاور شيوخهم واتفقوا أن يكون أول وافد عليهم هو الذي يضع الحجر الأسود مكانه، وكان أول من
____________
(1) سيد المرسلين 1 / 278، وغيره من الكتب التاريخية.
بعثته
لقد كانت مسألة ظهور نبي في آخر الزمان من الأمور الرائجة في تلك المنطقة في ذلك الزمان، وقد اتفق المؤرخون على أنه قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ظهرت بوادر التنكر للوثنية بين العرب في شبه الجزيرة العربية فكان هناك من يترقب ظهور نبي ينقلهم من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الإله الواحد، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، ورقة بن نوفل، عبيد الله بن جحش وآخرون غيرهم، ينقل عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يوصي ابنه قائلا:
أنا ننتظر نبيا من ولد إسماعيل ولا أراني أدركه، بين كتفيه خاتم النبوة، اسمه أحمد، يولد ويبعث في هذا البلد (مكة) فإياك أن تخدع عنه، فأني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه
وكما ذكرت فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غالبا ما يلجأ إلى الجبال لفترة من أجل الخلوة والعبادة والتفكر، وكان يقضي أكثر الأوقات في (غار حرا) (2). فكان يقضي شهر رمضان كله من كل عام في غار حراء مكتفيا بالقليل من القوت تحمله إليه زوجته الوفية خديجة، وفي غير شهر رمضان أيضا كان يقضي أوقاتا طويلة في هذا الغار مستغرقا ومنقطعا عن الدنيا، ومهيئا نفسه لأمر عظيم ينتظره.
وفي ذلك الغار تجلى الكلام الإلهي على لسان الروح الأمين (جبرئيل)، موحيا ببداية آخر الرسالات الإلهية وأعظمها، وفيه اختار الله سبحانه عبده ورسوله (محمدا) (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصدع بالدين الخاتم، وفيه نزلت أول آيات القرآن الكريم الكتاب الإلهي كتاب الهداية والسعادة.
نعم في غار حراء كانت البداية، فبعد أن قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فترة طويلة في العبادة والانقطاع إلى خالقه، جاءه رسول ربه - جبرئيل الأمين - يناديه بصوت لا ينفذ لغير قلبه قائلا اقرأ يا محمد فيصغي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجيب ما أنا بقارئ حيث أنه كان لم يدرس عند أحد، ويردد عليه جبرئيل القول، ويكرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أنا
____________
(1) الفضائل الخمس من الصحاح الستة ج 1 / ص 31، سيرة المصطفى: ص 91.
(2) يقع جبل حراء في شمال مكة المكرمة ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمن، وهو من الأماكن المقدسة عند المسلمين يقصدونه للزيارة والتبرك.
الدعوة إلى الإسلام
بدأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته سرا، فكان يدعو الناس إلى الإسلام بالخفاء، من خلال اتصاله الشخصي بمن يراه مؤهلا وصالحا للدعوة ومستعدا لقبول النور الإلهي، وأول من آمن به من النساء زوجته خديجة، ومن الرجال ابن عمه ووصيه (علي بن أبي طالب (عليه السلام))، واستمرت دعوته السرية (صلى الله عليه وآله وسلم) مدة ثلاث سنوات، استطاع خلالها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجذب إليه جماعة من الناس، قبلوا دعوته وآمنوا بالله الواحد وكفروا باللات والعزى (صنمي قريش)، ولكنهم حاولوا
____________
(1) العلق: 1 - 5.
ولكن سرعان ما وصلت أخبار دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أسماع مشركي قريش، ولكنهم سخروا منها لأنهم لم يشعروا بخطر يهددهم، ولا سيما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتعرض لأصنامهم بسوء بصورة علنية خلال دعوته السرية..
وبعد هذه الفترة، جاء الأمر الإلهي ببدء الدعوة العلنية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل سبحانه * (واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (1). فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يدعو إليه سرا، وأمره الله سبحانه أولا بعشيرته وأقربائه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (2).
فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سادة عبد المطلب وشيوخهم إلى مأدبة، ولما فرغوا من الطعام تلكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا: أن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو أني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبدا والنار أبدا، ثم أضاف يا بني عبد المطلب أني والله لا أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فسكت القوم جميعا. وقام
____________
(1) الحجر: 94.
(2) الشعراء: 214.
إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.. فقام القوم يضحكون مستهزئين به (1).
وبعدها تسربت أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته في مكة وخارجها، ولم يعد أمرها خافيا على أهل مكة والقرى المجاورة، وشرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنشر تعاليم ربه بين الناس، يأمرهم بعبادة الله وحده ونبذ الأوثان والأصنام، ويدعو إلى العدل والمحبة ويؤكد على كرامة الإنسان وحريته، وينهاهم عن الظلم والفسق والفواحش، عندها أحس طواغيت قريش بالتهديد والخطر الذي يواجههم، فرأوا في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحديا لدينهم وإساءة لآلهتهم وأصنامهم، وتهديدا لمصالحهم، فتشاوروا وأجمعوا على القضاء على دعوته قبل استفحالها فاستخدموا شتى الوسائل من تهديد وترغيب وتعذيب، فكانوا يعذبون كل من آمن بدعوته عذابا شديدا قد يصل في بعض الأحيان إلى الموت، ولكن بالرغم من كل هذا، كان الناس يرون أن تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرب إلى فطرتهم، فيدخلون في الدين الجديد ويتحملون الأذى والصعاب في سبيل الله.
وحاولت قريش التعرض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن وجود عمه أبي طالب كان يحول دون ذلك، إذ أنه كان سيد بني هاشم وأمره مطاع
____________
(1) تاريخ الطبري 1 / 542.
واستمر انتشار الإسلام وتعاليمه في مكة، واعتنق هذا الدين أناس من مختلف القبائل، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغل فرصة حج القبائل إلى مكة في كل عام، فيعرض الدين على القبائل المختلفة التي تقصد مكة، ولرفعة تعاليم الإسلام وجاذبيتها، ونزول القرآن الكريم ببيانه الإعجازي، وخلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعامله وفصاحته، كانت الناس تندفع إلى قبول هذا الدين الجديد، فأصبح له أنصار وأتباع في مكة وخارجها.
فأحس طواغيت قريش أن دينهم وآلهتهم وأصنامهم في خطر كبير، فجاءوا إلى أبي طالب كفيل الرسول وحاميه وأبلغوا تهديدهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطته وقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب ألهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
فجاء أبو طالب وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله زعماء قريش، فكإن الرد النبوي بأنه لن يترك دعوته لأنها أمر إلهي، فلما علموا ذلك احتالوا أن يسلكوا طريق الترغيب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعرضوا
مما دفع بالمشركين إلى تصعيد حملات التعذيب للمسلمين، ونشر الإشاعات والكذب عن شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشتمه وقذفه.
الهجرة إلى الحبشة
لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن حملات التعذيب اشتدت على المسلمين، وليس له القدرة على دفع الأذى عنهم أمرهم بالخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة، وقال لهم أن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد.
حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، وهي الهجرة الأولى للمسلمين.
وكان بالحبشة ملك نصراني يدعى (النجاشي) معروف بعدالته، وبعد ما وصل بعض المسلمين إلى الحبشة ورأوا حسن المعاملة هناك، بدأت الهجرة الثانية للمسلمين إليها، وكان عددهم أكبر بكثير من المهاجرين الأوائل للحبشة، وقد وجد المسلمون بلاد الحبشة كما وصفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلاد آمنة، فلم يتعرضوا فيها إلى مضايقة. ولما
____________
(1) سيد المرسلين: 1 / 404.
أن الذين هاجروا إليك هم سفهاء فارقوا دين قومهم وجاءوا بدين جديد، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم لتردهم إليهم فدعا الملك المهاجرين وأحضرهم عنده يسألهم عن أمرهم، وكان متكلمهم (جعفر بن أبي طالب) فسأله النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟
فأجابه جعفر قائلا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا في ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا
فأثر حديث جعفر بالملك، فقال له: هل معك مما جاء به عن الله من شئ؟ فقال جعفر نعم، فقرأ جعفر مطلع سورة (مريم) والتي تبين طهارة وعفة مريم (عليها السلام) وقدسيتها وعظمة مقام المسيح (عليه السلام) وعلو شأنه، فلما سمع النجاشي ذلك بكى حتى اخضلت لحيته بالدموع وبكت الأساقفة و قال النجاشي: أن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى موفدي قريش وقال، انطلقا فلا والله فلا أسلمهم إليكما، ورد إليهم هداياهم (1).
وتنقل الكتب التاريخية أنه أسلم بعد ذلك، ولما رجع الوفد إلى مكة خائبا، عمد المشركون وطواغيت مكة هذه المرة إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي.
الحصار الاقتصادي والاجتماعي
وبعد كل هذه المحاولات البائسة من قبل طواغيت قريش اجتمعوا وقرروا في هذه المرة على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشيرته لإجبارهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتخلي عن موقفه ودعوته، فكتبوا صحيفة و علقوها في جوف الكعبة
____________
(1) السيرة النبوية (أحمد بن دخلان) 1 / 213 وغيرها.
فلما فعلت قريش ذلك انحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فأمرهم أبو طالب بالخروج من مكة ودخول وادي بين جبال مكة يعرف ب (شعب أبي طالب) وقد أستمر هذا الحصار مدة ثلاث سنين، وكان شديدا وقاسيا كما ينقل المؤرخون وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم فيأتون إلى مكة فيشترون ويبيعون رغم مضايقة قريش لهم في هذه الفرصة أيضا، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهز هذه الفرصة لنشر دعوته بين القبائل التي تقصد مكة عادة في هذه الفترة.
واستمر الحال كذلك إلى أن أوحى الله سبحانه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن (الأرضة) (2) قد أتلفت صحيفتهم ولم يبق فيها إلا جملة (باسمك اللهم) فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبو طالب بذلك، فجاء أبا طالب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مشركي قريش قال لهم: أن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله سبحانه أوحى إليه أنه بعث على صحيفتكم الدابة فأكلت جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم الله فقط، فهلم صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله
____________
(1) تاريخ الطبري ج 1 ص 549، السيرة النبوية ج 1 ص 213.
(2) حشرة معروفة تنخر في الأخشاب والأوراق.
فرضوا بذلك وتعاقدوا عليه ثم أنزلوا الصحيفة من الكعبة وإذا ليس فيها حرف إلا جملة (باسمك اللهم) كما أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن رغم ذلك بم يوفوا بعهدهم وازدادوا تكبرا وتعندا، ولكن بعض المشركين ندموا على فعلتهم ونقصوا المقاطعة فرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشيرته إلى مكة ثانية (1).
ولكن و بعد فترة من رجوعهم أصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حادث مؤلم وهو رحيل زوجته الوفية خديجة التي عاضدته طوال فترة دعوته بكل وجودها، فتألم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا لهذا المصاب، ولم ينقضي حزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أصيب بنكسة أعظم وهي وفاة كفيله وحاميه والمدافع عنه عمه أبي طالب، الذي عانى وأهله الكثير وعرض نفسه للموت و الحرمان من أجل نشر الدعوة الإلهية، فعظمت المصيبة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ينقل عنه أنه ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك لأن قريش شددت بعد ذلك من آذاها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا.
____________
(1) حياة النبي وسيرته، الشيخ محمد قوام الوشنوي ص 161، سيد المرسلين ج 1 ص 503.
هجرته (ص)
بعد أن فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبا طالب وزوجته، واجه ظروفا صعبة للغاية، وأحدقت به الأخطار وأصبحت تهدد حياته، فعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخروج من مكة لأنه أحس أن تبليغ الدعوة في مكة لم يعد ممكنا، فاتجه نحو الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام، فأبوا ذلك ورفضوه، و لم يكتفوا بالرفض بل قذفوه بالحجارة حتى سالت دماؤه، فرجع إلى مكة.
ورغم الاضطهاد الذي واجهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، استمر في نشر الرسالة الإلهية بين القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج والاتصال بأشرافها، وكان العرب من أهل يثرب من قبيلة الأوس والخزرج ممن يأتون إلى مكة في كل موسم فيعرض عليهم الإسلام، فكانوا عندما يعودون إلى يثرب ينقلون أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك فانتشرت أخباره في يثرب، ولكن لم يؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته.
وفي أحد الأيام التقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجماعة من قبيلة الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فأمنوا وكانوا ستة أشخاص، ومما ساعد على أيمان هؤلاء أن اليهود كانوا مجاورين لهم في يثرب، وكانوا إذا وقع بينهم نزاع، توعدهم اليهود بأن نبيا سيبعث، وقد أطل زمانه سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وأرم، ولما التقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا إنه النبي الذي كان اليهود يتوعدوننا به، فلا يسبقونكم إليه، فآمنوا به واتبعوه،
وبدأ الإسلام ينتشر شيئا فشيئا في يثرب، وفي العام المقبل جاء أناس كثير من أهل يثرب لأداء مناسك الحج وللاستماع إلى دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمن الكثير منهم وكانت البيعة الثانية، وبهذا بنيت أول قاعدة للإسلام في يثرب فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في مكة بالهجرة إلى يثرب، ولم يبق في مكة سوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيه علي بن أبي طالب وبعض المسلمين، ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أيضا تاركا مكة إلى يثرب سنة 14 من البعثة، واستقبل في يثرب استقبالا رائعا و بهذا انتهت المعاناة والشدائد الذي واجهها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة من قبل المشركين.
ولكن المشركين لم يقفوا مكتوفي الأيدي وقد تجرعوا كأس الذلة والهوان، فاستمروا في محاربتهم للدعوة الإلهية من خلال الدسائس والتآمر على المسلمين، ووقعت معارك بين المسلمين والمشركين، كمعركة بدر وأحد وغيرها، وبين المسلمين واليهود كمعركة خيبر وغيرها. واستطاع المسلمون خلال فترة قصيرة من تقوية شوكتهم، فأصبحوا قوة لا يستهان بها واستطاع النبي من تأسيس الدولة الإسلامية في يثرب ومنها تم نشر دعوته إلى العالم كله.