الصفحة 111
بظاهر، وإنما يتخيلونه ظاهر.

ولتوضيح ذلك لابد أن تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين:

1 ـ دلالة إفرادية.

2 ـ دلالة تركيبية أو كما يسميها علماء المنطق والأصول دلاله تصويرية ودلالة تصديقية.

فقد يختلف المعنى الإفرادي، عن المعنى التركيبي، في الكلمة الواحدة إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإ فرادي، فمثلاً عندما أقول (أسد) ينصرف الذهن إلى الحيوان ولكن عندما أقول (أسد يقود سيارة) فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع، فمعنى أي كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمى مؤولاً للنص خارجاً عن الظاهر، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات، ففي قوله تعالى (يد الله فوق أيديهم) فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل، كالذي يقول: البلد في يد السلطان، أي تحت تصرفه وإدارته، ويصح هذا

الصفحة 112
القول وإن كان السلطان مقطوع اليد، وكذلك في بقيه الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه.

بدأت الحيرة على وجه الوهابي وهو لا يدري ماذا يقول إلا أنه قاطعني قائلاً: هذا الكلام فيه تكلف ومراوغة فالإسلام دين يسر، ولا يحتمل هذه السفسطة، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلف، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميتهم، مثل الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيميه، فإنهم بتوفيق الله ردوا على أصحاب المذاهب الباطلة، بأوضح البراهين، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت مع إنهم لا يجرؤ على مخالفتهم أحد.

فمن أنت وما هو مذهبك، فإني لا أراك إلا من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام.

يا شيخنا ألم أقل لك إنك تجتر ما قاله ابن تيميه، وابن عبد الوهاب، من غير تدبر، فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم، وهو حجة عليهم لا علينا، وخص الله سبحانه كل إنسان بعقل، ولا يحاكمنا بعقولهم، هذا

الصفحة 113
بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمة، فقد خالفهم جل علماء المسلمين، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنة والجماعة.

قال الذهبي في رسالته لابن تيميه: (يا خيبة من أتبعك، فإنه معرضٌ للزندقة، والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطنياً شهوانياً، فهل أتباعك إلا قعيد، مربوط، خفيف العقل؟.

أو عامي كذاب بليد الذهن؟.

أو غريب واجم قوي المكر؟.

أو ناشف طالح عديم الفهم؟!.

فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعقل)(1).

وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ج1 ص141.

(فمن هنا وهناك ردوا عليه، ما ابتدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة، والآراء المحدثة، الشاذة، عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ونودي عليه بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيميه، حلَّ دمه

____________

1- الغدير الجزء السابع ص528.


الصفحة 114
وماله).

هذا، غير عشرات الكتب التي ردت على ابن تيميه وكشفت عقائده الباطلة مثل كتاب (الدرر المضيه في الرد على ابن تيميه) للحافظ عبد الكافي السكي ويكفيك في هذا المقام ما قاله الحافظ شهاب الدين بن حجر الهيثمي في ترجمته لابن تيميه.

(ابن تيميه عبدٌ خذله الله، وأضله، وأعماه، وأصمه، وأذله، بذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذبوا أقواله).

هذا غيضٌ من فيض من علماء أهل السنة في ابن تيميه، أما الطوائف الأخرى فمجمعين على ضلاله وسخافة رأيه.

أما ابن عبد الوهاب فإنه لا يمثل شيئاً حتى يخص بالكلام.

وهنا رفع صوته صارخاً من أين تأتي بهذا الكلام؟!.

وأنا لا أسمح لك أبداً أن تتحدث بهذه الطريقة عن علمائنا العظام، وما أنت إلا رجل مجادل تماري العلماء، فمن تكون أنت مقابل شيخ الإسلام ابن تيميه

الصفحة 115
فاسمع: إذا كنت صادقاً فيما تقول تعال لنتباهل، وانتصب واقفاً وقال قم أيها المفتري، قم حتى تباهلني والله إني أراك وقد خسف الله بك الأرض.

وهو على هذا الصراخ حتى اجتمع الناس حولنا وهو يقول إنه رافضي إنه شيعي وقد خدعني بعد ما ظننت فيه الخير.

قلت: إهدأ أيها الشيخ والله إني لا أراك إلا هارباً من الحوار، فلم نتحدث بعد عن عدالة الصحابة.

قال: اسكت أن الصحابة عدالتهم أوضح وأكبر من أن نختلف فيها، وإن كنت تؤمن بما تقول قم وباهلني.

قلت: أنا موافق على المباهلة، ولكن قبلها أريد أن أطلب منك طلباً أمام كل الحضور، وهو أن تقيم معي مناظرة علنية أمام جميع أهل هذه البلد، حتى لا يبقى لوجودك ولا لوجود أمثالك أثر.

أما المباهلة، أتهددني أنت بالمباهلة، وقد باهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأئمتي نصارى نجران، والله لو أقسمت على الله بحقهم لمسخت قرداً يلعب بك الصبيان، ولكن نحن لا نختبر ربنا إنما الله

الصفحة 116
هو الذي يختبرنا.

ووقفت قائماً وقلت: هيا إبدأ بالمباهلة، فبدأ الخوف على وجهه.

ــ ابدأ لماذا سكت؟

قال: أباهلك على البخاري ومسلم، فضحكت، وانتهرته.. يا أحمق، مالبخاري ومسلم، حتى نتباهل حولهم، وإنما أباهلك بأن مذهب التشيع مذهب أهل البيت، الأئمة الأثني عشر هو الحق وما غيره باطل.

فسكت ثم قال: أنا لا اباهلك في أهل البيت.

ــ وعلى أي شيء نتحدث، أعلى غير إمامة أهل البيت.

قال: أنا لا أبا هلك رحمةً بك، وانصرف.

قلت: سبحان الله، فإن الراحم هو الله، كيف ترحمني وعندكم هذا من مصاد يق الشرك

الصفحة 117

الجلسة الثالثة: مـع الدكتور عمر مسعود


بعد رجوعي من مدينة (مرويَّ) وأنا في طريقي إلى الخرطوم، مررت بجامعة وادي النيل، كلية التجارة، فالتقيت بالدكتور عمر مسعود، ودار بيني وبينه حوار حول صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية.

الدكتور: أنتم تقولون إن الإمام الحسن (عليه السلام) معصوم ونحن نقول أنه من الصحابة العظام، ومرتبته عالية عند كل المسلمين، ولكنه غير معصوم، وهذه هي النظرة الصحيحة، لأن القول بعصمة الإمام الحسن (عليه السلام) مع إنه صالح معاوية فيكون هذا الصلح أعطى الشرعية لمعاوية، فيستلزم أن تكون كل الدماء التي سفكها بنو أمية في التاريخ، ومن جاء بعدهم، وكل ما جرى على الأمة الإسلامية من مصائب، يرجع ذنبه للإمام الحسن، ولا جدال في ذلك، إذا قلنا بعصمة الإمام الحسن، أما إذا قلنا على حسب ما نرى إنه رجلٌ مجتهد اجتهد وأخطأ، فله أجر الاجتهاد، ولا يستلزم ذلك أن نحمله ما جرى،

الصفحة 118
وهذا يدل على أن أهل السنة تقدس الإمام الحسن (عليه السلام) أكثر من الشيعة، بل الشيعة يلحقون الذنب به، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

ــ لم أفهم ما هو وجه الملازمة، بين أن يكون الإنسان معصوماً، وبين أن نحمِّله ذنب الآخرين.

ــ أنا لم اقل ذلك على إطلاقه، وإنما بخصوص حادثة محدودة، وهذه الحادثة غيرت مسار الأمة الإسلامية، فالملازمة موجودة، فإذا لم يصالح الإمام الحسن (عليه السلام) وثار كما ثار أخوه الحسين (عليه السلام)، لكان مصير الأمة غير الذي كانت عليه، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبدالله بن عمر وغيره ولا يصالح ولا يبايع.

ــ أولاً: هذا الكلام خلاف الفرض فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب سواء صالح أو حارب والمعصوم لا يحاسب.

ثانياً: هناك مهم وأهم. وتزاحم في المصالح، فحكم الإمام الحسن (عليه السلام) مصلحة، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة، فصلح الإمام هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة

الصفحة 119
حكمه، خاصة إن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته وهرب منه قادة جيشه، كما حدث لنبي الله هارون عندما جعله موسى خليفة على بني إسرائيل، فأضلهم السامري وعبدوا العجل، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل قال تعالى: {قال يبنؤُم لا تأخُذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيتُ أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }(1).

ــ هذا الكلام ضعيف جداً، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده الخاطيء، إذا قلنا بالرأي الثاني، إنه أجتهد وأخطأ وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة.

ــ لا أنكر ما قلته، ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً خاصة إن عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها، لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها وإلا يعتبر خلف.

ــ خُلف بالنسبة لكم، أما نحن فلا نسلم بالعصمة.

____________

1- سورة طه 94.


الصفحة 120
ــ إذاً يتحدد النقاش ويتعين في مسالة العصمة، والأدلة عليها، أما صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فلا يكون كافياً لإثبات العصمة، أو نفيها، وخاصة إنه كان صلح المغلوب على أمره، وليس هو كعبد الله بن عمر، فإن عبدالله لا يشكل خطراً على الدولة الأموية كالإمام الحسن، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهم الأمور، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي لأنه لا خيار غيره.

ــ هذا الكلام غير مقنع وكافي وكل الشيعة يقولون بالظروف.

وفي هذه الأثناء دخل علينا الدكتور أبشر العوض، وهو متخصص في علم الحديث، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث، فما إن رآني حتى سلم علي ببشاشة وقال: أين هذه الغيبة الطويلة.

وقبل أن أجيب، تدخل الدكتور عمر قائلاً: معتصم الآن صار من الشيعة الكبار وقد درس في الحوزة العلمية وله كتاب إسمه "الحقيقة الضائعة".


الصفحة 121
قال: الدكتور أبشر: وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب.

قلت: موضوعه هو الخلاف بين السنة والشيعة، وقد اثبت فيه مما لا يدع مجالاً للشك إن الشيعة هي الطائفة المحقة وغيرها باطل وضلال.

وهنا تدخل الدكتور عمر قائلاً: أي فرقة في الشيعة تقصد الزيدية، أم الإمامية، أم الإسماعيلية، فالفرق الشيعيّة متعددة فأيهما الحق.

ــ سماحة الدكتور، بغض النظر عن هذه التفاصيل، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجردة، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل، والإطار العام هو وجوب أتباع أهل البيت والأخذ عنهم، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتى الطرق سواء كان قرآناً أو سنة، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنة والشيعة وهو أخذ الشيعة بحديث (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وتمسك أهل السنة بحديث (كتاب الله وسنتي) وهذا الشاهد كافي في الحكم بأحقية الشيعة، وبطلان أهل السنة في هذه

الصفحة 122
الحيثية، وهكذا يمكن أن نتدرج في بقية المسائل.

ــ وهنا واصل الدكتور عمر قائلاً: إن حديث العترة نؤمن به ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة فإن الحديث يدل على التمسك بالقرآن فحسب.

ــ قلت: سبحان الله إن واو العطف في الحديث واضحة (كتاب الله وعترتي) هذا بالإضافة إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (الثقلان) (ما إن تمسكتم بهما).

ــ عارضني قائلاً: ليس كل واو دالة على العطف فإن للواو معاني عدة ولقد كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.

ــ لا خلاف في ذلك، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة فسياق الحديث واضح في العطف في قوله (الثقلين) (وما أن تمسكتم بهما) كافية لإثبات المدعى، وهو وجوب اتباع أهل البيت ــ قال على العموم، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت(ع) ونحن نعتقد أنه الحق، ولكنه لم يتعين لنا، ولو تعين لكنت أول الناس أتباعاً له.


الصفحة 123
ــ قلت: لماذا تتبعه.

ــ قال: لأنه الحق.

ــ قلت: وما عليه أنت الآن؟! فإذا كان مذهب أهل البيت فقد تعين لك، وإن كان لا فإذاً أنت على ضلالة، بحكمك على نفسك.

قال: هذه سفسطة وفي هذه الأثناء أستأذن الدكتور ابشر وأخذ يتحدث مع الدكتور عمر في موضوع جانبي، فاستأذنته وخرجت لعلمي أنه ليس هناك فائدة

الصفحة 124

الصفحة 125

حوار مع المحدّث والحافظ الدمشقي
عبد القادر الأرنؤوطي


حدثَ لي أثناء إقامتي في الشام لقاء مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوطي، وهو من علماء الشام وله إجازة في علم الحديث.

وقد تمَ هذا اللقاء من غير إعداد مني، وإنما كان عن طريق الصدفة..

كان لي أحد الأصدقاء السودانيين إسمه عادل، تعرفت عليه في منطقة السيدة زينب(ع) وقد أنارَ الله قلبه بنور أهل البيت(ع) وتشيع لهم، وامتاز هذا الأخ بصفات حميدة قل ما تجدها في غيره، وقد أجبرته الظروف على العمل في إحدى المزارع في منطقة تُسمى (العادلية) (9كم) تقريباً جنوب السيدة زينب(ع). وكان بجوار المزرعة التي يعمل بها مزرعة أخرى لرجل كبير السن متديّن يكنى بأبي سليمان.

فعندما عرفَ هذا الجار أن السوداني الذي يعمل بجواره شيعي، جاء إليه وتحدث معه، قائلاً:


الصفحة 126
ــ يا أخي السودانيون سُنّة طيبون.. من أين لك بالتشيع؟!. هل في أسرتك أحد شيعي؟.

قال عادل: لا، ولكن الدين والقناعة لا تبتني على تقليد المجتمع والأسرة.

قال: إن الشيعة يكذبون ويخدعون العامة.

قال عادل: أنا لم أر منهم ذلك.

قال: بلى نحن نعرفهم جيداً.

قال عادل: يا حاج، هل تؤمن بالبخاري ومسلم وصحاح السنة؟.

قال: نعم.

قال عادل: إن الشيعة يستدلون على أي عقيدة يؤمنون بها من هذه المصادر، فضلاً عن مصادرهم.

قال: إنهم يكذبون ولهم بخاري ومسلم محرَّف.

قال عادل: إنهم لم يلزموني بكتاب مخصص، بل طلبوا مني أن أبحث في أي مكتبة في العالم العربي.

قال: هذا كذبٌ، وأنا من واجبي أن أردَّك مرة أخرى إلى السُنَّة، "وإن يهدي بك الله رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس".


الصفحة 127
قال عادل: نحن طالبي حق وهدى، نميل مع الدليل حيثما مال.

قال: سأحضر لك أكبر عالم في دمشق، وهو العلامة عبد القادر الأرنؤوطي، عالمٌ جليل، ومحدّث حافظ، وقد حاول الشيعة إغراءه بالملايين حتى يصبح معهم، ولكنه رفض..

وافق ـ الأخ ـ عادل على هذا الطرح، وقال له أبو سليمان: موعدنا يوم الاثنين أنت وكل السودانيين الذين تأثروا بالفكر الشيعي.

جاء إليَّ عادل، وأخبرني بما حدث، وطلب مني أن أذهب معه.. وبفرحة شديدة قبلت هذا العرض، وتواعدتُ معه يوم الاثنين بتاريخ 8 / صفر / 1417هــ من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، في تمام الساعة 12 ظهراً.

وكان يوماً شديد الحر، تقابلنا في الموعد، وانطلقنا إلى المزرعة مع ثلاثة من السودانيين، وبعد وصولنا كان الأخ عادل في استقبالنا في مزرعة خضراء تحفها الأشجار المثمرة من الخوخ والتفاح والتوت وغيرها من الفواكه التي لا توجد عندنا في

الصفحة 128
السودان.

وبعدها أخذنا نحث الخطى إلى مزرعة جاره السني، فاستقبلنا بحفاوة بالغة، وبعد قليل من الاستجمام في ذلك المكان الذي تحيط به الخضرة من كل حدبٍ، قمتُ إلى صلاة الظهر، وفي أثناء الصلاة، جاءت قافلة في مقدمتها سيارة تحمل الشيخ الأرنؤوطي، وقد امتلأ المكان بالناس وخارج المبني بالسيارات، وعلت الدهشة وجوه أصحابي السودانيين من هيبة هذا المقام، لأنهم لم يتصوروا أن الأمر بهذا الحجم. وبعدما استقر كل واحد في مكانه، اخترتُ مكاناً بجوار الشيخ.

وبعد أجراء التعريف بين الجميع، تحدّث صاحب المزرعة مع الشيخ قائلاً: إن هؤلاء إخواننا من السودان وقد تأثروا بالتشيع في السيدة زينب، وبينهم واحد شيعي يعمل في المزرعة التي بجوارنا.

قال الشيخ: أين هذا الشيعي؟.

قالوا له: ذهب إلى مزرعته وسيرجع بعد قليل.

قال: إذن نؤخر الحديث إلى رجوعه.

ذهب إليه أحد السودانيين وأحضره إلى

الصفحة 129
المجلس، وقد استغل الشيخُ هذه الفرصة، بذكر أحاديث كثيرة يحفظها عن ظهر قلب، وكان موضوعها أفضلية بعض البلدان على بعض وخاصة الشام ودمشق، وقد أخذ هذا الموضوع حوالي نصف ساعة ـ وهو موضوع لا جدوى فيه ـ، وقد تعجبت منه كثيراً كيف لا يستغل هذا الظرف، وقد أعاره الجميع عقولهم بحديث يستفيدون منه في دينهم ودنياهم.

ثم قال: إن دين الله لا يؤخذ بالحسب والنسب، وقد جعل الله شرعه لكل الناس، فبأي حق نأخذ ديننا من أهل البيت؟ وقد أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بكتاب الله وسنته وهو حديث صحيح لا يستطيع أحد تضعيفه، ولا يوجد عندنا طريق آخر غير هذا الطريق. وضرب بيده على ظهر عادل وقال له: يابني، لا يُغرنَّك كلامُ الشيعة.

استوقفته قائلاً:

ــ سماحة الشيخ، نحن باحثون عن الحق، وقد اختلط علينا الأمر وجئنا كي نستفيد منك عندما عرفنا أنك عالم جليل ومحدّث وحافظ.


الصفحة 130
قال: نعم.

قلت: من البديهيات، التي لا يتغافل عنها إلا أعمى، أن المسلمين قد تقسّموا إلى طوائف، ومذاهب متعددة وكل فرقة تدَّعي أنها الحق وغيرها باطل. فكيف يتسنى لي، وأنا مكلف بشرع الله أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتناقضة؟ هل أراد الله لنا أن نكون متفرقين، أم أراد أن نكون على ملة واحدة، نُدين الله بتشريع واحد؟ وإذا كان نعم، ما هي الضمانة التي تركها الله ورسوله لنا لكي تُحصن الأمة من الضلالة؟.

مع العلم أن أول ما وقع الخلاف بين المسلمين كان بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، فليس جائز في حق الرسول أن يترك أمته من غير هدى يسترشدون به.

قال الشيخ: إن الضمانة التي تركها رسول الله لتمنع الأمة من الاختلاف قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".

قلتُ: لقد ذكرتَ قبل قليل، في معرض كلامك قد

الصفحة 131
يكون هناك حديث لا أصل له، أي غير مذكور في كتب الحديث.

قال: نعم.

قلتُ له: هذا الحديث لا أصل له في الصحاح الستة، فكيف تقول به، وأنت رجل محدّث؟.

هنا، شبت ناره، وأخذ يصرخ قائلاً: ماذا تقصد، هل تريد أن تضعّف هذا الحديث.

تعجبتُ من هذه الطريقة، وعن سبب هيجانه، مع أنني لم أقل شيئاً.

فقلت: مهلاً، إن سؤالي واحد ومحدد، هل يوجد هذا الحديث في الصحاح الستة؟.

قال: الصحاح ليست ستة، وكتب الحديث كثيرة، وإن هذا الحديث يوجد في كتاب الموطأ للإمام مالك.

قلت (متوجهاً إلى الحضور): حسناً، قد اعترف الشيخ أن هذا الحديث، لا وجود له في الصحاح الستة، ويوجد في موطأ مالك.

فقاطعني (بلهجة شديدة) قائلاً: شو، الموطأ مو كتاب حديث؟.

قلتُ: الموطأ كتاب حديث ولكن حديث: "كتاب

الصفحة 132
الله وسنتي"، مرسل في الموطأ من غير سند ـ مع العلم أن كل أحاديث الموطأ مسندة ــ.

هنا صرخ الشيخ بعدما سقطت حجته، وأخذ يضربني بيده ويهزني شمالاً ويميناً: أنت تريد أن تضعّف الحديث، وأنت مَنْ حتى تضعّفه. حتى خرج عن حدود المعقول. وأخذ الجميع يندهش من حركاته وتصرفه هذا.

قلتُ: يا شيخ، هنا مقام مناقشة ودليل وهذا الأسلوب الغريب الذي تتبعه لا يجدي، وقد جلست أنا مع الكثير من علماء الشيعة، ولم أرَ مثل هذا الأسلوب أبداً. قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: آية/159).. وبعد هذا، هدأ قليلاً من ثورته.

قلت: أسألك يا شيخ: هل رواية مالك لحديث "كتاب الله وسنتي". في الموطأ، ضعيفة أم صحيحة؟.

قال (بتحسر شديد): ضعيفة.


الصفحة 133
قلت: فلماذا إذن، قلت أن الحديث في الموطأ وأنت تعلم أنه ضعيف؟

قال (رافعاً صوته): إن للحديث طرق أخرى.

قلت: للحضور: قد تنازل الشيخ عن رواية الموطأ، وقال: إن للحديث طرق أخرى، فنسمع منه هذه الطرق.

هنا أحس الشيخ بالهزيمة والخجل، لأن ليس للحديث طرق صحيحة، وفي الأثناء، تحدث أحد الجلوس، فوكزني الشيخ بيده، وقال لي وهو مشيراً إلى المتحدث: اسمع له، والتفت يريد بذلك الهروب من السؤال المحرج الذي وجهته له.

أحسست منه هذا، ولكني أصررت وقلت: أسمعنا يا شيخ الطرق الأخرى للحديث؟.

قال (بلهجة منكسرة) لا أحفظها، وسوف أكتبها لك.

قلت: سبحان الله! أنت تحفظ كل هذه الأحاديث، في فضل البلدان والمناطق، ولا تحفظ طرق أهم الأحاديث وهو مرتكز أهل السنة والجماعة والذي يعصم الأمة عن الضلالة كما

الصفحة 134
قلت.. فظل ساكتاً.

وعندما أحس الحضور بخجله، قال لي أحدهم:

ــ ماذا تريد من الشيخ وقد وعدك أن يكتبها لك.

قلت: أنا أقرّب لك الطريق، إن هذا الحديث يوجد أيضاً في سيرة ابن هشام من غير سند.

قال الشيخ الأرنؤوطي: إن سيرة ابن هشام، كتاب سيرة وليس حديث.

قلت: إذن تضعّف هذه الرواية.

قال: نعم.

قلت: كفيتني مؤونة النقاش فيها.

وواصلت كلامي قائلاً: ويوجد أيضاً في كتاب الألماع للقاضي عياض، وفي كتاب الفقيه المتفقه للخطيب البغدادي.. هل تأخذ بهذه الروايات؟.

قال: لا.

قلت: إذن، حديث "كتاب الله وسنتي"، ضعيف بشهادة الشيخ، ولم يبق أمامنا إلا ضمانة واحدة تمنع الأمة من الاختلاف، وهي حديث

الصفحة 135
متواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد روته كتب الحديث السنَّية، والصحاح الستة ما عدا البخاري، وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

"إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، فإن العليم الخبير، أنبئني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". كما في رواية أحمد بن حنبل، ولا مناص لمؤمن يريد الإسلام الذي أمر الله به إلا أن يسلك هذا الطريق، وهو طريق أهل البيت المطهرين في القرآن الكريم من الرجس والمعاصي، وذكرتُ مجموعة من فضائل أهل البيت(ع)، والشيخ ساكت لم يتفوه بكلمة طوال هذه المدة ـ على غير عادته ـ فقد كان سيد المجلس قبل الحوار.

وعندما رأى مريدوه الانكسار في شيخهم، أصبحوا يهرّجون ويمرّجون.

قلت: كفى دجلاً ونفاقاً، ومراوغة عن الحق، إلى متى هذا التنكر؟!؟ والحق واضحة آياته، ظاهرة

الصفحة 136
بيناته، وقد أقمتُ عليكم الحجة، بأن لا دين من غير الكتاب والعترة الطاهرة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وظل الشيخ ساكتا ولم يرد عليَّ كلمة واحدة. فقام منتفضاً قائلاً: أنا أريد أن أذهب، وأنني مرتبطٌ بدرس، مع العلم أنه كان مدعواً لطعام الغداء!!.

أصر عليه صاحب المنزل بالبقاء، وبعد إحضار طعام الغداء، هدأ المجلس، ولم يتفوه الشيخ بكلمة واحدة في أي موضوع كان، طيلة جلسة الغداء.