وفى روايه، عن ابى جعفر محمد بن على(ع) انه قال: (ان رسول اللّه(ص) قال: يا بنى انك ستساق الى العراق، وهى ارض قد التقى بها النبيون واوصياء الانبياء، وهى ارض تدعى عمورا، وانك تستشهد بها ويستشهد معك جماعه من اصحابك لا يجدون الما من الحديد، وتلا: (قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم)«الانبياء/69».
تكون الحرب بردا وسلاما عليك وعليهم فابشروا، فواللّه لئن قتلونا فانا نرد على نبينا).
فلما اجمع اهل بيته واصحابه على مواصله الجهاد والسير الى موضع شهادتهم قال لهم: (فان كنتم قد وطنتم انفسكم على ما وطنت نفسى عليه فاعلموا ان اللّه يهب المنازل الشريفه لعباده لصبرهم على احتمال المكاره، وان اللّه، وان كان خصنى مع من مضى من اهلى الذين انا آخرهم بقاء فى الدنيا، من المكرمات بما سهل معها احتمال الكريهات فان لكم شطر ذلك من كرامات اللّه.
واعلموا ان الدنيا حلوها ومرها حلم، والانتباه فى الاخره، والفائز من فاز فيها والشقى من يشقى فيها، او لا احدثكم باول امرنا وامركم معاشر اوليائنا والمعتصمين بنا ليسهل عليكم احتمال ما انتم له معرضون؟ قالوا: بلى يا ابن رسول اللّه.
قال: ان اللّه خلق آدم واستواه وعلمه اسماء كل شىء وعرضهم على الملائكه، جعل محمدا وعليا وفاطمه والحسن والحسين اشباحا خمسه فى ظهر آدم، وكانت انوارهم تضىء فى الافاق من السموات والحجب والجنان والكرسى والعرش، فامر الملائكه بالسجود لادم تعظيما له لانه قد فضله بان جعله وعاء لتلك الاشباح التى قد عمت انوارها الافاق فسجدوا الا ابليس ابى ان يتواضع لجلال عظمته وان يتواضع لانوارنا اهل البيت وقد تواضعت لها الملائكه واستكبر وترفع وكان بابائه ذلك وتكبره من الكافرين).
وبات الحسين واصحابه فى تلك الليله ولهم دوى كدوى النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وكان الامام(ع) يتلو قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا انما نملى لهم خير لانفسهم انما نملى لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين)«آل عمران/178»، وفى ليله الشهاده جلس ابو عبداللّه الحسين يصلح سيفا له، وزينب(ع) جالسه، فانشد:
ففهمتها زينب(ع)، فلم تملك نفسها فوثبت تجر ثوبها وانها لحاسره حتى انتهت اليه فقالت: (واثكلاه، ليت الموت اعدمنى الحياه، اليوم ماتت امى فاطمه وابى على واخى الحسن، يا خليفه الماضين.
فنظر اليها الحسين قائلا: يا اختى لا يذهبن بحلمك الشيطان.
وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا ليلا لنام.
فقالت: يا ويلتاه، افتغتصب نفسك اغتصابا فذلك اقرح لقلبى واشد على نفسى.
ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها، فقام اليها الحسين فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا اختاه اتق اللّه وتعزى بعزاء اللّه واعلمى ان اهل الارض يموتون واهل السماء لا يبقون وان كل شىء هالك الا وجه اللّه الذى خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده.
جدى خير منى وابى خير منى وامى خير منى واخى خير منى، ولكل مسلم برسول اللّه اسوه حسنه، يا اختى انى اقسمت عليك فابرى قسمى لا تشقى على جيبا ولا تخمشى على وجها ولا تدعى على بالويل والثبور اذا انا هلكت، ثم جاء بها حتى اجلسها عند على بن الحسين ثم خرج الى اصحابه) (85).
ما اروع هذه البلاغات الحسينيه التى تلين الحديد، ولكن القوم قست قلوبهم فهى كالحجاره او اشد قسوه، (وان من الحجاره لما يتفجر منه الانهار وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشيه اللّه)«البقره/74».
وربما سال سائل:
لماذا خاطب الحسين القوم؟، هل كانت به رغبه فى الرجوع او النجاه فاحتاج ان يقنعهم ليبقوا عليه؟، الاجابه يدركها الذين وعوا دور حمله الرسالات السماويه من الانبياء والائمهعليهم السلام.
فهذا نوح(ع) يقول: (قال رب انى دعوت قومى ليلا ونهارا× فلم يزدهم دعائى الا فرارا× ثم انى دعوتهم جهارا×، ثم انى اعلنت لهم واسررت لهم اسرارا)«نوح/ 95».
فها هو نبى اللّه نوح(ع) يلح على قومه داعيا ليلا ونهارا وسرا وجهارا، والقوم لا يزدادون الا عتوا واستكبارا، وها هو رب العزه القادر على تعجيل عقابهم يمهلهم المره تلو الاخرى عساهم يرجعون ويقبلون اليوم ما رفضوه بالامس، ولكن هيهات، ياتى هولاء يوم القيامه يقولون: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين)«المومنون/ 106».
ثم اننا نرى ان مهمه ابى عبداللّه الحسين(ع) كانت بالغه الصعوبه، فقوم نوح لا يدعون الاسلام، اما اليزيديون فكانوا يدعون الاسلام وما زالوا الى يومنا هذا يدعون انهم وحدهم اصحاب الفهم الصحيح للاسلام، كيف يتاتى هذا وقد قتلوا ابن بنت نبيهم الذى قال عنه رسول اللّه(ص): (حسين منى وانا من حسين، احب اللّه من احب حسينا، حسين سبط من الاسباط) (رواه الترمذى وقال حديث حسن)، وهو الذى قال عنه رسول اللّه(ص) (فيما رواه احمد): (نظر النبى اللّه(ص)، الى على والحسن والحسين وفاطمه فقال: انا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم)، وفى روايه اخرى لاحمد: (من احبهما فقد احبنى ومن ابغضهما فقد ابغضنى).
اذا فالموقف الحسينى ميزان ومعيار يميز بين الحق والباطل.
وهذه حقيقه واضحه من خلال النصوص الكثيره المتواتره فى خصائص اهل بيت النبوه او تلك الوارده فى حق الحسين(ع) على سبيل الخصوص، والذى زاد الامر وضوحا هو الدليل العملى الذى قدمه الحسين(ع) على صحه ما ورد فى فضل اهل البيتعليهمالسلام، فاين كان الاخرون من هذه الفتن التى هاجمت الامه المسلمه من كل جانب؟، اين موقف الدفاع العملى عن قيم الاسلام؟، سوال لا نجد له اجابه الا فى تحرك الحسين(ع)، ذلك التحرك الذى كان مقدمه لكل الحركات الثوريه فى تاريخ الامه الاسلاميه، والامه الان وهى تعيش لحظات حرجه فى تاريخها فى حاجه لاستلهام هذه الروح الحسينيه والاقتباس من نورها لعلنا نتمكن من اضاءه هذا الظلام الحالك.
اننا فى امس الحاجه لاستلهام ذلك النور الحسينى لاضاءه هذه الظلمات وتحديد طريق المسير، ظلمات فوقها فوق بعض، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.
2-نماذج اناس باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم
وقبل ان نصل الى بلاغات الحسين، فى يوم المقتل، نستعرض نموذجا من نماذج (الابناء) الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، انه عمر بن سعد بن ابى وقاص، فقد كان الرجل يبحث عن دور فى خدمه بنى اميه، فارسله ابن زياد الى بلاد فارس واعطاه عهدا على الرى، ثم استدعاه وامره بالسير الى الحسين(ع) وقال له:
(سر الى الحسين فاذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت الى عملك.
فقال له عمر بن سعد: ان رايت ان تعفينى فافعل.
قال: نعم على ان ترد لنا عهدنا.
فاستمهله ابن سعد حتى ينظر ثم عاد اليه مجيبا ومنفذا امر سيده ابن زياد) (86).
ولنا هنا وقفه، الرجل يريد الاماره ولا يطيق الصبر عنها ولا مانع لديه من ارتكاب اى جرم ليجلس بضعه ايام على الكرسى، وبنو اميه ائمه الضلال هم والشيطان سواء، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا، يسوقون الناس من رغباتهم وشهواتهم ومكامن ضعفهم.
فلما سار بجيشه لملاقاه الحسين دعاه الحسين لملاقاته وناجاه طويلا وقال له الحسين(ع): (ويل لك يا ابن سعد، اتقاتلنى وانا ابن من علمت.
ذر القوم، وكن معى فانه اقرب الى اللّه تعالى.
فقال ابن سعد: اخاف ان يهدم دارى.
فقال الحسين(ع): انا ابنيها لك.
فقال: اخاف ان توخذ ضيعتى.
فقال(ع): انا اخلف عليك خيرا منها من مالى بالحجاز.
ثم قال: لى عيال وسكت.
فانصرف عنه الحسين(ع) وهو يقول: مالك ذبحك اللّه على فراشك عاجلا ولا غفر لك يوم حشرك، فواللّه انى لارجو ان لا تاكل من بر العراق الا يسيرا.
فقال ابن سعد: فى الشعير كفايه عن البر) (87).
اى خزى هذا واى عار تحس به الارض وهولاء الاوغاد يسيرون عليها، يخرج لقتل ابن بنت رسول اللّه لانه يخشى على ضيعته ويخشى ان يضيع ماله، اما عن دينه فلا يسال، ثم يزعم بعض الباحثين ان هذا القاتل الماجور من خير القرون، وهل رضى عنه ابن زياد وسيده يزيد؟، لا واللّه، لقد احسوا منه شيئا من التردد فى الاقدام على قتل الحسين وذهب الوشاه الى سيده ابن زياد فارسل اليه: (اما بعد، فانى لم ابعثك الى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامه والبقاء، ولا لتقعد له عندى شافعا، انظر فان نزل حسين واصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم الى سلما، وان ابوا فازحف اليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فانهم لذلك مستحقون، فان قتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره فانه عاق مشاق قاطع ظلوم وليس دهرى فى هذا ان يضر بعد الموت شيئا، ولكن على قول لو قد قتلته فعلت هذا به، ان انت رضيت لامرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وان ابيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذى جوشن وبين العسكر فانا قد امرناه بامرنا، والسلام).
هذه هى شريعه بنى اميه وهى شريعه فرعون نفسها وشريعه كل طاغيه، ان ابن زياد، والى يزيد يحاصر الحسين بن على، وابن بنت رسول اللّه، ويخيره بين الاستسلام التام والذل الزوام او القتل على هذه الطريقه الهمجيه، ثم يقول بعض المورخين ان هولاء كانوا يحكمون بالشريعه الاسلاميه، رجل لم يسل سيفا ليقتل مسلما او كافرا، رجل كل ذنبه انه يامر بالمعروف وينهى عن المنكر يكون هذا مصيره، اى خزى وعار تحمله الارض اذا حملت هولاء الاوغاد على ظهرها، وهذا عمر بن سعد لم يتجاوز، كما يرى بعضهم، وان له اجرا واحدا، لانه مجتهد فى قتله لابن بنت رسول اللّه (ان لعنه اللّه على الظالمين× الذين يصدون عن سبيل اللّه ويبغونها عوجا وهم بالاخره كافرون)«الاعراف/44-45».
هذا هو صنيع بنى اميه مع خير هذه الامه، اما وابا، فكيف صنيعهم مع بقيه الامه؟!!، انها سياسه الاستعباد والعبوديه التى ورثناها منهم الى يومنا هذا.
لم تكن قضيه فرديه ولا شخصيه كما يحاول انصار الحزب الاموى تسويغ مقتل الحسين(ع) او تسويغ استمرارهم فى السلطه بالمعطيات نفسها والاساليب عينها، يشيرون على خطى آبائهم واجدادهم، مثل: معاويه، ويزيد، وزياد، وابن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذى الجوشن.
3-امامه الحق فى مواجهه امامه الباطل
لا باس ان نرجع قليلا الى بدايات هذا اليوم، وابن زياد يرسل رساله الى الحر بن يزيد مع يزيد بن زياد الكندى يامره (ان يجعجع بالحسين ويقول له: فلا تنزله الا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء) (88).
فقال له ابو الشعثاء، وكان من انصار الحسين(ع): ويلك ماذا جئت فيه؟، قال يزيد: اطعت امامى ووفيت بيعتى.
فقال له ابو الشعثاء: عصيت ربك واطعت امامك فى هلاك نفسك، كسبت العار والنار.
قال تعالى: (وجعلناهم ائمه يدعون الى النار ويوم القيامه لا ينصرون)«القصص/41».
انظروا الى ذلك الفهم العظيم لصاحب الحسين، حقا انها امامه فى مواجهه امامه.
امامه الحق فى مواجهه امامه الباطل، وهذا هو المفهوم الحقيقى للتشيع، موالاه ائمه الحق، ومعاداه ائمه الضلال.
اما حزب بنى اميه حزب الشيطان، فجعلوا من السلطه القاهره امامه يفرقون بها بين الحق والباطل، واسبغوا على الطواغيت من صفات ائمه الحق، واستعانوا بالمتنسكين ادعياء القداسه من وضاع الاحاديث، وفقهاء السوء ما يمكنهم من التمويه على الجمهور ويعينهم على استخدام المصطلح الدينى فى خدمه دوله الطاغوت، فاذا احدث هولاء من الاحداث ما تعجز اجهزه التسويغ عن القيام بمهمتها نحوه قالوا: (ان هذا اجتهاد (وللائمه) ان يجتهدوا فاذا اخطاوا فلهم اجر واحد، وان اصابوا فلهم اجران)، وان لم ينجح التسويغ فى الاقناع قال فقهاء السوء للناس: (عليكم ان تصبروا على السلاطين وظلمهم الا ان تروا كفرا بواحا).
وهم لم يصرحوا ابدا بحقيقه هذا الكفر البواح.
ان هولاء المتنسكين لم يروا باسا، ولا فسقا، ولا كفرا بواحا فى ان يلى امر الامه فرعون مثل معاويه او يزيد! ولا يرون واجبا عليهم نصره ابى الاحرار ابى عبداللّه الحسين! وهم لم يروا اى كفر ولا معصيه للّه فى سفك دماء العتره الطاهره! هذا اذا عرفنا من هم من هولاء؟ وما هو منهجهم؟ وما هى اسماوهم؟ لقد راينا العتره الطاهره ولم نر غيرها، راينا اشباح رجال يرضون بركعات فى بيت اللّه الحرام او بعض كلمات يزيلون بها العتب.
فها هو ابن كثير يروى عن ابن عمر، فى البدايه والنهايه، ان رجلا ساله عن دم البعوض يصيب الثوب فقال: (انظروا الى هذا يسالنى عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبى(ص)، وسمعت النبى صلى اللّه عليه وآله يقول: هما ريحانتاى من الدنيا) (89).
4-اقامه الحجه وبيان الحقيقه
ثم جاء صباح عاشوراء، ووقف الحسين(ع) يدعو ربه: (اللهم انت ثقتى فى كل كرب ورجائى فى كل شده، وانت لى فى كل امر نزل بى ثقه وعده، كم من هم يضعف فيه الفواد وتقل فيه الحيله ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشكوته اليك رغبه منى اليك عمن سواك ففرجته وكشفته فانت ولى كل نعمه وصاحب كل حسنه ومنتهى كل رغبه) (90).
ثم ان الحسين اضرم نارا وراء البيوت لئلا ياتيه اعداء اللّه من الخلف، فجاءه شمر بن ذى الجوشن وقال: (يا حسين استعجلت النار فى الدنيا قبل يوم القيامه؟، فقال الحسين: من هذا؟، كانه شمر بن ذى الجوشن؟ فقالوا: نعم اصلحك اللّه، هو.. هو. فقال: يا ابن راعيه المعزى انت اولى بها صليا.
فقال مسلم بن عوسجه: يا ابن رسول اللّه جعلت فداك الا ارميه بسهم.
فانه قد امكننى وليس يسقط سهم، فالفاسق من اعظم الجبارين.
فقال له الحسين: لا ترمه فانى اكره ان ابداهم) (91).
سلام اللّه عليك يا ابا عبداللّه، ها انت، وانت فى قمه المواجهه مع اعداء اللّه من بنى اميه محافظا على موقف فقهى، واخلاقى، وعقائدى راسخ.
سلام اللّه عليك يا من انت من نور ابيك وامك، ومن نور رسول اللّه(ص)، فالامام على(ع) لم يبدا اعداءه، اعداء اللّه يوما بقتال لا اصحاب الجمل، ولا الخوارج، ولا بنى اميه يوم صفين، فالقوم ادعياء اسلام دخلوا هذا الدين من بوابه النبوه، ولسنا بصدد تكفيرهم ولا استباحه دمائهم (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)«البقره/194»، (فلا عدوان الا على الظالمين)«البقره/193».
هذا هو المبدا الراسخ فى العلاقه بين ابناء الامه المنتمين اليها حتى ولو كان ذلك بمجرد الاسم والادعاء.
وان فتح باب التكفير وقتل المسلمين، حتى الادعياء منهم، فان ذلك يعنى فتح باب فتنه لا يغلق.
يقول ابن جرير الطبرى، وهو يتحدث عن يوم عاشوراء، ضمن حديثه عن احداث سنه (61ه) ما نصه: (فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها ثم نادى باعلى صوته بصوت عال يسمع جل الناس: (ايها الناس، اسمعوا قولى ولا تعجلونى حتى اعظكم بما هو حق لكم على، وحتى اعتذر اليكم من مقدمى عليكم.
فان قبلتم عذرى وصدقتم قولى واعطيتمونى النصف كنتم بذلك اسعد ولم يكن لكم على سبيل، وان لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم (فاءجمعوا امركم وشركاءكم ثم لا يكن امركم عليكم غمه ثم اقضوا الى ولا تنظرون)«يونس/71»، (ان ولى اللّه الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)«الاعراف/196».
قال فلما سمع اخواته كلامه هذا صحن وبكين وبكى بناته فارتفعت اصواتهن فارسل اليهن اخاه العباس بن على وعليا ابنه وقال لهما: اسكتاهن فلعمرى ليكثرن بكاوهن(...) (92) فلما سكتن حمد اللّه واثنى عليه وذكر اللّه بما هو اهله وصلى على محمد صلى اللّه عليه وعلى ملائكته وانبيائه فذكر من ذلك ما اللّه اعلم وما لا يحصى ذكره، «فقال الراوى»: فواللّه ما سمعت متكلما قط قبله ولا بعده ابلغ فى منطق منه.
ثم قال: اما بعد فانسبونى فانظروا من انا ثم ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلى وانتهاك حرمتى؟ الست ابن بنت نبيكم صلى اللّه عليه وسلم ىىىىوابن وصيه، وابن عمه، واول المومنين باللّه والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ اوليس حمزه سيد الشهداء عم ابى؟ اوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى؟ اولم يبلغكم قول مستفيض فيكم ان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم قال لى ولاخى: هذان سيدا شباب اهل الجنه؟ فان صدقتمونى بما اقول، وهو الحق، واللّه ما تعمدت كذبا مذ علمت ان اللّه يمقت عليه اهله ويضر به من اختلقه، وان كذبتمونى فان فيكم من ان سالتموه عن ذلك اخبركم، سلوا جابر بن عبداللّه الانصارى او ابا سعيد الخدرى او سهل بن سعد الساعدى او زيد بن ارقم او انس بن مالك يخبروكم انهم سمعوا هذه المقاله من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لى ولاخى، افما هذا حاجز لكم عن سفك دمى؟! فقال له شمر بن ذى الجوشن:
هو يعبداللّه على حرف ان كان يدرى ما تقول.
فقال له حبيب بن مظاهر: واللّه انى لاراك تعبد اللّه على سبعين حرفا، وانا اشهد انك صادق ما تدرى ما يقول قد طبع اللّه على قلبك.
ثم قال لهم الحسين: فان كنتم فى شك من هذا القول افتشكون اثرا ما انى ابن بنت نبيكم فواللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم، انا ابن بنت نبيكم خاصه، اخبرونى، اتطلبونى بقتيل منكم قتلته او مال لكم استهلكته او بقصاص من جراحه؟.
قال: فاخذوا لا يكلمونه، قال: فنادى: يا شبث بن ربعى ويا حجار بن ابجر ويا قيس بن الاشعث ويا يزيد بن الحارث الم تكتبوا الى ان قد اينعت الثمار واخضر الجناب وطمت الجمام وانما تقدم على جند لك مجند فاقبل.
قالوا له: لم نفعل.
فقال: سبحان اللّه، بلى واللّه لقد فعلتم، ثم قال: ايها الناس اذ كرهتمونى فدعونى انصرف عنكم الى مامنى من الارض قال: فقال له قيس بن الاشعث: او لا تنزل على حكم بنى عمك.
فانهم لن يروك الا ما تحب ولن يصل اليك منهم مكروه.
فقال له الحسين: انت اخو اخيك اتريد ان يطلبك بنو هاشم باكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا واللّه لا اعطيهم بيدى اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد، عباد اللّه انى عذت بربى وربكم ان ترجمون، اعوذ بربى وربكم من كل متكبر لا يومن بيوم الحساب) (93).
5-محاوله استنهاض الامه
الحر الرياحى النموذج المسلم المنيب
كانت هذه بلاغات ابى عبداللّه الحسين(ع)، وهى واضحه فى اقامه الحجه على هولاء الحاضرين، ومن ثم الى اسماع الامه الاسلاميه الى قيام الساعه.
هذا البلاغ كان لا بد منه ليمحص اللّه الذين آمنوا ويمحق الكافرين، ولا يقول قائلهم يوم الهول اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين: واللّه ما علمنا حقيقه الضحيه ولو علمنا ما فعلنا، او علمنا ولكنا لم نكن نعرف خصائصه ومزاياه لان بنى اميه موهوا علينا.
ها هى الحقيقه كامله بمنطقها، ولكم ان تختاروا اما نارا تلظى لا يصلاها الا الاشقى الذى كذب وتولى او نجاه من النار، وقد اختار الحر الرياحى، قائد الكتيبه الاولى، الجنه وانضم الى الحسين(ع) قائلا: (انى واللّه اخير نفسى بين الجنه والنار، وواللّه لا اختار على الجنه شيئا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين(ع) فقال له: جعلنى اللّه فداك يا ابن رسول اللّه انا صاحبك الذى حبستك عن الرجوع وسايرتك فى الطريق وجعجعت بك فى هذا المكان، واللّه الذى لا اله الا هو ما ظننت ان القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ابدا ولا يبلغون منك هذه المنزله، فقلت فى نفسى لا ابالى ان اطيع القوم فى بعض امرهم ولا يرون انى خرجت من طاعتهم، واما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التى يعرضها عليهم، وواللّه لو ظننت انهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك وانى قد جئتك تائبا مما كان منى الى ربى ومواسيا لك بنفسى حتى اموت بين يديك افترى ذلك لى توبه؟.
قال: نعم، يتوب اللّه عليك ويغفر لك، ما اسمك؟.
قال: انا الحر بن يزيد.
قال: انت الحر كما سمتك امك، انت الحر ان شاء اللّه فى الدنيا والاخره) (94).
ان الحر هو احد النماذج البشريه، رجل يعيش فى وسط الناس، له بقيه ضمير، لا يرى كل معايب القوم، يعتقد انه بامكانه الحفاظ على بعض القيم الصحيحه، ولكن القوم لا يريدون من يحافظ على المبادىء، وقد تسابق الاشراف والساده فى مناصرتهم وسنرى بعد ذلك كيف ان ابن سعد رمى الحسين(ع) باول سهم وقال: (اشهدوا انى اول من رمى)، انه التسابق من اجل الذل.
ثم تقدم الحر، رحمه اللّه، مخاطبا القوم: (لامكم الهبل والعبر، اذ دعوتموه حتى اذا اتاكم اسلمتموه وزعمتم انكم قاتلوا انفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، امسكتم بنفسه واخذتم بكظمه واحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه فى بلاد اللّه العريضه حتى يامن ويامن اهل بيته، واصبح فى ايديكم كالاسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا، وخلاتموه ونساءه وصبيانه واصحابه عن ماء الفرات الجارى الذى يشربه اليهودى والمجوسى والنصرانى وتمرغ خنازير السواد وكلابه وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا فى ذريته لا اسقاكم اللّه يوم الظما ان لم تتوبوا وتنزعوا عما انتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه.
فحملت عليه رجاله لهم ترميه بالنبل) (95).
ويضيف الطبرى قائلا: (ثم زحف عمر بن سعد نحوهم ثم رمى وقال: اشهدوا انى اول من رمى) (96).
وهنا ايضا لا بد لنا من تعليق، ها هو الحر رضوان اللّه عليه يخاطب القوم محاولا ايقاظ الضمائر التى ماتت ويسالهم عن مسوغات ذلك المسلك الغريب لبنى اميه فى مواجهه الحسين.
حصار لرجل فى مكانه الحسين، ومنزلته لمجرد اتخاذ موقف معارض لبيعه يزيد، مع ملاحظه ان مسلسل السلوك الاموى كان غير مسبوق فى تاريخ العرب والمسلمين، فلم يكن للاسلام ولا للعرب دوله قبل ظهور الاسلام وحينما جاء محمد بن عبداللّه عليه وعلى آله افضل الصلاه واتم السلام وبعد ثلاثه وعشرين عاما من المقاومه المشركه بقياده بنى اميه وكهفهم ابى سفيان، صار للمسلمين دوله عاصمتها المدينه واحدى ولاياتها دمشق، ولولا ذلك لما كان لاحد من بنى اميه ذكر، وذلك ما قاله الحسين(ع) لمعاويه: (ولولا الدين الذى جاء به محمد(ص) لكان افضل شرفك رحله الشتاء والصيف)، والعجيب ان بنى اميه صار لهم نصيب فى هذه الدوله التى حاربوها منذ الميلاد.
ثم تدهورت الامور ليصبحوا حكاما لدوله لم يوفروا جهدا فى حرب موسسها رسول اللّه(ص)، وهذا من اشد العجب، وصاروا يوسسون مسلكا وسننا لهم فهم اول من قتل الناس عقابا لهم على ابداء الراى (حجر بن عدى) واصحابه وهذه سابقه تاريخيه لم يعرفها عرب الجاهليه، وهم اول من طاف برووس المعارضين السياسيين فى نواحى البلدان (عمرو بن الحمق ىىىىالخزاعى) وهذه سابقه تاريخيه اخرى.
ثم ها هم يعاقبون الحسين(ع)، سبط النبى، عقابا مخترعا يوسسون به لكل فرعون ياتى من بعدهم، فهم يحرمونه من شرب الماء، ثم ها هو ابن زياد يامر بان تطا الخيل صدر الحسين وظهره، ثم هم بعد انتهاء الفاجعه يطوفون برووس الشهداء من بلد الى بلد، ويطوفون ببنات رسول اللّه(ص) سبايا، ولا اعتقد انهم اغلقوا باب الاجتهاد فى قمع احرار هذه الامه فهذا هو الباب الوحيد للاجتهاد الذى ظل مفتوحا بعدما تم تعليب الدين فى قوالب جامده من صنعهم ومن صنع اشياعهم.
وزادوا الاتون من بعدهم انهم فتحوا ابواب الاستيراد لاساليب القمع ووسائله ولم يكتفوا بالاجتهاد المحلى فسحقا لهولاء وهولاء.
نعم اذا كان ائمه اهل البيت بحق هم ائمه الهدى فقد كان بنو اميه من دون شك هم ائمه الضلاله وصدق تعالى (وجعلناهم ائمه يدعون الى النار ويوم القيامه لا ينصرون)«القصص/41».
فاض النبع الحسينى يعطى آخر ما عنده، فى حياته، فخطبهم فى يوم الفاجعه عده خطب فقال: (الحمد للّه الذى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفا باهلها حالا بعد حال فالمغرور من غرته والشقى من فتنته فلا تغرنكم هذه الحياه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن اليها وتخيب طمع من طمع فيها، واراكم قد اجتمعتم على امر قد اسخطتم اللّه فيه عليكم، فاعرض بوجهه الكريم عنكم واحل بكم نقمته وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد انتم، اقررتم بالطاعه وآمنتم بالرسول محمد ثم انكم زحفتم الى ذريته تريدون قتلها، لقد استحوذ عليكم الشيطان فانساكم ذكر اللّه العظيم، فتبا لكم وما تريدون، انا للّه وانا اليه راجعون، هولاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين).
كان الحسين(ع) يحاول تحرير هذه العقول من ذل العبوديه لغير اللّه، ولكن هيهات هيهات (كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات واللّه لا يهدى القوم الظالمين)«آل عمران/86».
كان القوم يصرون على التشويش على ابى عبداللّه الحسين لئلا يتمكن من ابلاغ حجته الى الناس فقال لهم مغضبا: (ما عليكم ان تنصتوا الى فتسمعوا قولى وانما ادعوكم الى سبيل الرشاد فمن اطاعنى كان من المرشدين ومن عصانى كان من المهلكين، وكلكم عاص لامرى غير مستمع لقولى قد انخزلت عطياتكم من الحرام وملئت بطونكم من الحرام فطبع اللّه على قلوبكم، ويلكم الا تنصتون؟ الا تسمعون؟.
فتلاوم اصحاب عمر بن سعد وقالوا:
انصتوا له.
فسكت الناس فقال(ع): تبا لكم ايها الجماعه وترحا، احين استصرختمونا والهين مستنجدين فاصرخانكم مستعدين، سللتم علينا سيفا فى رقابنا وحششتم علينا نار الفتن التى جناها عدونا وعدوكم فاصبحتم البا على اوليائكم ويدا عليهم لاعدائكم بغير عدل افشوه فيكم ولا امل اصبح لكم فيهم الا الحرام من الدنيا انالوكم وخسيس عيش طمعتم من غير حدث كان منا ولا راى تفيل لنا فهلا لكم الويلات، اذ كرهتمونا تركتمونا فتجهزتموها والسيف لم يشهر والجاش طامن والراى لم يستصحف ولكن اسرعتم علينا كطيره الدباء وتداعيتم اليها كتداعى الفارش، فقبحا لكم فانما انتم من طواغيت الامه وشذاذ الاحزاب ونبذه الكتاب ونفثه الشيطان وعصبه الاثام ومجرمى الكتاب ومطفئى السنن وقتله اولاد الانبياء ومبيدى عتره الاوصياء وملحقى العار بالنسب وموذى المومنين وصراخ ائمه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، وانتم ابن حرب واشياعه تعتمدون وايانا تخذلون، اجل واللّه الخذل فيكم معروف وتحث عليه عروقكم وتوارثته اصولكم وفروعكم وثبتت عليه قلوبكم وغشيت به صدوركم فكنتم اخبث شىء سنخا للناصب واكله للغاصب، الا لعنه اللّه على الناكثين الذين ينقضون الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا فانتم واللّه هم.
الا ان الدعى ابن الدعى قد ركز بين ىىىىاثنتين بين السله والذله، وهيهات منا اخذ الدنيه ابى اللّه ذلك ورسوله وجدود طابت وحجور طهرت وانوف حميه ونفوس ابيه لا نوثر طاعه اللئام على مصارع الكرام، الا انى قد اعذرت وانذرت الا انى زاحف بهذه الاسره على قله العدد وخذله الاصحاب.
ثم انشا(ع) يقول:
فان نهزم فهزامون قدما وان نهزم فغير مهزمينا الا انهم لا يلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم الرحى، عهد عهده الى ابى عن جدى، فاجمعوا امركم وشركاءكم فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون، انى قد توكلت على اللّه ربى وربكم، ما من دابه الا وهو آخذ بناصيتها ان ربى على صراط مستقيم، اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنى يوسف فانهم غرونا وكذبونا وخذلونا وانت ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير).
ثم دعا عمر بن سعد فقال له: (يا عمر انك تقتلنى فتزعم ان يوليك الدعى ابن الدعى بلاد الرى وجرجان، واللّه لا تهنا بذلك ابدا، عهد معهود، فاصنع ما انت صانع فانك لا تفرح بعدى ابدا بدنيا ولا آخره وكانى براسك على قصبه بالكوفه يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم.
فغضب ابن سعد).
ان هذه الخطبه الاخيره تصف حال هذه الامه وصفا بليغا فى ماضيها وحاضرها، انه وصف الخبير، فقد امتلات البطون من الحرام وهى سياسه مبرمجه لكل الفراعنه تتمثل فى اذلال الرعيه وكسر ارادتهم من خلال اتاحه الفرصه لهم كى ينالوا من الحرام فيصبح الكل فى الذنب سواء، لا يستطيع امثال هولاء ان يرفعوا رووسهم فى وجه شياطينهم، ثم هم يتمادون فى عدوانهم على من جاء يخلصهم من الظلم والجور.
ولا امل لهولاء الاتباع الا البقاء على قيد الحياه، فلا يلحقهم الطواغيت بالاخره التى منها يفرون، ثم عدد(ع) آثام بنى اميه وجرائمهم فى حق الاسلام ولكن هيهات هيهات ان يفيق الضالون من غفوتهم، فبعدا للقوم الظالمين.
ثم ها هو ينبه ابن سعد الى مصيره الاسود الذى ينتظره جزاءا وفاقا على دوره الانتهازى القذر هو وكل من على شاكلته من روساء العبيد، وهو دور موجود فى كل النظم الطاغوتيه التى تستخدم هولاء الازلام فى قتل الاحرار، واخماد انفاسهم، ثم تفشل فى حمايتهم وتتركهم لمصيرهم المحتوم، او تضحى بهم لاخماد غضب الجماهير اذا التهب الغضب وتحملهم المسووليه، فهم قد قتلوا وسفكوا الدماء من دون رضا الطاغوت الاكبر، وهولاء فقط هم الذين سمعوه يصدر هذه الاوامر الاجراميه التى تصدر بصوره شفهيه دائما ولم تكن يوما ما مكتوبه، وهو ضرب من البلاهه والخداع فسلسله الاجرام مثل سلسله الحق متواصله دائما ويصعب ان يفعل هولاء الطواغيت الصغار شيئا لا يريده الكبار، وقد اخبره ابو عبداللّه(ع) بمصيره الاسود وقال له انه لا ينال شيئا مما وعد به من ملك الرى وبلاد جرجان.
هكذا مضى يوم العاشر من محرم عام 61 للهجره، وقد استشهد الامام الحسين بن على(ع) سبط رسول اللّه، وهو ينشد:
6-الحلقه الجوهريه فى مسلسل الصراع بين الحق والباطل
استشهد الحسين ومعه اكثر من سبعين من اهل بيته وصحبه الابرار الاطهار على نحو ما هو مذكور فى كتب التاريخ، وهو ما لا مجال لذكره فى هذا المولف، وما كان غرضنا هنا ان نشرح تفاصيل مسير الحسين من المدينه المنوره الى مثواه الطاهر بكربلاء وانما كان هدفنا ان نشرح مسلسل الصراع بين الحق والباطل على قياده هذه الامه المنكوبه، وكيف كان استشهاد الامام الحسين على هذا النحو الفاجع حلقه جوهريه فى هذا المسلسل، كانت له مقدماته المبكره منذ بعثه المصطفى الاكرم(ص) واسلام من اسلم من الناس صدقا او نفاقا، وكيف تفاعلت بعض النفوس البشريه مع الدين الجديد.
اما مقاومه واضحه وفجه منذ البدايه وهو امر ثبت عدم جدواه بالنسبه لهم فجاء فتح مكه ليقضى على هذا النوع من المقاومه وليغير اعداء الاسلام اسلوبهم الى الالتفاف والنفاق والتدرج وصولا الى تحقيق الهدف المطلوب، مسلمون يحملون شكل الاسلام لا مضامينه الحقيقيه وما عرضناه نماذج منه فيما سبق، وقد نجحت عمليه الالتفاف الى حد ان ورثه الكتاب من آل محمد انتقلوا من موقع التوجيه والرياده الى موقع المقاومه التى تحاول استعاده مواقعها المفقوده.
كان الامام على(ع) فى موقع المقاومه لهذا التيار الذى استشرى كالسرطان فى جسد الامه على الرغم من وصوله الى سده الخلافه، ولكنها كانت حقبه قصيره كالحلم، وتناوشته انياب الافاعى من كل اتجاه حتى استشهد سلام اللّه عليه، وقبل الامام الحسين(ع)، اضطر الامام الحسن السبط(ع) الى اختيار موقع المعارضه السلميه، ثم انتقل الحسين الشهيد الى موقع المقاومه النشطه كما شرحنا لانها لم تكن حربا بالمعنى المفهوم.
7-معانى خروج حرائر آل البيت
بقى ان نسجل ما كشفته الاحداث عن معانى خروج حرائر اهل البيتعليهمالسلام مع الحسين بالاضافه الى ما سبق ذكره من معان.
لقد قتل الحسين(ع) ولم يشهد احد من المومنين هذه الجريمه الا حرائر اهل بيت النبوه، من ينعاك اذا يا ابا عبداللّه الا بنات على وفاطمه؟، ها هى زينب(ع) حتى تمر بالحسين(ع) صريعا فتبكيه، وتقول: (يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكه السماء هذا الحسين بالعرا مرمل بالدما مقطع الاعضا، يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتله تسفى عليها الصبا.
فابكت واللّه كل عدو وصديق) (97).
ثم ها هى اسيره فى مجلس ابن زياد، فيسال: (من هذه الجالسه؟.
فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثا كل ذلك لا تكلمه، فقال بعض امائها: هذه زينب ابنه فاطمه.
فقال لها عبيداللّه: الحمد للّه الذى فضحكم وقتلكم واكذب احدوثتكم.
فقالت: الحمد للّه الذى اكرمنا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وطهرنا تطهيرا لا كما تقول انت، انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.
قال: كيف رايت صنع اللّه باهل بيتك؟.
قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجون اليه وتخاصمون عنده.
قال: فغضب ابن زياد واستشاط.
قال له عمر بن حريث: اصلح اللّه الامير انما هى امراه، وهل تواخذ المراه بشىء من منطقها(....) (98) فقال لها ابن زياد: قد اشفى اللّه نفسى من طاغيتك والعصاه والمرده من اهل بيتك.
فبكت ثم قالت: لعمرى لقد قتلت كهلى وابرت اهلى وقطعت فرعى واجتثثت اصلى فان يشفك هذا فقد اشتفيت) (99).
لقد كان الامام السجاد (على بن الحسين)(ع) فى هذه اللحظات مريضا، وما كان يقدر على الرد والكلام، ولو كان يقدر على الكلام وجاوبهم لقتلوه، ولكان بذلك انقطع خط الامامه وكان لا بد من جواب حاضر يخرس السنه الكذابين الضالين المضلين، وهذا الدور كان دور عقيله اهل البيتعليهمالسلام زينب بنت على، فها هى تدافع عن الامام زين العابدين حينما هم هولاء الفجره بقتله والاجهاز عليه.
يروى الطبرى، عن الروان ان احدهم قال: (انى لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه على بن الحسين فقال له: ما اسمك؟.
قال: على بن الحسين.
قال: اولم يقتل اللّه على بن الحسين؟.
فسكت، فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم؟ قال: كان لى اخ يقال له ايضا على فقتله الناس.
قال: ان اللّه قتله.
فسكت على فقال له مالك: لا تتكلم؟.
قال: (اللّه يتوفى الانفس حين موتها)«الزمر/42»، (وما كان لنفس ان تموت الا باذن اللّه)«آل عمران/45».
قال: واللّه انت واللّه منهم(......) (100) فقال: اقتله، فقال على بن الحسين: من توكل بهولاء النسوه؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا ابن زياد حسبك منا اما رويت من دمائنا؟ وهل ابقيت منا احدا؟ قال: فاعتنقته، فقالت: اسالك باللّه ان كنت مومنا ان قتلته لما قتلتنى معه(....) (101). فنظر اليها ساعه ثم نظر الى القوم فقال: عجبا للرحم، واللّه انى لاظنها ودت لو اننى قتلته انى قتلتها معه، دعوا الغلام) (102).
ها هو الدعى ابن الدعى يكذب على اللّه ويقول ان (اللّه قتل على بن الحسين)، اذا بنو اميه ينفذون امر اللّه واللّه يريد استئصال آل بيت محمد (كبرت كلمه تخرج من افواههم ان يقولون الا كذبا) «الكهف/5»، ثم يتمادى فى كفره وطغيانه فيامر بقتل زين العابدين(ع) لانه منهم، اى من اهل البيت عالم بفقههم ورويتهم، وناطق بالحق، فمن قتل هم الناس ومن اجرم هم الناس وهم الذين يستحقون العقاب.
وها هى عقيله آل البيت تفدى الامام السجاد بنفسها فيخجل هذا الفرعون من نفسه، فيامر بالكف عن زين العابدين.
وفى الكوفه ايضا برز دور حرائر آل البيت، فها هى ام كلثوم بنت امير المومنين الامام على(ع) تخاطب المتخاذلين عن نصره الامام الحسين(ع) وقد رات دموع التماسيح فى اعينهم، فاومات الى الناس ان اسكتوا، فلما سكنت الانفاس وهدات الاجراس قالت بعد حمد اللّه والصلاه على رسوله: (اما بعد يا اهل الكوفه، ويا اهل الختل والغدر والخذل والمكر، الا فلا رقات العبره ولا هدات الزفره، انما مثلكم كمثل التى نقضت غزلها من بعد قوه انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم، هل فيكم الا الصلف والعجب والشنف والكذب وملق الاماء وغمر الاعداء كمرعى على دمنه او كفضه على ملحوده، الا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط اللّه عليكم وفى العذاب انتم خالدون.
اتبكون اخى؟، اجل واللّه، فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فقد بليتم بعارها ومنيتم بشنارها ولن ترخصوها ابدا وانى ترخصون قتل سليل خاتم النبوه ومعدن الرساله وسيد شباب اهل الجنه وملاذ حربكم ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم ومفزع نازلتكم والمرجع اليه عند مقالتكم ومنار حجتكم، الا ساء ما قدمتم لانفسكم وساء ما تزرون ليوم بعثكم فتعسا تعسا ونكسا نكسا، لقد خاب السعى وتبت الايدى وخسرت الصفقه وبوتم بغضب من اللّه وضربت عليكم الذله والمسكنه.
اتدرون ويلكم اى كبد لمحمد فريتم واى عهد نكثتم واى حرمه له انتهكتم واى دم له سفكتم، لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا، لقد جئتم، جئتم بها شوهاء خرقاء كطلاع الارض وملء السماء، افعجبتم ان قطرت السماء دما ولعذاب الاخره اخزى وانتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل فانه عز وجل لا يحفزه البدار ولا يخشى عليه فوت الثار كلا ان ربكم لبالمرصاد.
ثم انشات تقول:
قال الراوى: (رايت الناس حيارى يبكون وقد ردوا ايديهم فى افواههم، فقال على بن الحسين(ع): يا عمه اسكتى، فنحن الباقى من الماضى اعتبار، وانت بحمد اللّه عالمه غير معلمه ان البكاء والحنين لا يردان من قد اباده الدهر) (103).
اما عقيله اهل البيت زينب سلام اللّه عليها فقد حملت عبء مواجهه الطاغيه يزيد فى عقر داره ومن كان يقدر على هذه المواجهه غيرها؟، الم يروى عن رسول اللّه(ص) انه قال: (سيد الشهداء حمزه ورجل وقف عند امام جائر فوعظه ونهاه فقتله)، وما كان فضل مومن آل فرعون حين جبه الطاغيه بكلمات الحق سوى انه كان منهم وواجههم فى عقر دارهم.
لم يقتل بين يدى مومن آل فرعون اثنان وسبعون من خيره الرجال، ولا كان يعيش جزءا واحدا من الحاله التى عاشتها زينب ولا وجه للمقارنه، هو كان منهم وهذه لها حسابها فى ادخال بعض الامان عليه، اما العقيله فكانت من اعداء القوم الذين لا يردعهم شرف ولا ضمير، وها هو يزيد القرود يستقبل وفد الرووس، واضعا راس الحسين بين يدى متمثلا بقول شاعر المشركين، بعد معركه احد:
انها حميه الجاهليه اصبحت تقود هذه الامه التعسه التى انخذلت عن قاده الحق واتبعت الباطل، هذه الامه التى نسيت قول ربها (وكنتم على شفا حفره من النار فانقذكم منها) «آل عمران/103» برساله محمد(ص) وجهاده وصبره واخلاصه للّه عز وجل، هذه الرساله التى ضحى من اجلها على بن ابى طالب، ووتر الاقربين والابعدين، فكان سيفه عاملا حاسما فى نصره هذا الدين العظيم، هل نسى المسلمون عليا؟، هل نسوا حمزه سيد الشهداء؟، هل نسوا جعفر الطيار الشهيد العظيم؟، نعم نسوا واسلموا قيادهم لابن (آكله الاكباد) بغير عدل انشاه فيهم، ولا قيم فاضله دافع عنها، ولا تضحيه واحده فى سبيل اللّه، بل عناد وكفر والحاد حتى جاء الحق وظهر امر اللّه وهم كارهون، ثم ها هم يستلمون دوله محمد وآل محمد غنيمه بارده، ولا يكتفون بهذا، بل كانت نار الحقد والانتقام تغلى فى صدورهم طلبا لثار كفارهم يوم بدر الذين قتلوا على يد سادات اهل البيت سلام اللّه عليهم فوجدوا من يعينهم على اخذ الثار ويقول يزيد:
فهنيئا لكم بنى اميه ثاركم من محمد وآل محمد..
وهنيئا لمن آزركم ونصركم.. وهنيئا لمن رضوا بان يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون.. وهنيئا لمن سكت عن آثام حزب بنى اميه من يومها الى يومنا هذا.. كلهم شركاء، الا لعنه اللّه على الظالمين (الذين يصدون عن سبيل اللّه ويبغونها عوجا وهم بالاخره كافرون) «الاعراف/45» ان يوم الفصل ميقاتهم اجمعين (ثم يوم القيامه يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا وماواكم النار وما لكم من ناصرين) «العنكبوت/25».
ولكن كان لا بد من رد فالمعنى لا يواجهه الا المعنى، اذا كان الاسلام العظيم قد احرق اللات والعزى ومناه الثالثه الاخرى، فقد كان ذلك يوم آمن الناس ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه، انه المعنى الصحيح يحطم المعنى الزائف.
ثم جاءت مرحله بنى اميه الى يومنا هذا حيث توارت هذه الاصنام وتغلفت خلف بعض الشعارات الاسلاميه الزائفه، وكان لا بد من رد.
وها هى عقيله آل البيت تنبرى، ولا نقول كمومن آل فرعون فهى سلام اللّه عليها من آل محمد لا من آل فرعون، وهى ترد على الظالم المنتصر وامام عينيها اثنان وسبعون راسا، فاين مومن آل فرعون من مومن آل محمد؟!.
يقول الرواه (105): (فلما رات زينب ذلك فاهوت الى جيبها فشقته، ثم نادت بصوت حزين تقرع القلوب: يا حسيناه! يا حبيب رسول اللّه! يا ابن مكه ومنى! يا ابن فاطمه الزهراء سيده النساء! يا ابن محمد المصطفى).
قال الراوى: فابكت واللّه كل من كان، ويزيد ساكت، ثم قامت على قدميها، واشرفت على المجلس، وشرعت فى الخطبه، اظهارا لكمالات محمد(ص)، واعلانا بانا نصبر لرضاء اللّه، لا لخوف ولا دهشه، فقامت اليه زينب بنت على وامها فاطمه بنت رسول اللّه وقالت: (الحمد للّه رب العالمين، والصلاه على جدى سيد المرسلين، صدق اللّه سبحانه كذلك يقول: (ثم كان عاقبه الذين اساءوا السواى ان كذبوا بايات اللّه وكانوا بها يستهزءون) «الروم/10».
اظننت، يا يزيد، حين اخذت علينا اقطار الارض، وضيقت علينا آفاق السماء، فاصبحنا لك فى اسار، نساق اليك سوقا فى قطار، وانت علينا ذو اقتدار ان بنا من اللّه هوانا وعليك منه كرامه وامتنانا، وان ذلك لعظم خطرك وجلاله قدرك، فشمخت بانفك ونظرت فى عطفك تضرب اصدريك فرحا وتنفض مذرويك مرحا حين رايت الدنيا لك مستوسقه والامور لديك متسقه وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا! انسيت قول اللّه عزوجل: (ولا يحسبن الذين كفروا انما نملى لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين) «آل عمران/178».
امن العدل يا ابن الطلقاء؟! تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا، قد هتكت ستورهن، وابديت وجوههن، تحدوا بهن الاعداء من بلد الى بلد، وتستشرفهن المناقل ويتبرزن لاهل المناهل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدنى والرفيع ليس معهن من رجالهن ولى، ولا من حماتهن حمى، عتوا منك على اللّه وجحودا لرسول اللّه، ودفعا لما جاء به من عند اللّه، ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وانى ترتجى مراقبه من لفظ فوه اكباد الشهداء، ونبت لحمه بدماء السعداء، ونصب الحرب لسيد الانبياء، وجمع الاحزاب، وشهر الحراب، وهز السيوف فى وجه رسول اللّه(ص)، اشد العرب جحودا، وانكرهم له رسولا، واظهرهم له عدوانا، واعتاهم على الرب كفرا وطغيانا، الا انها نتيجه خلال الكفر، وصب يجرجر فى الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطىء فى بغضنا اهل البيت من كان نظره الينا شنفا واحنا واضغانا، يظهر كفره برسول اللّه، ويفصح ذلك بلسانه، وهو يقول: فرحا بقتل ولده وسبى ذريته، غير متحوب ولا مستعظم يهتف باشياخه.
اللهم خذ
بحقنا،
وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك على من سفك دماءنا
ونفض
ذمارنا، وقتل حماتنا، وهتك عنا سدولنا.