أم سلمة، وعائشة، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وواثلة، وأبو الحمراء، وابن عباس، وثوبان، وعبد الله بن جعفر، وعلي، والحسين بن علي.
والمتدبر في حديث الكساء يجد أن أحداثه وقعت في أكثر من مكان، وقعت في بيت أم سلمة، وفي بيت عائشة، وفي بيت فاطمة، وأمام أكثر من واحد، ويجد أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينادي عند بيت فاطمة وقت صلاة الفجر لمدة ستة أشهر، وفي رواية سبعة أشهر، وتكرار المشهد واستمرار النداء طيلة هذه المدة، يوحي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم بهذا الحجة على كل من سمع ورأى وصلى في مسجده، بأن هؤلاء هم أهل البيت، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا أراد أن يثبت أمرا من الأمور في ذاكرة من حوله، يكرر هذا الأمر من ثلاث إلى عشر مرات، ووضح ذلك في روايات عديدة حملت تحذيرات مما يستقبل الناس من أحداث، ينتج عنها ما ليس لله فيه رضا.
وإذا كان دعاء الرسول لمن تحت الكساء وتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم لآية التطهير، يعطي للناس مفهوم إذهاب الرجس، والتطهير لمن تحت الكساء - عليهم السلام - فإن الدعوة الإلهية لبني إسرائيل أعطت لهم المفهوم نفسه، ولكن بطريقة تستقيم مع الشريعة في هذا الوقت، جاء في العهد القديم: " قال الرب لموسى: وتقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء، وتلبس هارون الثياب المقدسة، وتمسحه وتقدسه ليكهن لي، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة، وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي " (1).
2 - حكام العلم
إن العلم بالله هو ذروة كل العلوم وهو أشرف العلوم، لأن الله هو أشرف معلوم على الإطلاق، ولأن العلم بالله من أشق العلوم وأبعدها منالا، لطف الله بعباده وباح - سبحانه - بالعلم الشريف لأنبيائه ورسله ومن ارتضاه
____________
(1) سفر الخروج: 4 / 11 - 16.
روي عن الإمام علي أنه قال: " إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به "، ثم تلا قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [ آل عمران: 68 ] (1)، وروي عن مكحول، قال: " لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) [ الحاقة: 12 ]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سألت ربي أن يجعلها أذن علي "، فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط فنسيته " (2)، وعن ابن مرة الأسلمي قال:: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: " إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي "، فنزلت هذه الآية: (وتعيها أذن واعية) [ الحاقة: 12 ] (3)، وعن أبي الطفيل قال: " قال علي: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل " (4)، وعن سليمان الأحمس، قال: " قال علي:
إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا " (5).
وفي قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) [ هود:
17 - 18 ]، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
____________
(1) رواه اللالكائي، كنز العمال: 1 / 379.
(2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، تفسير ابن كثير: 4 / 413، ورواه الضياء بسند صحيح وابن مردويه وأبو نعيم، كنز العمال: 13 / 177.
(3) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، تفسير ابن كثير: 4 / 413.
(4) رواه ابن سعد، الطبقات الكبرى: 2 / 338.
(5) المصدر نفسه.
(ربه) وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر، ومحصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر، ولحق به من هو من نفسه، فشهد على صحة أمره واستقامته.
وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في الروايات أن المراد بالشاهد علي بن أبي طالب، إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد، لا بمعنى الإرادة الاستعمالية، وقوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير (يتلوه)، والجملة حال بعد حال، أي: أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق
____________
(1) رواه ابن مردويه بإسنادين، كنز العمال: 2 / 439.
(2) رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبو نعيم، كنز العمال: 2 / 439.
وإذا كان صدر الآية، وهو قوله تعالى: (ويتلوه شاهد منه)، قد ورد في تفسيره أن المراد بالشاهد علي بن أبي طالب، فإن قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما) يرى في ظلاله منزلة هارون من موسى عليهما السلام، لأن موسى سأل ربه - جل وعلا - أن يؤيده بهارون ليشهد له شهادة الموقن البصير على أن الذي جاء به هو من عند الله، وهو قوله - تعالى - حاكيا عن موسى قوله: (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) [ القصص: 34 ]، قال ابن كثير: " سأل ربه أن يرسل معه هارون وزيرا ومعينا ومقويا لأمره، يصدقه في ما يقول ويخبر به عن الله تعالى، لأن خبر الاثنين أنجح في النفوس من خبر الواحد " (1)، ويمكن القول: إن الآية الكريمة يرى في ظلالها المنزلتان، منزلة علي بن أبي طالب وهو من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومنزلة هارون وهو من موسى عليهما السلام.
ومن الآيات التي تلقي بظلالها على منزلة علي من رسول الله قوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) [ الرعد: 7 ]، وروي عن علي أنه قال:
" رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر، وأنا الهادي " (2)، وفي لفظ: " والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه "، وروي لما نزلت الآية، وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدر علي وقال: " أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب علي وقال: أنت
____________
(1) تفسير ابن كثير: 3 / 388.
(2) رواه ابن أبي حاتم، كنز العمال: 2 / 441.
وبالجملة، روي في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: " إني زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما " (3)، وروي عن ابن عباس أنه قال: " أقضاكم علي " (4)، وعن ابن مسعود أنه قال: " كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي " (5).
بعد وضوح منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امتداد عهد البعثة بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمهد الساحة لإعلان ولاية علي بن أبي طالب، ومن ذلك قوله لعلي: " أنت ولي في كل مؤمن بعدي " (6)، وقوله لبريدة الأسلمي عندما جاءه يشكو عليا: " فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي، وإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي " (7)، وراوي هذا الحديث هو ابن بريدة، قال في الفتح الرباني: " أقسم ابن بريدة أنه تلقى هذا الحديث من والده بريدة مباشرة ليس بينه وبينه واسطة، وهو يفيد أن والده تلقاه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة بغير واسطة، يشير بذلك إلى علو السند " (8).
____________
(1) الفتح الرباني: 18 / 185.
(2) المصدر نفسه، تفسير ابن كثير: 2 / 501.
(3) رواه الإمام أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، الزوائد: 9 / 101، الفتح الرباني: 23 / 133، وابن جرير وصححه عن علي، كنز العمال: 13 / 114، والخطيب عن بريدة، كنز العمال:
13 / 135، والطبراني عن معقل بن يسار، كنز العمال: 11 / 605.
(4) رواه البغوي في شرح السنة، والبخاري في التفسير، وأبو نعيم، كشف الخفاء: 1 / 184.
(5) رواه الحاكم وصححه، كشف الخفاء: 1 / 184.
(6) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج وهو ثقة وفيه لين، الفتح الرباني: 23 / 116، وقال ابن كثير: رواه أبو داود الطيالسي، البداية:
7 / 346، وصححه الألباني، الصحيحة: 5 / 263.
(7) رواه أحمد، وقال في الفتح: رواه الترمذي باختصار والبزار باختصار وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، الفتح الرباني: 21 / 214.
(8) الفتح الرباني: 21 / 214.
أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيني " (1)، وروي عن يحيى بن آدم، وكان قد شهد حجة الوداع، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " (2).
وبعد أن أدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المناسك، وعند عودته إلى المدينة، وقف في غدير خم، وهو مكان يقع على الطريق بين مكة والمدينة، على بعد ثلاثة أميال من الجحفة، وروي عن زيد بن أرقم أنه قال: " لما رجع سول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع، فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثم قام فقال: كأني قد دعيت فأجيب، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، تاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض، ثم قال: إن الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه "، قيل لزيد بن أرقم:
أأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه " (3).
وعن عائشة بنت سعد قالت: " سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بيد علي فخطب ثم قال: أيها الناس، إني وليكم، قالوا:
____________
(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، الجامع: 5 / 662، والنسائي، كنز العمال:
1 / 172.
(2) رواه أحمد، الفتح الرباني: 23 / 121، والترمذي وقال: حديث حسن، الجامع: 5 / 636، وصححه الألباني، الصحيحة: 5 / 632.
(3) رواه ابن جرير عن زيد بن أرقم وعن أبي سعيد الخدري، كنز العمال: 13 / 104، والنسائي، البداية: 5 / 209.
وعند ما نوزع علي بن أبي طالب أيام خلافته، ذمر الناس بهذا الحديث، فعن أبي الطفيل قال: " جمع علي الناس في الرحبة، ثم قال: أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام، فقام إليه ثلاثون من الناس، قال أبو نعيم: فقام إليه ناس كثير، فشهدوا حين أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (2)، وزاد في رواية: " وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله " (3).
وقال في الفتح الرباني: " قال السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: حديث من كنت مولاه، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم، والإمام أحمد عن علي وأبي أيوب الأنصاري، والبزار عن عمرو ذي مر، وأبي هريرة، وطلحة، وعمار، وابن عباس، وبريدة، والطبراني عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث، وحبشي بن جنادة، وجرير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سعيد الخدري، وأبو نعيم عن جندع الأنصاري، وقد خصص له الهيثمي سبع صفحات " (4).
وقال الحافظ الكتاني: " حديث من كنت مولاه في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابيا، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام
____________
(1) قال ابن كثير: رواه ابن جرير، وقال الذهبي: هذا حديث حسن، وقال: وجدت ذلك في نسخة مكتوبة عن ابن جرير، البداية: 5 / 213.
(2) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة، الزوائد:
9 / 104.
(3) رواه البزار وابن جرير، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، كنز العمال: 13 / 158، وصححه الألباني، الصحيحة: 5 / 343.
(4) الفتح الرباني: 23 / 128.
وقال ابن كثير: " حديث من كنت مولاه رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم، وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة ورواه معروف بن جرموز عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، ورواه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد، ورواه عن عدي بن ثابت بن البراء، وعن أبي إسحاق عن البراء، ورواه عن سعد وطلحة بن عبد الله وجابر بن عبد الله، وله طرق عنه " (2).
وقال الألباني: " حديث من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، حديث صحيح جاء من طرق جماعة من الصحابة، خرجت أحاديث سبعة منهم، ولبعضهم أكثر من طريق واحد، وقد خرجتها كلها، وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة " (3).
ولما كنا قد قابلنا بعض الأحداث التي جرت في عهد البعثة الخاتمة بمثيلاتها على عهد أنبياء بني إسرائيل، ونحن نرصد منزلة هارون من موسى، فإننا نجد في مقام التطهير والعلم: " وكلم الرب هارون قائلا: خمر ومسكر لا تشرب أنت وبنوك معك.. فرضا دهريا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل، وبين النجس والطاهر، ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى " (4).
ولقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أدى المناسك، أعلن ولاية علي بن أبي طالب، وفي مقابل هذا الحدث، نجد العهد القديم يذكر أنه في اليوم الثامن من الشهر الذي تؤدى فيه المناسك، أمر موسى هارون أن يأخذ له
____________
(1) نظم المتناثر في الحديث المتواتر، ص: 195.
(2) البداية والنهاية: 5 / 350.
(3) كتاب السنة، ابن أبي عاصم، تحقيق نصر الدين الألباني: 2 / 566.
(4) سفر اللاويين: 10 / 8 - 11.
إن الدعوة الإلهية للناس دعوة واحدة، والتوحيد هو عماد هذه الدعوة، والإخلاص في العبادة يجعل شجرة التوحيد داخل النفس الإنسانية شجرة مورقة، لهذا كان الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية، ولكي يتحقق الإخلاص، فلا بد من حفظ الصلة بالله عز وجل، والمدخل إلى حفظ الصلة بالله هو حفظ الصلة بالرسول، لأن النور المحمدي هو البرزخ الذي بين الناس وبين النور الإلهي الذي تندك له الجبال، وحفظ الصلة بالرسول له قواعد وله علامات، وقديما قالت العرب:
ثالثا: الترغيب والترهيب
إن حفظ الصلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حثت عليه الدعوة الخاتمة في أكثر من آية منها قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [ آل عمران: 31 ]، والمعنى: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب، والتي ترفع أعلام الإخلاص والإسلام، وتسير بأتباعها نحو صراط الله المستقيم، فإن اتبعتموني في سبيلي أحبكم الله، ومنها قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [ يوسف: 108 ]، والآية تشير إلى سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها يأمره - تعالى - أن يخبر الناس أن هذه سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وأن هذا السبيل هو الذي يصل بمن يسلكه إلى سعادة الدارين، لأن النبي يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله تعالى: (قل لا أسألكم
____________
(1) سفر اللاويين: 9 / 22 - 24.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " لما نزلت هذه الآية: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) [ الشورى: 23 ]، قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولداها " (1)، وعن أبي الديلم قال: " لما جئ بعلي بن الحسين أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت آل حم؟ قال:
نعم، قال: أما قرأت: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)؟
قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم " (2).
____________
(1) رواه الطبراني، وقال الهيثمي: فيه جماعة ضعفاء وقد وثقوا، الزوائد: 9 / 168، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) أخرجه ابن جرير، والبغوي، تفسير البغوي: 7 / 364، والمقريزي، فضائل أهل البيت، ص: 72.
وتحذيرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاقتراب بأي أذى لعترته، وردت في أحاديث كثيرة، منها ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: " كنت جالسا في المسجد أنا ورجلان معي، فنلنا من علي، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: ما لكم وما لي؟ من آذى عليا فقد آذاني " (1)، ومنها ما روي عن عمرو بن شاس الأسلمي، قال: " خرجت مع علي إلى اليمن، فجفاني في سفري ذلك، حتى وجدت في نفسي عليه، فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآني أبدى عينيه (أي: حدد إلي النظر)، حتى إذا جلست قال: يا عمرو، والله لقد آذيتني، قلت: أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله، قال: بلى من آذى عليا فقد آذاني " (2)، ومنها ما روي عن المسور بن مخرمة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها " (3).
وبالجملة، إن الدعوة الإلهية الخاتمة بينت أن الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية، ومن أوجب الواجبات الشرعية، وبينت أن حفظ الصلة
____________
(1) أخرجه الإمام أحمد، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، الزوائد: 9 / 129، الفتح الرباني:
23 / 120، ورواه الحاكم وصححه، المستدرك: 3 / 122، ورواه البزار، كشف الأستار:
3 / 200، ورواه ابن حبان في صحيحه، الزوائد: 9 / 129، وابن كثير، البداية: 7 / 347.
(2) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، الزوائد: 9 / 129، وابن كثير، البداية: 7 / 347.
(3) رواه مسلم، الصحيح: 3 / 16، والبخاري بلفظ: فمن أغضبها أغضبني، الصحيح: 2 / 302.
ولأن المنافقين في كل عصر يعملون من أجل تدمير الدعوة من داخلها، فإن الدعوة الإلهية الخاتمة فتحت بين حركة النفاق وبين حركة الإيمان، لتصحيح الساحة بعد هذا الفتح من طرفين، لكل طرف أعلامه ومذاقه، لتسير القافلة وهي على بينة من أمرها، لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، وهذا الفتح يرى بوضوح إذا تدبر الباحث في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " (1)، وما روي عن أبي ذر أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: يا علي من فارقني فارق الله، ومن فارقك يا علي فارقني " (2)، وما روي عن عبيد الله بن عباس قال: " نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي فقال: يا علي، أنت سيد في الدنيا، وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، الويل لمن أبغضك بعدي " (3).
وما روي عن أسرة عمار بن ياسر، فعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل " (4)، وعنه أيضا
____________
(1) رواه مسلم، الصحيح: 2 / 64، والترمذي، الجامع: 5 / 643، وأحمد، الفتح الرباني: 23 / 122.
(2) رواه البزار، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، كشف الأستار: 3 / 201، الزوائد: 9 / 135، والحاكم وصححه، المستدرك: 3 / 121.
(3) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة، وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح، والحديث سمعه يحيى بن معين من أبي الأزهر فصدقه، المستدرك: 3 / 128، ورواه ابن كثير، البداية: 7 / 356.
(4) رواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر، كنز العمال: 11 / 610.
وما روي عن أسرة أبي رافع، فعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا رافع، سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا، حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، ومن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شئ " (4)، وعن عمار بن ياسر قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (5)، وعمار راوي هذا الحديث، قاتل مع الإمام علي، وقتل في صفين، وكان النبي قد أخبر بقتله وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (6).
وبالجملة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يبغضنا - أهل البيت - أحد إلا أدخله الله النار " (7)، وعن أبي هريرة قال: " نظر
____________
(1) رواه الطبراني في الكبير، كنز العمال: 11 / 611.
(2) رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، المستدرك: 3 / 130.
(3) رواه الديلمي، كنز العمال: 11 / 614.
(4) رواه الطبراني، كنز العمال: 11 / 613، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه محمد بن عبد الله وثقه ابن حبان، ويحيى بن الحسين لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، الزوائد: 9 / 134.
(5) رواه ابن عساكر، كنز العمال: 11 / 613.
(6) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: التعاون في بناء المساجد، ورواه أحمد، الفتح الرباني:
22 / 331.
(7) رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، المستدرك: 3 / 150.
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الكتاب والعترة في حبل واحد، وأخبر بالغيب عن ربه بأنهما لن ينفصلا حتى يردا على الحوض، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم حث الأمة في أكثر من مكان بأن تتمسك بهذا الحبل لأنه واق لها من الضلال، وقال:
" فانظروا كيف تخلفوني فيهما "، فإنه أخبر بالغيب عن ربه بأن أهل بيته سيلقون بعده من الأمة قتلا وتشريدا، وكما حذر موسى عليه السلام بني إسرائيل من الاختلاف في الوقت الذي خبر فيه بأنهم سيختلفون وهو يخبر بالغيب عن ربه، كذلك فعل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كان يحذر من الاختلاف ويقول: " لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " (2)، وفي الوقت نفسه يخبر بالغيب عن ربه ويقول: " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلك سبعون فرقة، وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة، قيل: يا رسول الله، من تلك الفرقة؟
قال: الجماعة الجماعة " (3).
لقد كان الإخبار بالغيب في ما يستقبل الناس من أحداث، لطفا من الله، ليعلم - سبحانه - من يخافه بالغيب، فلا يأخذون بالأسباب التي حذر منها، ويأخذون بالأسباب التي فيها لله ولرسوله رضا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأمة بأن تأخذ بطرف الحبل الذي عليه الكتاب والعترة، ثم يخبر بالغيب عن ربه فيقول: " إن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا " (4)، وعن
____________
(1) رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه، المستدرك: 3 / 149، وأحمد، الفتح الرباني: 22 / 106، والترمذي عن زيد بن أرقم، الجامع: 5 / 699، وابن ماجة والحاكم عن زيد، كنز: 12 / 96، والطبراني وأحمد والحاكم عن أبي هريرة، كنز: 12 / 97، وابن أبي شيبة، وابن حبان في صحيحه، والضياء بسند صحيح عن زيد، كنز: 13 / 640.
(2) رواه البخاري، كنز العمال: 1 / 177.
(3) رواه أحمد عن أنس وأبي هريرة، كنز: 1 / 210، والترمذي وصححه، الجامع: 4 / 25.
(4) رواه الحاكم ونعيم بن حماد، كنز العمال: 11 / 169.
ولأن الطريق عليه اختلاف وافتراق وغدر ونفي وقتل وتشريد، ظهرت النتيجة عند الحوض في إخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه، فعن سهل قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم " (2)، وعن عبد الله قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (3)، وفي رواية عن أبي هريرة بزيادة: " إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " (4)، وفي رواية عن ابن عباس: " فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " (5)، وفي رواية عن أم سلمة: " فناداني مناد من بعدي، فقال: إنهم قد بدلوا من بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي " (6).
لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النتيجة التي لا تستقيم مع المقدمة، ولم تجامل الدعوة الإلهية الخاتمة أحدا بعد أن أقامت حجتها، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني...) " (7)، ولم
____________
(1) رواه البيهقي، وقال ابن كثير: سنده صحيح، البداية: 6 / 218.
(2) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 141، ومسلم، الصحيح: 15 / 53، وأحمد، الفتح الرباني:
1 / 195.
(3) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 141، ومسلم، الصحيح: 15 / 29.
(4) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 142.
(5) رواه البخاري، الصحيح: 3 / 160، مسلم، الصحيح: 17 / 194.
(6) رواه أحمد، وقال في الفتح: سنده جيد، الفتح الرباني: 1 / 197.
(7) رواه مسلم، الصحيح: 1 / 195.
وإذا كانت الدعوة الإلهية الخاتمة قد حذرت كل من يقترب من سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي أذى، فإن الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل حذرت كل من يقترب من هارون وبنيه بأذى، جاء في العهد القديم أن الله كلم موسى عليه السلام، وأمره بأن يقدم سبط لاوي أمام هارون ليخدموه ويحفظوا شعائره، ويخدموا خيمة الاجتماع ويحرسوا أمتعتها، وقال له: " وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل " (2).
رابعا: رحيل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم
لقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأدلة المقبولة، والمعجزات التي هي بلسان التواتر منقولة، وقد قال المسيح عليه السلام: من قبل ثمارهم تعرفونهم، وقد علم المخالف والموالف أن محمدا رسول الله لم تثمر شجرته عبادة غير الله ولم يشرك مع الله غيره، ولا جعل له ندا من خلقه ولا ولدا، ولا قال لأمته:
اعبدوا إلهين اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا عبد رجلا ولا عجلا ولا كوكبا، بل دعا إلى ملة إبراهيم، إله واحد لا إله إلا هو، وأخلص لله وحده، ونزهه عن النقائص والآفات، وجاء بكتاب من عند الله أمر فيه بطاعة الله، نهى عن معصيته، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأمر ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحفظ الجار، وفرض الصدقات،
____________
(1) رواه الحاكم والإمام أحمد، كنز العمال: 11 / 197، وابن عساكر، كنز: 11 / 271.
(2) سفر العدد: 3 / 5 - 10.
وبعد أن أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة، حانت الساعة التي يدعى فيها فيجيب، وعلى فراش المرض أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب حتى لا تختلف الأمة من بعده، وهو يعلم أن الاختلاف واقع لا محالة، ونظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والانسان مطالب بأن يكون اعتماده على الله عند أخذه بالأسباب وفي كل حال، وعلى هذا سار الأنبياء والرسل عليهم السلام، كانوا يخبرون بالغيب عن الله بما يستقبل الناس من فتن وأهوال، ثم يأخذون بالأسباب فيحذرون الناس من مخاطر الطريق.
عن ابن عباس قال: " لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا! " فكان ابن عباس يقول: " إن الرزية كل الرزية، ما حال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع " (2)، وروي عن جابر بن عبد الله: " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها " (3)، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه، حتى رئيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهجر " (4).
قال ابن الأثير: " القائل هو عمر بن الخطاب " (5)، ومعنى هجر، قال في لسان العرب: " يهجر هجرا، إذا كثر الكلام في ما لا ينبغي، وهجر يهجر هجرا، بالفتح: إذا خلط في كلامه، وإذا هذى " (6)، وقال في المختار:
" الهجر: الهذيان " (7)، وقال في المعجم: " هجر المريض هذى " (8).
لقد اختلفوا وأكثروا اللغط ولا ينبغي عند رسول الله التنازع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) [ الحجرات: 2 ]، وقال جل شأنه: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [ النور: 63 ]، وقال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا
____________
(1) رواه البخاري، باب: قول المريض: قوموا، الصحيح: 4 / 7، ومسلم، باب: ترك الوصية، الصحيح: 5 / 76، وأحمد، الفتح الرباني: 22 / 191.
(2) رواه البخاري، كتاب العلم، الصحيح: 1 / 31.
(3) رواه أحمد، الفتح الرباني: 22 / 225، وابن سعد، الطبقات: 2 / 243.
(4) رواه مسلم، باب: ترك الوصية، الصحيح: 5 / 76.
(5) لسان العرب، ص: 4618.
(6) المصدر نفسه.
(7) مختار الصحاح، ص: 690.
(8) المعجم الوسيط: 2 / 972.
ومن يتدبر في أحداث يوم الصحيفة ويمسك بأطرافها، يجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب لهم كتابا يكون سببا في الأمن من الضلال، وهذا السبب كان كافيا لتنفيذ الأمر، ولكن بعض الذين حضروا قالوا:
" هجر "، فكانت هذه الكلمة كافية ليمسك الرسول عن كتابة الصحيفة، لأنها ربما تكون مدخلا لتشكيك البعض في كل ما كتب من وصايا وعهود، ويترتب على ذلك فتن عديدة، ويشهد بذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: " قالوا:
إن النبي ليهجر، فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: أو بعد ماذا؟! " (1)، وأمر الرسول إليهم بأن يأتوه بصحيفة ليكتب لهم الكتاب، هذا الأمر في حد ذاته كاف لإقامة الحجة عليهم، وإن لم يأتوا إليه بالصحيفة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقام الحجة على الأمة بالبلاغ في حجة الوداع، وقبلها، وبعدها في غدير خم.
وقد احتج البعض أن قولهم: " حسبنا كتاب الله "، يستند إلى أن الكتاب جامع لكل شئ، وقولهم هذا ينتج إشكالا، لأن الكتاب الجامع لكل شئ أمر بطاعة الرسول، وعلى الرغم من أن الكتاب جامع إلا أنه ليس في استطاعة كل واحد أن يستخرج منه ما يريده على وجه الصواب، لهذا فوض الله رسوله في أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، ولأن الناس في حاجة إلى السنة مع كون الكتاب جامعا، جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عترته مع الكتاب في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.
وبالجملة، لما كان الكتاب فيه آيات متشابهات، وهذه الآيات يتتبعها الذين في قلوبهم زيغ لإثارة الفتن ولتأويل الكتاب، حتى ينتهي تأويلهم إلى
____________
(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى: 2 / 242.
____________
(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى: 2 / 242.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، الجامع: 5 / 663.