ولقد حوربت هذه الدار من التيار السلفي الوهابي الذي أصدر فيها عدة منشورات تحذيرية للإسلاميين من التعامل معها وضرورة مقاطعتها..
ومن أشهر هذه المنشورات كتيب صدر بعنوان: بداية الشر ونهج البربر.
ويحوي داخله هجوما شخصيا علي ونقدا لاذعا ومغاليا لبعض مؤلفاتي التي كانت قد صدرت قبل تلك الفترة. ويحاول المنشور إقناع المسلمين أن إيران تقف وراء دار البداية مبرهنا على ذلك بأدلة واهية ساذجة..
ومثل هذه الحرب التي شنت على دار البداية من قبل التيار السلفي الوهابي إنما كانت علامة على نجاحنا. إلا أن الشئ الغريب والغير مبرر هو تلك الحرب التي شنت علينا من قبل بعض الشيعة الذين اعتبروا هذا النشاط الاعلامي بمثابة تهديد لحركة التشيع من شأنه أن يجعل القوى المتربصة بنا تعجل بضربنا وتجهض الدعوة في مهدها..
ولقد كنت أعتقد من منظور إعلامي أن دعوتنا في حاجة ماسة إلى أن تظل بارزة معلنة وذلك لعدة أسباب:
الأول: أنه ليس هناك مبرر للتحفي وانتظار انفراج الأوضاع فهذا معناه أن تظل حركة التشيع مرهونة بأمر ظني..
الثاني: أن حركتنا لا تتبنى تصورات معادية للواقع أو الحكم وأنه لا سبيل لإثبات صدق النوايا إلا بالعمل الاعلامي الذي هو في الأصل عمل علني..
الثالث: أن الصدع الفكري في مواجهة الواقع لا يصح تأجيله وربطه بمرحلية التحرك إذ أن التصورات لا تخضع للمرحلية..
الرابع: أن مستقبل الدعوة لا يجوز ارتهانه بفئة أو جماعة معينة. ومستقبل حركة التشيع في مصر ليس مرهونا بنا حتى نبالغ في التقية والمحافظة على السرية.. الخامس: أن المكاسب التي تحققها الدعوات على مر الزمان إنما تكون عن
وهذا ما حدث بالفعل إذ أن المواجهة مع الواقع والحملة الإعلامية التي قمنا بها قد دفعت بخصومنا من التيارات الإسلامية المناهضة إلى إعلان الحرب علينا وهذا بدوره قد خلق رد فعل إعلامي كبير حقق دعاية للتشيع واسعة لم نكن لنستطيع القيام بها..
وكان كم الكتب والمقالات والخطب المنبرية الموجهة ضد الشيعة هي أكبر بكثير من حجمهم ووزنهم. ثم تحركت الحكومة فوجهت ضربتها للشيعة في عامين متتاليين (1988 - 1989) وتم حل دار البداية والقبض علينا واتهامنا بالعمل على قلب نظام الحكم لحساب إيران. إلا أن هذه القضية لم تخرج عن كونها قضية ورقية استهلاكية وسرعان ما أخلي سبيلنا بعد أن قدم لنا الخصوم أكبر هدية وهي شغل الرأي العام بحركتنا وتوسيع دائرة الدعاية لدعوتنا وهكذا خرجنا من هذه المحنة أكثر صلابة وأكبر رصيدا ولم نكن لنستطيع تحقيق ذلك لو لم ندفع هذا الثمن. وهذه هي سنة الدعوات..
إن الحقوق لا تستجدى والحريات لا تمنح وإنما تنتزع انتزاعا. وهذا ما آمنت به من خلال تجاربي وما يجب أن يؤمن به كل عاقل مجرب. وحتى نتمكن من انتزاع حقنا في الوجود على الساحة وحريتنا في التعبير عن عقيدتنا لا بد أن نظل ظاهرين نقارع الخصوم حتى يتم تحطيم حاجز الشك ونحقق الثقة..
ولقد كانت أهم نتائج المواجهة الإعلامية مع الواقع هي ما يلي:
- تبديد الشبهات التي تحوم من حول الشيعة لدى الكثير من قطاعات المثقفين في مصر من التيارات الإسلامية وغيرها..
- توسيع رقعة التعاطف مع خط آل البيت..
- توسيع رقعة انتشار الكتاب الشيعي..
- استقطاب الكثير من العناصر الصفوف الشيعة..
- تغير نظرة الدولة وجهاز الأمن تجاه حركة الشيعة..
ومثل هذه النتائج لم تكن لتتحقق لو كنا ملتزمين بالسرية التي سوف تجعلنا
وبعد توقف دار البداية قمنا بتأسيس دار الهدف وهي لا تزال مستمرة حتى اليوم وتشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام. وتعد الواجهة الإعلامية للشيعة في مصر..
ويؤسفني أن أذكر أن بعض الشيعة قد تآمروا على هذه الدار وتسببوا في تجميد نشاطها فترة من الزمن في الوقت الذي لم تتعرض فيه الحكومة لهذه الدار منذ قيامها عام 1989 م وحتى اليوم..
ونظرا لكوني أقف في الواجهة أمام الحكومة وأمام التيارات الإسلامية والتيارات السياسية الأخرى. فقد وضعني جهاز الأمن تحت الرصد الدائم واعتبرني الرجل الأول عند الشيعة بل بالغ في الأمر واعتبرني رجل إيران في مصر وأنني أعمل لحساب المخابرات الإيرانية..
ومثل هذا الموقف الذي تبناه جهاز الأمن تجاهي لم يأت من فراغ وإنما قام على أساس تاريخي السابق في دائرة الحركة الإسلامية وارتباطي بالتيارات الإسلامية ونشاطي الواسع في فترة السبعينات والثمانينات بالإضافة إلى فترة اعتقالي التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات..
وفقد استطعت بعون الله سبحانه أن أدخل في حوارات مع جهاز الأمن من أجل كسر حاجز الشك وتوضيح الرؤيا وإزالة الشبهات خاصة شبهة العلاقة بإيران. فقد كانت هناك عقيدة متوطنة لدى جهاز الأمن أن إيران تقف وراء الشيعة في مصر وقد برهنا على أن هذا الأمر لا أساس له من الصحة (6)..
ومثلما دخلنا في حوارات مع جهاز الأمن دخلنا أيضا في حوارات مع التيارات السياسية مثل التيار الماركسي والتيار القومي والتيار العلماني والناصري. وقد اكتشفت هذه التيارات أن الطرح الشيعي أكثر تجاوبا مع الواقع وأكثر مرونة وفاعلية في مواجهة الأحداث اكتشفت أن الطرح الشيعي إنما يعرض إسلاما آخر غير ذاك الإسلام المخيف الذي تعرضه الجماعات والذي تتخذ منه موقفا معاديا..
وقد نتج عن هذه الحوارات أن تبنت هذه التيارات موقفا متعاطفا مع الشيعة وأقبلت على الكتب الشيعية وطالبتنا بمشاركتها الندوات واللقاءات الفكرية التي
ولم تكن تلك الحوارات والمواجهات الفكرية مع التيارات الأخرى تنحصر في دائرة التعريف بالشيعة وتبديد الشبهات من حول أطروحتها وإنما تجاوز الحوار هذا الحد ليشمل الجمهورية الإسلامية ووقعها وسياستها..
إن الحديث عن الجمهورية إنما يفرض نفسه على الواقع المصري اليوم وفي الأوساط الثقافية خاصة. حتى أنه أصبح الحديث عن الشيعة يعني الحديث عن إيران. والحديث عن إيران يعني الحديث عن الشيعة..
وفي ذهن المثقف المصري اليوم قناعة ثابتة بوجود رابطة قوية ومصيرية بين إيران والشيعة ليس على مستوى مصر وحدها وإنما على مستوى العالم بأكمله..
ومن هنا فقد كان الحديث عن إيران يفرض نفسه على الحوارات المتعلقة بالشيعة. وقد أسهمنا بفضل الله في تبديد كثير من الشبهات والغموض الذي كان يكتنف تصور مثقفي مصر تجاه إيران (7)..
وأذكر أن أحد المثقفين قال لي: يجب أن تعذرنا في تبني هذه النظرة القاتمة تجاه إيران فنحن لا نجد بين أيدينا من المصادر ما يعيننا على فهم الواقع الإيراني مع الوضع في الاعتبار التعتيم الاعلامي المستمر حول هذا الواقع..
والحق أن دعوة التشيع في مصر تسير ببركة آل البيت فليس لديها من الإمكانيات ما يعينها على أداء هذا الدور الاعلامي الذي يتسع يوما بعد يوم في الواقع المصري..
ففضلا عن كونها لا تنطلق من قاعدة ثابتة وقيادة موحدة هي تفتقد الكتاب الشيعي الذي يزداد الطلب عليه والذي يعد مصدره الأساس معرض الكتاب الذي يقام سنويا فهو المتنفس الوحيد للشيعة.
المجلس الشيعي
ونظرا لاتساع رقعة الدعوة وشيوعها في محافظات مصر أصبحت الحاجة ماسة لترتيب البيت الشيعي من الداخل..
من هنا برزت فكرة المجلس الشيعي التي طرحناها ولا قت قبول وموافقة
وسيرا مع واقع الدعوة وظروفها وأيضا ظروف وملابسات الواقع المصري والحساسية الأمنية لدى الحكومة تجاه أي نشاط إسلامي خاصة النشاط الشيعي.
فقد آثرنا أن يكون إطار هذا المجلس وتصوره ونشاطه يقوم على أساس اجتماعي بحت فمن ثم أعلنا أهداف المجلس فيما يلي:
- يضم المجلس كافة المؤمنين في جميع محافظات مصر ويكون المعبر عنهم والناطق بلسانهم والممثل الرسمي لهم أمام كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية..
- تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط بين المؤمنين..
- إقامة المساجد ودور المناسبات..
- إصدار صحيفة تنطق بلسان المجلس..
- إقامة مكتبات عامة للاطلاع..
- إحياء المناسبات الإسلامية..
- تأسيس صندوق الخمس والزكاة..
- إصدار الكتب والدراسات التي تخدم خط آل البيت وتعرف الرأي العام بهم..
- القيام برحلات الحج وزيارة الأماكن المقدسة..
هذه هي الأهداف التي قام على أساسها المجلس والتي تعكس كونه هيئة اجتماعية لا تتبنى أية توجهات سياسية. وهي الصورة الأكثر ملاءمة لواقع الشيعة في مصر اليوم..
وأكرر أسفي أن هناك بعض الشيعة يقفون من فكرة المجلس موقفا سلبيا ومثل هذا الموقف إنما ينبع من تركيبة الشخصية المصرية التي تميل إلى اللين وتخشى المواجهة المباشرة مع الواقع..
كما أن حالة الاحباط التي تعد إحدى معالم الشخصية المصرية قد دفعت ببعض
وفي الوسط الشيعي المصري اليوم الكثير من الأثرياء الذين من الممكن أن يقوموا بدور فاعل لخدمة الدعوة ودفعها إلى الأمام إلا أنهم آثروا السلامة وكأن الأمر لا يعنيهم وذلك يعود إلى حسابات خاصة بهم وهي حسابات في حقيقتها تنبع من تركيبة الشخصية المصرية..
وليس من المعقول أن أكلف نفسي كل هذا العناء في الوسط السني ثم أعيش تجربة الإنتقال الطويلة من السنة إلى الشيعة ثم بعد ذلك أقف في طابور المنتظرين لأتبنى دور المتفرج..
من هنا بدأت في سلوك سبيل التأليف والنشر والدعاية وسبيل الحركة أيضا من أجل خدمة دعوة آل البيت ودعمها وتذليل العوائق من طريقها وبعث الهمة في نفوس المؤمنين بهذه الدعوة ليقوموا بدورهم تجاهها (9)..
____________
(1) - أنظر هذا الأمر بتوسع في كتبنا التالية: الحركة الإسلامية في مصر والشيعة في مصر ومصر وإيران صراع الأمن والسياسة.
(2) - وجهت للشيعة عدة ضربات متتالية عام (1987 - 1988 - 1989). أنظر المراجع السابقة.
(3) - تحصل الأحزاب والهيئات الإسلامية في مصر على عدد كبير من تأشيرات الحج والعمرة من السفارة السعودية كل عام. وقد وصل سعر الحج السياحي اليوم إلى أكثر من خمسة آلاف جنبيه.
(4) - في مصر أكثر من سبعين طريقة صوفية معروفة غير الطرق غير المعروفة. وبعض هذه الطرق له ميول شيعية. وتحتوي هذه الطرق أكثر من عشرة ملايين فردا.
(5) كان من التهم التي وجهت لنا حين القبض علينا فيما سمي بالتنظيم الشيعي الخميني. العمل على قلب نظام الحكم على نهج الثورة الإسلامية.
(6) - كان جهاز الأمن يعتقد أن إيران تقف وراء الجماعات الإسلامية أيضا. وقد برهنت الأحداث والوقائع على عدم صحة ذلك التصور. أنظر كتابنا مصر وإيران.
(7) - كانت رحلاتي للخارج خاصة لإيران واحتكاكي بقطاعات الشيعة في خارج مصر قد زاد من رصيد الوعي لدي وأعانني على نقل الصورة الحقيقية لواقع الجمهورية الإسلامية إلى مثقفي مصر.
(8) - نشرت مجلة روز اليوسف خبر تأسيس المجلس الشيعي المصري. ويذكر أن مجلة روز اليوسف قد
____________
نشرت عدة موضوعات عن الشيعة في مصر من قبل. وكان هذا عن طريق الاتصال بنا.
(9) - كان قد صدر لي أثناء أزمة الخليج كتاب حركة آل البيت وصور في مصر. ثم صدر لي بعدها كتاب الشيعة في مصر. وكتاب عقائد السنة وعقائد الشيعة وهو دراسة مقارنة بالإضافة إلى مؤلفات أخرى معلن عنها في آخر هذا الكتاب.
القرآن
من هنا بدأت رحلة الشك في ترتيب القرآن وتدوينه والتي قام بها بعض الصحابة بهدف التمويه على مكانة آل البيت (ع) ودورهم. وتبنى أهل السنة من بعد هذا القرآن على هذا النحو مما أتاح الفرصة للرجال ليفسروا آيات القرآن على هواهم خاصة تلك التي تتعلق بآل البيت (ع)..
من هنا كانت قراءاتي في تاريخ القرآن أحد العوامل التي أدت بي إلى الشك في الأطروحة السنية. فمن ثم أنا أقدم هنا خلاصة بحثي حول هذا الأمر..
جمع القرآن
كانت هناك عدة مصاحف منتشرة بين الصحابة منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى عهد عثمان. ولم يكن أحد من الصحابة أو الخليفة الأول
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أقدم عثمان على هذا العمل؟..
هل فعل هذا حسما للخلاف وحفاظا على وحدة الأمة؟..
لو سلمنا بهذا فإن هذا يعني أن الخلاف كان واقعا من قبل عثمان. وأن أبا بكر أو عمر لم يتحرك أي منهما لحسمه. إلا أن الأمر على ما يبدو يشير إلى دلالات أخرى. والمشهور عند القوم أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة للقرآن ومنع القراءات الأخرى..
لكن هذا التفسير لا يحسم القضية إذ أن القراءات السبع للقرآن وردت فيها أحاديث صحيحة عند القوم والجميع يلتزم بهذه القراءات إلى يومنا هذا. فإذا كان عثمان قد منع القراءات الأخرى وألزم الأمة بقراءة واحدة. فلماذا بقيت هذه القراءات حتى اليوم؟ وألا يعتبر عمله هذا مخالفا لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه (1)..
وإذا كان الهدف من القراءات هو التيسير على الأمة. فما الذي يدعو إلى الخلاف في ذلك حتى يضطر عثمان إلى إلغاء القراءات؟..
إلا أن هناك شبهة تثار حول مسألة القراءات وهي إذا كان الرسول قد أباح قراءة القرآن على أحرف مختلفة فإن هذا يبرر عدم وقوع الخلاف وما دام قد وقع الخلاف فإن هذا يؤكد على أن مسألة القراءات مسألة اجتهادية لا نص فيها..
والحق أن هناك طعنا واضحا في الأحاديث الواردة بشأن القراءات من حيث السند ومن حيث المتن. وهناك خلاف واضح بين أهل التفسير حول القراءات:
هل هي توقيفية؟ أم اختيارية؟ وهذا الخلاف يدل على عدم وجود نص فيها (2)..
ومن هنا يمكن القول أن مسألة القراءات لم تكن هي الدافع الذي أدى بعثمان إلى حرق المصاحف وإنما هناك سبب آخر.
لقد دفعت بي هذه الشبهة إلى العودة للوراء لدراسة عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد دلت الروايات أن عمر هو الذي دفع بأبي بكر إلى جمع القرآن..
وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر (3)..
وهذه الرواية نخرج منها بالملاحظات التالية:
- أن الرسول ترك الأمة والقرآن في صدور الرجال..
- أن القرآن مهدد بالضياع بسبب معركة اليمامة..
- أن أبا بكر لم يكن يعنيه هذا الأمر..
- أن عمر ذكره بأهميته وضرورته..
- أن أبا بكر احتج بأن الرسول لم يفعل ذلك..
- أن عمر أكثر من الالحاح عليه في هذا الأمر..
ومثل هذه الملاحظات إنما تؤكد شيئا واحدا هو أن الرسول قصر في مهمته وترك القرآن مشتتا بين صدور الرجال مما يهدد بضياعه. وهذا يعني اتهام الرسول بالإهمال..
لكن تقصي الروايات الواردة على لسان الرسول عن القرآن تكشف لنا أن القرآن كان موجودا ومجموعا في عهده وأن هناك عددا من مشاهير الصحابة كانوا من كتاب الوحي منهم الإمام علي وأن هناك الكثير من النصوص التي جاءت عن الرسول تحض الأمة على ضرورة التمسك بالقرآن والإكثار من قراءته والعناية به (4)..
وإذا ما صح هذا التفسير فإن هذا يعني نفي شبهة التقصير والاهمال عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وظهور شبهة أخرى تتعلق بموقف أبي بكر وعمر من القرآن. فإذا كان القرآن مجموعا وموجودا فلماذا أصر عمر على جمعه متحججا بوقعة اليمامة وملحا على ذلك؟..
إن عدم حماسة أبو بكر لهذا الأمر تدل على أن المراد بالجمع شئ آخر. فلو
ولا يعقل أن يقوم أبو بكر بتكليف زيد بن ثابت بقوله: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتتبع القرآن فاجمعه.. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره..
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله. ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر (5).
لا شك أن مثل هذه الطريقة في جمع القرآن تثير الشك من حوله وتدفع إلى القول بتحريفه وهي لا بد وأن ينتج عنها نسيان شئ من آياته أو تبديل آية مكان آية. فإنما المتصدي للجمع هو بشر. وقد دفعهم هذا إلى ضرورة وجود شاهدين لإثبات صحة الآية (6)..
وبالتأمل في كيفية الجمع يمكن الخروج بالنتائج التالية:
- أن متتبع القرآن هو زيد وحده..
- أن آيات القرآن كانت متفرقة بين العسب واللخاف وصدور الرجال..
- أن آخر سورة التوبة كانت في حوزة خزيمة وحده..
- أن القرآن بعد جمعه استقر عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة..
وأمام هذه النتائج تطرح التساؤلات الآتية:
هل يكفي زيد وحده للقيام بمهمة جمع القرآن؟.
ولماذا لم يقم أبو بكر أو عمر بهذه المهمة؟.
وما هو سر تواجد آخر آيات التوبة بحوزة خزيمة وحده؟.
هل هذا يعني أن القرآن كانت توزع آياته على الصحابة بحيث تكون هناك آية عند صحابي لا توجد عند آخر؟.
وأين ما حفظ أبو بكر وعمر من هذا القرآن؟.
ولماذا سار عمر على نفس السياسة؟.
وما قيمة أن يستقر المصحف في النهاية عند حفصة؟.
ثم أين دور الإمام علي في كل هذا وقد كان من كتاب الوحي؟.
إن تبني هذه الرواية يعني أن الجمع لم يكن الهدف منه الحفاظ على القرآن ونشره بين المسلمين فذلك لم يحدث. فالأمة لم تستفد من هذا الجهد الذي بذل في الجمع ولم تر هذا المصحف ومثل هذا الموقف كان من الممكن أن يدفع بالمسلمين من الصحابة وغيرهم إلى الثورة والصدام مع أبي بكر لاحتكاره القرآن بعد جمعه.
إلا أن شيئا من هذا لم يحدث. والسبب في ذلك واضح وضوح الشمس وهو أن القرآن كان موجودا أو مجموعا عند كثير من الصحابة..
إذن الفهم الوحيد الذي يمكن استنباطه من هذه الرواية هو أن الجمع الذي قام به أبو بكر كان جمعا خاصا به وبنهجه ولم يكن جمعا عاما للأمة..
وكان لا بد من هذا المدخل لفهم حقيقة الدور الذي لعبه عثمان تجاه القرآن..
يروي فقهاء القوم أن عثمان لما أراد جمع القرآن أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان (7)..
وفي رواية: فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها حتى عاهدها ليردنها إليها (8)..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أرسل عثمان يأخذ مصحف حفصة.
هل هذا يعني أنه لا توجد مصاحف سواه بالمدينة؟ وإذا كان هو المصحف الوحيد فمن أين جاءت المصاحف الأخرى التي انتشرت في الأمصار؟ ولماذا رفضت حفصة أن تدفعه إليه إلا بميثاق؟ إن وجود مصاحف الأمصار يدل على وجود مصاحف أخرى بالمدينة فهي التي خرجت منها المصاحف للأمصار. وهذا يشير إلى أن الصحابة كانت لديهم مصاحفهم الخاصة بهم والتي أخذوها عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) )..
ومن هنا يتبين لنا أن هناك مصاحف أخرى غير المصحف الذي بحوزة
ثم لما أتم عثمان نسخ صورة من مصحف حفصة رد الصحف إليها وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخ رجاله وأمر بما سواه من القرآن في صحيفة أو مصحف أن يحرق (9)..
وبهذا يكون ما أقدم عليه عثمان هو جمع الأمة على مصحف حفصة الذي قام بجمعه أبو بكر والتخلص من المصاحف الأخرى التي بحوزة الصحابة..
وهنا يطرح سؤال: ماذا كان من المصاحف الصحابة استفز عثمان ودفعه إلى إحراقها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تدعونا إلى استعراض مصاحف الصحابة.
مصاحف الصحابة
كان هناك مصحف خاص بالإمام علي. كما كان هناك مصحف لأبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود. وتعد هذه أشهر المصاحف التي كانت موجودة بحوزة الصحابة حتى عهد عثمان..
وكان مصحف الإمام علي مرتبا ترتيبا زمنيا ويبدأ بسورة أقرأ ويتكون من سبعة أجزاء:
الأول جزء من سورة البقرة حتى سورة البينة..
والثاني يبدأ من سورة آل عمران وينتهي بسورة قريش.
والثالث يبدأ بسورة النساء وينتهي بسورة النمل.
والرابع يبدأ بسورة المائدة وينتهي بسورة الكافرين..
والخامس يبدأ بسورة الأنعام وينتهي بسورة التكاثر..
والسادس يبدأ بسورة الأعراف وينتهي بسورة النصر..
والسابع يبدأ بسورة الأنفال وينتهي بالمعوذتين..
أما مصحف أبي بن كعب فكان يبدأ بالفاتحة وينتهي بسورة الناس على خلاف في ترتيب السور التي بلغ عددها في مصحفه (105) سورة..
ومصحف ابن مسعود يحتوي على (108) سورة ليس من بينها الفاتحة أو
ومثل هذه المصاحف لم تكن تضر المسلمين في شئ فقد كانت مقسمة ومرتبة باجتهاد الرجال الذين دونوها عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). إلا أن ما استفز عثمان فيها هي تلك التفسيرات التي كانت تبدد الكثير من الظنون والأوهام حول كثير من نصوص القرآن. أما مصحف حفصة فلم يكن فيه شئ من هذه التفسيرات كما أن ترتيب سوره مختلف عن بقية المصاحف الأخرى..
ولا شك أن تجريد المصحف من هذه التفسيرات من شأنه أن يزيد من غموض القرآن وصعوبة فهم نصوصه ويفتح بابا للخلاف حول تفسير هذه النصوص مما يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين وهو ما وقع. وإذا كان هدف عثمان من حرق المصاحف هو وحدة المسلمين ونبذ الخلاف فإن هذا الهدف لم يتحقق بإلزام الأمة بمصحفه فقد ثار على عثمان كثير من الصحابة على رأسهم ابن مسعود الذي رفض الاعتراف بمصحف عثمان وأنكره (10)..
يروي البخاري: خطبنا ابن مسعود فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) بضعا وسبعين سورة. والله لقد علم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم.
قال شفيق - الراوي - فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادا يقول غير ذلك (11)..
وفي رواية أخرى يقول ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت. ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت. ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (12)..
ومثل هذا الموقف من ابن مسعود إنما تبناه بعد حركة عثمان حيث أعلن رفضه لها من فوق منبر الكوفة ولم يعارضه في ذلك أحد كما هو واضح من الرواية. فإذا تبين لنا أن ابن مسعود لم يكن من بين الذين استعين بهم في جمع القرآن في عهد أبي بكر أو عهد عثمان فهذا أمر يكشف لنا مدى عمق موقف ابن مسعود وأهميته. وهو يشير من جهة أخرى إلى أن المسألة أكبر بكثير من مسألة القراءات التي يحاول القوم أن يوحوا بها إلينا كمبرر وحيد لحركة عثمان. تتضح الرؤيا بصورة أكثر وضوحا
يروي أبو داود والنسائي: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: قال سبحانه (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) غلوا مصاحفكم. وكيف تأمرونني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (13)..
ويروي ابن حجر: لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال من استطاع أن يغل مصحفه فليفعل أفأترك ما أخذت من رسول الله (14)..
وفي رواية يقول ابن مسعود: إني غال مصحفي فمن استطاع أن يغل مصحفه فليفعل (15)..
وفي رواية: والله لا أدفعه - يعني مصحفه - لعثمان - أقرأني رسول الله (16)..
ومعنى الغل المقصود من قول ابن مسعود هو قول مستنبط من الآية المذكورة التي تتحدث عن الغل أي إخفاء الغنيمة في الحرب وحجزها عن التقسيم الشرعي. ويقصد ابن مسعود بقوله: غلوا مصاحفكم أي أخفوها حتى لا تصل إلى عثمان فتحرق..
ويحاول القوم التقليل من ابن مسعود والتمويه على موقفه باختراع رواية تفيد أنه كره عمل عثمان وأنه اتفق معه في النهاية. أي أن الموقف لم يخرج عن حدود الكراهية. وفوق هذا هم يصورون ابن مسعود بأنه لم يكن حافظا للقرآن وأن هناك من هو أعلى منه في هذا المقام فمن ثم لا يعتد بقوله ولا يؤخذ بموقفه..
يقول ابن حجر: وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه. فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان. ولا شك أن تأليف مصحف عثمان أكثر مناسبة من غيره (17)..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: على أي أساس حكم ابن حجر بأن مصحف عثمان أكثر مناسبة من غيره؟.
قالت: وما يضرك آية قرأت.. لقد نزل بمكة وإني لجارية ألعب. قال:
فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور (18)..
ومثل هذه الرواية إنما الهدف منها ضرب مصحف ابن مسعود. فهذا الرجل القادم من العراق مقر ابن مسعود ومركز دعوته بشأن المصحف - يطلب من عائشة مصحفها إنما يعني أنه يتشكك في مصحف ابن مسعود الذي تشير الرواية إلى أنه غير مؤلف أي مجموع. فإذا أخذنا بصحة هذه الرواية فإن هذا يعني أنه كان هناك مصحف آخر خاص بعائشة غير مصحف حفصة ومصحف عثمان وضرب خصومه فأكثروا الشكوك من حوله وزادوا الطين بلة إذ أضافوا إلى المصاحف الموجودة مصحفا آخر هو مصحف عائشة وفي هذا إدانة لعثمان كونه لم يعتمد على هذه المصاحف حتى مصحف عائشة في عمله الذي قام به. كما أنا لم نسمع أن مصحف عائشة أحرق مع المصاحف التي تم إحراقها..
ويروي البخاري سئل ابن عباس: أترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من شئ؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. وسئل محمد بن الحنفية فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين (19)..
ويعلق ابن حجر على هذه الرواية بقوله: وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين لأن ذلك يخالف ما تقدم من جمع أبي بكر ثم عثمان. وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته. وهو شئ اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي واستحقاقه الخلافة عند موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ثابتا وأن الصحابة كتموه وهي دعوى باطلة لأنهم لم يكتموا مثل (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وغيرها من الظواهر التي قد يتمسك بها من يدعي إمامته. كما لم يكتموا ما يعارض ذلك أو يخصص عمومه أو يقيد مطلقه. وقد تلطف المصنف - أي البخاري - في الاستدلال على الرافضة بما خرجه عن أحد أئمتهم الذي يدعون إمامته وهو محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب. فلو كان هناك شئ ما يتعلق بأبيه لكان هو أحق الناس بالاطلاع عليه. وكذلك ابن عباس فإنه ابن عم علي وأشد الناس له لزوما
وحديث أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب قدر البقرة..
وحديث حذيفة ما يقرءون ربعها أي سورة براءة..
وكلها أحاديث صحيحة. وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله. ويقول إن منه قرآنا قد رفع وليس في شئ من ذلك ما يعارض الرواية - التي نحن بصددها أي ما ترك إلا ما بين الدفتين - لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (20)..
ومن كلام ابن حجر نخرج بالملاحظات التالية:.
أن ابن حجر حاول لي عنق النص بحيث لا يفهم منه أن الرسول ترك القرآن كاملا ومجموعا حتى لا يصطدم هذا الفهم بما قام به أبو بكر وعثمان بشأن القرآن..
ينفي ابن حجر وجود مصحف قبل مصحف أبو بكر..
يعتبر ابن حجر أن عمل أبي بكر هو الذي يجب أن يخضع له مفهوم النص لا العكس..
يناقض ابن حجر نفسه بقوله أن النص يرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته. إذ قوله هذا يعني أن القرآن كان مجموعا وموجودا
أن هناك الكثير من النصوص التي تثبت وجود آيات من القرآن لم تدون فيه..
أن الشيعة الذين يسميهم ابن حجر بالروافض لا يدعون أنه كانت في القرآن آيات خاصة بإمامة علي وكتمها الصحابة...
أن أهل السنة رووا الكثير من الأحاديث الخاصة بآل البيت وبالإمام علي خاصة ولم يكتموها لكنهم شككوا فيها وأولوها على غير مرادها بهدف صرف المسلمين عن آل البيت (ع)..
أن احتجاج البخاري بكلام ابن عباس أو ابن الحنفية على الشيعة إحتجاج مردود عليه إذ أن من السهولة اختلاق الروايات التي تدين الشيعة على لسان أئمتهم وهناك أمثلة كثيرة في البخاري وغيره على اختلاق الروايات على لسان الإمام علي نفسه والتي تدين أشياعه وتزكي خصومه. والعبرة بصحة هذه الروايات وثبوتها..
أن الشيعة لم تدع يوما أن محمد بن الحنفية يعد إماما من أئمتهم كما يدعي ابن حجر..
إن ابن حجر قام بلي عنق النص الوارد عن علي: ما عندنا إلا كتاب الله.
وحصر مراد علي من قوله في حدود أحكام النص الوارد عن النبي. وكأنه يقول بهذا أن عليا لم يكتب القرآن كله عن الرسول وإنما دون آيات الأحكام فقط..
أن ابن حجر حصر مراد ابن عباس وابن الحنفية من قولهما: ما نزل إلا ما بين الدفتين في حدود ما يتلى من القرآن. أو في حدود ما يتعلق بالإمامة وفي هذا إشارة إلى أن القرآن المشار إليه ليس كاملا وإنما هي مجموعة من آياته فقط.
أن ما ذكره ابن حجر بخصوص الآيات التي رفعت وتم نسخها إنما يعتمد على روايات صحيحة بزعمه. ولكن هل يمكن أن تنسخ آية أو ترفع بناء على رواية؟..
إن القوم قد عكسوا الأمور وأتوا بما يناقض الشرع والعقل إذ جعلوا الروايات هي التي تحكم على نصوص القرآن. فترفع آية. وتنسخ آية حكما وتلاوة.
وتنسخ آية حكما وتبقيها تلاوة. وتنسخ آية تلاوة وتبقيها حكما. هذا بالإضافة إلى الروايات التي تقول بنقصان سور القرآن والتي ذكرها ابن حجر. وكل ذلك لا يجوز في حق القرآن.. وقد نسي ابن حجر ملاحظة هامة من وراء مثل هذه الأسئلة التي وجهت لابن عباس وابن الحنفية والإمام علي حول ما ترك الرسول.
فإن هذه الأسئلة في حد ذاتها إنما تشير إلى أن هناك اتجاها يقول بأن الرسول ترك شيئا خاصا وأن السائلين يحاولون التقصي عن الحقيقة. فهي أسئلة لم تنسج من فراغ..
وأهم ما يمكن أن نستنتجه من خلال رواية ابن عباس وابن الحنفية هو أن كلا منهما كان لديه مصحف. وهذا وحده كاف لإبطال دعاوى ابن حجر وغيره من فقهاء القوم الذين يحاولون رفع مقام أبو بكر وعمر بربطهما بجمع القرآن..
ومرة أخرى نقول: لماذا لم يستعن عثمان بهذه المصاحف؟.
ولماذا لم يستعن بمصحف الإمام علي؟.
ترتيب القرآن
من خلال ما سبق تبين لنا أن مصحف عثمان يختلف عن مصاحف الصحابة.
وأن الصحابة عارضوه وعلى رأسهم ابن مسعود وربما الإمام علي غير أن روايات القوم لا تؤكد ذلك إنما تؤكد العكس وهو أن الإمام عليا تعاون مع عثمان في مصحفه وأثنى على فعله (21).
ومن الطبيعي أن يظهر القوم أية صورة من صور الخلاف بين الإمام علي وعثمان حول المصحف فإن ظهور مثل هذا الأمر ليس في صالح عثمان ولا في صالح مصحفه وليس في صالح الخط الذي ساد من بعد الرسول..
ونظرا لكون المصاحف تختلف فيما بينهما حول ترتيب السور فسوف نناقش هنا مسألة الترتيب هل هي توفيقية - أي موحى بها - أم اختيارية؟.
في رواية عائشة السابقة قالت للعراقي السائل: وما يضرك أية آية قرأت؟.
وفي هذا التصريح إشارة إلى أن مسألة الترتيب مسألة اختيارية..
وينقل ابن حجر عن ابن بطال قوله: لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها (22)..
وينقل عن الباقلاني قول أيضا: يحتمل أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر بترتيبه هكذا. ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة. ثم رجح الأول (24)..
ويقول ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة (25).
ويروي أحمد والنسائي والترمذي والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان:
ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتموهما بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد فإذا نزل عليه الشئ - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها (26)..
ويعلق ابن حجر على هذه الرواية بقوله: فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفيا ولما لم يفصح النبي بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه (27)..
وعلى ضوء الرواية السابقة يمكن القول أنه إذا كان الرسول (صلى الله عليه
إذن ماذا كان يفعل أبو بكر وماذا فعل عثمان؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يموت الرسول دون أن يبين موضع سورة براءة؟.
إن مثل هذه الحيرة أوقعت ابن حجر في تناقض فعلى الرغم من تبنيه فكرة أن الترتيب توقيفي بأمر الرسول لم ينف عن عثمان اجتهاده في ترتيب براءة وراء الأنفال وأقر فعله وهو بهذا يدين أبا بكر وعثمان لتدخلهما في أمر القرآن بما يخالف ما ترك الرسول وأمر الترتيب لا يمكن إلا أن يكون اختيارا وهو ما فتح الباب لعثمان ليرتبه على طريقته. ولو كان توقيفيا ما استطاع عثمان أن يقوم بعمله هذا ولأعتبر فعله تحريفا صريحا للقرآن وما كان وافقه على ذلك أحد بل ما كان جرؤ على ذلك من الأصل..
يروي البخاري أن جبريل كان يعرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن كل عام مرة. فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه (28)..
وهذه الرواية تعارض كل ما صنع القوم وتجعلنا بين أمرين..
إما أن نقف إلى جوار أبي بكر وعثمان ونتبنى مصحفه..
وإما أن ننكر هذه الروايات التي تدعم موقفهما وبالتالي سوف نرفض مصحف عثمان. فهذه الرواية تؤكد أن القرآن كان موضع اهتمام جبريل والرسول حتى قبض. وليس هناك مجال لأحد من بعد الرسول كي يبذل جهدا فيه. فهو كامل مجموع وموجود..
من هنا بدأت الأبصار تتجه إلى حقيقة حاول القوم إخفاءها وهي ضرورة أن يكون الرسول قد ورث القرآن مجموعا كاملا لواحد من صحابته تتوافر به صفات حفظه ورعايته وإيصاله إلى الناس بأمانة..
ومن بين صحابة النبي لا يوجد من تتوافر به هذه الصفات سوى الإمام علي.
ومنذ أن توصلت لهذه الحقيقة فهمت سر الربط الذي ربطه الرسول بين القرآن والعترة. فهذا الربط إنما يوحي بشئ محدد وهو أن القرآن عند هؤلاء العترة وليس عند سواهم وعندما تغيب فكرة العترة من ذهن المسلم تغيب عنه حقيقة القرآن
ولو كانت فكرة آل البيت (ع) واضحة من خلال القرآن الذي جمعه عثمان ما تمكن بنو أمية من ضربهم وعزلهم عن الأمة ومحو علومهم..
لو كانت فكرة آل البيت واضحة ما ظهرت كل هذه الرموز الفقهية التي استعان بها الخط الأموي في إثبات مشروعيته.
وما ظهرت هذه الروايات الباطلة التي استثمرت في التمويه على القرآن ودعم الحكام والتفريق بين آل البيت وبين المسلمين.
إن تجريد المصحف من التفسيرات المنقولة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإضافة إلى ترتيبه هذا الترتيب المغرض من قبل عثمان قد شكل أكبر دعم لبني أمية ولسائر الحكام من بعدهم فلولا عثمان ومصحفه ما قامت لبني أمية قائمة وما ساد الخط الذي ابتدعوه وسيروا الأمة على أساسه..
لقد كان الهدف من عمل عثمان هو التمويه على مصحف قائم وموجود وهو مصحف آل البيت الذي تناوله الصحابة من الإمام علي ودفع المسلمين إلى هجره..
____________
(1) أنظر البخاري كتاب فضائل القرآن. باب أنزل القرآن على سبعة أحرف.
(2) أنظر فتح الباري شرح البخاري (ج 9 / 23) وما بعدها.
(3) البخاري كتاب فضائل القرآن. باب جمع القرآن.
(4) من هذه النصوص قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (تعاهدوا القرآن).. وقوله:
(خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقوله لابن عمر: (في كم تقرأ القرآن).. وقوله: (اقرؤا القرآن).. أنظر البخاري. وتأمل حديث الثقلين: كتاب الله وعترتي.
(5) أنظر البخاري كتاب فضائل القرآن. باب جمع القرآن.
(6) كان أبو بكر وعثمان يستشهدان شاهدين على الآيات المختلف عليها في القرآن أنظر فتح الباري (ج 9) كتاب فضائل القرآن.
(8) أنظر كتاب تاريخ القرآن للزنجاني وعبد الصبور شاهين وكتب تاريخ القرآن.
(9) أنظر فتح الباري (ج 9) والمراجع السابقة.
(10) فتح الباري (ص 48).. باب القراء من أصحاب النبي. وقد سمى القوم عثمان حراق المصاحف.
(11) البخاري كتاب فضائل القرآن. باب القراء من أصحاب النبي.
(12) المرجع السابق.
(13) أنظر فتح الباري (ج 489).
(14) المرجع السابق.
(15) المرجع السابق.
(16) المرجع السابق.
(17) المرجع السابق (ص 40) (18) البخاري باب تأليف القرآن.
(19) البخاري باب من قال لم يترك النبي إلا ما بين الدفتين. والدفتان أي اللوحان وهذا يعني أن المصاحف كانت مكتوبة.
(20) فتح الباري (ج 9 / 65).
(21) يروي القوم على لسان الإمام علي قوله: لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل.
أنظر كتب تاريخ القرآن.
(22) فتح الباري (ج 9 / 40) باب تأليف القرآن.
(23 - 27) المرجع السابق (ص 42).
(28) البخاري باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي.
الخاتمة
إن حالة المعاناة الفكرية التي عشتها في دائرة الطرح السني كانت تدفعني على الدوام إلى ضرورة استنباط مجموعة من القواعد التي تعين المسلم على معرفة الحق وحل الإشكالية بين النص والرجال أو بين الدين والتراث.
ولقد حوى هذا الكتاب هذه القواعد بين سطوره وموضوعاته ورأينا من الأجدى أن نستخلصها في هذه الخاتمة إتماما للفائدة.
وهذه القواعد هي:
أن الحق ينحصر في القرآن.
أن الأحاديث النبوية يجب أن تخضع للقرآن.
أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يفعل ولا يقول ما يخالف القرآن.
أن الإمام عليا هو مقياس الحق.
أن التراث حادث على النص.
أن النص فوق الرجال.
أن الحق يعرف بالنص.
أن إعمال العقل في النص واجب شرعي.
إن اعتبار القرآن هو الأساس الذي ينبني عليه الإسلام وهو مصدر الحق الوحيد الذي لا تشوبه شائبة والذي يجب أن تخضع له النصوص النبوية.
وأن الإعتقاد بأن دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو التبليغ والتبيين لا الإضافة أو المخالفة للقرآن.. وإن اعتبار الإمام علي وآل البيت هم الفئة المختارة والمنتقاة لإمامة الأمة من بعد الرسول. وأن التفريق بين الدين والتراث وبين النص والرجال واعتبار الرجال يعرفون بالحق وأن نقض فكرة العدالة والقداسة التي ارتبطت بالصحابة. وذلك كله مقدمة أساسية للوصول إلى الحق بدونها سوف يضل المسلم طريقه ويل رهينة لأقوال الرجال مكبلا بأغلال التراث متعبدا بالرأي لا بالنص.
إن واقع المسلمين ليشهد بمدى حالة التيه التي يعيشها المسلمون في ظل الأطروحة الإسلامية السائدة. تلك الحالة التي فرخت ولا تزال تفرخ جماعات وتيارات وأفكارا مزقت الصف الإسلامي ودعمت الفرقة والتناحر بين المسلمين.
وإن ظهور مثل هذه الأفكار والتصورات العقيمة السائدة في الوسط الإسلامي اليوم والتي تظهر الإسلام والمسلمين بمظهر التخلف والعداء للواقع والعلم يشهد بذلك أيضا.
وما كان ذلك كله إلا نتيجة لغياب النص وسيادة أقوال الرجال.