فالبعض يبدأ الحديث، وعندما يجد نفسه عاجزاً عن إقامه الدّليل على أقواله يتملّص بقوله: تلك إمّه قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكم ما كسبتم، والبعض يقول مالنا ولإثاره الفتن والأحقاد فالمهم إن السنّة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي والبعض يقول بإيجاز: يا.خي إتق الله في الصحابة، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلا الضلال ؟ وأين هؤلاء من إسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامه الدليل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين مع العلم بأنهم لو يتوقفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما الجأونا للجدال معهم حتّى بالتي هي أحسن.
آية إكمال الدين تتعلق أيضا بالخلافة
قوله سبحانه وتعالى: اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً (1) ، يجمع الشيعة على نزولها بغدير خم بعد تنصيبالرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي خليفة للمسلمين وذلك رواية عن أئمة العترة الطاهرة وبذلك تراهم يعدّون الإمامة من أصول الدّين.ورغم أن الكثير من علمائنا يروون نزولها في غدير خم بعد تنصيب الإمام علي أذكر منهم على سبيل المثال:
1 ـ تاريخ دمشق لإبن عساكر ج 2 / 75.
2 ـ مناقب علي أبي طالب لإبن المغازلي الشافعي ص 19.
3 ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 8 ص 290.
4 ـ الإتقان للسيوطي ج 1 / 31.
5 ـ المناقب للخوارزمي الحنفي ص 80.
6 ـ تذكره الخواص للسبط إبن الجوزي ص 30
____________
(1)سورة المائده آية 3.
8 ـ روح المعاني للألوسي ج 6 / 55.
9 ـ البداية والنهاية لإبن كثير الدمشقي ج 5 / 213.
10 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج 3 /19
11 ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 115.
12 ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 /157.
أقول رغم ذلك لابدّ لعلماء أهل السنّة من صرف هذه الآية الى مناسبة أخرى، وذلكللحفاظ على كرامة السلف الصالح من الصحابة، وإلا لو سلّموا بنزولها في غدير خمّ لأعترفوا ضمنّياً بأن ولاية علي بن أبي طالب هي التي أكمل الله بها الدّين وأتم بها على المسلمين نعمته ولتبخّرت خلافة الخلفاء الثلاثه الذين سبقوه، ولتزعزعت عدالة الصحابة، ولذابت أحاديث كثيرة مشهورة كما يذوب الملح بالماء، وهذا أمرّ مستحيل وخطبٌ فادحٌ، لأنه يتعلّق بعقيدة أمّة كبيرة لها تاريخها وعلماؤها وأمجادها، فلا يمكن لنا تكذيب أمثال البخاري ومسلم الذين يروون بأن الآية إنما نزلت عشية عرفة في يوم الجمعة.
وبمثل ذلك تصبح الروايات الأولى مجرّد خرافات شيعيّة لا أساس لها من الصحّة ويصبح الطعن على الشيعة أولى من الطعن على الصحابة فهؤلاء معصومون عن الخطأ(1) ولا يمكن لأي إنسان أن ينتقد أفعالهم وأقوالهم، أما أولئك الشيعة فهم مجوس، كفّار، زنادقة وملحدون ومؤسس مذهبهم هو عبدالله بن سبأ(2) وهو يهودي أسلم في عهد عثمان ليكيد للمسلمين وللإسلام.
____________
(1)لأنهم يعتقدون بأن الصحابة كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم.
(2) إقرأ كتاب عبدالله بن سبأ للعلامة العسكري لتعرف بأنه لاوجود له، وهو من مختلقات سيف بن عمر التميمي المشهور بالوضع والكذب ـ وإقرأ كتاب الفتنه الكبرى لطه حسين وإن شئت فأقرأ كتاب الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور مصطفى كامل الشيبي لتعرف بأن عبدالله بن سبأ هذا ليس غير سيدنا عمار بن ياسر رضي الله تعالىعنه.
ولذلك نجد حتّى الكُتابْ والمؤرّخين في تلك العصور يسمّونهم الرّوافض ويكفّرونهم ويستبيحون دمائهم تزلّفاً للحكّام ولمّا إنقرضت الدولة الأموية وخلفتها الدولة العبّاسية نسج بعض المؤرخين على منوالهم وعرف البعض حقيقة أهل البيت(1) فحاول التوفيق والإنصاف فألحق علياً بالخلفاء الرّاشدين ولكن لم يجرأوا على التصريح بأحقيته، ولذلك تراهم لا يخرجون في صحاحهم إلا النزر اليسير من فضائل علي والتي لا تتعارض مع خلافة الذين سبقوه، والبعض منهم وضع كثيراً من الأحاديث في فضل أبي بكر وعمر وعثمان على لسان علي نفسه، حتى يقطع بذلك (على زعمه) الطريق على الشيعة الذين يقولون بأفضليته.
وإكتشفْتُ خلال البحث بأن شهرة الرجال وعظمتهم إنما كانت تقدّر ببغضهم لعلي بن أبي طالب، فالأمويون والعباسيون كانوا يقربون ويعظمون كل من حارب الإمام علي أو وقف ضدّه بالسيف أوباللسان، فتراهم يرفعون بعض الصحابة ويضعون آخرين، ويغدقون الأموال على بعض الشعراء ويقتلون آخرين، ولعلّ عائشة أمّ المؤمنين لم تكن لتحضى بتلك المنزلة عندهم لولا
____________
(1) ذلك لأن الأئمه من أهل البيت فوضوا أنفسهم بأخلاقهم وعلومهم التي ملأت الخافقين وبزهدهم وتقواهم والكرامات التي حباهم الله بها.
ومن ذلك أيضا تجد العباسيين يعلون من شأن البخاري ومسلم والإمام مالك لأنهم لم يخرجوا في فضائله إلا القليل بل نجد صراحة في هذه الكتب بأن علي بن أبي طالب لا فضل له ولا مزية فقد روي البخاري في صحيحه في باب مناقب عثمان عن إبن عمر قال: كنا في زمن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نعدِلُ بأبي بكر أحداً ثم عُمرَ ثم عثمانَ ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نفاضل بينهم(2) فعليّ عنده كسائر النّاس «إقرأ وأعجب» !!
كما في أن في الأمّة فرقاً أخرى كالمعتزلة والخوارج وغيرهم ممّن لا يقول بمقالة الشيعة، ولأن إمامة علي وأولاده من بعده تقطع عليهم الطريق للوصول للخلافة والتحكم في رقاب النّاس والتلاعب بمصيرهم وممتلكاتهم كما فعل ذلك بنو أميّة وبنو العباس في عهد الصحابة وعهد التابعين والى يوم الناس هذا. لأن حكام العصر الذين وصلوا الى الحكم سواء بالوراثة كالملوك والسلاطين، أو حتّى الرؤساء الذين إنتخبتهم شعوبهم لا يعجبهم هذا الإعتقاد؛ أعني أن يعتقد المؤمنون بخلافة أهل البيت، ويضحكون من هذه الفكرة التيوقراطية، التي لا يقول بها إلا الشيعة، وخصوصاً إذا كان هؤلاء الشيعة قد بلغوا من سخافة العقل وسفاهة الرأي إنهم يعتقدون بإمامة المهدي المنتظر الذي سيملأ أرضهم قسطاً وعدلاً كما مُلئتْ ضلماً وجوراً.
ونعود الآن لمناقشة أقوال الطرفين في هدوء وبدون تعصّب، لنعرف ماهي
____________
(1)كانت لا تطيق ذكر أسمه البخاري 1 / 162 ـ 7 / 18 ـ 5 /140 ويقول المؤرخون لما بلغها خبر مقتله سجدت شكرا لله وقالت في ذلك شعراً.
(2) صحيح البخاري 4 /191 وص 201 كما روي البخاري في صحيحه 4 /195 رواية تُنسب الى محمد بن الحنفية قال: قلتُ لأبي أيّ الناس خيرُ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أبو بكر قلتُ ثم مَنْ قال: ثم عُمرُ وخشيتُ أنْ يقولَ عثمانُ قلتُ ثم أنتَ قالَ: ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين.
____________
(1)سوره المائده آية 106.
مناقشة القول بأن الآية نزلت يوم عرفة
أخرج البخاري في صحيحه(1) قال: حدّثنا محمد بن يوسف حدّثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب إن أنّاساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآيه فينـا لأتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر أَيَّةُ آيةٍ ؟ فقالوا: اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .فقال عمر: إنّي لأعلم أي مكان أنزِلتْ، أنزِلتْ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقفٌ بعرفة.
وأخرج إبن جرير عن عيسى بن حارثة الأنصاري قال: كنّا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني يا أهل الإسلام، لقد أنزِلتْ عليكم آية لو أنزِلتْ علينا لأتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعه عيداً وما بقي منّا إثنان وهي «اليوم أكملت لكم دينكم» فلم يجبه أحد منّا، فلقيتُ محمد بن كعب القرطبي فسألته عن ذلك، فقال: ألا رددتم عليه ؟ فقال عمر بن الخطاب أنزلتْ على النّبي وهو واقفٌ على الجبل يوم عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين مابقي منهم
____________
(1)صحيح البخاري 5 /127.
أوَّلاً ـ نلاحظ من خلال هذه الروايات أن المسلمين كانوا يجهلون تاريخ ذلك اليوم المشهود، ولا يحتفلون به مّما دعا اليهود مرّة والنصّارى أخرى أن يقولوا لهم: لو إن هذه الآية فينا أنزلت لأتخذنا يومها عيداً مّما حدا بعمر بن الخطاب أن يسأل أيةُ آية ؟ ولّما قالوا: «اليوم أكملتُ لكم دينكم» قال: إني لأعلم أي مكان أُنزلتْ، أُنزلتْ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقف بعرفة.
فإننا نشمّ رائحه الدسّ والتعتيم من خلال هذه الرواية والذين وضعوا هذا الحديث على لسان عمر بن الخطاب في زمن البخاري أرادوا أن يوفّقوا بين آراء اليهود والنصارى في أن ذلك اليوم هو يوم عظيم يجب أن يكون عيداً، وبين ما هم عليه من عدم الإحتفال بذلك اليوم وعدم ذكره بالمرّة حتى تناسوه، والمفروض أن يكون من أكبر الأعياد لدى المسلمين إذ أن الله سبحانه أكمل لهم فيه دينهم وأتمَّ فيه نعمته عليهم ورضي لهم الإسلام ديناّ.
ولذلك ترى في الرواية الثانية قول الرواي عندما قال له النصراني: يا أهل الإسلام، لقد أنزلت عليكم آية لو أُنزلتْ علينا لأتخذنا ذلك اليوم عيداً مابقي منّا إثنان.
قال الرواي فلم يُجبْهُ أحدٌ منّا؛ وذلك لجهلهم بتاريخ وموقف ذلك اليوم وعظمته، ويبدو أن الراوي نفسه إستغرب كيف يغفل المسلمون عن الإحتفال بمثل ذلك اليوم ولهذا نراه يلقي محمد بن كعب القرطبي فيسأله عن ذلك فيردّ هذا الأخير بأنّ عمر بن الخطاب روي إنها انزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقفٌ على الجبل يوم عرفة.
فلو كان ذلك اليوم معروفاً لدى المسلمين على إنّه يوم عيد لما جهله هؤلاء الرّواة سواء أكانوا من الصحابة أم من التابعين، لأن الثابت المعروف لديهم أن
____________
(1)جلال الدين السيوطي الدر المنثور في التفسير المأثور 3 /18.
وأغلبُ الظنّ إن القائلين بمبدأ الشورى في الخلافة ومؤسسي هذه النظرية هم الذين صرفوا نزولها عن حقيقتها يوم غدير خمّ بعد تأمير الإمام علي، فكان تحويل نزولها في يوم عرفة أهون وأسهل على القائلين به لأن يوم الغدير جمع مئه الف حاج أو يزيدون، وليس هناك مناسبة في حجة الوداع أقرب الى الغدير من يوم عرفة في المقارنة إذ أن الحجيج لم يجتمعوا على صعيد واحد إلا فيهما، فالمعروف إن النّاس يكونون متفرّقين جماعات واشتاتاً في كل أيام الحجّ ولا يجتمعون في موقف واحد إلا في عرفة.
ولذلك نرى إن القائلين بنزولها يوم عرفة يقولون بنزولها مباشرة بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهيرة والتي أخرجها المحدّثون.
واذا كان النّص بالخلافة على علي بن بي طالب قد صرفوه عن حقيقتة وباغتوا النّاس «بمن فيهم علياً نفسه والذين كانو منشغلين معه بتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودفنه» بالبيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة على حين غفلة، وضربوا بنصوص الغدير عرض الجدار وجعلوه نسيا منْسيَّاً، فهل يمكن لأي أحد بعد الذي وقع أن يحتجّ بنزول الآية يوم الغدير ؟
فليست الآيه أوضح في مفهومها من حديث «الولاية» وإنّما تحمل في معناها إكمال الدّين وإتمام النعمّة ورضا الربّ ليس إلا، وإن كانت تنطوي على إشعار بحصول حدات لهم في ذلك اليوم هو الذي سبب كمال الدين.
ومّما يزيدنا يقيناً بصحة هذا الإعتقاد، ما رواه إبن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب قال: قال كعب «لو إن غير هذه الأمّة نزلتْ عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أُنزلتْ فيه عليهم فاتّخدوه عيداً يجتمعون فيه» ! فقال عمر: وأي آيه يا
ثانيا ـ على ان القول بنزول الآية اليوم أكملت لكم دينكم في يوم عرفة يتنافى مع آية البلاغ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك والتي تأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ أمر مهم لا تتم الرسالة إلا به، والتي سبق البحث وتبينّ نزولها بين مكة والمدينة بعد حجة الوداع وهو مارواه أكثر من مائة وعشرين صحابياً وأكثر من ثلاثمائة وستين من علماء أهل السنة والجماعة، فكيف يكمل الله الدّين ويتمّ النعمة في يوم عرفه ثم بعد إسبوع يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم وهو راجع الى المدينة بإبلاغ شيء مهم لا تتم الرسالة إلا به ؟؟ كيف يصحّ ذلك يا أولي الألباب ؟؟؟
ثالثا ـ إن الباحث المدقق إذا أمعن في النظر في خطبة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يوم عرفه لا يجد فيها أمراً جديداً يجهله المسلمون والذي يمكن إعتباره شيئاً مهمّاً أكمل الله به الدّين وأتّم به النّعمة، اذ ليس فيها إلا جملة من الوصايا التي ذكرها القرآن أو ذكرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في عدة مناسبات وأكدّ عليها يوم عرفة. وإليك ما جاء في الخطبة على ماسجّله كل الروّاه:
ـ إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا ويومكم هذا.
ـ إتّقوا الله ولا تبخسوا ألنّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها.
ـ الناس في الإسلام سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى.
ـ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي.
____________
(1) الدّر المنثور للسيوطي في تفسير الآية /اليوم أكملت لكم دينكم //
سوره المائدة.
ـإن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرمٌ.
ـ أوصيكم بالنساء خيراً، إنّما إتخذتموهن لأمانة الله وإستحللتم فروجهن بكتاب الله.
ـ أوصيكم بمن ملكت أيمانكم فاطعموهم ممّا تأكلون وإلبسوهم مّما تلبسون.
ـ إنّ المسلم أخو المسلم، لا يغشّه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله.
ـ إن الشيطان قد يأس أن يُعبد بعد اليوم ولكن يُطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون. ـ
أعدى الأعداء على الله قاتل غير قاتله، وضارب غير ضاربه ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أَنّزلَ الله على محمد، ومن إنتمىالى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ـ إنما أُمرتُ أن أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله، واذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق وحسابهم على الله.
ـ لا ترجعوا بعدي كفاراً، مضلّين يضرب بعضكم رقاب بعض.
هذا كل ماقيل في خطبة عرفة من حجة الوداع وقد جمعتُ فصولها من جميع المصادر الموثوقة حتى لايبقى شيء من وصاياه صلّى الله عليه وآله وسلّم التي ذكرها المحدثون إلا أخرجتها فهل فيها شيء جديد بالنسبة للصحابة ؟ كلا فكل ماجاء فيها مذكور في القرآن ومبين حكمه في السنّه النبّوية، فقد قضى صلى الله عليه وآله وسلم حياته كلها يبينّ للناس مانزّل إليهم ويعلّمهم كل صغيرة وكبيرة، فلا وجه لنزول آية «إكمال الدّين وإتمام النعمة ورضا الله» بعد هذه الوصايا التي يعرفها المسلمون، وإنما أعدها عليهم للتأكيد لأنّهم لأوّل مرّه يجتمعون عليه
أمّا إذا أخذنا بالقول الثاني: وهو نزول الآية يوم غذير خمّ بعد تنصيب الإمام علي خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأميراً للمؤمنين، فإنّ المعنى يستقيم ويكون مطابقاً، لأن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من أهمّ الأمور ولا يمكن أن يترك الله عباده سدى ولا ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذهب دون إستخلاف ويترك أمته هملاً بدون راعٍ وهو الذي ماكان يُغادر المدينة إلا ويستخلف عليها أحداً من أصحابه، فكيف نصدّق بأنّه إلتحق بالرفيق الأعلى وما فكّر بالخلافة ؟؟؟.
وإذا كان ألمُلحدون في عصرنا يؤمنون بهذه القاعدة ويسرعون الى تعيين خلف للرئيس حتّى قبل موته ليَسوسَ أمور الناس ولا يتركونهم يوماً واحداً بدون رئيس !
فلا يمكن أن يكون الدّين الإسلامي وهو أكمل الأديان وأتمها والذي ختم الله به كل الشرائع أن يُهمل أمراً مهماً كهذا.
وقد عرفنا فيما تقدم بأن عائشة وإبن عمر وقبلهما أبو بكر وعمر أدركوا كلهم بأنه لابد من تعيين الخليفة وإلا لكانت فتنة، كما أدرك ذلك من جاء بعدهم من الخلفاء فكلُّهم عَيّنوا مَنْ بعدهم فكيف تغيب هذه الحكمة على الله وعلى رسوله ؟؟؟
فالقولُ بأنّ الله سبحانه أوحى الى رسوله في الآية الأولى «آية البلاغ» وهو راجع من حجة الوداع بأنْ يُنصّب عليّاً خليفة له بقوله: يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزلَ إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالتهُ والله يعصمك من الناس أي: يامّحمد إنْ لم تبلّغ ماأمرتك به بأنّ علياً هو ولي المؤمنين بعدك فكأنك لم تُكمل مهمتك التي بُعثتَ بها، إذ أن إكمال الدّين بالإمامة أمرٌ ضروري لكل العقلاء.
فلمّا أنزل الله عليه والله يعصمك من الناس أسرع في نفس الوقت وبدون تأخير بإمتثال أمر ربّه فنصب علياً خليفة من بعده وأمر أصحابه بتهنئته بإمارة المؤمنين ففعلواوبعدها أنزل الله عليهم اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً .
أضف الى كل ذلك إنّنا نجد بعض علماء أهل السنّة والجماعة يعترفون صراحة بنزول آية البلاغ في إمامة علي فقد رووا عن إبن مردويه عن إبن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل اليك من ربّك ـ إنّ عليّاً مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته والله يعصمك من الناس(2) .
وبعد هذا البحث إذا أضفنا روايات الشيعة عن الأئمة الطاهرين يتجلّى لنا
____________
(1)أخرجها بكاملها الحافظ إبن جرير الطبري في كتاب الولاية كما أخرج جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج 2 /298 خطبة في نفس المعنى بألفاظ متقاربه.
(2) تفسير فتح القدير للشوكاني ج 3 /57.
جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج2 / 298 عن إبن عباس.
وبإمامة علي بن أبي طالب أتمّ الله نعمته على المسلمين لئلا يبقوا هملاً تتحاذبهم الأهواء وتمزّقهم الفتن فيتفرقوا كالغنم بدون راع ـ
ورضي لهم الإسلام ديناً، لأنّه إختار لهم أئمة أذهب عنهم الرجس وطّهرهم وأتاهم الحكمة وورثهم علم الكتاب ليكونوا أوصياء محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيجب على المسلمين أن يرضوا بحكم الله وإختياره ويسلّموا تسليماً، لأن مفهوم الإسلام العام هو التسليم لله قال تعالى: وربّك يخلق مايشاء ويختار ماكان له الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربّك يعلم ما تكنْ صدورهم وما يُعلنون وهو الله لا إله إلا هُو له الحمدُ في الأولى والآخرة وله الحكمُ وإليه ترجعون (1) .
ومن خلال كل ذلك يُفهمُ بأن يوم الغدير إتخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم عيد اذ بعد تنصيب الإمام علي وبعد أن نزل عليه قوله: اليوم أكملتُ لكم دينكم … الآية: قال: الحمد لله على إكمال الدّين، وإتمام النّعمة، ورضى الربّ برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي(2) ثم عقد له موكباً للتهنئة وجلس صلى الله عليه وآله وسلم في خيمة وأجلس عليَّاً بجانبه وأمر المسلمين بما فيهم زوجاته أمهات المؤمنين أن يدخلوا عليه أفواجاً ويهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل النّاس ما أمروا به وكان من جملة المهنئينّ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بهذه المناسبة أبو بكر وعمر.
وقد جاءا إليه يقولان له: بخٍ بخٍلك يا إبن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ
____________
(1) سورة القصص آيه 68 ـ 69 ـ 70.
(2) الحاكم الحسكاني عن بي سعيد الخدري في تفسيره للآية. والحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه «ما نزل من القرآن في علي».
ولمّا عرف حسّان بن ثابت شاعر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فرح النبي وإستبشاره في ذلك اليوم قال: أتأدن لي يارسول الله أن أقول في هذا المقام أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، لا تزال ياحسّان، مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.
فأنشد يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم *بخمّ فأسمع بالرسول مناديا **
الى آخر الأبيات التي ذكرها المؤرخون(2) .
ولكنّ ورغم كل ذلك فإنّ قريشاً إختارت لنفسها وأبتْ أن تكون في بني هاشم النبوّة والخلافة فيجحفون على قومهم بُجُحاُ بُجَّحاً، كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب لعبدالله بن عبّاس في محاورة دارت بينهما(3) .
فلم يكن في وسع أحد أن يحتفل بذلك العيد بعد ذكراه الأولى التي أحتفل بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وإذا كانوا قد تناسوا نصّ الخلافة وتلاشى من أذهانهم ولم يمض عليه من
____________
(1)روى هذه القصّة كل من الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه سرّ العالمين ص 6كما رواها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 4 /281.
والطبري في تفسيره 3 / 428 والبيهقيوالثعلبي، والدار قطني والفخر الرّازي وإبن كثير وغيرهم.
(2) الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه مانزل من القرآن في علي.
ـ الخوارزمي المالكي في كتاب المناقب ص0 8 ـ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب.
ـ جلال الدين السيوطي في كتابه ـ الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأشعار.
(3) الطبري في تاريخه 5 / 31.
تاريخ ابن الأثير 3 /31 وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 2 /18.
ومضت على ذلك السنون حتّى رجع الحق إلى أهله بعد ربع قرن، فأحياها الإمام علي من جديد بعد ما كادت تُقبرُ وذلك في الرحبة عندما ناشد أصحاب محمد ممن حضر عيد الغدير أن يقوموا فيشهدوا أمام النّاس ببيعة الخلافة فقام ثلاثون صحابياً منهم ستةّ عشر بدريَّاً وشهدوا(1) والذي كتم الشهادة وإدّعى النسيان، كأنس بن مالك الذي أصابتْه دعوى علي بن أبي طالب فلم يقم من مقامه ذلك إلا أبرص فكان يبكي ويقول أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمتُ شهادته(2) وبذلك أقام أبو الحسن الحجّة على هذه الأمّة ومنذ ذلك العهد وحتّى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة يحتفل الشيعة بذكرى يوم الغدير وهو عندهم العيد الأكبر، كيف لا وهو اليوم الذي أكمل الله لنا فيه الدّين وأتمّ فيه علينا النعمة ورضي بالإسلام لنا ديناً، وهو يوم عظيم الشأن عند الله ورسوله والمؤمنين، ذكر بعض علماء أهل السنة عن أبي هريرة إنه قال: لّما أخد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد علي وقال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه.. الى آخر الخطبة، فأنزل الله عزّ وجلّ اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً قال أبو هريرة وهو يوم غدير خم من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجّة كتب له صيام ستّين شهرا(3) .
____________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 4 /370 وكذلك 1 / 119. النسائي في الخصائص ص 19 ـ كنز العمال/397 ـ إبن كثير في تاريخه 5 / 211.
. ـ إبن الأثير في أسد الغابه 4 / 28 وإبن حجر العسقلاني في الإصابة 2 /408 ـ السيوطي في جمع الجوامع.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي 9 /106 ـ إبن كثير في تاريخه 5 / 211.
إبن الأثير في أسد الغابه 3 /321 ـ حلية الأولياء 5 /26.
أحمد بن حنبل 1 /119.
(3) إبن كثير في كتاب البداية والنهاية 5 /214.
وخلاصة البحث أن حديث الغدير «من كنتُ مولاه فعلي مولاه، أللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وإنصر من نصره وإخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» هو حديث أو بالأحرى هي حادثة تاريخية عظيمة أجمعت الأمة الإسلامية على نقلها، فقد مرعلينا ذكر ثلاثمائه وستين من علماء أهل السنة والجماعة وأكثر من ذلك من علماء الشيعة.
ومن أراد البحث والمزيد فعليه بكتاب الغدير للعلاّمة الأميني.
وبعد الذي عرضناه لا يُستغربُ أنْ تنقسمَ الأمّة الإسلامية الى سنة وشيعة، تمسّكت الأولى بمبدأ الشورى في سقيفة بني ساعدة، وتأولتْ النّصوص الصريحة وخالفتْ بذلك ما أجمع عليه الرواة من حديث الغدير، وغيره من النصوص.
وتمسكتْ الثانية بتلك النّصوص فلم ترض عنها بدلاً وبايعتْ الأئمة الأثني عشر من أهل البيت ولم تبغ عنهم حولاً والحقّ إنّني عندما أبحثْ في مذهب أهل السنّة والجماعة خصوصاً في أمر الخلافة، أجد المسائل مبنيةً على الظنّ والإجتهاد، لأنّ قاعدة الإنتخاب ليس فيها دليل قطعي على أنّ الشخص الذي نختاره اليوم هو أفضل من غيره لأننا لا نعلمُ خائنه الأعين وما تُخفي الصدور، ولأنّنا في الحقيقية مركّبون من عواطف وعصبيات وأنانية كاملة في نفوسنا وستلعب هذه المركبات دورها إذا ما أوكل الينا إختيار شخص من بين اشخاص.
وليستْ هذه الأطروحة خيالاً أو أمراً مبالغاً فيه، فالمتتبّع لهذه الفكرة، فكرة إختيار الخليفة سيجد ان هذا المبدأ الذي يطبّل له لم ينجح ولا يمكن له أن ينجح أبداً.
فهذا أبو بكر زعيم الشورى بالرغم من وصوله الى الخلافة «بالإختيار
ثم بعد ذلك نرى أن عمراً عندما طُعن وأيقن بدنو أجلـه عينّ ستّة أشخاص ليختاروا بدورهم واحداً منهم ليكون خليفة، وهو يعلم علم اليقين أنّ هؤلاء النفر على قلّتهم سيختلفون رغم الصحبة والسبق للإسلام والورع والتقوى فتثور فيهم العواطف البشرية التي لا ينجو منها إلاّ المعصوم، ولذلك نراه ـ لحسم الخلاف ـ رجّح كفّه عبدالرحمن بن عوف فقال ـ أذا إختلفتُم فكونوا في الشق الذي فيه عبدالرحمن بن عوف ونرى بعد ذلك بأنهم إختاروا الإمام علياً ليكون خليفة ولكنّهم إشترطوا عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر وقَبِلَ عليُّ كتاب الله وسنة رسوله ورفض سنة الشيخين(2) وقَبلَ عثمان هذه الشروط فبايعوه بالخلافة وقال علي في ذلك:
«فيا لله وللشّورى متى إعترض الريبُ فيَّ مع الأول منهم حتّى صرتُ أُقرنُ الى هذه النظائر، لكني أسففتُ إذا أسّفوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ..»(3) .
وإذا كان هؤلاء وهم نخبة المسلمين وهم خاصّة الخاصّة تلعبُ بهم العواطف فيكون فيهم الحقد وتكون فيهم العصبية بينهن وهن «يقول محمد عبده في شرحه لهذه الفقرة: يشير الإمام علي الى أغراض أخرى يكره ذكرها» فعلى الدنيا بعد ذلك السلامّ.
____________
(1)صحيح البخاري 8 /26 باب رجم الحبلى من الزنـا.
(2) تاريخ الطبري وإبن الأثير بعد موت عمر بن الخطاب وإستخلاف عثمان
(3) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 1 /88.
ثم كان بعد ذلك ما كان وقامت الثوره على عثمان وإنتهت بقتله، ورجعتْ الأمّة بعد ذلك للإختيار من جديد وفي هذه المرّة إختاروا عَّلياً ولكنْ يا حسرة على العباد: فقد إضطربتْ الدولة الإسلامية وأصبحت مسرحا للمنافقين ولإعدائه المُناوئين والستكبرين والطامعين لإرتقاء منصّة الخلافة بايّ ثمن وعلى أي طريق ولو بإزهاق النفوس البريئه، وقد تغيرتْ أحكام الله ورسوله على مرّ تلك السّنين الخمس والعشرين ووجد الإمام علي نفسه وسط بحر لّجي وأمواج متلاطمة وظلمات حالكة وأهواء جامحة وقضى خلافته في حروب دامية فُرضتْ عليه فرضاً من الناكثين والقاسطين والمارقين ولم يخرج منها إلاّ بإستشهاده سلام الله عليه وهو يتحسّر على أمّة محمد وقد طمع فيها الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان وأضرابه كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم وغيرهم كثيرون، وما جرًّأ هؤلاء على مافعلوه إلاّ فكرة الشورى والإختيار.
وغرقت أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في بحر من الدّماء، وتحكّم في مصيرها سفهاؤها وأرذالُها وتحوّلتْ الشورى بعد ذلك الى الملك العضوض، الى القيصرية والكسروية.
وإنتهت تلك الفتره التي أطلقوا عليها إسم الخلافة الرّاشدة وبها سمّوا الخلفاء الأربعة بالراشدين والحقّ إنّه حتّى هؤلاء الأربعة لم يكونوا خلفاء بالإنتخاب والشورى سوى أبي بكر وعلي، وإذا إستثنينا أبا بكر لأنّ بيعته كانت
____________
(1) تاريخ الطبري وإبن الأثير في حوادث سنة 36 للهجرة محمد عبده في شرح النهج 1 /88.
وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله بالنّص من الله وكذلك بالإنتخاب من المسلمين وقد إجتمعت الأمة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة على خلافة علي وإختلفوا على خلافة غيره كما لا يخفى. أقول ياحسرة على العباد لو إنّهم قبلوا ما إختاره الله لهم لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ولأنزل الله عليهم بركات من السّماء ولكان المسلمون اليوم أسياد العالم وقادته كما أراد الله لهم لو إتّبعوه وأنتَّم الأعلون إن كنتم مؤمنين .
ولكنّ إبليس اللّعين عدوُنا المبين: قال مخاطباً ربّ العزة: فبما أغويتني لأقعدنّ لهم سراطك المستقيم، ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (1) .
فلينظر العاقل اليوم إلى حالة المسلمين في العالم، وهم أذلاّء لا يقدرون على شيء يركضون وراء الدّول معترفين بإسرائيل وهي ترفض الإعتراف بهم ولا تسمح لهم حتى بالدخول الى القدس التي صبحت عاصمة لها، وإذا مارأيت بلاد المسلمين اليوم ترى إنهم تحت رحمة امريكا وروسيا وقد أكل الفقر شعوبهم وقتلهم الجوع والمرض، في حين تأكل كلاب أوربا شتّى أنواع اللحوم والأسماك، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
وقد تنبأتْ سيدة النساء فاطمه الزهراء سلام الله عليها عندما خاصمتْ أبا بكر وخطبتْ خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار وقالت في آخرها مُخبرةً عن مآل الأمة:
____________
(1)سورة الأعراف آية 16 ـ 17.
صدقتْ سيده النساء فيما تنبأتْ به وهي سليلة النّبوة ومعدن الرساله، وقد تجسدت اقوالها في حياة الأمة ومن يدري لعلّ الذي ينتظرها أبشّع مّما إقضى، ذلك بأنهم كَرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.
العنصر المهم في البحث
بَقِيَ عنصرٌ واحدٌ مهمّ في كل هذا البحث يستحقّ العناية والدرس، وربما هو الإعراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عندما يُفحمُ المعاندون بالحُجج الدّامغة فتراهم يلجأون الى الإستغراب وإستبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام علي مائة الف صحابي ثم يتواطئون كلهم على مخالفته والإعراض عنه وفيهم خيرة الصحابة وأفضل الأمّة ! وهذا ماوقع لي بالذات عند اقتحام البحث فلم أصدّقْ ولا يمكن لأحدٍ أن يصدّقْ إذا ماطُرحتْ القضيه بهدا الطرح، ولكن عندما ندرُس القضيه من جميع الجوانب يزول الإستغراب لأنّ المسألة ليستْ كما نتصورها أو كما يعرضها أهل السنّة فحاشى أن يكون مائة ألف صحابي خالفوا أمر الرسول، فكيف وقعت الواقعة إذن ؟
____________
(1)الطبري في دلائل الإمامة.
ـ بلاغات النساء لإبن طيفور.
ـ أعلام النساء تأليف عمر رضا كحاله 4 /123
ـ إبن أبي الحديد في شرح النهج.
وإذا مانظرنا الى مؤتمر السقيفة الذي إنعقد عند وفاة الرسول مباشرة وجدنا أن الحاضرين الذين إتخذوا قرار إختيار أبي بكر خليفة لا يزيد على مائة شخص على أكثر تقدير لأنه لم يحضر من الأنصار وهم أهل المدينة إلا أسيادهم وزعماؤهم، كما لم يحضر من المهاجرين وهم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثلون قريش ويكفي دليلاً أن نتصوّر ماهو حجم السقيفه فكلنا يعرف ماهي السقيفة التي ما كانت تخلوا منها أي دار فليست هي قاعة الحفلات ولا قصر المؤتمرات، فإذا ماقُلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة فذلك مبالغه مّنا حتّى يفهم الباحث بأن المائة ألف لم يكونوا حاضرين ولا سمعوا حتى مادار في السقيفة إلا بعد زمن بعيد فلم تكن هناك مواصلات جوية ولا هواتف لاسلكية ولا أقمار صناعية.
وبعد إتّفاق هؤلاء الزعماء على تعيين أبي بكر ورغم معارضة سيد الأنصار سعد بن عبادة زعيم الخزرج وإبنه قيس، إلا ان الأغلبية الساحقة «كما يقال اليوم» أبرمتْ العقد وتصافقتْ عليه في حين كان اغلب المسلمين غائبين عن السقيفة وكان بعضهم مشغولا بتجهيزالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو مذهولاً بخبر موته وقد أرعبهم عمر بن الخطاب وخوّفهم إن قالوا بموته(1) .
____________
(1)صحيح البخاري 4 /195.
فهل يُعقلُ بعد هذا الذي وقع أن يعارض أفراد القبيلة أو العشيرة زعيمهم فيما أبرمه خصوصاً وأن فيما أبرمه الفضل العميم والشرف الكبير الذي تسعى اليه كل قبيلة منهم ومن يدري لعله يلحقهم في يوم من الأيام شرف الرئاسة على كل المسلمين، ما دام صاحبها الشرعي قد أُبعِدَ وأصبح الأمر شورى يتداولونه بينهم بالتناوب، فكيف لا يفرحون بذلك وكيف لا يؤيدونه ؟
ثانياـ اذا كان أهل الحل والعقد من سكّان المدينة قد أبرموا أمراً فليس للقاصين البعيدين من أطراف الجزيرة أن يعارضوا، وهم لا يدرون مايدور في غيابهم فوسائل النقل في ذلك العهد كانت بدائية، ثم إنهم يتصوّرون بأن سكّان المدينة يعيشون مع رسول الله فهم أعلم بما يستجد من أحكام قد ينزل بها الوحي في أي ساعة وفي أي يوم. ثم بعد ذلك ما يهمّ رئيس القبيلة البعيد عن العاصمة من أمر الخلافة شيئا فبالنسبة اليه سواء أكان أبو بكر خليفة او علي أو أي شخص آخر، فأهل مكة أدرى بشعابها والمهم عنده هو بقاؤه هو على رئاسة عشيرته ولا ينازعه فيها أحد.
ومن يدري لعلّ البعض منهم تسائل عن الأمر وأراد أن يستطلع الخبر غير أن اجهزة الحكم اسكتته سواء بالترغيب أو بالترهيب، ولعلَّ في قصة مالك بن نويرة الذي إمنتع عن دفع الزكاة إلى أبي بكر مايؤكد حصول ذلك.
والمتتبّع لتلك الأحداث التي وقعتْ في حرب مانعي الزكاة ايام أبي بكر يجد كثيراً من التناقضات ولا يقتنع بما أورده بعض المؤرخين للحفاظ علي كرامة الصحابة وخصوصاً الحاكمين منهم.
ثالثا ـ عنصر المفاجئة في القضية لعبَ دورا كبيراً في قبول مايُسمّى اليوم «بالأمر الواقع» فلقد عُقد مؤتمر السقيفة على حين غفله من الصحابة الذين
وما أن فرغوا من واجبهم حتّى إستتبّ الأمر لأبي بكر وبات من يتخلّف عن بيعته معدودا من أصحاب الفتنة الذي يشق عصا المسلمين فيجب على المسلمين مقاومته أو حتّى قتله إن لزم الأمر. ولذلك نرى عمر قد هدّد سعد بن عبادة بالقتل لّما إمتنع عن بيعة أبي بكر وقال إقتلوه انه صاحب فتنة(1) وهدّد بعد ذلك المتخلّفين في بيت علي بحرق الدار ومن فيها، وإذا عرفنا رأي عمر بن الخطاب في خصوص البيعة فهمنا بعد ذلك كثيراً من الألغاز التي بقيت محيّرة.
فعُمر يرى بأنّه يكفي لصحة ألبيعة أن يسبق اليها أحد المسلمين فيجب على الأخرين مبايعتهُ ومن عصا منهم فهو خارج من ربقة الإسلام ويجبُ قتلُه.
فالنستمع اليه يتحدّث عن نفسه في خصوص ألبيعة كما أخرجه البخاري في صحيحه(2) ، قال: يحكي عمّا وقع السقيفة:
«فكثُر اللّغطُ وارتفعت الأصواتُ حتّى فرقتْ من الإختلاف فقلتُ: إبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يدَهُ فبايعتهُ وبايعَهُ المهاجرون(3) والأنصار ونزونا على
____________
(1)صحيح البخاري 8 /26. تاريخ الطبري ـ تاريخ الخلفاء لإبن قتيبة
(2) صحيح البخاري 8 /28 باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
(3) ذكر كل المؤرخون بأنه لم يحضر في السقيفة إلا أربعة من المهاجرين فقوله، فبايعته وبايعه المهاجرون يعارضه قوله وخالف عنا علي والزبير ومن معهما قاله في نفس الخطبة إنظر صحيح البخاري 8 /26.
فالمسأله عند عمر ليست إنتخاباً وإختياراً وشور وإنما يكفي ان يبادر احد لمسلمين بالبيعه لتكون حجه على الباقين ولذلك قال لأبي بكر: إبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعه بدون مشوره ولا ترّيث خوفاً من ان يسبق اليها أحد آخر، وقد عبّر عمر عن هذا الرأي بقوله: خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجُلاً منهم بعدنا «خشي عمر ان يسبقه الأنصار فبيايهوا رجُلاً منهم» ويزيدنا وضوحاً اكثر عندما يقول: فإمَّا بايعناهم على ما لا نرض وإمّا نخالفهم فيكون فسادُ(1) .
وحتى نكون منصفين في الحكم ومدقّقين في البحث يجبُ علينا ان نعترفَ بأنّ عمر بن الخطاب غير رأيه في البيعة في آخر أيام حياته وذلك عندما جاءه رجلٌ بمحضر عبدالرحمن بن عوف في آخر حجّة حجّها فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمرُ لقد بايعتُ فلاناً فوالله ماكانت بيعة ابي بكر إلا فلتة فتمّتْ. فغضب عمر، ولهذا قام في الناس خطيباً فور رجوعه الى المدينة فقال من جملة ما قال في خطبته:
«إنه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر بايعتُ فلاناً ولا يغترنّ أمرؤ أن يقول أنّما كانت بيعةُ أبي بكر فلتةَ وتّمتْ ألاَ وإنّها كانتْ كذلك ولكنّ الله وقَى شرّها … (2) ثم يقول: من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين فلا ُيبايعُ هو ولاَ الذي بايَعهُ تَغِرَّةً أنْ يُقْتلاَ …»(3) .
____________
(1، 2، 3) صحيح البخاري 8 /26.
بقي علينا ان نعرف لماذا غيّر عمر رأيه في آخر حياته بالرّغم من أنّه يعرف اكثر من غيره بأنّه برأيه الجديد نسف بيعة ابي بكر من اساسها إذ أنه هو الذي سبق لبيعته من غير مشورة من المسلمين فكانت فلتَةًونسفَ أيضاً بيعتَه هو لأنه وصل للخلافه بنص أبي بكر عليه عند الموت من غير مشورة من المسلمين حتّى ان بعض الصحابه دخلوا عل ابي بكر مستنكرين عليه ان يولي عليهم فضَّا غليضاً(1) ، ولّما خرج عمر ليقرأ على الناس كتاب أبي بكر سأله رجلٌ: ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ قال: لأ أدري، ولكنّي أول من سمع وأطاع، قال الرجل: لكنّي والله أدري مافيه: أمّرتَه ُعام أول، وأمّرك العام(2) .
وهذا نظير قول الإمام علي لعمر (عندما رآه يحمِلُ الناس قهراً لبيعة أبي بكر) إحلب حلباً لك شطره، وأشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً …(3) .
والمهم أنْ نعرف لما غيّر عمر رأيه في البيعة ! أكادُ أعتقدُ بأنّه سمع بأنّ بعض الصحابة يريد بيعة علي بن ابي طالب بعد موت عمر وهذا ما لا يرضاه عمر ابداً وهوالذي عارض النصوص الصريحه وعارض ان يكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الكتاب(4) لأنه عرف فحواه حتىّ إتهمه بالهجر وخوف
____________
(1) تاريخ الطبري إستخلاف عمر بن الخطاب.
شرح النهج لإبن أبي الحديد ج 1.
(2) الإمامه والسياسه لإبن قتيبه ج1 / 25.
باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما.
(3) الإمامه والسياسه لإبن قتيبه 1 /18.
(4) صحيح مسلم 5 /75 (كتاب الوصيه) صحيح البخاري 7 /6.
فتغيير عمر لرأيه في البيعة كان معارضة لهؤلاء الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمورهم ويبايعو علياً، وهذا ما لايرضاه عمر لأنه يعتقد بأن الخلافة هي من أمور الناس وليست حقا لعلي بن أبي طالب وإذا كان هذا الإعتقاد صحيحا فلماذا أجازهو لنفسه أن يغصب الناس أمورهم بعد موت النبي صلى الله عليه
____________
(1)صحيح البخاري 4 /195.
(2) صحيح البخاري 8 /28 ـ وتاريخ الخلفاء 1 /19.
(3) صحيح البخاري 8 /25.
وموقفُ أبي حفص من أبي الحسن معروف ومشهور وهو إبعاده عن الحكم ما إستطاع لذلك سبيلاً.
وهذا الإستنتاج لم نستوحه من خطبته السّابقة فحسب ولكنّ المتتبع للتاريخ يعرف أنّ عمر بن الخطاب كان هو الحاكم الفعلي حتّى في خلافة أبي بكر ولذلك نرى أبا بكر يستأذن من أسامة بن زيد أن يترك له عمر بن الخطاب ليستعين به على أمر الخلافة(1) ـ ومع ذلك نرى علي بن أبي طالبيبقى بعيداّ عن المسؤلية فلم يولّوه منصباً ولا ولاية ولا أمّروه على جيشٍ ولا إئتمنوه على خزينة وذلك طّوال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكلّنا يعلم من هو علي بن أبي طالب.
والأغرب من كل هذا أنّنا نقرأ في كتب التاريخ بأن عمر لما أدركته الوفاة تأسّف أن لا يكون أبو عبيدة بن الجراح أو سالم مولي أبي حذيفة من الأحياء حتّى يولّيهم من بعده، ولكنّه ولا شك تذكر بأنّه سبق أن غير رأيه في مثل هذه البيعة وإعتبرها فلتة وغصباً لأمور المسلمين، فلا بدّ له إذن أن يخترع طريقة جديدة في البيعة لتكون حلاً وسطاً بينَ بين فلا يستبدّ أحد فيسبقُ بالبيعة لمن يراه صالحاً لَها ويحمل الناسَ على متابعته كما فعل هو مع أبي بكر وكما فعل أبو بكر معه هو أو كما يريد أن يفعل فلان الذي ينتظر موت عمر ليبايع صاحبه فهذا غير ممكن بعد أن حكم عمر عليها بالفلتة الإغتصاب. ولا يمكن له أيضاً أن يترك الأمر شورى بين المسلمين، وقد حضر مؤتمر السقيفة عقب وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورأى بعينيه ماوقع من الإختلاف الذي كادت تُزهقُ فيه الأرواحوتُهرق فيه الدّماء.
وإخترع أخيراً أصحاب الشورى أو الستّة الذين لهم وحدهم حق إختيار الخليفه وليس لأحدٍ من المسلمين أن يشاركهم في ذلك، وكان عمر يعلم
____________
(1) كما نصّ على ذلك إبن سعد في طبقاته وأكثرالمؤرخين الذين ذكروا سرية أسامة بن زيد.
كان عمر يعلم كل ذلك ومن أجل هذا كان إختياره لهؤلاء بالذّات.
إختار عمر هؤلاء الستّة وكلّهم من قريش وكلّهم من المهاحرين وليس فيهم واحدّ من ألأنصار وكلّهم يمثل ويتزعّم قبيلة لها أهميتها وتأثيرها.
1 ـ علي بن أبي طالب زعيم بني هاشم.
2 ـ عثمان بن عفان زعيم بني أميّه.
3 ـ عبدالرحمن بن عوف زعيم بني زهره.
4 ـ سعد بن أبي وقاص هو من بني زهره وأخواله بني أميه.
5 ـ طلحة بن عبيد الله هو سيد بني تيم.
6 ـ الزبير بن العوّام هو إبن صفية عمة الرسول وهو زوج أسماء بنت أبي بكـر.
فهؤلاء هم أهل الحلّ والعقد وكلامهم نافذٌ على كل المسلمين سواء منهم سكان المدينه (عاصمة الخلافه) أو غيرهم في كل العالم الإسلامي ومَا على المسلمين إلاّ السّمع والطاعة بدون نقاش ومن يخرج منهم على ذلك فهو مهدور
____________
(1)محمد عبده في شرح نهج البلاغه 1 /88.
وإذا كان عمر، يعلم نفسيات هؤلاء الستّة وعواطفهم وطموحاتهم فإنه بلا شكّ قد رشّح عثمان بن عفّان للخلافة أو انه كان يعلم إن الأكثريه من هؤلاء الستّة لايرضون بعلي وإلاّ لماذا وبأيّ حقّ يرجّح كفّة عبدالرحمن بن عوف على علي بن أبي طالب والحال إنّ المسلمين منذ وُجدُوا وحتّى اليوم إنّما يتنازعون في أفضلية علي وأبي بكر ولم سمع أحداً يقارن علياً بعبدالرحمن بن عوف.
وهنا أقفُ وقفةً لابدّ منها، لأسألَ أهل السنّة والجماعة القائلين بمبدأ الشورى وهل الفكر الحرّ كافة، أسألُ كل هؤلاء كيف توفّقون بين الشورى بمعناها الإسلامي وبين هذه الفكره التي إن دلّتْ على شيء فإنما تدلّ على الإستبداد بالرأي، لأنه هو الذي إختار هؤلاء النفر وليس المسلمون، وإذا كان وصوله للخلافة فلتةً فبأيّ أي حقّ يفرض على المسلمين حد هؤلاء الستّة ؟ !
والذي يبدو لنا أن عمر يرى الخلافه حقاً من حقوق المهاجرين وحدهم وليس من حق أحد أن ينازعهم هذا الأمر، بل اكثر من هذا يعتقد عمر كما يعتقد أبو بكر بأن الخلافة لملك لقريش وحدها، إذ في المهاجرين من ليسوا من قريش، بل فيهم من ليسوا من العرب، فلا يحق لسلمان الفارسي ولا لعمار بن ياسر، ولا لبلال لحبشي ولا لصهيب الرومي ولا لأبي ذرالغفاري ولا لألوفِ الصحابة الذين ليسوا من قريش أن يتصدوا للخلافة.
وليس هذا مجّرد إدّعاء ! حاشا وكلاً، بل هي عقيدتهم التي سجّلها التاريخ والمحدّثون من أفواههم فلنعُد الى نفس الخطبة التي أخرحها البخاري ومسلم في صحيحيهما:
يقول عمر بن الخطاب: أردتُ أن أتكلّمَ وكنتُ زوّرتُ مقالة أعجبتني أُريدُ أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنتُ أداري منه بعض الحدّ فلّما أردتُ أن أتكلّم قال أبو بكر: على رسْلك فكرهتُ أنْ أُغضبهُ فتكلمّ أبو بكر فكان هو أحلم منّي وأوقر
إذا، يتبينّ لنا بوضوح بأنّ أبا بكر وعمر لايؤمنان بمبدأ الشورى والإختيار ويقول بعض المؤرخين بأنّ أبا بكر إحتجّ على الأنصار بحديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:.
«الخلافة في قريش» وهو حديث صحيح لا شك فيه وحقيقته (كما نصّ على ذلك البخاري ومسلم وكل الصحاح عند السنّة وعند الشيعة) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «الخلفاء من بعدي إثنا عشر كلهم من قريش».
. وأصرح من هذا الحديث قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
(لاَيزال هذا الأمر في قريش مابقيَ منَ الناسِ إثنان»(2) وقوله «الناس تبعٌ لقريش في الخير والشّر»(3) .
فإذا كان المسلمون قاطبة يؤمنون بهذه الأحاديث فكيف يقول قائل بأنه ترك الأمر شورىبين المسلمين ليختاروا من يشاؤون ؟
ولا يمكن لنا أن نتخلّص من هذا التناقض إلا إذا أخذنا باقوال أئمة أهل البيت وشيعتهم وبعض علماء السنّة الذين يؤكّدون بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد نصّ على الخلفاء وعيّنهم بعددهم وأسمائهم،وبذلك يمكن لنا أيضاً أن نفهم موقف عُمر وحصره الخلافة في قريش وعُمر مَنْ عُرفَ بإجتهاده مقابل النصوص حتى في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلح الحديبيه(4) ،
____________
(1)صحيح مسلم باب الوصيه.
(2، 3) صحيح مسلم 6 /2 و3 صحيح البخاري 8 /27
(4) صحيح البخاري 2 /81 صحيح مسلم باب صلح الحديبية
«فصبرتُ على طول المدّه وشدّه المحنه، حتّى أذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيالله وللشورى، متى أعترض الريبُ فيَّ مع الأولمنهم حتّى صرت أقرنً الى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ …» الخطبة(4) .
رابعا ـ أن الإمام علي سلام الله عليه إحتجّ عليهم بكل شيء ولكن بدون جدوى، وهل يستجدي الإمام علي بيعة النّاس الذي صرفوا وجوههم عنه ومالت قلوبهم لغيره إمّا حسداً له على ما أتاه الله من فضله، وإمّا حِقداً عليه لأنّه قتل صناديدهم وهشّم أبطالهم، وأرغم أنوفهم، وأخضعهم وحطّم كبرياءهم بسيفه وشجاعته حتّى أسلموا وإستسلموا وهو مع ذلك شامخٌ يذود عن إبن عمّه لا
____________
(1) صحيح البخاري 2 / 76.
(2) صحيح البخاري 1 /37.
(3) صحيح البخاري ج 1 باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنّة في صفحة 45
(4) نهج البلاغة شرح محمد عبده 1 /87.