وبما أخرجه البخاري في صحيحه يتبين لنا أن الخُمسْ لا يختص بغنائمِ الحرب.
فرأيُ الشيعة يبقى دائماً مصداقُ الحقيقة التي لا تناقضُ فيها ولا إختلاف وذلك لأنهم يرجعون في كل أحكامهم وعقائدهم الى أئمة الهدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين هم عدلُ الكتاب لا يَضْلّ من تمسّكَ بهم ويأمن من لجأ اليهم.
على أنه لا يمكن لنا أن نعتمدَ على الحروب لإقامة دولة الإسلام. وذلك يخالف سماحة الإسلام ودعوته للسّلم فالإسلام ليس دولة إستعمارية تقوم علىإستغلال الشعوب. ونهب خيراتها وهو ما يحاول الغربيون إلصاقه بنا عندما يتكلّمون عن نبي الإسلام بكل إزدراء ويقولون بأنه توسّع بالقوّة والقهر وبالسيف لإستغلال الشعوب.
وبما أن المال هو عصب الحياة وخصوصاً إذا كانت نظرية الإقتصاد الإسلامي تقتضي إيجاد مايسمّى اليوم بالضّمان الإجتماعي لنضمن للمعوزين والعاجزين معاشهم بكرامةٍ وشهامة.
فلا يُمْكنْ لدولة الإسلام أن تعتمد على مايخرجه أهل السنة والجماعة من الزكاة وهي تمثل في أحسن الأحوال أثنين ونصف بالمائة وهي نسبة ضعيفة لا تقوم بحاجة الدّولة من إعداد القوّة ومن بناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرقات فضلاً عن أن تضمن لكل فردٍ دخلاً يكفي معاشَه ويضمن حياته، كما لا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على الحروب الدامية وقتال الناس لتضمن بقاءها وتطور مؤسساتها على حساب المقتولين الذين لم يرغبوا في الإسلام.
فأئمة أهل البيت سلام الله عليهم كانوا أعلم بمقاصد القرآن، كيف لا وهم ترجمانه، وكانوا يرسمون للدولة الإسلامية معالم الإقتصاد، ومعالم الإجتماع، لو كان لهم رأيٌ يطاع.
فبقيت تعاليم أهل البيت مجرّد أفكار ونظريات يؤمن بها الشيعة ولم يجدوا لتطبيقها من سبيل إذ إنّهم كانوا مطاردين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد تتّبعهم الأمويون والعبّاسيون عَبرَ العصور.
وما إن إنقرضت الدولتان وأوجد الشيعة مجتمعاً عملوا بأداء الخُمسْ الذي كانوا يؤدّونه للأئمة سلام الله عليهم خُفية، وهم الآن يؤدّونه الى المرجع الذي يقلّدونه، نيابة عن الإمام المهدي عليه السلام، وهؤلاء يقومون بصرفه في أبوابه المشروعة، من تأسيس حوزات علمية، ومبرّات خيرية ومكتبات عمومية، ودور أيتام وغير ذلك من أعمال جليلة كدفع رواتب شهرية لطلبة العلوم الدينية والعلمية وغيرها.
ويكفينا أن نستنتج من هذا أن علماء الشيعة مستقلون عن السلطة الحاكمة، لأن الخمس يفي بحاجاتهم ويقومون بإعطاء كل ذي حق حقّه.
أمّا علماء أهل السنّة والجماعة فهم عالة على الحكّام وموظفون لدى السّلطة الحاكمة في البلاد، وللحاكم أن يقرّب من شاء منهم أو يبعّد حسب تعامله معه وإفتائهم لمصالحه. فأصبح العَالِمُ بذلك أقرب الى الحاكم منه الى مجرد عَالِمْ !، وهو بعض الآثار الوخيمة التي ترتبت على ترك العمل بفريضة الخُمسْ بمعناها الذي فهمه أهل البيت عليهم السلام.
يقول الشيعة: أمّا فروع الدّين وهي أحكام الشريعة المتعلّقة بالأعمال العبادية: كالصلاة والصيام، والزكاة والحج فالواجب في أحكامها أحد الأمور الثلاثة:
أ ـ أن يجتهد وينظر الإنسان في أدلّة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.
ب ـ أو أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الأحتياطْ.
ت ـ أو أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط، بأن يكون من يقلّده حيّاً عاقلاً، عادلاً، عالماً، صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعا لأمر مولاه.
والإجتهاد في الأحكام الفرعية واجب كفائي على جميع المسلمين فإذا نهض به من إجتمعت فيه الشروط سقط عن باقي المسلمين، فيجوز لهم تقليده والرجوع اليه في فروع دينهم، لأن رتبة الإجتهاد ليست من الأمور الميسورة ولا هي في متناول الجميع ـ بل تحتاج إلى كثير من الوقت والعلوم والمعارف والإطّلاع، وهذا لا يتهيأْ إلا لمن جَّد وكدّ وأمضى عمره في البحث والتعلم، ولا ينال الإجتهاد إلا ذو حظٌ عظيم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
وقول الشيعة هذا لا يختلف عن قول أهل السنة والجماعة، إلا في شرط حياة المجتهد.
غير أن الخلاف الواضح بينهم هو في العمل بالتقليد إذ أن الشيعة يعتقدون بأن المجتهد الجامع للشروط المذكورة، هو نائب للإمام عليه السّلام في حال غيبته فهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس والرّادّ عليه رادّ على الإمام.
فليس المجتهد الجامع للشروط عند الشيعة مرجعا يرجع إليه في ألفْتّيا فحسب، بل إنه له الولاية العامّة على مقلّديه فيرجعون اليه في الأحكام والفصل بينهم فيما إختلفوا فيه من القضاء، ويعطونه الزكاة وخُمس أموالهم يتصرّف بها كما تفرضه عليه الشريعة نيابة عن أمام الزّمان (عليه السلام).
أما عند أهل السنة والجماعة فليس للمجتهد هذه المرتبة، ولكنّهم يرجعون في المسائل الفقهية لأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب، وهم أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والمعاصرون من أهل السنة قد لا يلتزمون بتقليد واحد من هؤلاء على سبيل التعيين، فقد يأخذون بعض المسائل من أحدهم والبعض الآخر من غيره حسبما تقتضيه حاجتهم كما فعل ذلك السيد سابق الذي ألّفَ فِقْهاً مأخوذاً من الأربعة.
لأن أهل السنّة والجماعة يعتقدون بأن الرحمة في إختلافهم فللمالكي مثلاّ أن يأخذُ برأي أبي حنيفة إذا وجدَ حلاً لمشكلته قد لا يجده عند مالك.
وأضربُ لذلك مثلاً حتّى يتبينّ للقاريء فيفهم المقصود كان عندنا في تونس «في وقت المحاكم القضائية» فتاةٌ بالغة أحبّتْ رجُلاً وأرادتْ الزّواج منه، ولكنَّ أباها رفض أن يزّوُجَها من هذا الشاب لسبب «الله أعلم به» فهربت الفتاة من بيت أبيها وتزوجتْ ذلك الشّاب بدون إذنْ أبيها، ورفع الأب شكوى ضِدَّ الزواج.
يقول القاضي رحمة الله عليه(روى لي بنفسه هذه القصّة) «فجئنا في المسألة فوجدناها على حقّ، وأعتقد بأن أحد العلماء المطّلعين هو الذي لَقّنَها ماذا تقول» يقول هذا القاضي فرددتُ دعوة الأب وأمضيتُ الزواج فخرج الأب غَاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول: «حَنّفَتْ الكَلْبَة» أي إن إبنته تركت مالك وإتبعتْ أبا حنيفة، وكلمة الكلبة فيها إهانة لأبنته التي قال فيما بعد بأنه يتبرّأ منها. والمسألة هي إختلاف في إجتهاد المذاهب فبينما يرى مالك إن الفتاة البكر لا يصحّ زواجها إلا بإذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيبا فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولا بد من موافقته، يرى أبو حنيفة: إن البالغة بكراً كانتْ أم ثيباً، لها أن تنفرد بإختيار الزّوج وأن تنشىء العقد بنفسها.
فهذه المسألة الفقهية فرّقتْ بين الأب وإبنته حتّى تبرْأ منها وكثيراً ماكان الآباء يتبرّؤون من بناتهم لعدّة أسباب منها الهروب من البيت مع رجُلٍ تحبُّ الزواج منه ولهذا التبرء عواقب وخيمة إذ إن الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان إبنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوة للأخوة الذين يتبرّؤون بدورهم من أختهم التي جلبت لهم العار.
فليس القضية إذن كما يقول أهل السنة بأن في إختلافهم رحمة ـ أو على الأقل ليست الرحمة في كل القضايا الخلافية.
ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليّد الميت، فأهل السنة يقلّدون أئمةً ماتوا منذ قرون، وأغلق عندهم باب ألإجتهاد من ذلك العهد، وكلّ من جاء بعدهم من العلماء إقتصروا على الشروح والمدوّنات شعراً ونثراً لفِقْه المذاهب الأربعة وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بِفْتحْ الباب
أمّا الشيعة فلا يجوّزون تقليد الميّت ويرجعون في كل أحكامهم إلى المجتهد الحي الجامع للشروط التي ذكرناها سابقاً وذلك بعد غيبة الإمام المعصوم والذي كلّفهم بالرجوع الى العلماء العدول في زمن غيبته وحتّى ظهوره.
فالسنّي المالكي مثلاً يقول: هذا حلال وهذا حرام على قول الإمام مالك. وهو ميّت منذ أكثر من إثنى عشر قرناً، وكذلك يقول السنّي الحنفي والشافعي والحنبلي لأن الأئمة عاشوا في عصر واحد وتتلمذ بعضهم على بعض.
كما لا يعتقد السنّي في عِصْمة هؤلاء الأئمة الذين لم يدّعوها لأنفسهم بل جوّزوا عليهم الخط والصواب ويقولون بأنهم مأجورون في كل إجتهاداتهم فلهم أجران إن أصابوا ولهم أجرٌ واحد إذا أخطأوا.
والشيعي الإمامي مثلاً عنده مرحلتان في التقليد.
المرحلة الأولى: وهي زمن الأئمة الإثنى عشر وقد إمتدّتْ هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف تقريباً، وفيها كان الشيعي يقلّد الإمام المعصوم الذي لا يقول برأيه وإجتهاده، وإنما بعلم وروايات توارثها عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيقول في المسألة: روى أبي عن جدّي عن جبرئيل عن الله عَزَّ وَجلّ.
المرحلة الثانية: وهي زمن الغيبة التي إمتدّت حتى اليوم فالشيعي يقول هذا حلال وهذا حرام على رأي السيد الخوئي أو السيد الخميني مثلاً. وكلاهما حيّ ورأيهما لا يتعدّى الإجتهاد في إستنباط ألأحكام من نصوص القرآن والسنة على روايات أئمة أهل البيت أولاً ثم الصحابة العدول ثانياً وهم عندما يبحثون في روايات أئمة اهل البيت بالدرجة الأولى ذلك لأن هؤلاء الأئمة يرفضون إستعمال الرأي في الشريعة ويقولون: ما من شيء إلا ولله فيه حكم، فإذا ما فقدنا حكما في مسألة ما فليس ذلك يعني أن الله سبحانه أهمله، ولكن قُصُورِنا وجَهْلِنا لم يصلا بنا الى معرفة الحكم ـ فالجهل بالشيء وعدم معرفته ليس دليلا على عدمه ـ
____________
(1) سورة الأنعام آية 38.
العقائد التي يُشنّعْ بها أهل السنة على الشيعة
ومن العقائد التي يُشّنعْ بها أهل السنة على الشيعة ما هو من محض التعّب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيون في صدر الإسلام، بما كانوا يحقدون على الإمام علي ويبغضونه حتّى لعنوه على المنابر أربعين عاماً.فلا غرابة أنْ يشتموا كل من تَشيّعَ له ويرموه بكل عار وشنار حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحدهم يهودي أحب من أن يقال له شيعي. ودأَب أتباعهم على ذلك في كل عصر ومصر وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنة والجماعة لأنّه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن جماعتهم، فهم يقذفونه بما شاؤوا ويرمونه بكل التّهم وينبزونه بشتّى الألقاب، ويخالفونه في كل أقواله وأفعاله.
ألا ترى بأنّ بعض علماء أهل السنة المشهورين يقولون: «بأن لبس الخاتم في اليد اليمنى هو سنّة نبوية، ولكن يجبُ تركُهَا لأن الشيعة إتخذوا ذلك شعاراً لهم(1) .
____________
(1) مصنّف «الهداية» أخرجه الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار بأن أول من تختّم باليسار خلاف السنة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان.
وهذا إبن تيمة الموصوف بالمصلح المجدد عند بعضهم يقول: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء الى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم. أى للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السني من الرّافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب(1) .
وقال الحافظ العراقي عندما تساءل عن كيفية إسدال العمامة: لم أرَ مايدلّ على تعيين الأيمن إلا في حديث ضعيف عند الطبراني، وبتقدير نبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثم يردّها الى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم، إلا إنه صارَ شعاراً للإماميّة فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم(2) .
سبحان الله ! ولا حول ولا قوّة إلا بالله ! إنظر أخي القاريء الى هذا التعصّب الأعمى كيف يُجيز لهؤلاء «العلماء» أن يخالفوا سنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأن الشيعة تمسّكتْ بتلك السنن حتّى صارت شعاراً لهم، ثم هم لا يتحرجون من الإعتراف بذلك صراحة، وأنا أقول الحمد لله الذي أظهر الحقّ لذي عينين ولكل مخلص يبحث عن الحقيقة، الحمد لله الذي أظهر لنا بأن الشيعة هُمُ الذين يتبعون سنة رسول الله وذلك بشهادتكم أنْتُم !كما شهدتم على أنفسكم بأنّكم تركتُم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمدا لتخالفوا بذلك أئمة أهل البيت وشيعتهم المخلصين وإتبعتم سنة معاوية بن أبي سفيان كما شهد بذلك الإمام الزمخشري عندما أثبت إن أول من تختم باليسار خلاف السنة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان(3) .
____________
(1) منهاج السنة لإبن تيمة 2 /143 (التشبه بالروافض).
(2) شرح المواهب للزرقاني 5 /13.
(4) الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار.
ومن المستغرب عدها نعمة بعد نهي الرسول عنها ؟ وذلك عندما رفعوا أصواتهم وَحَصّبوا بابَهُ ليصلّي بهم نافلة رمضان، فخرج اليهم مغضباً فقال لهم صلّى الله عليه وآله وسلم:.
«مازال بكم صنيعكم حتّى ظننتُ إنّه سيكتَبُ عليكم، فعليكم في الصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»(4) .
كما إتّبعتم سنّة عثمان بن عفّان وهي لإتمام صلاة السفر خلافاً لسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم التي صلاّها قصراً(5) .
ولو أردت أن أحصي ما خالفتُم به سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأستوجب ذلك كتاباً خاصاً ولكن تكفي شهادتكم في ما أقررتم به على أنفسكم ـ وتكفي شهادتكم أيضاً بإقراركم بأنّ الشيعة الروافض هم الذين إتّخذوا سنة النبي شعاراً لهم.
____________
(1) صحيح البخاري 7 /99 (باب ما يجوز من الغصب والشدة لأمر الله عزّ وَجلّ).
(2، 3) صحيح البخاري 2 /252 (كتاب صلاة التراويح).
(4) صحيح البخاري 7 /99 (باب مايجوز من الغصب والشدة لأمر الله عزّ وَجلّ).
(5)صحيح البخاري 2 /35 وكذلك تأولت عائشة فصلت أربعا ص 36.
«علي منّي بمنزلتي من ربّي»(1) .
أي كما إن محمد هو الوحيد الذي يُبلّغُ عن ربّه، فعليٌ هو الوحيد الذي يبلّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّ ذنب علي هو إنّه لم يعترف بخلافة من قبله وذنبُ شيعته إنهم إتّبعوه في ذلك فرفضوا أن ينْضَوُوا تحت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولذلك سمّوهم «الروافض».
فإذا أنكر هؤلاء السنة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين، أوّلها العداء الذي أجج ناره حكام بني أميّة بالأكاذيب والدعايات وإختلاف الروايات المزوّرة.
وثانيهما: لأن معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا اليه من تأييد الخلفاء وتصحيح أخطائهم وإجتهاداتهم مقابل النصوص خصوصاً حكّام بني أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
ومن هنا يجد الباحث المتتبَع إن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة نشأ يوم السقيفة، وتفاقم، وكل خلاف جاء بعده فهو عَيّالٌ عليه، وأكبر دليل على ذلك أن العقائد التي يُشنّع أهل السنة على إخوانهم من الشيعة، ترتبط إرتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة وتتفرع منه، كعدد الأئمة والنّص على الإمام، والعصمة، وعلم الأئمة، والبداء، والتقية والمهدي المنتظر وغير ذلك.
____________
(1) الصواعق المحرقة لإبن حجر ص 106 ـ ذخائر العقبى ص 64
الرياض النضرة 2 /215 ـ إحقاق الحق 7 /217
بينما يجد الباحث المنصف في كل عقائد الشيعة أصْلاً ثابتاً في القرآن والسنة وحتّى في كتب من يُخالفهم في تلك العقائد ويُشنّع بِها عليهم.
ثم ليس هناك في تلك العقائد مايخالف العقلَ أو النّقل أو الأخلاق ـ وليتبَينّ لك أيها القاريء اللبيب صحّة ما أدّعيه سأستعرض معك تلك العقائد.
العصمة
يقول الشيعة: ونعتقدُ إن الإمام كالنّبي يجبُ أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنّ الطفولة الى الموت، عمداً وسهواً.كما يجبُ أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوّامين عليه حالهم في ذلك حال النّبي والدليل الذي إقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق(1) .
نعم هذا كما نرى هو رأي الشيعة في موضوع العصمة فهل فيه ما ينافي القرآن والسنة ؟ أو مايقول العقل بإستحالته ؟ أو مايشين الإسلام ويُسيء اليه، أو ما يُنقصُ قدر النبي أو الإمام ؟
حاشا وكلاّ. لم نجد في هذا القول إلا التأييد لكتاب الله وسنّة نبّيه، وما يتماشى مع العقل السليم ولايناقضه، وما يرفع من قيمة النّبي والإمام ويشرفه.
ولنبدأ بحثنا في إستقراء القرآن الكريم.
____________
(1) عقائد الإمامية ص 67 العقيدة رقم 24.
فإذا كان إذهاب الرجس الذي يشمل كل الخبائث والتطهير من كل الذنوب، لا يفيد العصمة، فما هو المعنى إذاً ؟؟
يقول الله تعالى:
إنّ الذين إتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكرّوا فإذا هم مبصرون (2) . فإذا كان المؤمن التّقي يعصمه الله من مكايد الشيطان إذا حاول إستفزازه وإضلاله، فيتذكّر ويبصر الحقّ فيتّبعه، فما بالك بمن إصطفاهم الله سبحانه وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ؟
ويقول تعالى:
ثم أورثنا الكتاب الذين إصطفينا من عبادنا (3) والذي يصطفيه الله سبحانه يكون بلا شك معصوماً من الخطأ وهذه الآية بالذات هي التي إحتجّ بها الإمام الرضا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على العلماء الذين جمعهم الخليفة العبّاسي المأمون إبن هارون الرشيد وأثبت لهم بأنّهم (أي أئمة أهل البيت) هم المقصودون بهذه الآية وبأن الله إصطفاهم وأورثهم علم الكتاب، وإعترفوا له بذلك(4) .
هذه بعض الأمثلة مّما جاء في القرآن الكريم وهناك آياتٌ أخرى تفيد العصمة للأئمة كقوله أئمة يهدون بأمرنا وغيرها ولكن نكتفي بهذا القدر روماً للإختصار دائماً.
____________
(1) سورة الأحزاب آية 33.
(2) سورة الأعراف آية 201.
(3) سورة فاطر آية 32.
(4)العقد الفريد لإبن عبد ربه 3 /42.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
«يا أيها النّاس إني تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا كتَاب الله وعترتي أهل بيتي»(1) .
وهو كما ترى صريحٌ بأنّ الأئمة من أهل البيت معصومون أولاً لأن كتَاب الله معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو كلام الله، ومن شك فيه كفر.
ثانياً: لأن المتمسّك بهما «الكتاب والعترة» يأمنُ من الضلالة فدّلَ هذا الحديث على إن الكتاب والعترة لا يجوز فيهما الخطأ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إ نّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(2) .
وهو كما ترى صريح في أن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام معصومون، عن الخطأ ولذلك يأمل وينجوا كل من ركب سفينتهم وكل من تأخر عن ركوب سفينتهم غرق في الضلالة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«من أحَبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنّة التي وعدني ربي، وهي
____________
(1) صحيح الترمذي 5 /328.
الحاكم في المستدرك3 /148.
الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 5 /189.
(2) مستدرك الحاكم 2 /343.
كنز العمال 5 /95.
الصواعق المحرقة لإبن حجر ص 184.
وهو كما ترى صريح في أن الأئمة من أهل البيت وهم علي وذريته معصومون عن الخطأ لأنهم لن يُدخلوا الإسلام الذين يتبّعوهم في باب ضلالة، ومن البديهي إن الذي يجوز عليه الخطأ لا يمكنُ له هداية النّاس.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أنا المنذرُ وعليٌّ الهادي، وبك ياعلي يهتدي المهتدون من بعدي»(2) .
وهذا الحديث هو الآخر صريح في عصمة الإمام كما لايخفى على أولي الألباب.
والإمام علي نفسه أثبت العصمة لنفسه وللإمة من ولده عندما قال: «فإين تذهبون وأنّى تؤفكون ؟ والأعلام قائمةُ والآياتُ واضحةٌ، والمنار منصوبةٌ فأين يُتاه بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أئمة الحق، وأعلام الدّين، وألْسنةُ الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش، أيها النّاس خذوها من خاتم النبيّين صلّى الله عليه وآله وسلم إنه يموت
____________
(1) كنز العمال 6 /155. ومجمع الزوائد للهيثمي 9 /108.
الإصابة لإبن حجر العسقلاني ـ الطبراني في الجامع الكبير. تاريخ إبن عساكر 2 /99.
مستدرك الحاكم 3 /128 حلية الأولياء 4 /349 ـ إحقاق الحق 5 /108.
(2) تفسير الطبري 13 /108 تفسير الرازي 5 /271 تفسير إبن كثير 2 /502.
(3) تفسير الشوكاني 3 /70 تفسير السيوطي الدر المنثور 4 /45 نور الأبصار ص 71.
(4) مستدرك الحاكم 3 /129 تفسير إبن الجوزي 4 /307.شواهد التنزيل 1 /293 الفصول المهمة ـ ينابيع المودة.
وبعد هذا البيان من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال الإمام علي الدالة كلها على عصمتهم سلام الله عليهم.
هل يرفض العقلُ عصمة من يصطفيه الله سبحانه للهداية ؟ والجواب: كلاَّ لا يرفض ذلك، بالعكس، العقل يقول: بوجوب تلك العصمة، لأن من توكَلُ اليه مهمّة القيادة وهداية البشرية لا يمكنُ أن يكون إنساناً عادياً يعتريه الخطأ والنسيان وتُثقل ظهره الذنوب والأوزار فيكون عُرضة لإنتقاص النّاس ونقدهم.
بل العقل يفرض أن يكون أعلم الناس في زمانه وأعدلهم وأشجعهم وأتقاهم، وهي صفاتٌ ترفَعُ من شأن القائد وتُعظّيمه في أعين الناس وتجلب له إحترام الجميع وتقديرهم وبالتالي طاعتهم له بدون تحفّظ ولا تملّق.
وإذا كان الأمر كذلك، لماذا كل هذا التشنيع والتهويل على من يعتقد بذلك ؟
ويخيّلُ إليك وأنت تسمع وتقرأ إنتقاد أهل السنة على موضوع العصمة بأن الشيعة، هم الّذين يقلّدون وسام العصمة لمن أحبّوا، أو إن القائل بالعصمة يكون مُنكراّ وكفراً، فلا هذا ولا ذاك، إنّما العصمة عند الشيعة هي أن يكون المعصوم مُحاطاً بعناية إلهية ورعاية ربّانية فلا يتمكّن الشيطان من إغوائه، ولا تتمكّن النفس الأمارة بالسوء من التغلّب على عقله فتجرّه للمعصية وهذا الأمر لم
____________
(1) نهج البلاغة للإمام علي 1 /155.
وقد علق الشيخ محمد عبده في شرحه لهذه الخطبة بقوله: إنه يموت الميت من أئمة أهل البيت وهو في الحقيقة غير ميت. لبقاء روحه ساطعة النور في عالم الظهور.
وهذه العصمة الموقوتة لعباد الله في حالة معينّة، قد تزول لفقد سببها إلا وهي التقوى، فالعبد إذَا كان بعيدا عن تقوى الله لا يعصمه الله، أما الإمام الذي إصطفاه الله سبحانه فلا يحيد ولا يتزحزح عن التقوى وخشية الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في القرآن الحكيم حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام ولقد همّتْ به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه، كذلك لنصرف عنه السّوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (1) .
ولأن سيدنا يوسف لم يهم بالزنا كما فسّره بعض المفسّرين فحاشا أنبياء الله من هذا الفعل القبيح، ولكنّه همّ بدفعها وضربها إذا إقتضت الحال ولكنّ الله سبحانه عصمه من إرتكاب مثل هذا الخطأ لأنّه لو فعله لكان سبباً في إتهامه بالفاحة وتكون حجّتها قويّة ضدّه فيلحقه منهم عند ذلك السوء.
____________
(1)سورة يوسف آية 24.
عدد الأئمة (الإثني عشر)
يقول الشيعة بأنّ عدد الأئمة المعصومين بعد النّبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إثنى عشر إماماً لا يزيدون ولا ينقصون، وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم وعددهم(1) وهم:1 ـ الإمام علي بن أبي طالب.
2 ـ الإمام الحسن بن علي.
3 ـ الإمام الحسين بن علي.
4 ـ الإمام علي بن الحسين (زين العابدين).
5 ـ الإمام محمد بن علي (الباقر).
6 ـ الإمام جعفر بن محمد (الصادق)
7 ـ الإمام موسى بن جعفر (الكاظم)
8 ـ الإمام علي بن موسى (الرضا)
9 ـ الإمام محمد بن علي (الجواد)
10 ـ الإمام علي بن محمد (الهادي)
____________
(1) ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ص 99 الجزء الثالث.
12 ـ الإمام محمد بن الحسن (المهدي المنتظر).
فهؤلاء هم الأئمة الأثنى عشر الذين تقول الشيعة بعصمتهم، حتّى لا ينطلي المكر على بعض المسلمين.
فالشيعة لا يعترفون قديماً ولا حديثاً بالعصمة إلا لهؤلاء الأئمة الذين سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يولدوا بعدُ، وقد أخرج بعض علماء السنّة أسماءهم كما مرّ علينا وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الأئمة بعددهم وهم إثنى عشر كلّهم من قريش(1) .
وهذه الأحاديث لا تصحّ ولا تستقيم إلا إذا فسّرناها على أئمة أهل البيت الذين تقول بهم الشيعة الإمامية وأهل السنّة والجماعة هم المطالبونَ بحلّ هذا اللّغز إذْ أنّ عدد الأئمة الأثني عشر الذي أخرجوه في صحاحهم بقيَ حتّى الآن لُغزاً لا يجدون له جواباً.
____________
(1) صحيح البخاري 8 /127.
صحيح مسلم 6 /3.
علم الأئمة
ومّما يشنّع به أهل السنّة والجماعة على الشيعة قولهم: بأنّ الأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم قد خصّهم الله سبحانه بعلم لم يشاركهم فيه أحد من النّاس، ومن أن الإمام يكون أعلم أهل زمانه فلا يمكن أن يسأله أحد فيعجز عن الجواب !.فهل لهذا الإدّعاء من دليل ؟
ولنبدأ كما هي عادتنا في كل بحث في القرآن الكريم.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله:
ثم أورثنا الكتاب الذين إصطفينا من عبادنا (1) فالآية تدّل دلالة واضحة بأن الله سبحانه إصطفى عباداً من بين النّاس وأورثهم علم الكتاب، فهل لنا أن نعرف هؤلاء العباد المصطفين ؟
ذكرنا فيما تقدّم بأن الإمام الثامن من أئمة أهل البيت علي بن موسى الرضا أستدلّ بنزول هذه الآية فيهم، وذلك لّما جمع له المأمون أربعين قاضياً من
____________
(1) سورة فاطر آية 32.
وإذا كان هذا الإمامُ الثامن ولّما يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً عندما وقعتْ هذه المحاورة بينه وبين الفقهاء الذين أقرّوا له بالأعلمية فكيف يستغربُ بعدها قول الشيعة بأعلميّتهم مادام أن علماء السنّة وأئمتهم يعترفون لهم بذلك.
أمّا إذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن فسوف نجد العديد من الآيات ترمي الى معنى واحد وتبينّ بإنّه سبحانه ولحكمة بالغة إختصّ الأئمة من أهل البيت النبوي بعلمٍ من لَدُنْه موهوب حتّى يكونوا أئمة الهدى ومصابيح الدّجى.
قال تعالى: يؤتِ الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكّر إلا أولُي الألباب (2) .
وقال أيضاً: فلا أُقسم بمواقع النّجوم، وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم، إنّه لقرآنٌ كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهّرون (3) .
أقسمَ سبحانه في هذه الآية بقسم عظيم بأنّ القرآن الكريم له أسرار ومعاني باطنة مكنونة، لا يدرك معانيها وحقائقها إلا المطهّرون، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجْس وطهّرهم تطهيراً.
دلّت الآية أيضا على أن للقرآن باطناً إتخص الله سبحانه به أئمة أهل البيت ولا يمكن لغيرهم معرفتها إلا عن طريقهم.
ولذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الحقيقة فقال:
«لا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم
____________
(1) العقد الفريد لإبن عبد ربه 3 /42.
(2) سورة البقرة آية 269
(3) سورة الواقعة 75 ـ 79.
وكما قال الإمام علي نفسه:
«أين الذين زعموا إنهم الرّاسخون بالعلم دوننا كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى … إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الّولاة من غيرهم»(2) .
وقال تعالى: فأسألوا أهل الذكر إن كنتُم لا تعلمون (3) وهذه الآية نزلت في أهل البيت (عليهم السلام)(4) .
وتفيد بأن الأمة لا بد لها من بعد فقد نبيّها أن ترجع إلى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحقائق، وقد رجع الصحابة رضي الله تعالى عنهم الى الإمام علي بن أبي طالب لبيين لهم ما أشكل عليهم، كما رجع النّاس على مرّ السنين الى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحلال والحرام ولينْهلوا من معارفهم وعلومهم وأخلاقهم.
وإذا كان أبو حنيفة يقول: لولا السنتان لهلك النعمان يقصد بذلك العامين الذين قضاهما في التعلم من الإمام جعفر الصادق.
وإذا كان الإمام مالك بن أنس يقول: مارأتْ عينٌ، ولا سمعتْ أذنٌ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً(5) .
____________
(1)الصواعق المحرقة لإبن حجر الشافعي ص 148 ـ الدر المنثور للسيوطي 2 /60.
كنز العمال 1 /168 أسد الغابة في معرفة الصحابة 3 /137.
(2) نهج البلاغة 2 /143 شرح محمد عبده الخطبة رقم143.
(3)سورة النحل آية 43 وسورة الأنبياء آية 7.
(4)تفسير الطبري 14 /134 تفسير ابن كثير 2 /570 تفسير القرطبي 11 / 272 شواهد التنزيل للحسكاني 1 /434 ينابيع المودة إحقاق الحق للتستري 3 /482.
(5)كتاب مناقب آل أبي طالب في أحوال الإمام الصادق.
ولو تتّبع المسلمون أدلّة بعضهم بعضاً، لأقتنعوا بقول الله ورسوله، ولكانوا أمةً واحدة يشدّ بعضها بعضاً، ولم يكن هناك إختلاف ولا مذاهب ومتعددة !
ولكم لا بدّ من كل ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولا ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بينّة وإن الله لسميع عليم (1) .
____________
(1)سورة الأنفال آية 42.
البداء
وهو أن يبدو له شيء في أمر مَا يريد فعله ثم يتغّير رأيه في ذلك الشيء فيفعل فيه غير ماعزم على فعله سابقاً.وأمّا قول الشيعة بالبداء ونسبته إلى الله تعالى التشنيع عليهم بأنه يستوجب نسبة الجهل والنقص ألى الله سبحانه وتعالى ـ كما يريد أهل السنّة والجماعة حمله على هذا المعنى، فهذا التفسير باطل ولا تقول به الشيعة أبداً ومن ينسب ذلك إليهم فقد إفترى عليهم، وهذه أقوالهم قديماً وحديثاً تشهد لهم.
قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية: «والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى لأنّه من الجهل والنقص وكذلك محالٌ عليه تعالى ولا تقول به الإمامية.
قال الإمام الصادق عليه السلام: «من زعم أن الله تعالى بدا لَهُ في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»، وقال أيضاً: «من زعم إنّ الله بدا لَهُ في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه».
إذآً فالبداء الذي تقول به الشيعة، لا يتعدّى حدود القرآن في قوله سبحانه
وهذا القول يقول به أهل السنة والجماعة كما يقول به الشيعة فلماذا يشنّع على الشيعة ولا يشنّع على أهل السنة والجماعة القائلين بأن الله سبحانه يُبدّل الأحكام ويُغيرّ الآجال والأرزاق.
فقد أخرج بن مردويه وإبن عساكر عن علي رضي الله عنه أنّه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
عن هذه الآية يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لأقرنّ عينيك تفسيرها، ولأقرنّ عين أمّتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبِرّ الوالدين، وإصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السّوء».
وأخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس بن عباد رضي الله عنه قال: لله أمرٌ في كل ليلة العاشر من أشهر الحرم، أما العاشر من رجب ففيه يمحو الله ما يشاء ويثبت.
وأخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ إنّه قال وهو يطوف بالبيت:
«اللّهم إن كنتَ كتبت عليَّ شقاوةً أو ذنباً فأمحه، فإنك تمحو ماتشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فأجعله سعادة ومغفرة»(2) .
وأخرج البخاري في صحيحه(3) قصّة عجيبة وغريبة تحكي معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقاءه مع ربّه، وفيما يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
____________
(1)سورة الرعد: آية 39.
(2) جلال الدين السيوطي في الدر المنثور في التفسير المأثور 4 /661.
(3)صحيح البخاري 4 /78 (كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة).
وفي رواية أخرى نقلها البخاري أيضاً، وبعد مراجعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ربّه عديد المرّات وبعد فرض الخمس صلوات، طلب موسى (عليه السلام) من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يُراجع ربّه للتخفيف لأّن أمّته لا تطيق حَتّى خمس صلوات، ولكن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم أجابه: قد إستحييت من رَبّي(2) .
نعم إقرأ وأعجب من هذه العقائد التي يقول بها رواة أهل السنّة والجماعة، ومع ذلك فهم يشنّعون على الشيعة أتباع أئمة أهل البيت في القول بالبداء.
وهم في هذه القصّة يعتقدون بأن الله سبحانه فرض على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم خمسين صلاة، ثم بدا له بعد مراجعة محمد إيّاه أن جعلها أربعين، ثم بدا له بعد مراجعة ثانية أن جعلها ثلاثين، ثم بدا له بعد مراجعة ثالثة أن جعلها عشرين ثم بدا له بعد مراجعة رابعة أن جعلها عشراً، ثم بدا له بعد مراجعة خامسة أن جعلها خمساً.
وبغض النظر عن قبولنا بهذه الرواية وعدمه فإن القول بالبداء عقيدة سليمة
____________
(1) صحيح البخاري 4 /250 (باب المعراج)
صحيح مسلم 1 /101 (باب الإسراء برسول الله وفرض الصلوات).
والحقيقة إني أرى رواية المعراج هذه مستوجبة لسنبة الجهل الى الله عَزّ َوجَلّ، وموجبة لإنتقاص شخصية أعظم إنسان عرفه التاريخ البشري، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ تقول الرواية بأن موسى قال لمحمّد: أنا أعلم بالنّاس منك، وتجعل هذه الرواية الفضل والمزيّة لموسى الذي لولاه لما خفّف الله عن أمّة محمد.
ولستُ أدري كيف يعلمُ موسى بأنّ أمّة محمد لا تطيق حتى خمس صلوات في حين إن الله لا يعلمُ ذلك ويكلّف عباده بما لا يطيقون فيفرض عليهم خمسين صلاة ؟ !
وهل تتصور معي أخي القاريء خمسين صلاة في اليوم الواحد، فلا شغل ولا عمل ولا دراسة ولا طلب رزق ولا سعي ولا مسؤولية، فيصبح الإنسان كالملائكة مكلّف بالصلاة والعبادة، وما عليك إلا بعملية حسابية بسيطة لتعرف كذب الرواية، فإذا ضربت عشر دقائق ـ وهو الوقت المعقول لأداء فريضة واحدة للصلاة جماعة ـ في الخمسين فسيكون الوقت المفروض بمقدار عشر ساعات، وما عليك إلا بالصبر، أو إنّك ترفض هذا الدّين الذي يكلّف أتباعه فوق ما يتحمّلون ويفرض عليهم مالا يطيقون.
فإذا كان أهل السنة والجماعة يشنّعون على الشيعة قولهم بالبداء، وإن الله سبحانه وتعالى يبدوا له فيغيّر ويبدّل كيف شاء فلماذا لا يشنّعون على أنفسهم في
لعن الله التعصّب الأعمى والعناد المقيت الذي يغطي الحقائق ويقلّبها ظهراً على عقب، فيتحامل المتعصّب على من يخالفه في الرأي وينكر عليه الأمور الواضحة ويقوم بالتشنيع عليه وبثّ الإشاعات ضدّه، والتهويل في أبسط القضايا، التي يقول هو بأكثر منها.
وهذا يذكّرني بما قاله سيدنا عيسى عليه السلام لليهود عندما قال لهم:
«أنتم تنظرون إلى التّبنةِ في أعين النّاس. ولا تنظرون إلى الخشبة في أعينكم».
وبالمثل القائل: «رمتني بدائها وإنسلّت» ولعلّ البعض يعترض بأنّه لم يرد لفظ البداء عند أهل السنّة وبأن هذه القصّة وإن كان معناها التغيير والتبديل في الحكم ولكن لا تقطع بأنه بدا لله فيها.
وأقول هذا لأنه كثيراً ما كنتُ أستعرض قصّة المعراج للإستدلال بها على القول بالبداء عند أهل السنة، فأعترض عليّ بعضُهم بهذا الرأي ولكنّهم سلّموا بعدها عندما أوقفتهم على رواية أخرى من صحيح البخاري تذكر البداء بلفظة صراحة لا لبس فيها.
فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا لله أن يبتليهم، فبعث اليهم ملكاً فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحبّ اليك ؟ فقال لون حسن وجلد حسن، قد قذرني النّاس فمسحه فذهب عنه، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، ثم قال له: أي المال أحبّ اليك، فقال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، وأتى الأقرع فقال: أي شيء، أحبّ اليك، قال: شعر حسن ويذهبُ عني هذا قد قذرني النّاس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، ثم قال له: أي المال أحبّ اليك فقال: البقر، فأعطاه بقرة حاملاً، وأتى الأعمى فقال: أي شيء
ثم رجعَ الملك بعدَ أن تكاثَرت عند هؤلاء الإبل والبقرَ والغنمَ حتّى أصبحَ يملك كل منهم قطيعاً فأتى الأبرصَ والأقرعَ والأعمى كلّ على صورتهِ، وطلبَ من كلِ واحدٌ منهم أن يعطيهِ مّما عندهُ فردّه الأقرع والأبرص فأرجعهما الله إلى ماكانا عليهِ، وأعطاه الأعمى فزاده الله وأبقاه مبصراً»(1)
ولهذا أقول لأخواني قول الله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسمُ الفسوقُ بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (2) .
كما أتمنّى من كل قلبي أن يثوب المسلمون إلى رشدهم وينبذُوا التعصّب ويتركوا العاطفة لتحلّ العقلُ محلّها في كلّ بحث، حتى مع أعدائهم وليتعلّموا من القرآن الكريم إسلوب البحث والنّقاش والمجادلة بالتي هي أحسن، فقد أوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بأنْ يقول للمعاندين وإنّا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبينُ (3) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع من قيمة هؤلاء المشركين ويتنازل هو ليعطيهم النصف حتّى يُدلوا ببرهانهم وأدلّتهم إن كانوا صادقين ـ فأين نحن من هذا الخلق العظيم.
____________
(1) صحيح البخاري 2 /259.
(2) سورة الحجرات آية 11.
(3)سورة سبأ آية 24