إن هذا جانب مركّب في طبائع الناس، يجعلنا نعتقد أنه من مكامن الحجاب الحقيقي الذي يحول دون بلوغ درجة من الشفافية يُلامس معها الكنه، ويُتعرف عليه وهو هنا عند هذه المنطقة ينجذب نحو ملاذه، ويلجأ إلى إمامه عياناً.
الخلاصة
نخلص من هذا البحث إلى النتائج التالية:
ـ إن النفس الإنسانية بما هي ذات متسعة الأبعاد عميقة المعنى، يدور حولها محور هو الأهم في الرسالات السماوية، وقد بنيت مختلف التأملات والأفكار على أسس تبحث في معرفتها، ومن هذه المعرفة ينطلق الإنسان إلى معارف أخرى غيرها، وإنّ عدم معرفتها
فمنها إذن يتم الانطلاق إلى معرفة العالم الذي يقودها نحو العالم الروحاني الذي فيه تجد ضالتها، وعلى أعتابه تنكشف لها حقائق ميولاتها الأزلية منها والآنية، وهناك يعرف تعلقها.
وعند هذه النقطة سوف لن يحتاج المرء إلى كثير مشقة، حتى يتعرف على ما هو ومن هو الإمام، منبثقاً من هذه المعارف، من داخلها، حتى يتمكن بعد ذلك من المصداق الخارجي للإمام، والذي يتجسد عياناً في أشخاص قد اصطفاهم الله تعالى، لما في ذواتهم من ملكات اهلتهم لهذا الاصطفاء، ويكون الإمام في هذه الحالة، هو ملاذ النفس ومركز طمأنينتها ملتحماً مع كينونتها، معبراً عن حاجة الفطرة السليمة إليه، متجسداً ومتحققاً عياناً بمصداق إنساني موجود على الأرض.
فهو كامل، لأن الإنسان الذي بلغت نفسه هذا الصفاء، أحس بتعلقها بالجلال والجمال اللذين لا يخامرهما النقص.
ولمّا كانت الغاية الواقعية هي التعلق بالكامل، أبت النفس أن تميل نحو تعلق بالنواقص، وباعتبار إنّ معرفتها من ضرورات
____________
1ـ انظر: كتاب أسرار الآيات: صدر الدين الشيرازي، دار الصفوة بيروت ط1993، ص136.
ومن أجل تعيين هذه النتيجة نقول:
إن الإمام بهذا اللحاظ، سوف يكون الملجأ الإنساني، ويكون ملاذ البشرية جمعاء، لا ينحصر في فئة ولا في قوم من الناس، ولا يقتصر وجوده على مكان، ولا ينبغي أن تخلو الأرض منه ليوم واحد لا في القديم ولا في الحاضر ولا في المستقبل، وبالتالي فهو مركز الهداية إلى الله سبحانه، وبمثل هذا التعيين تظهر لنا دلالة قوله تعالى: (من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)(1).
بعد هذه النتائج التي بلغنا إليها، نلتفت إلى أنّ الإمام الذي اتضحت بالنسبة لنا ماهيته هو بالضرورة مصطفى من قبل الله تعالى، مجعولاً في الناس أبداً، وهو غير القادة والحكام، وإن كانت من ضمن ملكاته هذه الوظائف العادية، وليس هو بالحاكم العسكري، ولا رئيس الدولة، وليس صاحب شأن دنيوي من هذا النوع أو ذاك،
____________
1ـ الكهف: 17.
ونشير هنا إلى أنّ معرفته عياناً تنطلق من معرفة النفس التي تفيد معرفة الحقائق المتعينة في الأحوال، لذلك جعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)معرفة الله مرتبطة بمعرفة النفس، فإذا كانت معرفة الله أشد وأكثر أنواع المعارف احتياجاً للصفاء وعدم الاختلاط والتداخل بينها وبين هذه المعرفة، أي عدم قطع طرقاتها بما يشوب مسيرتها، فإنّ معرفة الإمام من نفس الجانب ومن ذات المتجه الذي يسار به نحو معرفة الله.
يقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) "من عرف نفسه، فقد عرف ربه"(2)، وسأل رجل النبي(صلى الله عليه وآله) قال: يا رسول الله: كيف الطريق إلى الحق، فقال: "معرفة النفس"(3) وفي كلام لعليّ(عليه السلام): "معرفة النفس أنفع المعارف"(4)، وللباقر(عليه السلام): "لا معرفة كمعرفتك بنفسك"(5).
ونجمل جميع هذه الأقوال تحت قوله(عليه السلام): "ومن عرف نفسه، فقد
____________
1ـ أنظر انجيل متّى: 10/7، من التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس.
2ـ عوالي اللآلي للأحسائي: 4/102، بحار الأنوار للمجلسي: 2/32.
3ـ أنظر عوالي اللآلي لابن أبي جمهور: 1/246، مستدرك الوسائل للنوري: 11/138 (12643).
4ـ أنظر غرر الحكم للآمدي: 9865.
5ـ أنظر تحف العقول لابن شعبة: 286، بحار الأنوار للمجلسي: 75/165.
إنّ هذا التلازم يلتقي بالدقة عند منطقة الفطرة، لأنّها المكان الذي يجتمع فيه العلم الأوّل الذي تنزع نحوه الحاجات والميول، فالمراد أنّ المعرفة كامنة في جوهر النفس، وأنّ جميع الأعمال الجارية من أجل أصلاحها وهدايتها، هي سائرة نحو هذا المتجه، وإنّ الذي ينبغي أن تبذل من أجله كلّ جهود المعرفة، هو أين تجد ملاذها، وتطمئن الاطمئنان كله، وإذا بلغت بنا النتائج هذا المكان، وقيل أين هو؟ أو في أي جهة أو طريق ينبغي أن تتجه بنا الآليات المعرفية حتى نوجهها نحو الأمام؟ وما هو المصداق على جميع هذه الأُطروحة؟ فإن هذا سيحيلنا إلى تناول الإجابة عنه في البحوث القادمة.
____________
1ـ غرر الحكم للآمدي: 8949.
2ـ انظر: نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.
الفصل الثاني: بين الإمامة والقيادة
بعد أن اتضح لنا أنّ الإمام هدف تسعى نحوه الذات، ينبغي لنا أن نفرق بين الأمرين التاليين، لأنّ عدم الالتفات إلى الفوارق بينهما يعيق حركة الفكرة، أو يحرفها عن مسارها الذي تسعى نحوه.
الأمر الأوّل:
أن لا ينفصل مفهوم الإمامة عن شمولية الإمام وأن لا يتجزأ هذا المفهوم، وسنوضح ذلك فيما بعد.
الأمر الثاني:
التيقن من أنّ الإمام حاجة تسعى الذات البشرية نحوها بالفطرة، لتلمس هديها بجميع أبعاده، وليس يصح فيها العكس فيما نرى.
وبعد أن يتم هذا التفريق، وتتم معرفة هذين الأمرين، يمكننا أن نستوضح أبعاد كل منهما بحسب مقتضيات هذا المبحث.
أمّا عن الأمر الأوّل الذي يتناول ربط مفهوم الإمامة بمعناه الشمولي فإنّ أقرب معادل نجده له هو (المثال) في المصطلح الفلسفي، والمثال يساوي الكمال والغاية الأسمى التي تحدّد نزوع وسلوك ونشاط الفرد والجماعة(1)، إنّ هذا المثال يتموضع داخل كل رغبات الإنسانية مهما جفت وخفت بريق صفائها، وهو يلهم الناس ويعبئهم
____________
1ـ معجم المصطلح الفلسفي، توفيق سلوم: 427.
وسائل معرفة الإمام
الهداية
أبدأ من معرفة الإمام ـ الذي استحوذ على هذا المعنى ـ وهو أمر بحاجة إلى دأب خاص، وإلى إخلاص منقطع وراء هذا الدأب، ولهما أن يدومان باستمرار، أي أن يبقى القلب ملتفت دائم البحث، حثيث الخطا حتى يتحقق له ذلك، وفي حال الوصول إلى هذا الدأب، ومع التيقظ الحقيقي والانكشاف على الرجاء، والشعور ببلوغ لحظة الالتقاء بالجاذب المحبب لديها، يبلغ المرء مبلغاً يتمكن معه من الهداية.
والهداية بهذا المعنى
لذلك لا تنبغي المغامرة بها في عدم البحث عن الغاية المرجوة منها، أو الاستجابة والامتثال لدافع التعلق بالمثال ـ أي الإمام ـ وهذا الدافع رافق البشر منذ بدايات وعي الإنسان، وهو الحافز الأشد توثباً في ملاك الدخول إلى عالم الهداية، الذي يصدقه قوله تعالى: (من يهد الله فهو المهتدي)(2)، فالهداية بجميع أشكالها منوطة ببذل الجهد للاستحواذ عليها، وعدم بذله موجب للضلالة، وفيه قوله تعالى: (ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)(3) فالربط القرآني بين الهداية وبين الخسران ربط يدفع إلى التأمل!
فمن المعروف أن الله سبحانه عادل، وليس من العدل أن يمنح الهداية بأمر منه لهذا الإنسان ويحجبها عن ذاك، وبالتالي فإنّ البحث
____________
1ـ الكهف: 103 ـ 104.
2ـ الأعراف: 178.
3ـ الأعراف: 178.
نأخذ مثلاً قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)(1)، فمن بعض خلقه خلق سبحانه الهداة، وهذا البعض متزامن مع خلق سائر إلى منتهاه، وهم بينون واضحون غير خافين خفاءً يمنع الباحث من الوصول إليهم، وفوق ذلك فهم يباشرون الناس دعوتهم إلى الحق، وما هو هذا الحق الذي تهدي إليه هذه الأمة؟ ومن هي هذه الأمة؟
دعونا أولاً ننظر في جنبات الحق، فالحق هو ضدّ الباطل وكل ما هو باطل غير قادر على الاقتراب من مقام الحق، ومن الباطل مخالفة الفطرة السليمة التي تحفز في الإنسان تلك المقدرة على السير نحو الكمال.
يقول "صدر الدين الشيرازي": "جعل الله لكل شي كمالاً ينساق إليه بالطبع"(2) وبالنسبة لبني البشر، فإنّ الحق غاية تنشد لذاتها أوّلا، ولإكتمال بلوغ الغرض ببلوغها، وأمّا الذي يسوق إليها فهو الإمام، وإنّ الطبع هو فطرة وبديهي أنّ الغاية إزاحة الأذى وجلب المنفعة
____________
1ـ الأعراف: 181.
2ـ أسرار الآيات: م. ص. 175.
الأمـة الهـداة
لقد استخدم القرآن الكريم لفظ الأمة في مواطن عديدة، واللافت للتأمل أنّه أطلقها على تجمعات بشرية وغير بشرية، فقال في غير البشرية: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)(2) وهي هنا في معنى الجماعات التي تجمعها خصال مشتركة في الجنس والنوع، لكن عند استخدامه لها في معرض حديثه عن الجنس البشري، فإنه يطلقها شاسعة، حتى يكاد الباحث أن يلتمس منها عدّة مفاهيم، وتخوله هذه المفاهيم أن يجري مقاربات ترشده إلى أحكام دائرة الفكرة حول كل استخدام على حدة.
هذا يعني عدم إمكانية استعمال كلمة (أمة) ضمن مفهوم واحد موحد تبنى عليه نظرية أحادية الطرح، إنّما يتعدّى ذلك ليتسع أمام الباحث المجال، في تقريب يوازن بين الأمة الهداة، والأمة التي
____________
1ـ المصدر نفسه: 157.
2ـ الأنعام: 38.
ونقسّم هنا هذا الأمر إلى ثلاث أقسام:
أ - عند استعراض الآيات الكريمة التي تستخدم كلمة أمة، في معرض إطلاقها على (فئة) من الناس، نجد قوله تعالى: (ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله)(1)، أو قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف)(2) وهنا مثلاً قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)(3).
هذا ليس للحصر، لكن الملاحظ من استخدام كلمة (أمة) هنا أنها أتت للتدليل على (فئة)، ولهذه الفئة خواص بالإمكان التعرف عليها، فهي تقترب تقريباً بمجموعها من مفهوم (الفئة المؤمنة) ففي الآية الأُولى: (أمة قائمة يتلون آيات الله) في التفريق بين الانتباه الذي قام عليه الإيمان، وبين الغفلة التي يحياها من لم يبلغه، أي الإيمان منهم ليسوا سواء و(قائمة) هنا بمعنى مستمرة، أي لا تنقطع.
وفي الشاهد الثاني، نجد الخطاب يتجه نحو قيام فئة، أو الطلب لقيام فئة بالدعوة إلى الخير، أي بإيقاظ الغافل وتوجيه جنانه نحو
____________
1ـ آل عمران: 113.
2ـ آل عمران: 104.
3ـ البقرة: 128.
وفي الشاهد الثالث: نلاحظ طلب إبقاء النعمة على من بلغت به مبلغاً بات يخاف على نفسه أن يمتحن بها، بل وهو راغب في استمرارها في ذريته، حيث يتضح ذلك الشعور الإنساني العميق، شعور التعلق بالله تعالى والاستسلام له، واستمرار هذا اليقين في الذرية التي تليه.
في هذه الشواهد الثلاثة التي استخدم القرآن الكريم فيها مصطلح الأمة نقف على شراكة فيما بينها، وهي شراكة تفيد أنّ استخدامها للتعريف بفئة مؤمنة، إضافة إلى شواهد أخرى لا يتسع المجال لحشدها هنا.
ب ـ عندما يطلق القرآن هذا المصطلح على الجماعات بصفة عامة، فإننا نلاحظ أنّه يطلقه على أكثر من مفهوم، وفي الغالب يستعمله للتدليل على أنّ الأكثرية ليست ليّنة الرأي، بمعنى أنّ أُممّاً تخلو وتزول وهي ليست على الهداية، بحيث يمكننا أن نستنبط من خلال جملة من الآيات الكريمات فهماً يدلّ على أن الهداة دائماً قلة، بل يمكن استدراج هذا لفهم وتضييقه لجعله منحصراً في نماذج معدودة وصولا به إلى أفراد بعينهم!
والذي نرغب في قوله هنا، هو أن استخدام مصطلح (أمّة) في القرآن الكريم، يتراوح ما بين (الفئة) و(الجماعة) و(الأفواج) ويمكن تأطير كل تسمية من هذه الاسماء بعدّة آيات تدلّ عليها، وقد أجرينا نموذجاً على ذلك.
ج ـ وهنالك احتمال آخر أفصحت عنه آيات كريمات أيضاً، وهو إطلاق هذا المصطلح على أفراد بعينهم، مثل قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً)(4) وقد استخدمها المفسرون هنا ـ أي أمّة ـ بمعنى القدوة والمعلم، وهي صفة من صفات إبراهيم، وليست هي الجامعة لصفاته، بل أنّ جامع صفاته هي في كونه
____________
1ـ الأنعام: 42.
2ـ النحل: 63.
3ـ الاحقاف: 18 4ـ النحل: 120.
إن استخدام مصطلح (أمّة) فيما يخص إبراهيم هنا في الآية الأولى، يقبل أن يستند على مصطلح (إمام) الذي أوردناه في الآية الثانية، وهما يشتركان في جذر لغوي يفيد الأصل في الشي أو في الأمر، وفي كلتا الآيتين ما يشير إلى بلوغه رتبة عالية هي مقام الرفعة الذي منحه الله تعالى إياه، وهو ما أطلقنا عليه إجرائياً (المثال) أو الملاذ.
وتلخّص الآية الكريمة حقيقة إبراهيم(عليه السلام)، إذ جعل من قبل ربه مركزاً لهداية الناس وهذا المركز هيهات أن يزول، إذ زواله يستوجب زوال إمامة الناس، والواضح من كثافة الجملة التي أطلقها القرآن الكريم أنها سرمدية، بمعنى أنها ليست لفئة دون أخرى فهو للناس وليس لأمّة خلت.
لكن إبراهيم الإنسان البشري مات، فإلى أين تؤول هذه الإمامة، وهذه المركزية؟
إنّ هذا السؤال الكبير سوف يقودنا إلى متابعة مفهوم الأمة الهداة،
____________
1ـ البقرة: 124.
المثال عبر الزمان ـ الإمام ـ
نود أوّلاً أن نشير إلى أن علماء النفس وعلماء الاجتماع متفقون على أن الإنسان يمتلك في أعماقه ما يمكن أن يطلق عليه (غريزة التدين)، أضف إلى أنّ علم الآثار المهتم بالحضارات الإنسانية الموغلة في القدم والعائدة إلى بدايات نشوء الإنسان، أفصح ـ بالاستناد إلى ما تركت هذه الحضارات من دلائل آثارية ـ عن عدم خلو ذهنه من إيمان أو معتقد روحي يرمز إليه بشكل من أشكال الرموز(1).
____________
1ـ انظر للتوسّع بصدد هذه مسألة استقرار الإيمان في عقائد الإنسان من خلال دراسات حضارية متنوعة منها على سبيل المثال: د. جواد علي، المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت دار العلم 1969، ميديكو اللآلي من النصوص الكنعانية، بيروت 1980، ول ديورانت، قصة الحضارة، الجامعة العربية 1949، الأب جرجس داوود، أديان العرب قبل الإسلام، فيليب حتَّى مطول تاريخ العرب، الكشاف 1952، حتي فيليب، خمس آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى، عفيف بهنسي، وثائق إيبلا، دمشق 1984، اولوف ارمان، ديانة مصر القديمة، ط البابي الحلبي، وهناك قائمة كبيرة من كتب الأديان والحضارات القديمة.
تقول هذه القطعة في معرض وصفها للبطل النموذج، كمعرِّف عن التطلع الإنساني في بحثه عن (مثال)، وفي كيفية فهمه منذ أقدم الأزمنة لمن يجد فيه ملاذه:
هو الذي رأى كل شيء
هذا المقطع من الملحمة البابلية، يرجع بطلها جلجامش إلى 2650 ق. م. وهي تحمل بين أوراقها أفكاراً سومرية وأخرى أكثر قدماً، تعبر بمجموعها عن تعلق الإنسان بمن هو كامل، بالذي يتصف بصفات لا تملكها إلاّ آلهة بحسب مفاهيمهم، منها المعرفة الشمولية (رأى كل شيء)، أي عدم غياب شيء مهما صغر أو كبر عن ملكاته، عن بصيرته، وهو الذي (عرف جميع الأشياء) لأنه حكيم عارف مبصر لا تخفى عليه حتى الأسرار وما يكتم عن الناس، وهذا يذكّرنا بخطبة للإمام علي(عليه السلام) وهو يعظ الغافلين ويصوّر لهم حالهم في غفلتهم، ويشير إلى أنّه يعلم ويعرف خفاياهم، وأكثر من ذلك يقول(عليه السلام): "والله لو شئت أن اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت"(2).
ونحن هنا لا نجري موازنة بين النص البابلي وبين خطبة الإمام
____________
1ـ د. فاضل عبدالواحد علي، من الواح سومر إلى التوراة، ط دار الشؤون الثقافية، بغداد 1989، ص130.
2ـ أنظر: نهج البلاغة: الخطبة 175.
ـ فعند (جلجامش) يقول الراوي عن رمزه: "هو الحكيم العارف بكل شيء"، "لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة".
ـ وعند الإمام علي(عليه السلام): "والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت".
هذا التشابه، ليس تشابهاً صدفياً، بل أنّ هناك علاقة ناجزة في حقيقة الأمر، بين تعبير أطلقته نفس تعبر عن احتياجاتها، وترسم الصورة التي تعتبرها مكمن الغاية بالنسبة لإمامها.
ـ ويجب أن لا ننسى أنّها صدرت على شكل عمل أدبي راق، والذين يهتمون بالأدب يعرفون كم هو عميق الغور، ذاك الشعور الذي ينطلق من الوجدان كي يعبّر عما يختلج داخل النفس.
كما يجب أن نتذكر أنها سبقت عليّ(عليه السلام) بأكثر من ثلاثين قرناً من الزمن، ولو أردنا أن نحضر شواهد أخرى فإنّ الكتابات المصرية القديمة وحدها تحتاج إلى أضعاف أضعاف ما نحن بصدده، لكن كانت الغاية فقط إيراد أنموذج مواز للفكرة التي نبحث عن دلالاتها،
ـ وإنّه إن لم يصل، فيكتفي بتقديس شخصية تعبّر له عنها، والواقع أنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الله.
وهذا الأمر لا يفوتنا الالتفات إليه (يبحث عنه بفطرته وباحساساته).
يقول مرتضى مطهري: "إنّ من أرفع غرائز الإنسان واحساساته حسّه الديني، وفطرته في البحث عن الله"(1).
وهذا هو المجال الحيوي الذي تتحرك من خلاله قوى الروح نحو جاذبية فوق أي احتمال، لكن الواضح أن الإنسان في رتبة لا تؤهله لبلوغ هذا المقام، وإن قال عدد من الأفاضل بحصوله عن طريق الشهود الذي ينطلق من شهود النفس.
يقول الطباطبائي: "فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله إلى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض، أي وصوله إلى كماله الأخير ذاتاً ووصفاً وفعلا أي فناؤه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه، هو التوحيد الذاتي والأسمي والفعلي، وهو تمكنه من شهود أنه لا ذات ولا وصف ولا فعل إلا لله سبحانه، على الوجه اللائق بقدس حضرته
____________
1ـ مرتضى المطهري، معرفة القرآن ج1، ت، جعفر الحلي، ط طهران، 1402، ص82.
ـ والواقع أنّ ذلك لا يكون، بل أنّ الله سبحانه يجعل الطريق إلى معرفته طريق قلب وعقل، فيرسل الرسل ويقيم الحجة، من أجل بلوغ الإنسان جادة الطريق الذي لا يعرفه حق معرفته غالباً بدون هاد، والطريق هو كما سبق تفويت فرصة التحول بالحقيقة الإنسانية إلى أمر آخر سواها، كي لا يصاب الإنسان بتعدد العبادات، أو بتعدد المعبودين، فينحرف عن التوحيد الذي هو زبدة الرسالات السماوية.
ـ وحين يتبين لنا عدم التعلق بما هو غير ذلك، وكي لا يتوهم المرء أنه يتبع رسولا بعدت المسافة الزمنية بينه وبينه، فينحرف عن سواء المعرفة، جعل الله سبحانه أئمة يهدون إليه.
ـ وإذا كنا قد اتخذنا من إبراهيم(عليه السلام) نموذجاً لهذه الإمامة، فلأن الآية المباركة حملت العهد على الإمامة وجعلتها شاملة للنبوة والخلافة(2) فيما يتطابق على المثال، الذي يرغب الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ في إدراك هديه.
ـ وعندي أنّ الإمام الذي يرفعه الله ويجعله قيماً ومركزاً يشع نوره على البشرية لا يختلف عن كتاب الله في شيء، لاشتراكهما في
____________
1ـ رسالة الولاة، م. س. ص59.
2ـ أنظر: روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، الآلوسي: 1/375، وما بعدها.
بهذا يكون الإمام (المثال) مجعولا في هذه المرتبة من قبل الله عزّ وعلا، وهو بخلاف الآراء التي تنظر إلى الإمام عليّ(عليه السلام) أنّه الزعيم أو القائد الذي يملك زمام السلطة السياسية، أو إدارة حكم بلد معين، أو حتى فقيهاً نال رتبة من العلم بجهد ونباهة.
نعم يمكن استخدام مصطلح (إمام) في هذا المقام للدلالة على قيادته، من أم القوم أي رأسهم، لا لفضيلة الهداية التي اختص فيها الله أولياءه الذين هم صفوته، والذين فيهم الحفاظ على هداية الناس إلى دين الله من جهة، وحملهم على الطريق الذي ينالون به سعادتهم الواقعية في الدنيا والآخرة، لأنّ جدارة الشخص في ممارسة السلطة والتطبيق لا يعني مجال الشعور بإمكانية نصبه إماماً فكرياً ومرجعاً أعلى بعد القرآن والسنة النبوية(3).
____________
1ـ الأحقاف: 12.
2ـ أنظر: وسائل الشيعة للحر العاملي: 27/34 (33147).
3ـ أنظر: بحث حول الولاية، للسيد محمد باقر الصدر.