وثمة قبل الخروج من هذا المبحث السؤال التالي:
إذا كان الله سبحانه يأمرنا أن لا نخالف ما يأتي به الرسول(صلى الله عليه وآله)إلينا، ما يلقّنا إياه وما يأمرنا به، وما ينهانا عنه، فكيف لنا أن نتعرف على جميع ما أمرنا به، وأنه كما يعلم الناس، قد نشب خلاف في تناول حديثه وروايته بين المسلمين، ابتداء من عصر وفاته عليه وعلى آله السلام؟!
ونحن محكومون بالالتزام بطاعة الله وطاعته، والذي لا نشك
____________
1ـ أنظر وسائل الشيعة للحرّ العاملي: 16/246 (21475)، وورد كما في صحيح مسلم ومسند أحمد ومعجم الطبراني: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية) و(من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
إذن المسألة ليست في مكان القرابة! إنّ هذه الآية الشريفة تلفت أنظارنا إلى أن ما أتاناه الرسول(صلى الله عليه وآله) والذي نؤمر من قبل الله تعالى بالأخذ به، هو متوفر، لكنه يحتاج إلى تدبّر كحاجة الناس إلى تدبّر القرآن، وأنّه لم يختف كلية عن الناس، وإنّما هو في مقام النور الذي يجب أن يُخرج الإنسانُ بسعيه نحوه قلبه من ظلمات الضلال ويدخله في شرائح النور، هنالك سوف يلقى إمامه، الذي يسلمه تفاصيل الأخذ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وينهاه عن منتهياته.
ويطيب لي أن أختم هذا القسم بحديث يروى عن هاد من هداة آل محمد(صلى الله عليه وآله)يقول: (لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم، وإمام زمانه، ويردّ إليه ويسلّم عليه، ويسلّم له، ثم قال: كيف يَعرفُ الآخر وهو يجهل الأوّل؟...)(1).
____________
1ـ أنظر: الكافي للكليني: 1/180.
القسم الثالث: الطريق إلى علي بعلي
في القسمين الذين أُنجزا بحثنا عن معرفته(عليه السلام) من خلال الاستنتاج والاستدلال، ومن خلال كلام الله سبحانه وكلام رسوله(صلى الله عليه وآله)، وصلنا إلى أنّ الله سبحانه قد أجرى في الناس سنته، وليس لأحد أن ينازع الله سنته، وقضاء رسوله قضاءهما، فما لمؤمن أو مؤمنة أن يختار.
وبذلك تبيّن لنا أن الرعاية الإلهية قد حفت أمّة محمد(صلى الله عليه وآله) بإعلان إمامة عليّ(عليه السلام)في الناس، استمراراً لهدى الله تعالى وإبقاءً لنوره، وأن من عمل على إطفاء هذا النور خبا وذهب في مترديات الظلمة، ومن شرح الله صدره لهداه، أخذ بناصية فؤاده، وساقه من حيث يستقر الإيمان في قلبه، ويرد على حبيبه المصطفى يوم لا ينفع مال ولا بنون وقلبه مشتعل رغبة وحبّاً وأمان، فهو على حوض المختار، يسقى مياه أهل الجنة، ويتراقص في نفسه النور فيجلب الخير لها، فقد انكشفت أساريره عن هدي محمد باعتناق الإسلام، وذاب قلبه
ونحن هنا سوف نقصد الطريق نحوه(عليه السلام)، من خلال كلماته التي أرسلها منذ ذاك العهد في الناس، وما تزال تسري في دياجي الظلمات تكشفها، وتضيء جنبات الكون، لكن الذي لم يمكّنه الله تعالى من إدراكها لم ينل حظه من العيش معه بعد، ونسأله جلّ جلاله، أن يقيّض لجميع أمّة محمد(صلى الله عليه وآله) وللبشرية أن تنفتح عيونها على هديه، وتستلهم خلاصها منه، فإنّه كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "لا يُدخلها في باطل، ولا يُخرجها من حق"، بل أنّه فاتح آفاق الأنفس على كوامنها، ورافع نور الله فوق كلّ ظلمة بمنّ منه سبحانه، لا بسواه.
والذي يدعو إلى التأني والتأمل في استعراض كلامه، ليس البلاغة التي يتمتع بها كما يتصور البعض، فما كان ليدركه النقص(عليه السلام)، وحتى يبحث عن الكمال، فالبلاغة ليست فضيلة أو إضافة إلى إمامته، بل إنها من مقتضياتها، بذلك نحن وإن راعنا جمال أسلوبه، وأخذ بلباب أفئدتنا حسن تناوله للمفردات، لكن هذه ليس بذاتها الهدف من الاستدلال عليه بكلماته، وإنّما الهدف فوق ذلك، إنه استلهام نوره من أجل إزاحة ظلمات عَلَتْ الأفئدة، وكذلك استدراك
بهذا نحن نقف قليلا مع ما يذكره عن أهل البيت الذين يدور معهم في فلك محمد(صلى الله عليه وآله)وينسج معهم على منواله، فيأخذ منهم ويعطيهم، ويتبادل معهم سرائر الكون، ويكشف للناس خبايا مستقرهم ومستودعهم، وطرائق عيشهم وسعادة أوقاتهم، مثلما يزجرهم ويردعهم عندما ينظر فيراهم على غير الجادة، لعمري كدفع الوالد ولده على اتيان حياض اللذة غير النافعة، وعدله إلى طرقات الفوز والخلود.
كفاية الإمام
من المعروف في جميع الأوضاع أن صاحب الحاجة يذهب نحو من لديه هذه الحاجة فيطلبها، وإن كانت هذه القاعدة في شؤون الدين أقل تحققاً، فالمعروف أن الرسل لا حاجة لهم في الناس، بل للناس حاجة إليهم، يهبطون إليهم ليبلغوهم رسالات ربهم، وكذلك الإمام، فإنه ينطلق في الناس معبراً عن حاجاتهم، رغم أنهم هم الذين في الواقع يحتاجون إليه.
وفي الكثير من الأحيان يتعرض (المثال) إلى هجمة من قبل أعداء النفس، بأي شكل من الاشكال، بقصد البغي في الناس،
فقد يجتمع الناس على إمامهم، ثم ينقلبون، وتأخذهم نوازع الشياطين ولا يدرون بعد ذلك مصيرهم، فيخطؤون ويسيئون لأنفسهم، ومنهم من يتوب عن ذلك، ومنهم من تأخذه الحمية، حمية الجاهلية، فيسقط في امتحان الخلاص، ويدخل شرك الضلال.
ويوجد في كلام الإمام مثل هذا التعبير عندما يذكر الناس الذين اجمعوا على قتاله(عليه السلام) مثلما أجمعوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1)، لكن ثوب الإمامة الذي حباه الباري عزّ وجلّ به ينطق لسانه بقوله: "لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة، ولا تفرّقهم عني وحشة"(2).
وقد آثر الناس مخالفة طبائع الحق، ليس عن قصد في الغالب، وإنّما عن عدم خضوع، إمّا لكبر في النفوس، وإمّا عن مراودة الشهوات، ولو لم يكن ذلك لوجدنا الحق يجري فيهم مجرى التنفس منذ خلق الله الناس، وما من حاجة إذن لترادف المرسلين، ولا من
____________
1ـ أنظر بهذا الصدد: الخطبة (172) من ترتيب خطب نهج البلاغة.
2ـ أنظر: نهج البلاغة: كتاب 36.
اللهم اجعل القلب لا يفتقد نورك، وامنن عليه بلطف منك، أدخله مداخل النور عن بصيرة وأبعد عنه ظلمات العمى، وتغمده بوافر مَنِّك، واجعل له في معرفة إمامه من لدنك سبيلا، لأنّ هذا لا ينال إذا انقطع حبل رحمتك، وغابت عن العناية به آيات فضلك، ومن يبتغ غير ذلك السبيل، فإنه لن يجد له ولياً مرشداً.
إنّ معرفة الطريق إلى عليّ(عليه السلام)، يلزمها المزيد من الانفتاح على أبواب الحكمة، ليس لغيابه أو لصعوبة معرفته، حاشاه فهو الذي لا يفارق القرآن، ولا يشتبه في أنه ميزان الفصل بين النفاق والإيمان،
____________
1ـ أنظر: تفسير القمي: 2/138.
وكما قلنا، ذاك شيء في طبائع الناس، ولولا ذلك لما احتجنا لتكرار الرسل وتواترتهم، وقيام الهداة واستمرارهم، وهنا نقول:
إن الطريق الذي يفتح منه لنا باباً على الحق، ينقسم بحسب هذا المبحث إلى عدّة أقسام.
ونبدأ القسم الأوّل بالكيفية التي ينظر فيها الإمام عليّ(عليه السلام) إلى نفسه، وكيف ينقل لنا وسائل التعرف عليه، والتماس هداه.
وسنلج في كلماته التي حملتها إلينا الأسفار عبر التاريخ، ومنها سوف نلحظ مشهد الحق ونعاينه، ونطرق باب النور، فينفرج ما بين قلوبنا وبينه ما يجعل قلوبنا تطمئن بذكر الله تعالى، وتخشع رغبة في حنوه.
ننظر هنا إلى كلماته يخاطب فيها الناس، وهو قائم مقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) يعلمهم ويعظهم ويميل إليهم بارتياد ثوب النجاة من الفتن، ولا يترك مطرحاً إلاّ وشغله بإلفاتهم إلى نور الله تعالى يقول: "والله ما
____________
1ـ أنظر: ينابع المودة للقندوزي: 1/90، النهاية لابن الأثير: مادة (قسم)، بصائر الدرجات للصفار: 191.
2ـ أنظر: ربيع الأبرار للزمخشري: 1/488، كشف الخفاء للعجلوني: 2/350 (3180) نقلا عن مسلم والترمذي والنسائي، وغيرهم.
لن يحتاج المتأمل في هذه الكلمات إلى مزيد تدبّر، كي تنكشف عليه حقيقة ما يؤديه، فعلي(عليه السلام) الذي ما أقسم بالله إلاّ صادقاً، يقول للناس: إنّ المسافة التي تفصلكم عن آبائكم الذين كانوا عندما بعث الله نبيّه(صلى الله عليه وآله) يغرقون في متاهات الضلال، ليست بمسافة بعيدة، "ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد"(2)، وأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قام فيهم، فأزاح عنهم ظلمة الضلال، وأضاء قلوبهم بنور ربّه وكلماته، وانني الآن أقوم فيكم ذات المقام، وأودي رسالته، اسمعكم ما أسمع النبيّ آباءكم، وأكشف عن بصائركم.
والذي يجرؤ على قول كهذا، لا يسعه أن يكون مدّعياً، وهو على رأس أمم من صحابة نبيّ الله(صلى الله عليه وآله)! كذلك لا يسع المدّعي أن ينفرد بإتيان الناس مذكّراً ما كان عليه آباؤهم من جاهلية، ومنفراً إلى الله ورسوله بمثل ما نقرأ عن عليّ(عليه السلام).
لكن الإمام هنا، يؤكّد الإشارة إلى أنّه حامل راية الحق، التي تتوارثها الأنبياء والرسل وعند غيابهم تكون في يد الأئمة الهداة، والإمام عليّ(عليه السلام) يبيّن دائماً بأنّ آل محمد في زمن الإسلام هم حملة
____________
1ـ نهج البلاغة: خطبة 88.
2ـ المصدر نفسه.
"لا يقاس بآل محمد(عليهم السلام) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة"(1).
دعونا ننظر هنا في الكيفية التي يعرّف فيها الإمام عليّ(عليه السلام) بآل محمد، وبالطبع هو قطبهم، إنه يشير إلى إمامتهم للناس، ليس تلميحاً، بل مثلما قال فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) تصريحاً "لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه"، الله سبحانه يتفضّل على الناس بأنه أنعم عليهم بمحمد(صلى الله عليه وآله)، ويجري فضله في آل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وان الذي يتحدّث هو الإمام كاشفاً عن القلوب أغطيتها، يرسل كلامه في الناس، منذ تحدث إلى يوم يبعثون وقد حفظ الله كلامه هنا للناس، على الرغم من أنّ الأزمنة تدور على الدول، ولما لم تكن للإمام دولة، بل كانت روح الهداية، فقد انزاحت الدول وبقي نور الله يسري في فلوات الأزمنة.
وهنا مكمن الفرق، بين الإمامة وأصناف الزعامات التي تحدّثت عنها في أماكن مختلفة في أنحاء هذا الكتاب.
والذي يجاهر بإمامته للناس وفق هذا المفهوم، ليس أحد غير
____________
1ـ المصدر نفسه: خطبة 2.
ونعتقد أن الإمام في سياق تناوله للتعريف بنفسه، لا يقول هذا إلاّ إذا كان للحديث موجب، وهذا الموجب هو لكل من يأتي من بعد هؤلاء القوم الذين لا يجهلونه، وإنما تقودهم عنه أمور الدنيا التي تحول بين المرء وربّه.
فلا يظن أحد أن الإمام عليّ(عليه السلام) يتحدّث في تينك الأزمنة، كي يقف الناس على مكانته، وإنّما يتحدّث كي تسير في الناس حقيقته، التي يريد أهل الضلال اطفاء نور الله تعالى بأفواههم، إذ عملوا على اخفائها، لكن الله سبحانه يأبى إلاّ أن يتم نوره، فينطق أثر ذلك(عليه السلام)، دافعاً الشبهات مقيماً للحق، يقول:
"فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأُمور، وحوازب الخطوب"(1).
إن الذي يدعو الإنسان إلى التفكّر في كلام الإمام، ليس البحث عن أحقيته بالخلافة مثلما يظن، أو عند انزاله الزعيم في الناس، لكن
____________
1ـ المصدر نفسه: خطبة 92.
فهو العارف بكل شيء "علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب"(1) وهو الذي عرف خفايا الكرامات التي استودعها الله أهلها، فهو من رسول الله(صلى الله عليه وآله) "كالصّنو من الصّنو، والذراع من العضد"(2).
وهو العارف الذي لا يخفي معرفته عن مأموميه بخاصة في شؤون حياتهم، وإذا رغب الإنسان منا في الإطلاع على الكيفية التي يتعامل فيها الإمام علي(عليه السلام) مع الحياة الدنيا، فإنه سوف يقف على كون من المعارف لا تطال أطرافه همة، ولا تصله عزيمة.
لننظر هنا على سبيل المثال طريقته(عليه السلام) في التعامل مع الدنيا، وفي تعليم الناس الكيفية التي تنبغي فيها التعامل معها.
عليّ(عليه السلام) والكشف عن الحياة الدنيا
ما نزال نجري تأملاتنا في ما أعطاناه أمير المؤمنين من مفاتيح الدخول إلى عوالم هديه والتعرّف عليه.
____________
1ـ أنظر: دلائل الإمامة لابن جرير الطبري: 235، البحار للمجلسي: 30/672.
2ـ نهج البلاغة: كتاب 45.
فإنّ الإجابة تكون: إنّه بها وبكلام نبيّنا ووحي ربنا نعرف الطريق إلى نور الله، ونعرف الطريق إلى مصداق الإمامة التي هي المنجاة، والملاذ، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية فإنّ الذي يقودنا إلى هذا الأمر، هي ألوان التقريب والتأخير في تناول أوضاع العيش، من لدن معلم رفع رسول الله(صلى الله عليه وآله) شأنه عند قوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"(1)، وعلى موازين الصراط تشهد الحقيقة انسيالها، ويتأهّب لها المرء في الحياة الدنيا، وهي بحسب المعلم الإمام "دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن تعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته"(2).
يحسن أن يبحث القارىء في أطراف الكتب عن سيرة علي(عليه السلام)، فهو بحاجة إلى اجراء مطابقات، حول هل كان كلامه مطابقاً لحقيقته، أم أنّه كان يعظ ولا يتّعظ، فِعْلَ من قال شيئاً وأتى بخلافه، لأنّ الكثير من الناس يقولون ما لا يفعلون، والكثير من الناس يتخذون الدين مطية، والمعرفة وسيلة، يرغبون أن تحقق لهم الأمجاد، وتقودهم إلى زعامة العباد، والحق أن الانتباه إلى سيرته قد أخذ به الكثير من
____________
1ـ أنظر أمالي الصدوق: 425 (560)، تاريخ ابن عساكر: 42/379.
2ـ نهج البلاغة: خطبة 81.
إنما الذي نحن بصدده هو الوصول إلى هديه بهديه، لا بما قيل عنه وفيه، بذلك تتحقق غاية من ورائها رغبة في أن يكشف الله لنا عن بصائر، إدْلهمَّ عليها الخطب، ونالت منها عاديات الأيام، فكان أن عبث ببعض تلقينها للناس، إلى أن صارت المقارنة بين الإمام الهادي، والزعيم الجائر أحياناً، لا تفترق إلاّ في ما يقال: إن هذا ألين من ذاك، أو هذا أشد وطأة من ذاك، مع سعة الفارق بينهما، واختلاف الغاية من وجودهما.
وفي متابعة هذا التبيان حول الدنيا ـ والدنيا هنا هي ذاك المكان الذي يشغل قلب الإنسان، ويخفي خلف لذائذه أسوأ النهايات ـ يقول:
"فإن الدنيا رنقٌ مشربها، ردغٌ مشرعها(1)، يونق منظرها، ويوبق مخبرها، غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل، حتى إذا أنس نافرها، واطمأن ناكرها، قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبالها، واقصدت باسهمها، وأعلقت المرء أوهاق المنية، قائدةً له إلى ضنك المضجع، ووحشة المرجع"(2).
ينتقي الإمام للناس كلمات تعبّر لهم على المقدار الذي أوتوه،
____________
1ـ رنق مشربها وردغ مشرعها: أي ماءها كدر كثير الطين.
2ـ نهج البلاغة: الخطبة 82.
الدور الذي تلعبه مواعظ وتعليمات الإمام، ليس له أي منحىً دنيوي في الواقع، فهو يروض أنفس البشر، من أجل بلوغها دار المستقر، وهذه غاية الرسل والأنبياء وهو الدور الذي أتى به القرآن الكريم.
فإن الله سبحانه في كتابه يرسخ فكرة استبعاد الاستئناس لهذه الحياة الدنيا، ويوجه أنظار الإنسان وقلبه إلى حياة يخلد فيها، هي سعادته إن كان من السعداء وشقاؤه إن كان من الأشقياء.
وهنا أيضاً نقف على حقيقة أخرى من حقائق معرفة الإمام، وهي أنه لا يصدر عنه بالنسبة للناس عموماً، إلاّ ما ينفرهم من الركون إلى ما يخدع أمانيهم، ويقودهم بهديه إلى حقيقة ما تصبوا إليه نفوسهم، وإن كانت هذه النفوس غير ملتفتة دائماً، وغير متذكرة دائماً الأمر الذي هو بُلغتها ومنتهاها.
وباعتبار أن دار الدنيا فيها الزينة ـ والزينة هي الأشياء التي تضاف من أجل أن يختفي اللّباب، وتظهر بدائله ـ أي أنها ليست
والذي يقود إلى هذا، هو إلحاح الأنبياء والرسل والأئمة، كما والكتب السماوية على تطهير النفس من خداعها، والالتفات إلى صفاء السرائر، حتى يتمكن الهدى من طرق باب الفؤاد.
وهنا نجد كلام الإمام يهز في عمق الوجدان عن مكمن الفطرة، وإيقاظاً للعقل كي يدرك كيف أن التزود لحياة هي البقاء، هو جوهر انبثاق الإنسان إلى هذه الأرض وهذه الحياة، يقول:
"تجهزوا ـ رحمكم الله ـ فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مخوفة مهولة، لابدّ من الورود عليها، والوقوف عندها فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى"(1).
وكذلك كلامه مخاطباً الناس، ونريد أن لا يفوت القارىء أن الحياة التي قضاها الإمام علي(عليه السلام)، كانت كلّها في سبيل إزاحة الناس عن الباطل ودفعاً لهم نحو الحق، امضاءً لدين الله، وإذعاناً لنهج رسوله الكريم، وأداءً لوظيفة أنتخبه الله سبحانه لها، ولا راد لإرادة الله تعالى، ولا مبدّل لكلماته، وهذا يظهر بجلاء في كل مكان ينبئه فيه إلى أنه تفوّه(عليه السلام) بكلمة، أو قام بفعل، أو نهى أوامر أو عاتب، أو
____________
1ـ نهج البلاغة: الخطبة 204.
وفي ديمومة إعلانه في الناس عن وجوب عدم انهماكهم في حياة فانية، واقبالهم على حياة لا تزول، يقول:
"إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم"(1).
إن الدخول في عوالم الحياة الدنيا، دخولا يغلق البصر، ويمحي التعلق بحياة هي المستقر كثيراً ما يراود كلماته(عليه السلام) بل ولا تكاد تخلو من اشارة إلى حق، أو حرف عن باطل، وأن يتعامل معها تعامل الخصم، يعمل على طردها من قلوب المؤمنين، في كل سانحة فرصة ويجاوز في ذلك إلى أبعد، بل هو يعمل على اقصائها نهائياً، يقول:
"أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم"(2).
لماذا يجب أن تخرج القلوب من الدنيا يا أمير المؤمنين؟ يقول: لأنّها مكمن الاختبار الذي ابتليتم به، وإنما أنتم مخلوقون لغيرها.
ننظر هنا قوله: "ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم".
ما الذي بقي كي يقدم الإمام مفاتيح الرحمة، ويسحب الناس إلى مدارك النور، لعل الذي بقي هو أن ننظر إليه كيف يشير إلى خاصته وأهله في عدم امساكهم بحبائل الدنيا، ونلاحظ، أنه يخاطب الحسن(عليه السلام) ابنه مع أنه إمام، وهو كعلي(عليه السلام)، يستمد من رسول
____________
1ـ نهج البلاغة: الخطبة 203.
2ـ المصدر نفسه.
فإذا كان خطابه يتّجه نحو ولده، فإنه بما أوتي من ولايته على الناس، وهي سمه خصّه بها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مواقف عديدة، منها قوله(صلى الله عليه وآله): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه"(3).
والقول بعد هذا هو شيء من الضرب في الظلمة، لأن الإمام الذي يريق عمره لا من أجل نفسه، إنما قد ذرفها في الله تعالى، يقوم في الناس عالماً أنّهم سيخوضون في صراع معه وعليه، فقد يشتبه على ذي اللب أحياناً الحق، فكيف بمن قد أغفلت الظلمة لبه، بهذا نجده عندما يحاكي الإمام الحسن(عليه السلام)، ينظر إلى كل امرئ في هذه الأرض على أنه الحسن، ليست بدعة هذه، بل هي عين الحق، تظهر عند قوله:
"يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها،
____________
1ـ انفجرتم: دخلتم في الفجر، أي كنت قبل في ظلام: وصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا.
2ـ نهج البلاغة: الخطبة 4.
3ـ أدرجنا مصدر هذا الحديث في مكان آخر.
ننظر إلى كلماته هنا، فلا نجد أنه يفرّق في خطابه بين ولده وبين كافة أبناء الناس، فهو في كل مكان أنبأ الناس عن الدنيا وحالها، لم يخصص أحداً، وواضح هنا أنه لا يغاير دوره وطبيعته، فإذا كان قد أنبأه عن الآخرة، فإنه لم يخفها عن بقية البشر، وفي كل سانحة آثر فيها الكلام على الصمت، وسوف تجد ضياءه يشع بنور وحي الله تعالى، مع أهله ومع سواهم.
وما تزال الدنيا ترتسم في أعين الناس حسنة جميلة، وهو يزيح عن أعينهم غشاوات خداعها،ترى ما الغاية التي آثر من ورائها أن يشهر ذي فقاره عليها إن كان طالب ملك، فإنه حائز عليه، وإن كان طالب لشأن آخر من شؤونها، فهو في قبضته، فلماذا يحقرها ويصغرها في عيون الناس، رجالا ونساءً، عرب وغير عرب، مسلمين وسواهم، لذلك الوقت ولكل وقت.
تدلنا كلماته نحو الإجابة عن هذا التساؤل عند قوله:
"إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما ورائها شيئاً"(2).
وهذا هو عين الأمر الذي توقفنا عنده عندما أجرينا الموازنة بين الأعمى والبصير، ويتبيّن لنا هذا أنه يشاق الدنيا، لأنها في الواقع
____________
1ـ نهج البلاغة: كتاب 31.
2ـ نهج البلاغة: الخطبة 133.
وقد ترك رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الناس الثقلين، كتاب الله وأهل بيته، وقرنهم بأنّهم لن يفترقا إلى يوم القيامة، كما أجمع على أن الهداية من الضلال تكمن في التمسك بهم، عند قوله(صلى الله عليه وآله): "اني تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(2).
فتوأمة الكتاب وأهل البيت، ومساواة عليّ(عليه السلام) بمحمد(صلى الله عليه وآله) وفق المنطق الذي آثره رسول الله في الافصاح عن امامته(3) وتزكية الله سبحانه لهم في آية التطهير، جميعها من أدوات ذي اللب في تفهّم أن
____________
1ـ المصدر نفسه.
2ـ لهذا الحديث مصادر متعددة، منها سنن الترمذي: 6/125 (3788)، مسند أحمد: 3/17 ـ 26 ـ 59، مستدرك الحاكم: 3/323 (4634)، وهنالك مظان متعددة يمكن الرجوع إليها بخصوصه.
3ـ في غير الغدير هناك رسائل أفصحت عن حمل علي لراية رسول الله(صلى الله عليه وآله) منها: "قراءة البراءة على الناس، ومنها استخلافه في المدينة، ومنها اعطاءه راية خيبر الخ، ينظر على سبيل المثال تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي: 15 ـ 56.
وفي ختام نظرة الإمام إلى الدنيا، يطالعنا قوله(عليه السلام) في سياقة الناس عنها ودفعها عنهم، حيث يقول:
"فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنكم فيها الأمل، ولا يطولنّ عليكم الأمد"(1).
الحق أن الذي يؤثر حرب الدنيا بهذا المقدار من التبصّر، ويود لو أن الناس تنفتح قلوبهم على مغادرة مخادعها، بكل هذا الاصرار، وجميع هذا الالحاح، يجعل من المتتبع له، امرءً غائصاً في مياه الرحمة، تلك رحمة الله التي مدَّ الناس بها ببعث محمد(صلى الله عليه وآله) (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)(2).
وتتجسد هذه الرحمة أكثر ما تتجسد في خوفه على مخلوقات الله، خوف الذي كشفت له الحجب، وعرف كنه سرائرها، وميله الميل الأبوي بالغ الحنان والعطف والخوف عليهم، نلتمس طرفاً منه هنا، يقول:
"فوالله لو حننتم حنين الوُلّهِ العجال، ودعوتم بهديل الحمام، وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها كتبه،
____________
1ـ نهج البلاغة: خطبة 52.
2ـ الأنبياء: 107.
هذا حديث خائف على أمته، قابض على رسالات ربه، مدرك لحقائق الأمور، وإلى أين تذهب بالناس دنياهم، لقد همّ(عليه السلام) أن ينتزع الدنيا من قلوبهم انتزاع عدوه من مكمنه، ليس له في ذلك صالح سوى أن لا يرى في عباد الله بعد أن أيدهم الله بنور نبيّه الخير، وأن يستقيم أمر دين محمد(صلى الله عليه وآله)، الذي أفنى من أجل ارضاء ربّه به عمره منذ بدء خلقه حتى لقيّ وجهه شهيداً مخضباً بدمائه.
ودلالات خوفه على أمّة محمد(صلى الله عليه وآله) وسائر الناس لا تخفى على أحد، منصف كان أم غير ذلك، إنما لا يطلب الإمام أجراً جراء أدائه مهام هداية البشرية، ومعلوم أنه يريد للناس الحياة التي بها ينعمون بآخرة لا يغشون فيها ما وعد الله الظالمين، بل طريقاً مهدتها الرسل، وأعدها خاتمهم وأمسك بها وصية عليهم جميعاً أفضل الصلوات من الله تعالى.
يواصل تحفيز أناس للرهبة من مقام ربهم، لما في هذه الرهبة من رفاه لهم، فيقول(عليه السلام):
"أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش، واسبغ عليكم المعاش، فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، وإلى دفع الموت سبيلا،
____________
1ـ المصدر نفسه.