الصفحة 54

الشورى في الواقع العملي

هذا من جهة ومن جهة أخرى، أننا إذا تنازلنا عن كل ما قلناه في علي عليه السلام، ونظرنا إلى الشورى والإجماع الذي تحتجين به، فهنالك عدة إشكاليات على أهل السقيفة، وهي تتمثل في الريبة التي تلف زمان السقيفة ومكانها، حيث السقيفة لم تكن هي المكان الذي يصلح لانعقاد مثل هذا الأمر الهام جداً وكان من الممكن أن ينعقد في مسجد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وثانياً، الزمان الذي انعقدت فيه الشورى فأنه لا يخلوا من خبث واضح، فأن الرسول مازال مسجى لم يدفن بعد، فأي مسلم له غيرة على الإسلام يقبل ذلك.

والإشكال الآخر، إذا سلمنا أن للإجماع حجة، فأن هذا الإجماع لم ينعقد، لعدم حضور كل الصحابة وعلى الأقل أهل المدينة، وكان فيهم كبار الصحابة، ثم أن الطريقة التي جرت بها الشورى خالية حتى من أبسط الأخلاقيات، لشدة المهاترات التي جرت بينهم، كقول عمر لسعد عندما أجتمع الناس لمبايعة أبي بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال أناس من أصحاب سعد: اتقوا سعداً لا تطئوه، فقال عمر (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة)، ثم قام على رأس سعد وقال له: لقد هممت أن أطاك حتى تندر عضوك، فاقبل عليه قيس بن سعد وأخذَ بلحية عمر قائلاً: والله لوحصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، ثم تكلم سعد بن عبادة مناديا وخاطب عمر: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُوجحرك وأصحابك، أما والله لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع..)(10)

____________

10 - ذكرها الطبري ج3ص455.


الصفحة 55
فبالله عليكِ، لأي شي أستحق سعد القتل، ولم يكن يدعو إلا إلى نفسه كما دعا غيره؟

ولماذا كان صاحب فتنة؟ وقد دعا للشورى التي أمر بها الإسلام كما تدعون.

عدالة الصحابة

قلت: للأنصاف يا خالي قد أدهشني هذا الكلام، ولكنني لا يمكن أن أصدق ذلك على الصحابة، وكأني أراك متحاملاً عليهم، وألا ما حفظت كل هذه الشواهد في مثالبهم، ومما يجعلني أشكك في كلامك أن مثل هذه الأفعال كيف تصدر من الصحابة الذين رباهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.

خالي: لا يا عزيزتي، لم يكن في الأمر تحامل، وما أنا ألا دارس للتاريخ، وقد سجل لنا التاريخ أن الصحابة فعلوا ما فعلوا.

ثم من قال أن مجرد الصحبة عاصمة من الخطأ؟ فالصحابة هم مجتمع بشري يحمل الصالح والطالح، وكون هنالك رسول أتفق وجوده مع وجودهم هذا ليس كافٍ أن ينقل كل ذلك المجتمع من قمة الجاهلية إلى قمة العدالة، وكم هنالك مجتمعات عاش بينها عشرات الأنبياء لم يمنعهم ذلك من عذاب الله، فبنوا إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم والليلة سبعين نبياً، قال تعالى {أكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم...}.

أما لماذا فعلوا، فهذا بحث آخر.

قلت: ما هي نظرتكم إلى الصحابة بكل أمانة؟

خالي: ننظر إليهم كما نظر إليهم القرآن والأحاديث الشريفة.

قلت: وكذلك أهل السنة يقولون، أن القرآن نزههم من كل سوء وبايعوه على الموت وصاحبوه بصدق في القول والعمل،

الصفحة 56
وهي أحد الأصول التي ندين بها.

خالي: هذه نظرتهم لا نظرة القرآن، لان القرآن قسم الصحابة إلى ثلاثة أقسام..

الأول: الصحابة الأخيار الذين عرفوا الله ورسوله حق المعرفة، ولم ينقلبوا بعده، بل ثبتوا على العهد، وقد مدحهم الله جل جلاله في كتابه العزيز، وقد أثنى عليهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في العديد من المواقع، ونحن الشيعة نذكرهم باحترام وتقديس ونترضى عليهم.

القسم الثاني: هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام وأتبعوا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أما رغبة أو رهبة، وهؤلاء كانوا يمنون إسلامهم على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم مجالاً في مقابل الرسول، حتى نزل القرآن بتوبيخهم مرة وتهديدهم أخرى، وقد فضحهم الله في عديد من الآيات وحذرهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في عديد من الأحاديث النبوية ونحن الشيعة لا نذكر هؤلاء إلا بأفعالهم.

القسم الثالث: فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) نفاقاً، وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم.

قلت: من أين أتيت بهذا التقسيم، وقد قال تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا}، فهذه الآية تفيد الإطلاق على كل من تبع الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتصفهم بالإيمان وإنزال السكينة، ماعدا المنافقين فهم

الصفحة 57
خارجين تخصصاً.

خالي: أولاً أن (المؤمنين) هنا ليست لفظ قصد منه الإطلاق أي مطلق المؤمنين، وإنما صفة مخصصة ومقيد لكل من تبع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) إي ليس كل من تبع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وإنما المؤمنون منهم.

ثانياً: لو رجعتِ إلى الآية الأخرى التي تحدثت عن بيعة الشجرة في نفس السورة وبالتحديد الآية رقم 10، تجدين أن الله لم يجعل رضاه مطلقاً وإنما جعله مرهون ومشروط بعدم النكث، قال تعالى:{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسُيؤتيه أجراً عظيماً} والآية أوضح من أي تفسير، فهذه الآية تبين أن هناك قسمان من الصحابة.

قسم نكث ولم ينل رضا الله.

وقسم أوفى بما عاهد الله فنال رضاه.

قلت: تحليلك للأمور رائع ولكن ماذا تقول في قوله تعالى:{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} فما رأيك في هذه الآية الصريحة في عدالة الصحابة، وقد فسرَ بعضهم قوله (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) يعجب المؤمنين ويغيظ الشيعة، لأنهم يعادون الصحابة.

خالي (وهو مبتسماً): أولاً كون بعض من أرتأى وقالوا ما قالوا فأن هذا ليس ملزماً لنا، كما أنه افتراء على الله ورسوله

الصفحة 58
لأنه لا يتعدى كونه تفسيراً بالرأي.

وثانياً: أنا أسألك، ما معنى المعية هنا؟ هل هي معية الزمان؟ أم معية المكان؟ أم معية من نوع آخر؟

إن كان المقصود بهذه المعية هو معية الزمان والمكان، فأبو جهل وسجاح والأسود العنسي، والمنافقين كانوا معه وكذلك المشركون، من الواضح أن لا يكون المقصود ذلك، وإنما معية من نوع آخر، وهي من كان معه على المنهج ومؤيداً وثابتاً على ما عاهد الله عليه، والدليل على ذلك ذيل الآية {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} فمنهم، تفيد التبعيض، وهذا هوا عين الصواب، وألا دخل في المعية أولئك المنافقون الذين مردوا على النفاق كما جاء في قوله تعالى {وممن حولك من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}، كما أن الحديث عن المنافقين يفتح أمامنا سؤالاً عريضاً، كيف أنقطع النفاق بمجرد انقطاع الوحي؟ فهل كانت حياة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) سبباً في نفاق المنافقين؟ أو موته (صلى الله عليه واله وسلم) سبباً في إيمانهم وعدالتهم؟ كل هذه الأسئلة يدعوا إليها الواقع التاريخي الذي لم يذكر لنا شي عنهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مع أنهم كانوا يشكلون خطراً على الأمة الإسلامية، قال تعالى {قاتل الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} ولم يثبت لنا التاريخ أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قاتل المنافقين، فهل يا ترى من الذي قاتل المنافقين، غير علي (عليه السلام) وخاصة أن الكتاب والسنة أثبت بقاء المنافقين على نفاقهم، بل هم الأكثرية الذين شكلوا تيار الانقلاب بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال تعالى {وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله

الصفحة 59
الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} ولا يخفى عليكِ أن قوله {الشاكرين} دلالة على الأقلية، لقوله تعالى {وأكثرهم للحق كارهون}وقال {وقليل من عبادي الشكور}.

قلت: قد زدتني حيرة على حيرتي، كيف يكون كل هذا في الصحابة، فكيف تفسر تلك الحروب التي قدم فيها الصحابة أرواحهم، وضربوا لنا أروع الأمثال في التضحية، فيمكن أن ينافق الإنسان في كل شيء ألا في هلاك نفسه.

خالي: لا تحتاري، فأن مجتمع الرسول كان مجتمعاً بشرياً فيه الصالح والطالح، ولا يمكن أن يكون مجرد وجود الرسول بينهم كافٍ لعصمة مجتمع بأكمله، والآيات القرآنية حاكمة بذلك كما تقدم، وغيرها كقوله تعالى {إذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله ألا غرورا} والعطف في الآية دالِ على أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين، وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..}، ومن المعلوم أن الفاسق المقصود كان من الصحابة، أما قولك كيف ضحوا بأنفسهم، فأن مثل هذا السؤال لا تتوقف الإجابة عليه على كونهم مؤمنين، والتاريخ والواقع خير شاهد على ما قلت، فكم من حروب دارت وكم من جماعات ضحوا، فهل نحكم على الجميع بالإيمان، فهناك المكره وهناك من فرض عليه الواقع أمراً محكوماً، والحروب التي كانت قبل الإسلام خير دليل، ومع ذلك أنا لا أرمي الذين حاربوا مع رسول الله بأنهم كانوا مجبرين، مع أنه كان هناك المجبور والمنافق كشهيد الحمار، إنما أقول حتى المؤمن حقاً لا تعني حربه مع رسول الله عاصمة له من الانحراف بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فأن مجموعة كبيرة من

الصفحة 60
الصحابة كانت تحارب مع رسول الله وهم يستلهمون الطاقة والحماس منه وبمعنى آخر كانوا يعملون بالطاقة الحرارية التي كانوا يكسبونها من رسول الله (ص)، واضرب لك مثال على ذلك عندما يستمع الإنسان لخطيب بارع يتحدث عن الجهاد والتضحية فسوف تنتاب المستمعين حالة روحية عالية بحيث لو طلب من كل واحد منهم أن يضحي بنفسه فأنه لا يمانع، ولكن مجرد أن يغادر المكان ويبتعد عن الخطيب، تضعف تلك الطاقة، هذا بخلاف الذي يكون له وعي كامل بالقضية فأنه يولد تلك الطاقة من نفسه، وكثير من الثورات الإصلاحية تحول الداعون لها إلى مفسدين بعد أن فقدوا قائد هم الروحي، وهذا أمر طبيعي ينتاب كل البشر، ولك في الثورة المهدية في السودان خير مثال فبموت محمد أحمد المهدي انشقت صفوف الأنصار ووقع الخلاف بينهم، وهكذا الصحابة بشر فإنهم معرضون لذلك، قال تعالى {وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}، وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كما جاء في البخاري وصحيح مسلم: (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال، هلم، فقلت إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أرى يخلص منهم إلا كهمل النعم) وقال (أني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي)(11).

____________

11 - البخاري ج4 ص94 و ج3 ص32 وصحيح مسلم ج7 ص66.


الصفحة 61

بيعة علي لأبي بكر

طأطأت رأسي غارقة في تفكير عميق ومرددة..

عجيب    عجيب    عجيب.!!

خالي: مما تعجبكِ؟

قلت: وفق ما ذكرت من هذه الأدلة القاطعة، وخاصة في مورد الإمامة، فلماذا لم يعترض علي كرم الله وجهه على القوم بل أكد على موقف الشورى حيث قال في النص الذي سجلته لك (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فأن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى فأن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منهم فأن أبى قاتلوه على أتباعه غير المسلمين).

خالي: كما أثبت لك أن الشورى باطلة، وأن النص والتعيين هو المتحقق، وهذا هو مبحثنا، أما أن علي لماذا سكت فهذا بحث آخر.

قلت (مقاطعة): هذا الكلام لا أقبله منك، أليست الخلافة حق لعلي، فسكوت الإمام علي هو سكوت عن حقه.

خالي: أجمعت الأمة على أن علياً (ع) وسائر بني هاشم لم يشهدوا البيعة، ولا دخلوا السقيفة يومئذٍ، كانوا منشغلين بتجهيز رسول الله (ص)، حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم، وعقدوا البيعة لأبي بكر، فأين كان الإمام (ع) عن السقيفة وعن بيعة أبي بكر ليحتج عليهم؟.

وقد أجاب الإمام علي (ع) عن هذا الإشكال عندما سأله الأشعث بن قيس، عندما قال للإمام علي (عليه السلام): ما منعك يا بن أبي طالب حين بويع أخو بني تميم وأخو بني عدي وأخو بني أمية، أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ قدمت العراق إلا قلت قبل أن تنزل عن المنبر والله إني لأول

الصفحة 62
الناس ومازلت مظلوماً مذ قبض رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فقال عليه السلام: يا أبن قيس لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية لقاء ربي ولكن منعني من ذلك أمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وعهده إلىّ أخبرني بما الأمة صانعة بعده، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): يا علي ستغدر بك الأمة من بعدي.

فقلت يا رسول الله فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟

فقال الرسول: إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك وأحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً)(12). وفي رواية الخطيب البغدادي، عن أبي عثمان النهدي عن علي (عليه السلام) قال: أخذ علي يحدثنا إلى أن قال: جذبني رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبكى، فقلت: يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك ألا بعدي.

فقلت: بسلامة من ديني.

قال: نعم بسلامة من دينك(13).

كما سئل هذا السؤال الإمام الرضا (عليه السلام) وهو الإمام الثامن من أهل البيت، فأجاب: لأنه_ أي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) _ اقتدى برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة تسعة عشر شهر.

وجاء في كتاب معاوية إلى علي (عليه السلام)، واعهدك

____________

12 - شرح الذهبي في البلاغة للتستري ج4 ص519 وشرح الخطبة الشقشقية في شرح النهج.

13 - تاريخ بغداد ج13 ص398.


الصفحة 63
أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك وأدليت إليهم بابنيك، فلم يجبك منهم ألا أربعة أو خمسة.

مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حركك وهيجك، لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)(14).

فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ترك جهاد القوم، لقلة ناصريه فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى يرى تراثه ينهب، ويعلل ذلك بأنه لم يسكت ألا تأسياً بالأنبياء حيث قال:

إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة.

الأول: نوح (عليه السلام) قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر فدعا ربه {أني مغلوب فأنتصر} فإن قلت لم يكن مغلوباً فقد كذبت القرآن وإن قلت كان مغلوباً فعلي أعذر.

الثاني: إبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث حكى الله تعالى عنه، قوله:{وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} فأن قلت أعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت وأن قلت رأى المكروه فأعتزلهم فعلي أعذر.

الثالث: نبي الله لوط (عليه السلام) إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى:{لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد} فإن قلت كان له بهم قوة فقد كذبت القرآن وإن قلت إنه ما كان له بهم قوة فعلي أعذر.

الرابع: نبي الله يوسف (عليه السلام) فقد حكى الله تعالى عنه:{رب السجن أحب إليّ مما يدعونني أليه} فإن قلت إنه دعي

____________

14 - رواه نصر بن مزاحم في تاريخ صفين، وشرح النهج ج3ص327.


الصفحة 64
إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت وإن قلت إنه دعي إلى ما يسخط الله فأختار السجن فعلي أعذر.

الخامس: كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه:{ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين}فإن قلت أنه فر منهم من غير خوف فقد كذبت القرآن وإن قلت فرّ منهم خوفاً فعلي أعذر.

السادس: نبي الله هارون بن عمران (عليه السلام) إذ يقول على ما حكاه الله تعالى عنه:{يا أبن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}فإن قلت إنهم ماستضعفوه فقد كذبت القرآن وإن قلت إنهم استضعفوه وأشرفوا على قتله فعلي أعذر.

السابع: محمد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حيث هرب إلى الغار فإن قلت: إنه (صلى الله عليه واله وسلم) هرب من غير خوف فقد كفرت وإن قلت أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي أعذر.

إمامة علي على نحو الاختيار وليس الجبر

أن الأحكام الشرعية يا عزيزتي، معلقة على حرية المكلف واختياره، فأن الله لا يجبر عباده على طاعته، فكون علي (ع) أمام من قبل الله تعالى لا يعني أن تجبر الخلائق على أتباعه، {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وهذا ما جرى على الأنبياء جميعهم، قال تعالى {أفكلما جاء كم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون}فالبيعة لعلي لا يفرضها الله على عباده كما لم يرفض بيعة الرسول، قال تعالى {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}و المجيء دالٌ على أن الأمر بالبيعة معلق على مجيء المؤمنات طائعات.


الصفحة 65
لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في حق علي (عليه السلام) كما أخرجه الطبري في الرياض النضرة: (يا علي إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من بعدي، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي أن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم وألا فأصبر حتى تلقاني مظلوماً) فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعونه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في الأمر تزاحم مصالح، فولاية علي (عليه السلام) مصلحة والحفاظ علي بيضة الإسلام مصلحة أخرى(15) فقدم علي مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته، كما فعل نبي الله هارون عندما عبد قومه العجل فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل قال تعالى {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل}.

قلت: إذاً بماذا تفسر كلمة الإمام كرم الله وجهه التي جاءت في نهج البلاغة: (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فأن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى …).

خالي: باختصار شديد أجيبك قائلاً: إن أبن أبي الحديد المعتزلي هو أول من أحتج بهذه الكلمة على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي (ص) مستندة إلى الاختيار ونظام الشورى وتبعه من تبعه، ولكنه غفل_ أو بالأصح تغافل _ عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل، خضوعاً لقوله تعالى:{وجادلهم بالتي هي أحسن} فأن الإمام علي (عليه السلام) بدأ كلمته بقوله: (أما بعد، فإن بيعتي

____________

15 - أن الدولة الإسلامية كانت مهددة من المنافقين من جهة ودولة فارس والروم من جهة أخرى، وهذا بالإضافة لما أخبر به القرآن الكريم من حوادث تقع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) كأية الانقلاب.


الصفحة 66
بالمدينة لزمتك وأنت بالشام _مخاطباً معاوية بن أبي سفيان_ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد …إلى قوله: وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتُهما على ذلك حتى جاء الحق، ظهر أمر الله وهم كارهون.. فادخل فيما دخل فيه المسلمون) فقد أبتدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) بخلافة الشيخين وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية_ الذي خرج على إمام زمانه_ وقد تم عليه السلام كلمته بقوله: (فإن اجتمعوا على رجل..) احتجاجاً بمعتقد معاوية، بمعنى ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.

وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أما ولله لقد تقمصها(16) بن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير(17). فسدلت(18) دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً(19) وطفقِت أرتئي بين أن أصول بيد جزاء(20) أو أصبر على طخية عمياء(21) يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا

____________

16 - الضمير عائد على الخلافة، فهنا شبه الإمام علي (عليهم السلام) خلافة أبي بكر كالذي لبس قميص ليس قميصه.

17 - تمثيل لسمو قدره (عليهم السلام) وقربه من مهبط الوحي وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفق من حوضه ثم ينحدر عن مقامه العالي فيصيب منه من شاء الله.

18 - كناية عن غض نظره عن الخلافة،وسدل الثوب:أرخاه.

19 - مال عن الخلافة.وهو مثل لمن جاع، فمن جاع طوى كشحه ومن شبع فقد ملأه فهو عليه السلام قد جاع عن الخلافة أي لم يلتقمها.

20 - الجذّاء: المقطوعة، ومراده (عليهم السلام) هنا قلة الناصر والمعين.

21 - الطخية: الظلمة، ونسبة العمى إليها مجاز عقلي،وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.


الصفحة 67
أحجى. فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا(22)، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى أبن الخطاب بعده (ثم تمثّل بقول الأعشى):


شتّان ما يومي على كـورهاويـوم حيـّان أخي جابـر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته(23) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها(24) فصيّرها في حوزةٍ خشنا يغلظ كلمُها ويخشُن مسُّها.. إلى أن يقول (عليه السلام): فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة حتى إذا مضى لسبيله.جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فــيالله وللشورى متى أعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفُّوا وطرت إذ طاروا. فصغى رجل منهم لضغنه(25) ومال الآخر لصهره(26) مع هنٍ وهنٍ(27) إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه(28) …إلى أن ختمها بقوله (عليه السلام): أما والذي فلق الحبّـة وبرأ النّسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز)

____________

22 - وهذا تأكيد منه (عليهم السلام) بأن الخلافة حق ثابت له،وما أبو بكر ألا سارق.

23 - إشارة لقول أبي بكر: (أقيلوني فلست بخيركم).

24 - وهي إشارة منه (عليهم السلام) على تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر.

25 - يشير (عليهم السلام) إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف.

26 - يشير (عليهم السلام) إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان.

27 - إشارة منه (عليهم السلام) إلى أغراض أخر يكره ذكرها.

28 - يشير (عليهم السلام) إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه، ونافجاً حضنيه، رافعاً لهما، والحضن: ما بين الإيبط والكشح يقال للمتكبر جاء نافجاً حضنيه. والنثيل: الروث، والمعتلف: موضع العلف أي أراد (عليهم السلام) بقوله: لا همَّ له ألا ما ذكر.