وقد أجاز الفقهاء قتل الخارج على الحكام المفارق للجماعة على أساس رواية تقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة..
هذا هو نهج الفقهاء والسلف الذين سخروا الدين في خدمة الحكام وألزموا الأمة بالسير على هذا النهج الذي حدد الشارح أن أتباعه هدى وخلافه ضلال..
يقول الطحاوي: والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلها شئ ولا ينقضها.
ثم يتجه الطحاوي من بعد ومعه الشارح إلى تصويب مدافعهم على المخالفين لعقائد الفقهاء في الحكام والصحابة والسلف معلنين أن حب هؤلاء من الإيمان وبغضهم من النفاق وأن الواجب الشرعي يحتم بغض من يبغضهم والبراءة منه وإحسان القول فيهم بلا استثناء.
يقول الطحاوي: ومن أحسن القول في أصحاب الرسول (ص) وأزواجه فقد برئ من النفاق وعلماء السلف أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ولا نصدق من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة هذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا ونحن براء إلى الله تعالى من كل خالف الذي ذكرناه وبيناه ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة ونحن منهم براء وهم عند ضلال وأردياء..
ويقول الشارح: وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم عدولهم عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه.
والشارح بقوله هذا يريد أن يؤكد أن صراط الفقهاء والحكام هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه. وهو الصراط الذي حدد معالمه الطحاوي في ختام كتابه بقوله: هذا ديننا واعتقادنا.
وهذا الكلام يؤكد المقولات السابقة من أن أهل السنة هم أهل الحق وأصحاب الجنة وغيرهم
ويطالب الشارح الحكام بالتدخل للقضاء على المخالفين من جميع الاتجاهات وأهل اللعب واللهو والفنون بقوله: والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى إلى إزالة المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات أو يدخلوا على الناس في منازلهم وقد ثبت عن الرسول (ص) قوله: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه..
وهو بهذه الفتوى لم يمنح الحاكم فقط سلطة مقاومة المنكر بل منح أفراد الرعية أيضا هذه السلطة لمقاومة مثل هذه الأنشطة والممارسات..
وبالطبع فإن مقاومة أصحاب الرأي والاتجاهات المخالفة هي مقدمة على ذلك بل هي أولى في منظور الفقهاء..
وهكذا نرى مدافع الفقهاء تتداول فيما بينهم عبر العصور يسلمها كل فقيه لمن بعده ولا مانع أن تسلم هذه المدافع للحكام أيضا ولأفراد الرعية إذا حتمت الضرورة ذلك وتهدد نفوذ الفقهاء والحكام..
مدافع بن تيمية
أكذوبة شيخ الإسلام..
وقد اتخذ من الشام مقرا له في عصر سلاطين المماليك وكثرة مشاغباته مع الفقهاء من أصحاب المذاهب الأخرى ومع الاتجاهات الفلسفية والصوفية والشيعية في عصره. إلا أنه رغم محاولاته إحياء نهج الحنابلة وتصانيفه الكثيرة، لم يحصل على رضا فقهاء عصره من الحنابلة أو من غيرهم..
وكان ابن تيمية عنيدا سليط اللسان عجولا في إلقاء التهم على الخصوم متسرعا في أحكامه كثيرا المراوغة معجبا بنفسه.. (2)
يروى أن القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي أرسلوا إليه مرات فامتنع عن الحضور إليهم ولما أحضر ووقع البحث مع بعض الفقهاء كتب عليه محضر بأنه قال أنا أشعري.. (3)
- مدافع ضد الفقهاء:
يروى أنه تكلم في حق مشايخ الصوفية - أي سبهم وهاجمهم - وقال لا يستغاث بالنبي (ص) فقبض عليه وحبس، ثم نقل أن جماعة يترددون عليه في السجن وأنه يتكلم في نحو ما تقدم فأمر بنقله من محبسه.. (4)
يقول عنه الذهبي أحد تلاميذه: تعتريه حدة في البحث وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس، أي أنه حاد في حواراته عصبي يظن أن الحق معه ويسخر من الخصم ولا يحترمه والناس في نظره جهال.. (5)
وأطلق ابن تيمية مدافعة علي سيبويه العالم النحوي عندما ذكر أمامه على لسان ابن حبان صاحبه مما أدى إلى مقاطعة ابن حبان له وصير ذلك ذنبا لا يغفر وأصبح لا يذكره بخير.. (6)
____________
(1) أنظر ترجمته في طبقات الحنابلة ووفيات الأعيان لابن خلكان.. والدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر. وانظر تاريخ مدينة حوران في معجم البلدان لياقوت الحموي..
(2) الدر الكامنة ج 1..
(3) المرجع السابق..
(4) المرجع السابق..
(5) تاريخ الإسلام، وانظر الدرر..
(6) الدرر الكامنة..
وقد نسب إلى أصحاب ابن تيمية الحنابلة الغلو فيه - أي الإيمان الشديد المتطرف به - واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتى انتهى إلى عمر بن الخطاب فخطأه في شئ فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم فأنكر عليه.. (8)
وكان كثير الوقوع في الأشاعر حتى أنه سب أبو حامد الغزالي فقام عليه قوم وكادوا يقتلونه وكانت له وقائع شهير وإذا حوقق - نوقش فأفحم وقام عليه الدليل وألزم - يقول لم أر هذا، وإنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا.. (9)
ويروى أنه أفتى يوما في مسألة وأفتى فقيه أخر بخلافة، فرد عليه ابن تيمية قائلا: من قال هذا فهو كالحمار الذي في داره..
ولم يسلم أحد ممن هو خارج دائرة ابن تيمية وتلاميذ وأتباعه من مدافعه، حتى فقهاء الحنابلة الآخرين أوذوا منه وخشوا على المذهب من أفكاره وفتاويه..
ويروى أن كثير من العلماء والفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض المسائل التي أنكرها السلف على من شذبها، حتى أن بعض قضاة العدل الحنابلة منعه من الافتاء. (10)
وعندما قال ابن تيمية بإنكار المجاز نسب إليه التجسيم حيث اعتبرت جميع صفات الله الواردة في القرآن والروايات حقيقة، وأن الله سبحانه له يد وعين ورجل ويصعد ويهبط وما شابه ذلك.. (11)
وقام الفقهاء على ابن تيمية وعقدوا له مجلس محاكمة ومنع من الكلام، وحدثت فتنة بين أتباعه وبين الشافعية في دمشق ولحق الأذى باتباع ابن تيمية مما اضطره إلى الرجوع عن
____________
(7) المرجع السابق.. والكتاب هو مصنف ضخم يحمل هذا الاسم في النحو واللغة..
(8) المرجع السابق (9) المرجع السابق..
(10) طبقات الحنابلة ج 2..
(11) أنظر الفتوى الحموية والعقيدة الواسطية والرسالة المدينة في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله سبحانه لابن تيمية. وانظر الدرر..
ثم جمع الحنابلة الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي. (13)
وأطلق ابن تيمية مدافعه نحو ابن عربي فكفره ونسب الإلحاد إليه وإلى أصحابه. ونسب الشرك إلى من توسل بالنبي واستغاث به وأنكر زيارة قبر النبي (ص).. (14)
ونتيجة لهذا كله انقسم الناس في مواجهة ابن تيمية أربعة أقسام:
- منهم من نسبة إلى الكفر والزندقة..
ومنهم من نسبه إلى النفاق..
ومنهم من نسبه إلى السعي للإمامة..
وفوق هذا هناك من طالب بقتله..
- ابن تيمية والحكام:
عاش ابن تيمية عصر المماليك البحرية وحاز شهرة بسبب مشاغباته في الشام ومصر حتى تمكن من استمالة محمد بن قلاوون إلى صفه، كذلك الأمير سلار نائب السلطنة في عصر بيبرس الجاشنكير الذي أطاح بابن قلاوون من الحكم.
وكان نظام حكم المماليك يعتمد على الفقهاء في استمالة العامة وتحقيق الأمن والاستقرار للحكم، فلم تكن هناك في هذا العصر مؤسسة دينية محددة مرتبطة بالحكم..
ولم يستطع ابن تيمية أن يأخذ مكانه بين كبار الفقهاء القريبين من السلطة إلا أنه تمكن من كسب عطف بعض أمراء المماليك الذين كان لهم دورهم البارز في التخفيف عليه في حبسه الذي تكرر عدة مرات..
وكان بيبرس الجاشنكير ضد ابن تيمية وله ميول صوفية. وحين أمر بحسبه كان " سلار " يهرب له الأقلام والقراطيس ويدخل عليه أصحابه، فكان ابن تيمية يكتب ويفتي ويراسل أمه
____________
(12) الدرر الكامنة..
(13) المرجع السابق..
(14) المرجع السابق. وانظر سيرته في تاريخ الإسلام وشذرات الذهب.
وقلعة القاهرة شتاء..
ولما جاء محمد بن قلاوون إلى السلطة استقبل ابن تيمية بالأحضان وأطلق يده فانطلق هو وأتباعه في الأسواق يعتدون على العامة ويكسرون الحانات ويعتدون على زوار القبور مما أقلق ابن قلاوون فقرر الحد من نشاطه. فكتب ابن تيمية له كتابا اسمه (الجواب الباهر في زوار المقابر) يثبت فيه بطلان زيارات القبور وما يجري فيها.. (15)
ولم يكن ابن تيمية ضد الحكام، وإنما كان ضد المسلمين. فهو لم يتصد لمنكرات المماليك وفساد وانحرافات الحكم في عصره، وإنما تصدى للصوفية والأشاعرة والشيعة وعوام الناس.
- ابن تيمية والعقل /
وجه ابن تيمية مدافعه نحو العقل كما هو شأن الحنابلة. كما حارب المنطق والفلسفة..
وكانت أول مدافعه في هذا الميدان قد وجهت نحو الخلف والاتجاهات الإسلامية من الشيعة والمعتزلة الذين تبنوا نهج التأويل في مواجهة النصوص الخاصة بصفات الله، وفسروا قوله تعالى (يد الله فوق أيديهم) على أن اليد تعني القدرة، وقوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما)، أي بواسطة، وقوله (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) أي منتظرة.. وقوله (ولتصنع على عيني) أي برعايتي.. وقوله (أأمنتم من في السماء) بنفي تحديد مكان الله في السماء..
واعتبر ابن تيمية مثل ذلك ضربا من الضلال والانحراف عن نهج السلف والأحاديث النبوية فهو لا يريد إعمال العقل في هذه النصوص، ويريد أن تؤخذ على ظاهرها والإقرار بأن الله سبحانه له يد وعين يتكلم بلا واسطة وسوف يراه الناس، وأن مكانه في السماء.. (16)
ولابن تيمية كتاب يسمى (نقد المنطق) نص فيه على ما يلي:
* عمدة كل زنديق ومنافق إبطال أحاديث رسول الله والطعن فيها..
* أهل الحديث (الروايات) عندهم من العلم والمعرفة واليقين ما ليس عند أئمة المتفلسفة المتكلمين.
____________
(15) المرجع السابق
* كل من زعم أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور أكثر مما أدركوا فهو منافق جاهل..
* المنطق يأمر بالتوحيد وعبادة الله بل يأمر بالشرك وعبادة الكواكب..
ولم يكن ابن تيمية يريد للعقل أن يأخذ مكانه ويؤدي دوره في هذا الكم الهائل من الروايات المنسوبة للرسول والتي تضر بالإسلام وتشوه صورته.
- نماذج من فتاوى ابن تيمية /
فتاوى ابن تيمية أكثر من أن تحصى، وهي تشكل تراثه الفكري.. فالرجل لم يدون كتبا بالمعنى المألوف، وإنما كتب رسائل وردودا وأصدر فتاوى جمعت فيما بعد من قبل أتباعه وتلاميذه.. وقد انتقينا هنا بعض الفتاوى الخاصة بالخصوم والمعارضين والتي تعكس مدى تطرفه وعدوانيته على الآخرين -:
- أجاز ابن تيمية قتل الداعية إلى البدعة المخالفة للكتاب والسنة، وهي في منظوره تشمل المعتزلة والشيعة والصوفية وغيرهم من المخالفين.
- من قامت عليه الحجة من أهل البدع استحق العقوبة.
- أن الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها وهي أولى بذلك من آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه.
- جواز قتل معطلي الشرائع من المسلمين وقتالهم. " فتوى الياسق ".
- وحول ابن الفارض وابن سبعين وابن حمويه الذين اتهمهم بالقول بوحدة الوجود والحلول أفتى بقوله: من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان - ابن تيمية وأتباعه - فهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن هؤلاء شر من قول النصارى، بل هم شر ممن ينصر المشركين على المسلمين.
- الراد على أهل البدع مجاهد.
- أفتى ابن تيمية عام 704 هـ باستباحة دماء الشيعة وأقنع السلطان محمد بن قلاوون بتسيير حملة اشتراك فيها ابن تيمية لمقاتلة الشيعة في جبال كسروان بلبنان.
____________
(16) أنظر الفتوى الحموية والعقيدة الواسطية..
ولم يقصر ابن تيمية فتاواه على المسلمين بل تعداهم إلى المسيحيين، وأفتى بوجوب هدم الكنائس في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار سواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة.. (17)
" مثل هذه الفتاوى وغيرها يوجد منها الكثير في كتب ابن تيمية مثل الفتاوى الكبرى ونقد المنطق.. ودرء تناقض العقل والنقل ".
- مرجع الجماعات المتطرفة /
هل بعد حبس ابن تيمية وموته سكتت مدافعه؟
الإجابة أن بعض تلامذته مثل ابن قيم وابن كثير حاولا تسليط هذه المدافع نحو المسلمين إلا أن مصيرهما كان كمصير إمامها أن ضربا وضيق عليهما ولحق بهما الأذى فاتجها نحو الكتابة والتصنيف.
ومنذ ذلك الحين أسدل الستار على ابن تيمية وعطلت مدافعه وحل بها الخراب حتى ظهر محمد ابن عبد الوهاب في جزيرة العرب، فكشف عنها، وقام بتنظيفها وتجهيزها ثم سلطها مرة أخرى على المسلمين، وقدر الله أن ينصره ابن سعود لتقوم لأول مرة في التاريخ دولة للحنابلة ويصبح ابن تيمية شيخ الإسلام بعد أن كان منبوذا.
وببركات النفط أصبحت له هيئات وجامعات ورموز تنشر فكره وترضعه للمسلمين في كل مكان.
وعن طريق هذه المؤسسات والجامعات والرموز اخترقت التيارات والجماعات الإسلامية وتشبعت بفكر ابن تيمية وتقمصت شخصيته حتى بدا وكأنه لا يوجد فقهاء في تاريخ المسلمين سواه.
وأصبحت كتب ابن تيمية التي لم يكن يسمع عنها أحد تطبع وتوزع مجانا، وتهدى ولا تباع، بل توزع فتاواه (37 مجلدا) مجانا على المساجد والمؤسسات والأفراد. (18)
ومن هنا حملت الجماعات الإسلامية مدافع ابن تيمية من جديد وأخذت توجهها نحو المسلمين وأيضا المسيحيين.
- مدفع الفرقان
وفي كتابه الفرقان بين الحق والباطل الذي صنفه في سجن دمشق قال في مقدمته:
إن الله بين في كتابه الفرقان بين الحق والباطل وكذلك نبيه فمن كان أعظم اتباعا لكتابه الذي أنزله ونبيه الذي أرسله كان أعظم فرقانا.
ومن كان أبعد عن اتباع الكتاب والرسول كان أبعد عن الفرقان واشتبه عليه الحق بالباطل كالذين اشتبه عليهم عبادة الرحمن بعبادة الشيطان والنبي الصادق بالمتبني الكاذب وآيات النبيين بشبهات الكذابين حتى اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق.
وهذا الكلام الذي يدين به فقهاء الحنابلة إنما اخترع لإرهاب المخالفين لنهج الرواية والرجال وذلك بربط الرواية بالقرآن. وهدى الله بهدى الرسول (ص). بمعنى أن الذين يرفضون الروايات ويشككون فيها يكونوا بهذا التصور يرفضون القرآن ويشككون في نصوصه. وهو ما تم توكيده في الشعار الدائم الذي لا زال يرفع حتى اليوم وهو شعار: الكتاب والسنة حيث أصبح الإسلام هو الكتاب والسنة. بينما الحقيقة أن الإسلام هو الكتاب. فهو المصدر الوحيد المعصوم المنزل من قبل الله سبحانه ليكون حجة على البشر..
ولقد أصبحت الروايات بمرور الزمن وبتوجيه الحكام هي الناطق بلسان الإسلام والمعبر عنه ونتج عن هذا أن هيمنت الروايات على القرآن مما أدى إلى استفزاز أصحاب العقول وتصديهم للروايات والفقهاء الذين يدعمونها.
وابن تيمية هنا إنما يردد تهديدات من سبقه من فقهاء السلف من الحنابلة وغيرهم لإرهاب الاتجاهات الأخرى وعزل المسلمين عنها..
ويؤكد ابن تيمية أن اتباع رجال السلف ومعرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم. أقوال السلف وأعمالهم في جميع علوم الدين كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك. فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم. ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم.
وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما. وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم. فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه.
____________
(17) أنظر ملاحق الكتاب.
ثم يسلط مدفعه على أصحاب الرأي بقوله: وكل الأصول العقلية التي ابتدعها هؤلاء باطلة في العقل والشرع..
والمقصود بهذا الكلام الاتجاهات الرافضة للروايات المتعلقة بصفات الله المأولة لهذه الصفات المتبنية لنهج العقل والمنطق وا لفلسفة أو ما سمى بعلم الكلام أو العقليات..
فجميع ذلك مرفوض عند ابن تيمية وسلفه من الحنابلة الذين يعتقدون بأن الله سبحانه له يد وعين ورجل ويرى ويهبط ويصعد ومكانه فوق العرش وأنه أراد الشر واختاره كما نص على ذلك أمامهم ابن حنبل..
وهؤلاء الرافضين هم أهل الهوى والزيغ والضلال...
____________
(18) تم طبع فتاوى ابن تيمية على نفقة خادم الحرمين..
مدافع ابن القيم
تلميذ بن تيمية وحامل مدافعه..
وقام ابن القيم بتطوير مدفع إمامه ابن حنبل المسمى (الرد على الجهمية والزنادقة) وأعده وجهزه ليواجه أهل زمانه من المسلمين المخالفين أو الزنادقة المارقين وأسماه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية)
وسلك ابن القيم نفس سبل إمامه ابن حنبل وأستاذه ابن تيمية في مواجهة المعارضين معتمدا على الروايات وأقوال سلفة وشعاراتهم التي رفعوها وبدا وكأنه صورة طبق الأصل من ابن حنبل وابن تيمية..
ثم تجاوز ابن القيم هذا الدور واجتهد في تصنيف المخالفين وإصدار الأحكام فيهم..
يقول ابن القيم: وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم - فهؤلاء أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفو غفورا..
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وأن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته..
القسم الثالث: أن يسأل فيطلب ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدا أو تعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته: أن يكون فاسقا، وتكفيره، محل اجتهاد وتفصيل، فإن
وقام ابن القيم بإعداد مدفع آخر أسماه (أحكام أهل الذمة) سلطة على غير المسلمين وحشاه بشتى أنواع القذائف الثقيلة..
وأول هذه القذائف ذلك الكم من الروايات التي حشدها في كتابة:
وأول هذه الروايات رواية تقول: لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة..
وهذه الرواية منسوبة للرسول (ص)..
وثاني هذه الروايات منسوبة لابن عباس قال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزير، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.
وثالث هذه الروايات منسوبة لعمر بن عبد العزيز أن عمر كتب أمرا بهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين..
ورابع هذه الروايات عن الحسن تقول: من السنة أن تهدم الكنائس التي بالأمصار القديمة والحديثة..
وخامس هذه الروايات تقول: سئل ابن حنبل عن البيعة والكنيسة تحدث - أي تبني من جديد - فقال: يرفع أمرها إلى السلطان، أي ليأمر بهدمها..
وسادس هذه الروايات رواية منسوبة للرسول (ص) تقول: لا تكون قبلتان في بلد واحد.. وأخرى تقول: لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها..
وهذه الروايات وغيرها مما تكتظ به كتب السنن فيما يتعلق بأصحاب الديانات الأخرى موضع شك فقهاء الحديث، ورغم ذلك يسترشد بها الفقهاء. كما أن هذه الروايات جميعها رويت عن طريق أحمد بن حنبل..
____________
(1) حبس ابن القيم بسبب فتوى له بتحريم زيارة مسجد يقال له مسجد إبراهيم انظر ترجمته في
=>
وجميع هذه الفتاوى تتركز في دائرة منع بناء الكنائس ومنع ترميمها والعلاقة بين الحاكم والذمي وأورد ابن القيم في كتابه الشروط التي يلتزم بها أهل الذمة في ديار الإسلام وهي:
* ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب..
* أن لا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم..
* أن لا يؤوا جاسوسا ولا يغشوا المسلمين ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوا..
* أن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس..
* أن لا يتشبهوا بالمسلمين في شئ من لباسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم..
* أن لا يتقلدوا سيفا ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شئ من طريق المسلمين..
* أن لا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم..
* أن لا يعلموا أولادهم القرآن ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم..
* أن لا يجاوروا المسلمين بموتاهم وأن يجزوا مقادم رؤوسهم..
فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
قال ابن القيم وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها - أي محاولة إثبات صحتها من حيث السند - فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية - نسبة إلى عمر بن الخطاب صاحب الشروط السابقة - على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها..
وقسم ابن القيم في كتابه البلاد التي تحوي أصحاب الديانات الأخرى إلى ثلاثة أقسام:
الأول: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام..
____________
<=
الدرر الكامنة ح 3 ترجمة رقم 1067..
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحا..
والقسم الأول الثاني لا يجوز أن تبنى كنيسة ولا بيع فيه وما بني يهدم ويلزم بالشروط السابق ذكرها، أما القسم الثالث فيقر على حاله وما بني بعد الصلح يهدم..
يقول ابن القيم: وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده فإن إحداث هذه الأمور إحداث لشعائر الكفر وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث مواضع الكفر والشرك.. (3)
ومثل هذه الروايات التي استند عليها ابن القيم والفتاوى التي استحضرها هي التي ارتكز عليها حنابلة العصر من الجماعات الإسلامية واستباحوا دماء وأموال النصارى على أساسها مرتكزين على أن المجتمع المعاصر يعد حسب المفهوم الفقهي الذي وضعه الفقهاء: دار حرب لا يوجد فيها إمام ولا توجد بين المسلمين والنصارى عقود ذمة تحفظ على أساسها أموالهم ودمائهم فمن ثم هم عرضه للاستحلال من قبل هذه الجماعات التي جعلت من نفسها قيما على الدين ومعبرا عنه وناطقة بلسانه وقد منحتها هذه الصلاحيات عقيدة أهل السنة ونصوص الفقهاء، وعجز فقهاء العصر وتحالفهم مع الحكام من جانب آخر..
مثل هذا الفقه المتطرف الذي بني على روايات ضعيفة وعلى الأعراف وقرارات الحكام يجب أن يعاد ضبطه مع القرآن، وهو لن ينضبط معه بحال، فالقرآن لم ينص على شئ من هذا تجاه الديانات الأخرى..
هذا الفقه إنما هو وليد مرحلة سياسية خاصة هي مرحلة الحروب والغزوات وليس وليد النصوص.
____________
(2) الطرق الحكمية ص 203..
مدافع ابن حجر الهيتمي
إمامي معاوية..
ثم انتقل للإقامة بمكة سنة (940 هـ) وتوفي بها سنة (974 هـ).. (1)
وقد استفز ابن حجر تيار الشيعة فقرر أن يطلق مدافعه عليه. تلك المدافع التي تمثلت في كتابين شهيرين له:
الأول هو كتاب (الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة).
والثاني هو (تطهير الجنان واللسان عن الخطورة والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان).
- مدفع الصواعق:
يقول ابن حجر في مقدمة كتابه هذا: سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب. ثم سئلت في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة فأجبت إلى ذلك رجاء لهداية بعض من زل به قدمه عن أوضح المسالك، ويصف ابن حجر كتابه بقوله: فجاء كتابا في فنه حافلا ومطلبا في حلل الرصانة والتحقيق رافلا ومهندا قاصما لحجج المبطلين وأعناق شرار المبتدعة الضالين..
وحشد ابن حجر في مقدمته كما من الروايات التي ترهب المخالفين من المبتدعة الضالين المنسوبة لرسول رب العالمين (ص)..
الأولي رواية تقول: أهل البدع شر الخلق والخليفة..
والثانية تقول: أصحاب البدع كلاب النار..
والثالثة تقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام..
والرابعة تقول: إذا مات صاحب بدعة فقد فتح في الإسلام فتح..
والخامسة تقول: لا يقبل الله لصاحب بدعة صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين..
وبالطبع المقصود بأصحاب البدعة هم المخالفون للفقهاء والنهج السائد من أصحاب
وقد حشد ابن حجر بعد ذلك كما هائلا من الروايات التي تهاجم المخالفين والناظرين بعقولهم في حركة الصحابة وما جرى بعد وفاة الرسول (ص) من خلافات وصدامات مؤكدا من خلال هذه الروايات أن فترة الصحابة فترة مقدسة وأن ما جرى فيها لا يخرج عن كونه صورة من صور الاجتهاد المحمود شرعا، وأن الناقدين لتلك الفترة سواء كانوا من الشيعة أو من غيرهم هم مبتدعة زنادقة كما حدد ذلك مسبقا على غلاف كتابه..
يقول ابن حجر: وإنما أفتتحت هذا الكتاب بالصحابة وختمته بهم، إشارة إلى أن المقصود بالذات من تأليفه تبرئتهم من جميع ما افتراه عليهم أو على بعضهم من غلبت عليهم الشقاوة وتردوا بأردية الحماقة والغباوة ومرقوا من الدين واتبعوا سبيل الملحدين وركبوا متن عمياء وخبطوا خبط عشواء فباؤا من الله بعظيم النكال ووقعوا في أهوية الوبال والضلال ما لم يداركهم الله بالتوبة والرحمة..
ومن الواضح مدى تطرف هذا الكلام في حق المخالفين تجاه قضية محيطها الرجال وهي ليست أصلا من أصول الدين، لكن المسألة في الأساس ليست مسألة صحابة وإنما هي مسألة حكام يتسترون بالصحابة، ويعتبرون محاولة التشكيك في الصحابة تعني التشكيك في شرعيتهم..
أو بصورة أخرى المسألة في أساسها تنحصر في معاوية وتدور من حوله بمعنى أن التشكيك في الصحابة سوف يقود إلى التشكيك في معاوية. والتشكيك في معاوية سوف يقود إلى التشكيك في الحكام بعده فجميع الحكام أمويين وعباسيين وغيرهم ساروا على سنة معاوية.. (2)
يقول ابن حجر: إعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم، والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم، ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية من الحروب لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة، فلم تهج الفتنة بسببها وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من على تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه..
____________
(1) أنظر دائرة المعارف الإسلامية ج 1. وخلاصة الأثر ج 2. والبدر الطالع للشوكاني
إن الدفاع عن معاوية في نظر ابن حجر والفقهاء إنما هو دفاع عن الدين وقد استتبع هذا الدفاع دفاع عن ولده يزيد، حيث أن الطعن في يزيد طعن في والده..
يقول بن حجر: ولا يجوز الطعن في معاوية لأنه من كبار الصحابة ولا يجوز لعن يزيد ولا تكفيره فإنه من جملة المؤمنين وأمره إلى مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.. (3)
ونقل ابن حجر قول الغزالي: ويحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكاياته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فإنه يهيج على بعض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين، فالطاعن فيهم مطعون طاعن في نفسه ودينه..
وروى ابن حجر قصة وقعت في عام (755 هـ) أنه أحضر شخصا بدمشق أتهم بسبب الشيخين (أبو بكر وعمر) فأخذ وسجن والأغلال في عنقه، ثم قدم للقاضي المالكي فضربه وهو مصر على قوله.
ثم تكرر ضربه واستتابته فلم يرجع عن قوله، فاجتمع الفقهاء والقضاة للبحث في كفره وعدم قبول توبته، وحكم بقتله..
وشنع السبكي على من قال أن هذا الرجل قتل بغير حق. وجزم بأنه قتل بحق لأنه كافر مصر على كفره..
وقدم ابن حجر الروايات والفتاوى التي تؤيد كفره وجواز قتله وصواب الحكم الذي صدر فيه.. (4)
والثابت أنه لا يوجد نص في القرآن أو في السنة يقول صراحة بقتل الذي يسب الرسول فضلا عن الذي يسب صحابي، والفقهاء في حالة صاحب هذه القصة قد طبقوا عليه أحكام
____________
(2) المقصود بسنة معاوية ما سنه من ملكية الحكم ووراثته وفصل الدين عن الدولة والاستبداد والتعبد بالرواية وتقديس الصحابة الذين والوه وناصروه..
(3) يلاحظ هنا أن ابن حجر وضع يزيد في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة في صاحب الكبيرة
=>
ويبدو أن ابن حجر لم يقنع بما أحدثه مدفعه المسمى بالصواعق من خسائر وأضرار في المسلمين وعقولهم ودينهم فشهر مدفعا آخر ضد خصوم معاوية والطاعنين فيه كي يسكتهم إلى الأبد..
يقول ابن حجر: فهذه وريقات ألفتها في فضل سيدنا معاوية بن أبي سيفان رضي الله عنه وأرضاه وفي مناقبه وحروبه. وفي الجواب عن بعض الشبه التي استباح سبه بسببها كثير من أهل البدع والأهواء جهلا واستهتارا بما جاء عن نبيهم (ص) من المبالغة الأكيدة في التخدير عن سب أو نقص أحد من أصحابه، لا سيما أصهاره وكتابه ومن بشر بأنه سيملك أمته، ودعا له بأنه يكون هاديا مهديا..
دعاني إلى تأليفها الطلب الحثيث من السلطان همايون أكبر سلاطين الهند وأصلحهم وأشدهم تمسكا بالسنة الغراء ومحبة أهلها وما نسب إليه مما يخالف ذلك فبفرض وقوعه منه تنصل منه التنصل الدافع لكل ريبة وتهمة، كما يقطع بذلك التواتر عنه في أواخر أمره كأوله بل حكى لي من هو في رتبة مشايخ مشايخنا من بعض أكابر بني الصديق عنه أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء حياء من الله تعالى. وأنه إنما يأكل من كسب يده، وأن من قدم عليه من علماء أهل السنة بالغ في تعظيمه بما لم يسمع عن غيره ككثرة التردد عليه ومع سعة ملكه وأبهة عسكره جالسا بين يديه على التراب كصغار طلبته مطلقا عليه من الأرزاق والإنعام ما يلحقه بأكابر الأغنياء، وسبب طلبه ذلك أنه نبغ في بلاده قوم ينتقصون معاوية وينالون منه وينسبون إليه العظائم مما هو برئ منه لأنه لم يقدم على شئ مما صح عنه إلا بتأويل يمنعه من الإثم بل ويوجب له خطأ من الثواب، فأجبته إلى ذلك..
ولا يشك أحد أن معاوية من أكابرهم نسبا وقربا منه (ص) وعلما وحلما فوجبت محبته لهذه الأمور التي اتصف بها الإجماع، فمنها شرف الإسلام وشرف الصحبة وشرف النسب وشرف مصاهرته له (ص) المستلزمة لموافقته له (ص) في الجنة ولكونه معه فيها وشرف العلم والحلم والإمارة ثم الخلافة، وواحدة من هذه تتأكد المحبة لأجلها فكيف إذا اجتمعت، وهذا كاف لمن في قلبه أدنى إصغاء للحق وإذعان للصدق..
وهذا الدفاع المستميت من ابن حجر عن معاوية يشوبه الضعف والخلل والتناقض. فهو أولا قد حشد عشرات الروايات التي تمدح معاوية وتزكية على لسان الرسول (ص) وهي
____________
<=
وكأنه بهذا قد أيد رؤية المعتزلة التي يناهضها أهل السنة في صاحب الكبيرة دون أن يدري..
وقد تدارك ابن حجر الأمر وسد الباب أمام الشاكين في هذه الروايات بقوله: فإن قلت هذا الحديث المذكور سنده ضعيف فكيف يحتج به؟
قلت: الذي أطبق عليه أئمتنا الفقهاء والأصوليون والحفاظ أن الحديث الضعيف حجة في المناقب..
هكذا حسم ابن حجر المسألة بكل بساطة مع ما تحمل من استخفاف بالعقل وبالدين في آن واحد ومن الطبيعي أن يكون هذا توجه من جعل نفسه في خدمة الحكام وسخر النصوص لدعمهم وإضفاء المشروعية عليهم..
وتأمل ثناء ابن حجر على همايون الهندي الذي كتب كتابه في معاوية بتوجيه منه وذلك لقمع الذين ينتقصون معاوية في بلاده، أي أن ابن حجر سلم مدفعا لحاكم الهند ليسلطه على شعبه، وهو قد صنع هذا المدفع تقربا إلى الله ونصره لحاكم موال لأهل السنة خصما لأهل البدعة فمقياس الحاكم الصالح في نظر الفقهاء أن يكون ملتزما بمذهبهم، ومقياس الفقيه الصالح في نظر الحكام أن يكون مواليا لهم رهن إشارتهم باطشا بخصومهم مكفرا لهم..
ويسلط ابن حجر مدافعه على خصوم معاوية بقوله: أولئك كالانعام بل هم أضل سبيلا فلا يتأهلون لخطاب ولا يوجه إليهم جواب لأنهم معاندون وعن الحق ناكثون بل أشبهوا كفار قريش في العناد والبهتان حتى لم تنفع فيهم معجزة ولا قرآن، وأنما النافع لهم القتل والجلاء عن الأوطان كيف وهم لا يرجعون لدليل وشفاء العليل منهم كالمستحيل..
وهذا الكلام شديد التطرف من قبل ابن حجر تجاه خصوم معاوية هو بمثابة فتوى أو بمعنى أصح مدفع مسلط على المسلمين يناوله الفقهاء للحكام ليقمعوا به المعارضة التي يتزعمها المبتدعة والزنادقة..
ويستمر ابن حجر في إطلاق مدافعه على المخالفين بقوله: أحذر أيها الموفق أن تسترسل
____________
(4) أنظر تفاصيل هذه القصة في آخر كتاب الصواعق. وفي كتابنا الكلمة والسيف..