الصفحة 166
محتاجين إليه ثم أخذ منهم، وأما ما كان لهم بصلح قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها فلا يجوز أخذه ما داموا موفين بالعهد إلا بمعاوضة أو طيب أنفسهم كما فعل المسلمون بجامع دمشق لما بنوه، فإذا عرب أن الكنائس ثلاثة أقسام منها ما لا يجوز هدمه..

ومنها ما يجب هدمه كالتي في القاهرة مصر والمحدثات كلها.

ومنها ما يفعل المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام مما كان قديما على ما بيناه..

فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمر الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من الزامهم بالشروط عليهم ومنعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام ولا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول إن لنا عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم فإن الله تعالى يقول (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) وإذا كان فوروز في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ونحن نرجو أن يحقق الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال " يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " ويكون من أجرى الله ذلك على يديه وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي فإن الله بهم يقيم دينه كما قال " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز " (1).

____________

(1) أحكام أهل الذمة ج‍ 2 / 677: 686..

الصفحة 167

فتوى أخرى


الصفحة 168

الصفحة 169
ما يقول السادة العلماء أعانهم الله على إظهار الحق المبين وإخماد الكفار والمنافقين في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت بأمر ولاة الأمور إذا ادعى الذمة أنها أغلقت ظلما وأنهم يستحقون فتحها وطلبوا ذلك من ولي الأمر، فهل تقبل دعواهم وهل تجب إجابتهم أم لا، وإذ قالوا إن هذه الكنائس كانت قديمة من زمن عمر بن الخطاب وغيره من خلفاء المسلمين وإن إغلاقها مخالف لحكم الخلفاء الراشدين فهل هذا القول مقبول منهم أم مردود؟

وإذا ذهب أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد العرب من رسول أو غيره فسألوا أن يسأل ولي الأمر في فتحها أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين فهل لأهل الذمة ذلك وهل ينتقض عهدهم بهذا أم لا؟ وإذا قال قائل: إنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضرر إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى والمساجد، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام وإما بترك معاونتهم لو لي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين ونحو ذلك، فهل هذا القول صواب أو خطأ بينوا ذلك مبسوطا مشروحا وإذا كان في فتحها تغيير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وتغيير قلوب أهل الصلاح والدين وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور لأجل إظهار شعائر الكفر وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك، وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك وأعان عليه فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك، ومن أشار عليه بذلك هل 3 يكون ناصحا لو لي المسلمين أم غاشا، وأي الطرق هو الأفضل لو لي الأمر؟

هذا نص السؤال فأجاب عنه ابن تيمية بما نصه:

" الحمد لله رب العالمين أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذب مخالف لأهل العلم فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد و غيرهم والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسودان بالعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدا في ذلك ومتبعا في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ذلك ظلما منه بل تجب طاعته في ذلك وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كنوا ناقصين العهد وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم ".

وأما قولهم: إن هذه الكنائس من عهد عمر بن الخطاب، وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها فهذا أيضا من الكذب فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب

الصفحة 170
بثلاثمائة سنة بنيت بعد بغداد وبعد البصرة والكوفة وواسط وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيه كنيسة مثل ما فتحه المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح فكيف في بلاد المسلمين بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها فإن لهم أخذ تلك الكنيسة لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسة بعد عهد فإن في سنن أبي داود بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم " والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شئ من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم، فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها لكان للمسلمين أخذها لأن الأرض عنوة فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى.

وقد كان في بر مصر كنائس قديمة لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى ولم يكونوا مسلمين وإنما كان المسلمون الجند خاصة وأقروهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر لما فتحها لأن اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد.

ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر بن الخطاب لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود أجلاهم عن خيبر كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب " حتى لم يبق في خيبر يهودي وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها جاز ذلك كما فعله المسلمون، وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصلح قبلتان بأرض " وفي أثر آخر " لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب " والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية وعمرت في هذه الأوقات حتى صار أهلها بقدر ما كانوا في زمان صلاح الدين مرات متعددة.

وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الدين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور "

الصفحة 171
فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر ابن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحو هما مؤيدين منصورين وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين.

وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهاد لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة وطاعة وحرمة من عهد عمر بن الخطاب إلى هذا الزمان وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء وليس في المسلمين من أنكر ذلك فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين فأعرض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب كما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب.

وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهال الحرب ولا يخبروهم بشئ من أخبار المسلمين ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين وفي أحد القولين يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله.

ومن قال إن المسلمين يحصل لهم ضرر إن لم يجابوا إلى ذلك لم يكن عارفا بحقيقة الحال فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام وكان ذلك أعظم المصائب عليهم أخذ أموالهم وهدم كنائسهم ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير فإن المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم.

فأما الأندلس فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم إلا لحاجتهم إليهم وخوفهم من التتار فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى و أكرم ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى والنصارى الذين في ذمة المسلمين فيهم من البتاركة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون ولله الحمد مع أن فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات وكلم مسلم يعلم أنهم يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم أرغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف مختلفون وكل طائفة تضاد الأخرى ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه

الصفحة 172
من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن أو رجل له غرض فاسد أو رجل جاهل في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين وإلا فمن كان عارفا ناصحا له أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه وفتحهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى.

وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به، وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد فقد كتب خالد ابن الوليد إلى عمر يقول إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به. فكتب إليه لا تستعمله. فكتب إنه لا غنى بنا عنه. فكتب إليه عمر: لا تستعمله " فكتب إليه: إذ لم نوله ضاع المال. فكتب إليه عمر " مات النصراني والسلام ".

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له " إني لا أستعين بمشرك " وكما أن الجند المجاهدين إنما يصلحون إذا كانوا مسلمين مؤمنين وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم ولله الحمد.

ودخل أبو موسى الأشعري على عمر بن الخطاب فعرض عليه حساب العراق فأعجبه ذلك فقال " ادع كاتبك يقرؤه فقال: إنه لا يدخل المسجد قال " ولم " قال " لأنه نصراني " فضربه عمر بالدرة فلو أصابته لأوجعته ثم قال: لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله، ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله " والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ورسوله ولعبادة المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله، وأعداء الدين وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هن العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل فإنهم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور).

فقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك من أسرارهم حتى أخذ جماعة من المسلمين في بلاد

الصفحة 173
التتر وسبي وغير ذلك بمطالعة أهل الذمة لأهل دينهم ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم:

كل العداوات قد ترجى مودتها * إلا عداوة من عاداك في الدين

ولهذا وغيره منعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين أو على مصلحة من يقويهم أو يفضل عليهم في الخبرة والأمانة من المسلمين من هو دونهم في الكفاية أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم والقليل من الحلال يبارك فيه والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى والله أعلم..

ثم ذكر الشروط العمرية لأهل الذمة التي من ضمنها أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة لراهب ولا يجددوا ما خرب منها " وقال " فمن خرج عن شرط من هذه الشروط فقد حل للمسلمين منهم ما حل من أهل المعاندة والشقاق وليتقدم حاكم المسلمين بطلب من يكون من أكابر النصارى ويلزمهم بهذه الشروط العمرية أعز الله أنصارها آمين. " ا. هـ‍ (2)

____________

(2) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية.

الصفحة 174

الصفحة 175

رسالة أسد بن موسى إلى أسد بن الفرات


الصفحة 176

الصفحة 177
يا أخي أن ما حملني على الكتابة إليك إلا ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما ظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم، بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله (ص)..

وقد قال رسول الله (ص) من أحيى شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه..

وقال: أيما داع دعى إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل آخر من اتبعه إلى يوم القيامة..

وذكر أيضا أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا يذب عنها وينطق بعلامتها.

فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي (ص) قال: لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من كذا وكذا وأعظم القول فيه.

فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك أن حتى بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك (ص) فإنك لن تلق الله بعمل يشبه..

وإياك إن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر (من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام)

وجاء ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى.

وقد وقعت اللعنة من رسول الله (ص) على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما زادوا اجتهادا أو صوما وصلاة، ازدادوا من الله بعدا فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله (ص) وأئمة الهدى بعده.

واعلم رحمك الله: أن كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معادات أهل البدع والضلالة ضلالة لا تخرج عن الملة.


الصفحة 178
لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين:

الأول غلظ البدعة في الدين في نفسها فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون أهل الكبائر كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالما عابدا أبغض وأشد ذنبا من السني المجاهر بالكبائر.

الأمر الثاني، أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجد من كثير من أهل البدع.

فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي (ص) فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح خوفا مما وقع من الشرك الصريح الذي يصير به المسلم مرتدا.

فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات.

ومثل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه) الآية.

وقوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير، يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) الآية.

وقال ابن وضاح في كتاب البدع والحوادث بعد حديث ذكره أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة.

قال: إن فتنة الكفر هي الردة يحل فيها السبي والأموال.

وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال، ولعله وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال.

وقال: أيضا أخبرنا أسد أخبرنا رجل عن ابن المبارك قال ابن مسعود أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها: فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا.

ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال لأن أرد رجلا عن رأي سيئ أحب إلي من اعتكاف شهر.

أخبرنا أسد عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال كان بعض أهل العلم يقولون لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صدقة، ولا صياما، ولا جهادا، ولا حجا، ولا صرفا، ولا عدلا، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم.


الصفحة 179
قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا فنشر العلم حياة والبلاغ عن رسول الله (ص) رحمة يعتصم بها على مصر ملحد.

ثم روى بإسناده قال جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد فقال أرأيت رجالا ضرب بسيفه غضبا لله حتى قتل، أفى الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى في الجنة!

فقال: حذيفة استفهم الرجل وأفهمه، ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لأستفهمه فدعا به حذيفة فقال: رويدك وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار، ثم قال والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا.

ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.

ثم ذكر بإسناده عن سيفان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث، إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شئ فينزل به فيدخله الله النار. وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه، وأني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه.

ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام.

أخبرنا أسد قال: حدثنا كثير أبو سعيد قال: من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه.

أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون.

قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.

أخبرنا أسد ابن موسى قال: أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال قال: إبراهيم لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترد قلوبكم.

أخبرنا أسد بالإسناد عن أبي هريرة قال: رسول الله (ص) الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.


الصفحة 180
أخبرنا أسد أخبرنا مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال: دخل على محمد بن سيرين يوما رجل فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن اقرأها ثم أخرج، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال: أخرج عليه إن كنت مسلما لما خرجت من بيتي، قال فقال يا أبا بكر لا أزيد على أن أقر ثم أخرج، فقام: بإزاره يشد عليه وتهيأ للقيام قال:

فأقبلنا على الرجل فقلنا قد حرج عليك إلا خرجت. أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته قال:

فخرج، فقلنا يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج، قال إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكن خفت أن يلقي في قلبي شيئا أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع.

أخبرنا أسد قال: أخبرنا ضمرة عن سودة قال: سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه.

قال: فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي (ص) يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلي فوقه.

أخبرنا أسد قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمدا فرحا بذلك فأخبرته، فقلت أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى فقال: انظروا إلى ما يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام لا يعودن إليه.

ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاه بيضاء فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء هذه الحصاة ثم أخذ كفا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال:

والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة.

أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن أبي الدرداء قال: لو خرج رسول الله (ص) اليوم إليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة..

قال: الأوزاعي فكيف لو كان اليوم قال عيسى يعني الراوي عن الأوزاعي فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان، أخبرنا سليمان بن محمد بإسناده عن علي أنه قال: تعلموا العلم تعرفون به، واعملوا به تكونوا من أهله فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم.


الصفحة 181
أخبرنا يحيى بإسناده عن أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما عرف منكم شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة.

حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده عن أنس قال: ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله (ص) ليس قولكم لا إله إلا الله.

أخبرنا أسد بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرا؟؟؟ ولم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ورأى صاحب دنيا يدعوا إلى دنياه فعصمة الله عن ذلك وجعل قلبه يحن إلى قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجرا عظيما فكذلك كونوا إن شاء الله تعالى.

حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة.

أخبرنا محمد بن قدامة بإسناده عن أم الدرداء قالت دخل على أبو الدرداء مغضبا فقلت له ما أغضبك فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد (ص) إلا أنهم يصلون جميعا.

وفي لفظ: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمله ثم تفقده ما عرف منه شيئا.

حدثني إبراهيم بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه.

قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة تلى (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) فقال: والذي نفسي بيده أن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا.

قف تأمل رحمك الله إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة أو تشكل عليه ولا يستدل بها على الباطل.

ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت قول الله تعالى (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)

قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سئلت عنها رسول الله (ص) فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، و هوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي

الصفحة 182
رأى برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم.

ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو أن النبي (ص) قال: طوبى للغرباء ثلاثا قالوا يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم.

أخبرنا أسد بإسناده عن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول أن السلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون إذا فسد الناس، هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح.

فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها.

وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وضع في زمن طويل حتى قال ابن القيم: الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره.

فتأمل هذا تأملا جيدا لعلك أن تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر والنفرة من الأقل فما أقل من سلم منها ما أقله..

ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعتقدون بأمره (وفي رواية يهتدون بهدية) ويستنون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. (3)

____________

(3) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد.

الصفحة 183

المنكرات من الأعيان
والصور وأدوات اللهو


الصفحة 184

الصفحة 185
المنكرات من الأعيان والصور، يجوز إتلاف محلها تبعا لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة: جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك:

جاز تكسيرها وتحريقها وكذلك آلات الملاهي - كالطنبور - يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل كسر عودا كان مع أمه لإنسان، فهل يغرمه، أو يصلحه؟ قال: لا أرى عليه بأسا أن يكسره، ولا يغرمه ولا يصلحه قيل له:

فطاعتها؟ قال ليس لها طاعة في هذا.

وقال أبو داود: سمعت أحمد يسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به؟ قال: قد أحسن. قيل: فليس عليه شئ؟ قال: لا. قيل له: كذلك إن كسر عودا أو طنبورا؟ قال: نعم.

قال عبد الله: سمعت أبي - في رجل يرى مثل الطنبور أو الطبل، أو ما أشبه هذا - ما يصنع به؟ قال: إذا كان مكشوفا فاكسره.

وقال يوسف بن موسى، وأحمد بن الحسن: أن عبد الله سئل عن الرجل يرى الطنبور والمنكر: أيكسره؟ قال: لا بأس.

وقال أبو الصقر: سألت أبا عبد الله عن رجل رأى عودا أو طنبورا فكسره، ما عليه؟

قال: قد أحسن، وليس عليه في كسره شئ.

وقال جعفر بن محمد سألت أبا عبد الله عمن كسر الطنبور والعود فلم ير عليه شيئا.

وقال إسحاق بن إبراهيم: سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلا مغطى: أيكسره؟

قال: إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره.

وقال أيضا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطنبور، أو الطبل: عليه في ذلك شئ؟

قال يكسر هذا كله، وليس يلزمه شئ.

وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي؟ قال: يكسر أيضا، قلت: أمر في السوق فأرى الطنبور يباع: أأكسره؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويت - أي فافعل - قلت: أدعى لغسل الميت، فأسمع صوت الطبل؟ قال: إن قدرت على كسره وإلا فاخرج.


الصفحة 186
وقال في رواية إسحاق بن منصور - في الرجل يرى الطنبور والطبل والقنينة - قال: إذا كان طنبور أو طبل، وفي القنينة مسكر: اكسره.

وفي مسائل صالح، قال أبي: يقتل الخنزير، ويفسد الخمر، ويكسر الصليب.

وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأهل الظاهر، وطائفة من أهل الحديث، وجماعة من السلف، وهو قول قضاة العدل.

قال أبو حصين: كسر رجل طنبورا، فخاصمه إلى شريح، فلم يضمنه شيئا.

وقال أصحاب الشافعي: يضمن ما بينه وبين الحد المبطل للصورة وما دون ذلك: فغير مضمون، لأنه مستحق الإزالة، وما فوقه فقابل للتمول: لتأتي الانتفاع به، والمنكر إنما هو الهيئة المخصوصة، فيزول بزوالها، ولهذا أوجبنا الضمان في الصائل بما زاد على قدر الحاجة في الدفع، وكذا الحكم في البغاة في اتباع مدبرهم، والاجهاز على جريحهم، والميتة: في حال المخمصة، لا يزاد على قدر الحاجة في ذلك كله.

حرق العجل المعبود:

قال أصحاب القول الأول: قد أخبر الله سبحانه عن كليمه موسى عليه السلام: أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله، ونسفه في اليم، وكان من ذهب وفضة، وذلك محق له بالكلية، وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام: (فجعلهم جذاذا) وهو الفتات، وذلك نص في الاستئصال، وروى أحمد في مسنده والطبراني في المعجم من حديث الفرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله بعثني رحمة للعالمين، وهدى للعالمين، وأمرني ربي بمحق المعازف والمزامير والأوثان، والصليب، وأمر الجاهلية ".

وأيضا: فالقياس يقتضي ذلك، لأن محل الضمان: هو ما قبل المعاوضة، وما نحن فيه لا يقبلها البتة، فلا يكون مضمونا، وإنما قلنا: لا يقبل المعارضة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " وهذا نص، وقال " إن الله إذا حرم شيئا ثمنه " والملاهي محرمات بالنص، فحرم بيعها.

وأما قبول ما فوق الحد المبطل للصورة لجعله آنية: فلا يثبت به وجوب الضمان، لسقوط

الصفحة 187
حرمته، حيث صار جزء المحرم، أو ظرفا له، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من كسر دنان الخمر، وشق ظروفها، فلا ريب أن للمجاورة تأثيرا في الامتهان والإكرام، وقد قال تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب: أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. إنكم إذا مثلهم)

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم: يكونون بين المشركين يؤاكلونهم ويشاربونهم؟

فقال: هم منهم هذا لفظه أو معناه.

فإذا كان هذا في المجاورة المنفصلة فكيف بالمجاورة التي صارت جزءا من أجزاء المحرم، أو لصيقة به؟ وتأثير الجوار ثابت عقلا وشرعا وعرفا.

والمقصود: أن إتلاف المال - على وجه التعزير والعقوبة - ليس بمنسوخ، وقد قال أبو الهياج الأسدي: قال لي علي بن أبي طالب " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وهذا يدل على طمس الصور في أي شئ كانت، وهدم القبور المشرفة، وإن كانت من حجارة أو آجر أو لبن.

محو التصاوير:

قال المروذي: قلت لأحمد: الرجل يكتري البيت، فيرى فيه تصاوير ترى أن يحكها؟

قال: نعم، وحجته: هذا الحديث الصحيح.

وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت.

وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ".

وفي صحيح البخاري عن عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب إلا قصة ".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية.

فهؤلاء رسل الله، صلوات الله وسلامه عليهم - إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم المرسلين

الصفحة 188
محمد صلى الله عليه وسلم - كلهم على محق المحرم وإتلافه بالكلية، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فلا التفات لي من خالف ذلك.

كسر آنية الفضة:

وقد قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: دفع إلي إبريق فضة لأبيعه، أترى أن أكسره، أو أبيعه كما هو؟ قال: اكسره.

وقال: قيل لأبي عبد الله: أن رجلا دعا قوما، فجيئ بطست فضة وإبريق فضة، فكسره، فأعجب أبا عبد الله كسره.

وقال: بعثني أبو عبد الله إلى رجل بشئ، فدخلت عليه، فأتى بمكحلة رأسها مفضض، فقطعتها، فأعجبه ذلك، وتبسم.

ووجه ذلك: أن الصناعة محرمة، فلا قيمة لها ولا حرمة.

وأيضا: فتعطيل هذه الهيئة مطلوب، فهو بذلك محسن، وما على المحسنين من سبيل.

حرق الكتب المظلة وإتلافها:

وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها.

قال المروذي: قلت لأحمد: استعرت كتابا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟

قال: نعم، وقد " رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقا فيه ".

فكيف لو رأى النبي (ص) ما صنف بعده من الكتب يعارض بها ما في القرآن والسنة؟ والله المستعان، وقد " أمر النبي (ص) من كتب عنه شيئا غير القرآن أن يمحوه " ثم " أذن في كتابة سنته " ولم يأذن في غير ذلك.

وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة: غير مأذون فيها، بل مأذون في محقها وإتلافها، وما على الأمة أضر منها، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان، لما خافوا على الأمة من الاختلاف، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة؟


الصفحة 189
وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون: أن أبا الحادث حدثهم قال: قال أبو عبد الله:

أهلكهم وضع الكتب، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على الكلام.

القرآن والحديث لا الرأي:

وقال: أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقري قال: سمعت أبا عبد الله - وسئل عن الرأي؟ فرفع صوته، وقال: لا يثبت شئ من الرأي عليكم بالقرآن والحديث والآثار.

وقال في رواية ابن مشيش: إن أبا عبد الله سأله رجل، فقال: اكتب الرأي؟ فقال: ما تصنع بالرأي؟ عليك بالسنن فتعلمها، وعليك بالأحاديث المعروفة.

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: هذه الكتب بدعة وضعها وقال إسحاق بن منصور: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يعجبني شئ من وضع الكتب، من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع.

وقال المروذي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد قال: قال لي ابن عون: يا حماد، هذه الكتب تضل.

وقال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم، فقال: وأي الناس لا يخطئ؟

لا سيما من وضع الكتب، فهو أكثر خطأ.

وقال إسحاق: سمعت أبا عبد الله - وسأله قوم من أردبيل عن رجل يقال له: عبد الرحيم، وضع كتابا - فقال أبو عبد الله: هل أحد من أصحاب رسول (ص) فعل ذا؟ أو أحد من التابعين؟ و أغلظ وشدد في أمره، وقال: انهوا الناس عنه، وعليكم بالحديث.

وقال في رواية أبي الحارث: ما كتبت من هذه الكتب الموضوعة شيئا قط.

وقال محمد بن زيد المستملي: سأل أحمد رجل، فقال: اكتب كتب الرأي؟ قال لا تفعل ، عليك بالحديث والآثار، فقال له السائل: إن ابن المبارك قد كتبها، فقال له أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وإنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق.

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي - وذكر وضع الكتب - فقال: أكرهها، هذا أبو فلان وضع كتاب، فجاء أبو فلان فوضع كتاب، وجاء فلان فوضع كتابا، فهذا لا انقضاء له، كلما جاء رجل وضع كتابا، وهذه الكتب وضعها بدعة، كلما جاء رجل وضع كتابا، ترك حديث رسول (ص) وأصحابه، وعاب وضع الكتب، وكرهه كراهة شديدة

الصفحة 190

البدع في الكتب:

وقال المروذي في موضع آخر: قال أبو عبد الله: يضعون البدع في كتبهم، إنما أحذر عنها أشد التحذير، قلت: إنهم يحتجون بمالك: أنه وضع كتابا؟ فقال أبو عبد الله: هذا ابن عون والتيمي ويونس وأيوب: هل وضعوا كتابا؟ هل كان في الدنيا مثل هؤلاء؟ وكان ابن سيرين وأصحابه لا يكتبون الحديث، فكيف الرأي؟

وكلام أحمد في هذا كثير جدا، قد ذكره الخلال في كتاب العلم.

المحظور من الكتب:

ومسألة وضع الكتب: فيها تفصيل، ليس هذا موضعه، وإنما كره أحمد ذلك، ومنع منه لما فيه من الاشتغال به، والإعراض عن القرآن والسنة، والذب عنهما، وأما كتب إبطال الآراء، والمذاهب المخالفة لهما فلا بأس، وقد تكون واجبة ومستحبة ومباحة، بحسب اقتضاء الحال والله أعلم.

والمقصود: أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها، كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها (4)

____________

(4) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية..

الصفحة 191

مذاهب السلف
في
قبول شهادة المخالف


الصفحة 192

الصفحة 193
قالوا: شروط قبول شهادتهم في ذلك كونهم يعقلون الشهادة في ذلك، وأن يكونوا ذكورا أحرارا، محكوما لهم بحكم الإسلام، اثنين فصاعدا، متفقين غير مختلفين، ويكون ذلك قبل تفرقهم وتخبيهم، ويكون ذلك لبعضهم على بعض، ويكون في القتل والجرح خاصة، ولا يقبل شهادتهم على كبير: أنه قتل صغيرا، ولا على صغير: أنه قتل كبيرا.

قالوا: ولوا شهدوا، ثم رجعوا عن شهادتهم: أخذ بالشهادة الأولى ولم يلتفت إلى ما رجعوا إليه.

قالوا: ولا خلاف عندنا أنه لا يعتبر فيهم تعديل ولا تجريح.

قالوا: واختلف أصحابنا في العداوة والقرابة: هل تقدح في شهادتهم؟ على قولين، واختلفوا في جريان هذا الحكم في إناثهم، أم هو مختص بالذكور، فلا تقبل فيه شهادة الإناث؟

على قولين.

الحكم بشهادة الفساق:

وذلك في صور:

إحداهما: الفاسق باعتقاده إذا كان متحفظا في دينه فإن شهادته مقبولة، وإن حكمنا بفسقه، كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة، ونحوهم، هذا منصوص الأئمة.

قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم.

ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ولا يتعمد الكذب أولى بالقبول ممن ليس كذلك، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم.

شهادة معلن البدعة:

وإنما منع الأئمة - كالإمام أحمد ابن حنبل وأمثاله - قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته، والصلاة خلفه: هجرا له، وزجرا لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته، والصلاة خلفه، واستقضائه وتنفيذ أحكامه: رضى ببدعته، وإقرار له عليها، وتعريض لقبولها منه.


الصفحة 194

شهادة القدرية والرافضة:

قال حرب: قال أحمد: لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعاء إلى بدعة ويخاصم عليها. وقال الميموني: قال أبو عبد الله في الرافضة - لعنهم الله - لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم.

وقال إسحاق بن منصور، قلت لأحمد، كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا، لا يستحل شهادة الزور..

قال أحمد: ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة.

وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول: من أخاف عليه الكفر - مثل الروافض والجهمية - لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم.

وقال في رواية يعقوب بن بختان: إذا كان القاضي جهميا لا نشهد عنده..

وقال أحمد بن الحسن الترمذي: قدمت على أبي عبد الله، فقال: ما حال قاضيكم؟ لقد مد له في عمره.

فقلت له: إن للناس عندي شهادات، فإذا صرت إلى البلاد لا آمن إذا أشهد عنده أن يفضحني..

قال: لا تشهد عنده..

قلت: يسألني من له عندي شهادة؟

قال: لك ألا تشهد عنده.

قلت: من كفر بمذهبه - كمن ينكر حدوث العالم، وحشر الأجساد، وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات، وأنه فاعل بمشيئته وإرادته - فلا تقبل شهادته، لأنه على غير الإسلام وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكهنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم - فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا.

القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية، ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا

الصفحة 195
بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير ذلك فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى: ردت شهادته وإن غلب ما فيه من السنة والهدى: قبلت شهادته.

القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدا وتعصبا، أو بغضا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته: أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنا داعية ردت شهادته وفتاويه وأحكامه، مع القدرة على ذلك، ولم تقبل له شهادة، ولا فتوى ولا حكم، إلا عند الضرورة، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم، ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير، ولا يمكن ذلك، فتقبل للضرورة.

مذهب مالك:

وقد نص مالك على أن شهادة أهل البدع - كالقدرية والرافضة ونحوهم - لا تقبل، وإن صلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا.

قال اللخمي: وذلك لفسقهم، قال: ولو كان ذلك عن تأويل غلطوا فيه.

فإذا كان هذا ردهم لشهادة القدرية - وغلطهم إنما هو من تأويل القرآن كالخوارج - فما الظن بالجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الثنتين والسبعين فرقة؟

وعلى هذا: فإذا كان الناس فساقا كلهم إلا القليل النادر: قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل فالأمثل، هذا هو الصواب الذي عليه العمل، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق، ونفوذ أحكامه، وإن أنكروه بألسنتهم، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق وليا في النكاح ووصيا في المال.

والعجب ممن يسلبه ذلك ويرد الولاية إلى فاسق مثله، أو أفسق منه، فإن العدل الذي تنتقل إليه الولاية قد تعذر وجوده، وامتاز الفاسق القريب بشفقة القرابة، والوصي باختيار الموصى له وإيثاره على غيره، ففاسق عينه الموصي، أو امتاز بالقرابة: أولى من فاسق ليس كذلك، على أنه إذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، فلا يجوز رده مطلقا، بل يتثبت فيه حتى يتبين: هل هو صادق أو كاذب؟ فإن كان صادقا: قبل قوله وعمل به، وفسقه عليه، وكان كاذبا: رد خبره ولم يلتفت إليه.


الصفحة 196

رد شهادة الفاسق:

ولرد خبر الفاسق وشهادته مأخذان:

أحدهما: عدم الوثوق به، إذ تحمله قلة مبالاته بدينه، ونقصان وقار الله في قلبه - على تعمد الكذب.

الثاني: هجرة على إعلانه بفسقة ومجاهرته به.

فقبول شهادته إبطال لهذا الغر ض المطلوب شرعا.

من كان فسقه بغير الكذب:

فإذا علم صدق لهجة الفاسق، وأنه أصدق الناس - وإن كان فسقه بغير الكذب - فلا وجه لرد شهادته، وقد استأجر النبي (ص) هاديا يدله على طريق المدينة، وهو مشرك على دين قومه، ولكن لما وثق بقوله أمنه، ودفع إليه راحلته، وقبل دلالته.

وقد قال أصبح بن الفرج: إذا شهد الفاسق عند الحاكم وجب عليه التوقف في القضية، وقد يحتج له بقوله تعالى: (إن جاء كم فاسق بنبأ فتبينوا)

وحرف المسألة: أن مدار قبول الشهادة وردها، على غلبه ظن الصدق وعدمه. (5)

____________

(5) المرجع السابق..

الصفحة 197

خاتمة

عرضنا فيما سبق بشئ من التفصيل عدد من الفقهاء كنموذج لحالة التطرف السلفي الذي انعكس على واقع الخلف ونتج عن هذا الانعكاس صور متعددة من التطرف الحركي برزت على ساحة الواقع وأصبحت ظاهرة من ظواهر العصر..

إن معالجة هذه الظاهرة لا يتم إلا بمعرفة منابعها، ومعرفة المنابع لن تتحقق إلا بالخوض في عمق التراث، فذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى هذه المنابع وتجفيفها..

إن مواجهة التطرف المعاصر لن يتم ويكتب له النجاح إلا بمواجهة تطرف الماضي فإن أسلحة الحاضر هي نفس أسلحة الماضي.

ولقد اعتمد فقهاء الماضي على الرواية والفتوى..

واعتمد فقهاء الحاضر على الرواية والفتوى..

من هنا فإن المعالجة تتطلب إعادة النظر في الرواية والفتوى..

تتطلب غربلة التراث الإسلامي..

تتطلب العودة إلى القرآن وجعله الحكم والفيصل في التراث بشكل عام. وفي الرواية والفتوى بشكل خاص.

وهذه النماذج المتطرفة التي ألقينا الضوء عليها هنا إنما هي محاولة تشخيص للحالة الدينية في الماضي والحاضر..

وهي مفتاح هذه المسألة التي عكف عليها الكثير من الكتاب والمفكرين وطافوا من حولها دون أن يجدوا الحل الحاسم لها..

وسبب ذلك في نظري يعود إلى ما يلي:

أولا: قلة الخبرة والوعي لدى البعض بطبيعة التراث الإسلامي والالمام بجوانبه..

ثانيا: ارتباط البعض بمؤسسات وتوجهات تحول دون الخوض في عمق هذا التراث والتصدي لسلبياته وكشف تناقضاته..

ثالثا: اعتناق فكرة قداسة الماضي ومثاليته مما يحول دون كشف عيوبه والتجرؤ على رموزه وأسانيده..