الصفحة 51
النبي أن الإسلام كله من بعد النبي يتألف من ثقلين: أحدهما كتاب الله وهو بمثابة القانون النافذ للدولة، وثانيهما عترة النبي أهل بيته. وأقسم للحاضرين بأن الهدى لا يمكن أن يدرك إلا بالثقلين معاً، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إطلاقاً إلا بالثقلين معاً. وزيادة في الإيضاح أكد النبي أن علياً بن أبي طالب وشيعته هم الذين عناهم الله بقوله (أولئك هم خير البرية) [ البينة / 6 ] وأن علياً وشيعته سيدخلون الجنة غراً محجلين، وأنه لا مكان في الجنة لمن لا يوالون علياً وأهل بيت النبي! وهكذا قاد الرسول بنفسه الدعوة للتشيع إلى علي وأهل بيت النبوة لأنه أراد أن تكون الأمة المؤمنة حزباً واحداً (شيعة) تقف من وراء علي وأهل بيت النبوة طوعاً ومن دون إكراه، وأراد أن يمزج التدين بالتشيع، وأن يربط القرآن بأهل البيت، وأهل البيت بالقرآن وأن يجعل من هذه الوحدة الطريق الفرد للهدى، والواقي المنيع من الضلالة، ومن الطبيعي أن الرسول قد فعل ذلك كله بأمر من ربه.

أثبت الإمام علي بن أبي طالب، خلال مرحلتي الدعوة والدولة، تميزه وأهليته بجميع المراتب التي اختصه الله تعالى بها وأعلنها نبيه للمسلمين، فكان واضحاً للقاصي والداني، للعدو والصديق أن علياً هو الأقرب للنبي فهو ابن عمه الشقيق، وقد حضنه النبي ورباه في حجره كابنه، وهو زوج ابنته البتول، ووالد سبطيه وابن عمه أبو طالب الذي احتضن النبي صغيراً ورباه ثم حماه بنفوذه عندما أعلن نبوته، وهو ابن المرأة الفاضلة التي احتضنته وعاملته كأم وأحبته أكثر من أولادها. ثم إنه الأعلم بالدين والأفهم والأتقى، والأشجع والأفضل لقد كان فارس الإسلام، وأوحد زمانه، لذلك كان خليقاً بكل المراتب التي أعلنها النبي، وكفاه فخراً أن الله تعالى قد اختاره لذلك وأهله وأعده.

ومن هنا كان التشيع للإمام علي بن أبي طالب ولأهل بيت النبوة منهجاً رسمياً للدولة النبوية باعتباره إعداداً لمرحلة ما بعد النبوة.

فكان التشيع لعلي بن أبي طالب جزءاً لا يتجزأ من الدين، فمن والاه وأطاعه فقد والى النبي وأطاعه، ومن رفض ولايته وعصاه فقد رفض ولاية النبي وعصاه، ومن سبه أو آذاه فقد سب النبي وآذاه. لقد صار الإمام علماً للهدى فلا يحبه

الصفحة 52
إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق. ومن هنا فقد قبلت الأمة الإسلامية ذلك، فأظهرت أو تظاهرت بالتشيع لعلي وأهل بيت النبوة، لأنه بغير هذا لن يكتمل الإيمان.

يقول معاوية بن أبي سفيان، وهو عدو الإمام اللدود، في رسالة وجهها لمحمد بن أبي بكر بالحرف: (وقد كنا، وأبوك معنا، في حياة من نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده.. فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا...) (1).

تدل هذ الرسالة على أن الجميع كانوا يتشيعون للإمام علي أو يتظاهرون بذلك. إذا كانت هذه حقيقة نظر معاوية للإمام علي الذي قتل أخاه، وجده وشقيق جده وخاله وابن خاله وتسعة من أبناء عمومته فمن باب أولى أن تكون الرعية كلها مثله. لقد قبل المسلمون إمامة الإمام علي واعتبروه قدراً مقدوراً، كالنبوة وقبلوا قيادة أهل بيت النبوة المستمرة للمجتمع الإسلامي، ولولا الانقلاب الذي قادة قادة بطون قريش، لأسباب بعضها قبلي ; لما اختلف على التشيع للإمام ولأهل بيته اثنان، ولسارت أمور الأمة سجحاً إلى القيامة.

والذي يعنينا هنا أن التشيع لعلي بن أبي طالب والقول بإمامته وبحق أهل بيت النبوة بالإمامة والولاية والقيادة من بعد النبي كان خطا عاما مسلما من الجميع، أو هكذا تظاهر الجميع من دون إكراه. ومن هنا كان الناس جميعهم شيعة، وكانت الشيعة فرقة واحدة، واندمجت فكرة التشيع مع الدين، وصارت وجها من وجوهه، وامتازت عقيدة التشيع في تلك المرحلة بالبساطة والوضوح، وتلخصت في أمرين:

1 - قانون نافذ يتكون من القرآن الكريم وبيان النبي لهذا القرآن.

2 - قيادة سياسية منحصرة بعمادة أهل بيت النبوة، وأول العمداء علي بن أبي طالب.

____________

(1) راجع مروج الذهب للمسعودي، 3 / 11، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 118 - 119، وكتابنا المواجهة ص 472.

الصفحة 53

التشيع في عهد الخلفاء الثلاثة

لما أراد النبي أن يكتب توجيهاته النهائية، وهو على فراش الموت وجد نفسه وجهاً لوجه أمام بطون قريش: مهاجرها وطليقها، ومن خلف البطون المنافقون والمرتزقة من الأعراب! وجد نفسه أمام حزب منظم وقوي يقوده صهره عمر بن الخطاب، فما أن قال النبي: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، حتى قال عمر بن الخطاب: إن النبي يهجر، حسبنا كتاب الله! وعلى الفور رددت البطون وحلفاؤها: القول ما قال عمر! إن النبي يهجر! ونجحوا في الحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد. لقد تيقن النبي والقلة المؤمنة التي اصطفاها لتشهد كتابة توجيهاته النهائية. إنهم أمام الفتنة بعينها، وإن بطون قريش التي هزمها النبي، وهي على الشرك، جاءت لتهزم النبي تحت مظلة الإسلام! وإنها تهدف إلى هدم كافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بالإمامة والقيادة والولاية من بعد النبي، وإنها تستعد لغصب حق أهل بيت النبوة الشرعي في القيادة، والاستيلاء عليها بالقوة والتغلب والقهر، وتقديم الدين على طريقة البطون. لقد قدرت البطون ودبرت فأحكمت التدبير، فلو أصر النبي علي كتابة توجيهاته لأصرت البطون وحلفاؤها على هجر النبي ; وفي ذلك هدم للدين وإبقائه طريقاً لملك البطون، وقدر النبي أن عهوده ومواثيقه اللفظية وتأكيداته التي تكررت تكفي المؤمنين ليحموا الشرعية الإلهية بسواعدهم، فإن تخاذلوا عن حمايتها فسيذلوا ويحرموا نعمة هذه الشرعية الإلهية، وسيتفرقوا. وإن تفرقوا لن يجتمعوا إلا بالعودة إلى هذه الشرعية بعد أن يمسهم الشيطان بنصب وعذاب. وخرجت البطون من بيت النبي منتصرة، واغتنمت فرصة انشغال أهل بيته بتجهيزه وتكفينه، ونصبت خليفة، وبايعته بطون قريش، وبايعه المنافقون والمرتزقة من الأعراب، وأصحاب المصالح من الأنصار، وعزل أهل بيت النبوة وبنو هاشم والقلة المؤمنة وصاروا أقلة كما كان وضعهم في مكة قبل الهجرة.

وواجه الإمام علي وأهل البيت والفئة المؤمنة واقعاً سياسياً لا طاقة لهم بمواجهته (1).

____________

(1) راجع كتابينا: نظرية عدالة الصحابة، ص 286 وما بعدها، والمواجهة مع رسول الله وآله، ص 360 فتجد التفصيل ومئات المراجع المعتمدة عند أهل السنة.

الصفحة 54

إلغاء النهج العام للتشيع وتجميده

عند ما نجحت بطون قريش في انقلابها الذي قاده صهرا النبي، واستولت بالقوة والتغلب والقهر على منصب الخلافة اتخذت سلسة من التدابير والقرارات المؤلمة، نجحت، من خلالها، بإلغاء النهج العام الذي رسمه النبي للتشيع لعلي بن أبي طالب بخاصة وأهل بيت النبوة بعامة، فبدلت رسمياً واجب الولاء لأهل بيت النبوة بالولاء لقريش، وجعلت الولاء لخليفة البطون بديلاً من الولاء لعلي بن أبي طالب، وجمدت التشيع تجميداً كاملاً من عدة طرق هي:

1 - منع رواية الأحاديث النبوية المتعلقة بالتشيع لأهل بيت النبوة بعامة ولعلي بخاصة وكتابتها، وحرق المكتوب منها.

2 - تحطيم الرموز التي ينبغي شرعاً على الناس أن يوالوها. فقد جر الخليفة الإمام علي بن أبي طالب جراً، وهدد بالقتل إن لم يبايع، وشرع جيش الخليفة في حرق بيت فاطمة بنت الرسول محمد على من فيه، وفيه فاطمة والحسن والحسين سبطا الرسول.

3 - حرمان أهل بيت النبوة من حقهم في ميراث النبي، ومصادرة المنح التي أعطاها لهم النبي حال حياته! وحرمانهم من حقهم في الخمس الوارد في آية محكمة.

4 - حرمان أهل بيت النبوة من تولي الوظائف العامة وأوضحت البطون لهم بأنه إذا ما أرادوا العيش فإن عليهم أن يقفوا أذلة أمام بيت الخليفة ليأخذوا حاجتهم من المأكل والمشرب! واستعملت سلطات الدولة ونفوذها لصد الناس عن موالاة علي وأهل بيت النبوة ونجحت في ذلك.

ومن خلال هذه التدابير المؤلمة استطاعت دولة البطون أن تعزل علياً وأهل بيت النبوة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وأن تذلهم إذلالاً بالغاً، وأن تظهرهم في مظهر الذين لا حول لهم ولا قوة. وما يعنينا أن دولة البطون ألفت، رسمياً وعملياً، النهج العام للتشيع الذي رسمه النبي، وجمدت التشيع تجميداً تاماً، والقلة التي اختارت الوفاء بعهد الله رسوله، والبقاء على ولائها وتشيعها لعلي خاصة وأهل

الصفحة 55
بيت النبوة عامة كتمت ولاءها وتشيعها، وتظاهرت بتقبل ما حدث حفظاً لحياتها ومصالحها، وبقيت عقيدتها بالتشيع على بساطتها التي كانت سائدة في زمن الرسول، فهي تؤمن بالقرآن وبيان النبي لهذا القرآن قانوناً أبدياً للأمة، وتؤمن بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيت النبوة قيادة أبدية للأمة من بعد النبي، ولكنها اضطرت لإخفاء هذا الإيمان. بمعنى أنه لم يكن للشيعة فرق في هذا العهد إنما كانوا فرقة واحدة.

عودة النهج العام للتشيع

بعد مقتل خليفة بطون قريش الثالث عثمان، وتسلم الإمام علي منصب الخلافة، رفع جميع القيود التي وضعها الخلفاء الثلاثة، وأخذ يكشف النقاب ويذكر الأمة بالنصوص الشرعية التي عالجت منصب القيادة من بعد النبي. ولم تمض آونة بسيطة على حكمه حتى أدركت الأكثرية الساحقة من المسلمين، أن المياه قد عادت إلى مجاريها، وأن الحق قد عاد إلى صاحبه، وشعرت كأنها استفاقت من حلم، وأعلنت الفئة المؤمنة حقيقة إيمانها وفتح الإمام بعض مغاليق علمه بالقدر الذي تتحمله العامة، وعادت سيرة البطل لتشق طريقها إلى الأسماع من دون قيود، وبهر الجميع بمسلك الإمام الشخصي وعدله وجلال قدره، فالتفت حوله قلوب المخلصين فتشيعوا له ولأهل بيته، وتشيعت البقية أو تظاهرت بالتشيع. وصار التشيع لأهل بيت النبوة النهج العام للمجتمع، بعد القضاء على حزب عائشة وطلحة والزبير، ودانت البلاد الإسلامية لحكم الإمام وقيادته ولم تبق إلا ولاية الشام التي أعلنت عصيانها له بقيادة معاوية بن أبي سفيان. خلال هذه الحقبة كانت الشيعة فرقة واحدة ولعقيدتها البساطة التي كانت سائدة في عهد النبي و تقوم هذه العقيدة على حديث الثقلين الذي يؤكد أن قيادة الأمة حق خالص لأئمة أهل بيت النبوة.

الاختلاف ونشوء الفرق

وقف الصحابة المخلصون جميعهم مع الإمام علي في سلمه وحربه ومعهم عامة المسلمين، ووقفت بطون قريش ومعها المنافقون والمرتزقة من الأعراب

الصفحة 56
وأهل الشام مع معاوية، الذي استعد لهذه المواجهة طوال مدة حكمه لولايته الشام التي امتدت قرابة عشرين عاماً. كانت مواجهة بين القوة والشرعية، لقد أنهكت الحرب معسكر الإمام وحدثت معركة صفين، ورجحت كفة الإمام ومعسكره، ولا حت بوادر هزيمة معاوية وجيشه فاخترع معاوية وابن العاص خدعة رفع المصاحف على الرماح، وشعار (هذا كتاب الله بينا وبينكم)، ودب الخلاف في معسكر الإمام، فمنهم من يقول: هذا كتاب الله، ومنهم من يقول: تلك خدعة من رجلين لا يعرفان كتاب الله. وتوقف القتال، واشتد الخلاف في معسكر الإمام، وصار الإمام نفسه مأموراً بعد أن كان آمراً، ووجدت الأكثرية فرصة للقعود والدعة، وتهيأ المناخ لنشوء الفرق والأحزاب، الفئة المؤمنة، وهي قلة بقيت على ولائها للحق لم تتزعزع، والأكثرية الساحقة فتحت آذانها لما يقال وهو كثير، وفتحت قلوبها للهوى الذي انفلت من حواجزه، وتبعثرت وتشرذمت الكثرة طرائق بدداً. كان هم الإمام أن يعيد الكثرة إلى خط القلة المؤمنة، وكانت المهمة عسيرة إن لم تكن مستحيلة، فقد ألقى الخلاف أجرانه في معسكر الإمام وأفلتت أزمة الأمور من يده، وعبر عن واقع الحال بقوله: (لا رأي لمن لا يطاع). وأخيراً صمم الإمام أن يدعو على أولئك الذين رفضوا طاعته، وأن يخرج وأهل بيته والقلة المؤمنة التي أطاعته إلى حرب معاوية. في قمة هذا التصميم، وبينما كان الإمام يستعد لأداء الصلاة في صبيحة أحد أيام شهر رمضان كان السيف الغدر، بيد أشقاها ابن ملجم، وما أن دلف الإمام إلى المسجد حتى هوى السيف على رأس أتقاها، ومات أفضل المسلمين بعد النبي، وبايعت القلة المؤمنة الحسن، وتبعهم الذين بايعوا أباه. وجهز الإمام علي الفور جيشاً لمقاتلة معاوية، وسار الجيش بقيادة عبيد الله بن العباس، ومن دون علم الإمام جرت مفاوضات بين معاوية وبين عبيد الله أسفرت عن حصول الأخير على رشوة كبيرة من معاوية فالتحق ومعه ثلث الجيش بمعاوية. لم يستسلم الإمام إنما خرج ومعه فئة من المؤمنين لينضموا إلى ما تبقى من الجيش، وليقاتلوا معاوية، وفجع قلب الإمام الشريف عندما اكتشف أن فرقة ممن تبقى من جيشه كانت تخطط للقبض عليه وتسليمه حياً لمعاوية مقابل مبلغ من النقود، وأن هذه الفرقة قد شرعت في ذلك وطعنته وهجمت على فسطاطه ونهبته!


الصفحة 57
عندئذ تيقن الإمام أن الاستمرار في مواجهة معاوية عسكرياً في هذه الظروف انتحار حقيقي سيؤدي حتماً إلى إبادة الفئة المؤمنة إبادة تامة، وخلو الساحة من المؤمنين، وهذا ما يتمناه معاوية وبطون قريش، وبالنتيجة سينتصر معاوية. لذلك، وحرصاً من الإمام علي ما تبقى من الفئة المؤمنة ومن أهل بيت النبوة، قرر أن يتنازل لمعاوية عن الخلافة بشروط، حتى لا يضطر يوماً إلى التنازل عنها من دون شروط، وجرت مفاوضات، وقبل معاوية بشروط الإمام، ووقع على التزامه بها، وتنازل الإمام رسمياً، وصار معاوية بالقوة والقهر خليفة جميع المسلمين. وبعد أن تم له ما أراد، لم يف بعهد الله، ولم يحترم توقيعه على شروط الحسن. وظهر معاوية على حقيقة ملكاً لا مطمع له إلا الملك، وما كانت الشعارات التي رفعها سوى ستار يخفي تحته أطماعه. وبعد أن استهل معاوية عهده الجديد، أخذ الناس يقارنون بين عهده وعهد علي، وسيرته وسيرة علي، وعدله وعدل علي، وعلمه وعلم علي، وأصله وأصل علي، فندموا وتباكوا على الإمام وعلى كل ما كان يرمز له (ولات حين مندم) واضطروا إلى مواجهة عسف الملك الذي أقاموا ملكه بأيديهم وأعمالهم!

الفئة التي تشيعت لله ولرسوله ولأهل بيته بقيت على عهد الله لم تتغير، ولم تهتز قناعاتها بأن القيادة والمرجعية حق خالص لأهل بيت النبوة، ولكنها اضطرت أن تخفي هذه القناعات تماماً كما أخفتها في عهد الخلفاء الثلاثة حرصاً منها على حياتها ومصالحها الهزيلة. وهؤلاء الباقون على عهد الله هم الشيعة.

والفئات التي تباكت من ظلم معاوية وولاته وفقدت عدل الإمام وسيرته، بدأت من الصفر وأخذت تكون لنفسها قناعات مختلطة تتضمن نوعاً من الموالاة لأهل بيت النبوة، ولكنها ليست الموالاة الشرعية إنما هي تعبير عن المعاناة، أولئك ليسوا شيعة.

التشيع، من منظور السلطان، جريمة تفوق جريمة الكفر

بعد أن استقام الأمر لمعاوية ولبطون قريش، وأنشبوا أظفارهم في أعناق المسلمين وقلوبهم لم يكتفوا بإلغاء النهج العام للتشيع الذي كان سائداً زمن النبي،

الصفحة 58
وزمن علي، ولم يكتفوا بطمس النصوص الشرعية التي تبرز علياً وأهل بيت النبوة وتؤكد حقهم في القيادة والمرجعية، بل سخروا كل إمكانيات الدولة وطاقاتها الهائلة للتشكيك في هذه النصوص الشرعية، ولاختلاق فضائل ونصوص نبوية لمعاوية وقادة البطون ما أنزل الله بها من سلطان، وفرض هذه الفضائل والنصوص المختلفة على الناس وجعلها منهاجاً تربوياً وتعليمياً لرعايا دولة معاوية. وأبعد من ذلك فإن معاوية وقادة البطون صوروا علياً بن أبي طالب في صورة الشيطان (حاشاه) وفرضوا على الرعية لعنه وسبه والتبرؤ منه ومن أهل بيت النبوة. وأصدر معاوية، بوصفه سلطان المسلمين، سلسلة من (المراسيم الملكية) عممت على كافة ولاته، وفي كل أقاليم دولته، أمرهم فيها بأن يمحوا من ديوان العطاء كل من يشتبهوا بموالاته لعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة، وألا يقبلوا له شهادة، وإن ظنوا بأن أحداً من المسلمين يحب علياً وأهل بيت النبوة فعليهم أن يهدموا داره وأن يقتلوه على الفور. فصارت كلمتا الكفر والزندقة أخف بمليون مرة من كلمة التشيع، وصار الكفرة والزنادقة ملوكاً إذا ما قيسوا بالشيعة، وصارت الانتماء إلى الشيعة من الجرائم الكبرى التي تعرض مرتكبها للقتل من دون محاكمة، وعلى الشبهة!

وصارت هذه (المراسيم) جزءاً من المنهاج التربوي والتعليمي للدولة يتناقلها الناس، جيلاً بعد جيل. وما يعنينا أن الفئة المؤمنة بحق أهل بيت النبوة بقيادة الأمة بقيت على إيمانها، ولكنها أخفت هذا الإيمان في حرز منيع، وكان هم الشيعة منصباً بالدرجة الأولى والأخيرة على المحافظة على الحياة. فلم يعد بوسع أحد منهم أن يقول لخادمه بأنه من الشيعة. كم كان الواحد منهم يتستر على إيمانه تماماً كتستر مؤمن آل فرعون بل وأشد تستراً، لأن البديل الآخر هو الموت. وتركت الساحة لمعاوية ولبطون قريش لينجحوا في تحريف الحقائق بقوة الدولة وسلطانها!

لذلك تشبثت الشيعة بالحياة لا حرصاً عليها، ولكن طمعاً بنقل الحقيقة من جيل إلى جيل وبيانها للناس، وفاء بما أخذه الله على العلماء.

المذبحة الكبرى

لما شعر معاوية بدنو أجله، وليتم بالصالحات أعماله، أخذ يعد العدة ليستخلف ابنه يزيد من بعده، وشجعه على ذلك تأييد البطون والمنافقين والمرتزقة

الصفحة 59
وجند الشام المجندة تحت أمرته، وخيراتها المكنوزة لحاجاته الشخصية. ويزيد هذا شاب سكير مشهور بخلاعته وقلة دينه ومجونه وتفاهته. ولكن، وكما فرض نفسه على الأمة بالتغلب والقهر، أراد أن يورثها لابنه باعتبارها جزءاً من ممتلكاته الخاصة، وقدر معاوية أن أهل المدينة الذين يعرفون يزيداً لن يقبلوه، وبالتالي فستكون الفرصة ذهبية للقضاء التام على ما تبقى من المؤمنين. وبعد أن استخلف يزيد وعهد إليه ; أوصاه بأن يرسل مسلم بن عقبة إلى المدينة إذا ثار أهلها، ويبدو واضحاً أن معاوية قد تفاهم مع مسلم بن عقبة على ما ينبغي فعله بأهل المدينة.

مات معاوية، وجرت (مراسيم) بيعة الخليفة الجديد يزيد مع مراسيم العزاء بموت الخليفة القديم معاوية، وطلب من الحسين بن علي بن أبي طالب سبط النبي، وابن علي، أن يبايع يزيد ليكون حاكمه وإمامه وقائده! وأهل المدينة يتفرجون لا يدفعون هذا الحرج عن سبط النبي لا بيد ولا بلسان، فوعد الإمام أن ينظر في الطلب، ولما أرخى الليل سدوله ودع الحسين جده، وخرج بأهله ومن اتبعه من ذرية أخية وأبناء عمومته خائفاً، وتوجه إلى مكة. وأحيط أهل مكة علماً بقدوم الحسين وأهله، وبإصرار ولاة يزيد على أخذ البيعة منه فلم يحركوا ساكناً، بل نظروا إليه كزائر من زوار بيت الله الحرام، وأمضى الحسين أياماً في مكة ثم توجه إلى العراق. وفي كربلاء كان جيش يزيد بانتظاره هو وأهل بيته، كان جيش (الخلافة) قد تلقى أمراً حاسماً بالحيلولة بين الحسين وأهل بيته ومن معه وبين الماء حتى يموتوا جميعاً عطشاً تماماً وولاة العراق، وقادة جيش الخلافة الذي نهد ليذبح سبط النبي وأهل بيت النبوة أقل وأذل من أن يصدروا أمراً بهذه الخطورة وأن ينفذوه على مسؤوليتهم، بمعنى أن الخليفة الجديد ضالع من المؤامرة والمذبحة مثلها كان أبوه ضالعاً بها وشارك فيها الذين كتبوا للحسين!

وما يدل ذلك أنه لم تكن هنا لك ضرورة عسكرية للقتال، فيمكن لجيش قوامه عشرون ألف مقاتل، أو أربعة آلاف مقاتل، أن يأسر، وبكل سهولة، رجلاً ومعه اثنان وسبعون شخصاً من أهل بيته وشيعته. لكن الوالي والجيش والخليفة الجديد والقديم ضالعون بالمذبحة، وقد اتخذوا قرارها، وهم ينفذونها فصلاً فصلاً. وبعد حصار طويل وبعد أن أشرف الحسين وأهل بيت النبوة وأطفال

الصفحة 60
النبي وبنانه على الموت عطشاً، شن عمر بن سعد بن أبي وقاص هجوماً شاملاً وانجلى الهجوم عن قتل الحسين وأهل بيت النبوة وأسر بنات النبي وأطفاله. ولم يكتف ابن سعد بذلك بل أمر كوكبة من خيالته بأن يطأوا بخيولهم جثة الحسين وجثث أهل بيت النبوة ومن معهم، وأن يقطعوا رؤوس القتلى ويحملوها على الرماح حتى يرى والي العراق والخليفة أفعال عمر بن سعد وبلاءه المجيد في سبيل عرش معاوية وابنه! ورفعت الرؤوس، وسيقت بنات النبي، ولم تقع المذبحة إلا بعد أن أقام الحسين الحجة على القوم وبان لكل ذي عقل أن القوم أسفل من الكفرة، وأنها أحقاد على محمد وعلي وبني هاشم وعملية ثأر لقتلى الأمويين في معركة بدر، ولكن تحت خيمة الإسلام. وصدم العالم الإسلامي من هول ما جرى في كربلاء، وانزعج أهل المدينة، وتمردوا على يزيد. وعملا بوصية معاوية، جهز الخليفة جيشاً من أهل الشام وسلم قيادته لمسلم بن عقبة، وصل مسلم إلى المدينة، وفي يوم واحد، هو (يوم الحرة) قتل عشرة آلاف مسلم وأباح المدينة ثلاثة أيام لجيشه وربط خيوله في مسجد النبي، وختم أعناق الصحابة، وأخذ البيعة ممن تبقى من أهل المدينة على أنهم قول لأمير المؤمنين يزيد يتصرف بهم كما يتصرف السيد بعبيده، إن شاء باعهم، وإن شاء استخدمهم وإن شاء قتلهم، يفعل بهم ما يشاء! استسلمت الأمة لآل أبي سفيان بخاصة ولبني أمية بعامة، وذاقت وبال أمرها بمعصيتها لنبيها وخذلانها أهل بيته الذين أمرها الله بتقديمهم فذبح الطغاة ساداتها، ثم ذبحوا عامتها. ودخل حفيد أبي سفيان المدينة رداً على دخول محمد لمكة، ولكن تحت مظلة الإسلام!

نهج التشيع النهائي، والفرقة الناجية

بعد المحن التي تعرض لها أهل بيت النبوة، والتي جاوزت المدى في مذبحة كربلاء، انسحب الإمام علي بن الحسين زين العابدين من الحياة السياسية وشكا بثه وحزنه لله تعالى بأدعية تهز مشاعر النفس البشرية، وركز في الحياة العامة على العلم وتعليم الناس وإيصالهم إلى نبع علم النبوة الحقيقي. لقد تيقن الإمام أن وصول أهل بيت النبوة إلى منصب القيادة لا يحل مشاكل المسلمين الناجمة عن

الصفحة 61
تغيير دولة البطون لكافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بالقيادة، والحل الوحيد لمشاكل الأمة تتمثل في تحصين الأمة ضد الإنحراف وإعادة بنائها من جديد فرداً فرداً، وعلى هذا اتفق أئمة أهل بيت النبوة واتسقوا، فانصب جهدهم على نشر علم النبوة النقي في جميع أوساط المسلمين، واتخاذ التدابير التي تؤدي إلى بقاء الفئة المؤمنة التي التزمت بموالاتهم (الشيعة) وتنظيم هذه الفئة تنظيماً يضمن استمرار وجودها، وتثقيفها تثقيفاً معمقاً بثقافة أهل بيت النبوة التي تمثل الثقافة الإسلامية في أنقى صورها وأروعها، بما في ذلك إيجاد النظام التكافلي الاقتصادي الذي يغني أفرادها عن الحاجة إلى دولة البطون.

ومضمون التشيع في نهجه الجديد لا يختلف عن مضمونه في عهد النبوة، فالمطلوب من الشيعي أن يلتزم بمبدأين: أولهما القرآن الكريم وبيان النبي لهذا القرآن، وثانيهما الإيمان بأن قيادة الأمة ومرجعيتها حق خالص لأهل بيت النبوة، وبالتحديد لأئمة أهل بيت النبوة الإثنى عشر الذين سماهم رسول الله، أولهم علي وثانيهم الحسن وثالثهم الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين آخرهم المهدي المنتظر محمد بن الحسن، فمن آمن بذلك فهو شيعي، ومن الفرقة الناجية، ومن لم يؤمن بذلك فأمره متروك لله. فالمضمون ثابت لم يتغير والذي تغير هو (التكتيك) والتنظيم، وإعاة الترتيب لمواجهة الواقع السياسي وثمرات النهج التربوي والتعليمي التي أوجدتها دولة البطون، وهذه الفرقة من الشيعة هي الإمامية الاثني عشرية، وهي الفرقة الناجية، إذ لا خلاف بين المسلمين على أن الأئمة الشرعيين من بعد النبي هم اثنا عشر إماماً، وقد أخفقت دولة البطون على الرغم من إمكانياتها الضخمة طوال التاريخ في بيان أولئك الأئمة الاثني عشر ما يجعل إجماع أهل بيت النبوة علي أسمائهم وترتيب أزمانهم الحجة الوحيدة المؤهلة للبقاء. والمنتمون إلى هذه الفرقة يشكلون الأكثرية الساحقة من المؤمنين الموسومين بالتشيع، وقد التزمت هذه الفرقة بالخط العرفاني السلمي، فلم تلجأ للعنف، ولم تشترك عملياً في الثورات، لأن الأئمة كانوا يعرفون سلفاً نتائج هذه الثورات إنما كان جهدها منصباً بالدرجة الأولى على معرفة الحقائق الشرعية وتوسيع قاعدتها الشعبية (إعادة بناء الأمة) وتحصين هذه القاعدة من الإنحراف، وصار لها مذهب معروف يسمى

الصفحة 62
بالمذهب الجعفري نسبة إلى الإمام جعفر (الصادق) بن محمد (الباقر) بن علي (زين العابدين) بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وسمي المذهب باسم جعفر لأنه عاصر إصرار دولة البطون على حصر المذاهب الإسلامية بأربعة: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي نسبة إلى أسماء مؤسسي هذه المذاهب، فسمي مذهب أهل البيت بالمذهب الجعفري، وأصحاب المذاهب الأربعة كانوا تلاميذ الإمام جعفر الصادق، فهو أستاذهم باعترافهم. أما سبب عدم انتشار هذا المذهب في أوساط العامة فيعود إلى حساسية دولة البطون من أئمة أهل البيت النبوة ومن إصرار هذه الدولة على طمس وجودهم وأوليائهم، ومن مناهجها التعليمية والتربوية التي غرست في أذهان العامة مع التكرار والوراثة، وصورت أهل بيت النبوة في الشواذ المبتدعة كما يقول ابن خلدون. وصورت أولياءهم في صورة الخارجين على الجماعة الشاقين لعصا الطاعة. وجاءت الأجيال المسلمة اللاحقة فصدقت تلك المقولات واستبعدت أن يكذب السلف الصالح الذي فتح بدينه مشارق الأرض ومغاربها، فحتى الكثير من علماء أهل السنة لا يعرفون جعفر الصادق ولا يدركون فضله ويعتقدون أن أتباعه كفار! وما ذلك إلا من ثمرات المناهج التربوية والتعليمية التي أشاعها معاوية بخاصة وخلفاء البطون بعامة.

فرق محسوبة على الشيعة

1 - الزيدية: هم أصحاب زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأصحاب زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومنهم تفرعت صنوف الزيدية، ساقوا الإمامة بعد هذين في أولاد فاطمة شورى بين أولادهما، فمن خرج منهم مستحقاً للإمامة فهو الإمام. ولذلك تبع بعضهم زيداً بن علي وبعضهم زيداً بن الحسن، وقالت الزيدية بإمامة المفضول مع وجود الأفضل (1).

ويلاحظ أن الزيدين قد خرجا على خليفة دولة البطون وكلاهما بطل، ولم يقل أحد منهما بأنه إمام شرعي معين من الله ورسوله، ولم يدع أحد منهما أن له فقه

____________

(1) راجع: أصل الشيعة وأصولها للإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء، ص 135 - 136.

الصفحة 63
خاص به ومستقل عن فقه أهل بيت النبوة، ولم يدع أحد منهما أنه أعلم من الإمام الشرعي الذي كان معروفاً في زمانه كل ما في الأمر أن الرجلين كرها ظلم خليفة البطون وظلم دولته، وتعجلا الشهادة فنالاها، ولأنهما من أهل بيت النبوة، ولأنهما اعتبرا رمزاً للشجاعة والتضحية في زمانهما قال أتباعهما بإمامتهما بعد موتهما، وأن كلمة إمام صارت تطلق على من هو أقل من الرجلين الشريفين شأناً فسمي أصحاب المذاهب الأربعة بالأئمة، وسمي أصحاب الصحاح الستة بالأئمة، وسمي كبار المفسرين بالأئمة، وقد شجعت دولة البطون هذا التوجه لتسحب تمييز إمام أهل البيت النبوة وتعممه على أكبر عدد ممكن، وصولاً إلى إبطال مفاعيله تماماً كما عممت فكرة العدالة على جمع الصحابة، وصولاً إلى إبطال مرجعية أهل بيت النبوة وطهارتهم، فقيل عن كل من الزيدين إمام مع أنة لم يقل هذا عن نفسه.

وليس من المستعبد أن تكون دولة البطون قد شجعت هذا التوجه لتظهر أهل بيت النبوة في مظهر المختلفين اللاهثين وراء الإمامة بمعناها الشرعي واللغوي.

ويبدو أن أنصار الإمامين (الزيديين) في أكثريتهم من أهل السنة الذين كرهوا الظلم وأحبوا البطولة، وليس أدل على ذلك من قولهم بإمامة المفضول مع وجود الأفضل، ليجوزوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع وجود علي، وهو الأفضل برأيهم. والدليل الثاني أن أحكامهم السياسية توفيقية، بمعنى أنها لا تريد إثارة العامة، وتضحي بالنص طلباً للسلامة والوفاق الوطني! ثم إنه ليس للزيديين فقه خاص بهم ما جعلهم عالة على الفقه الحنفي لأن أبا حنيفة كان يتعاطف مع زيد بن علي ويقول بشرعية ثورته. ويلوح لي أن أكثر أتباعه أصناف قد التزموا بالفقه الحنفي وإن خلعوا عليه رداء أهل بيت النبوة وعباءتهم للتبرك!

2 - الإسماعيلية: وهم أصحاب إسماعيل بن جعفر الصادق الذين أنكروا موته في حياة أبيه، وزعموا أنه لا يموت حتى يملك الأرض، فيقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة (1).

____________

(1) راجع: أصل الشيعة وأصولها للإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، ص 136.

الصفحة 64
من المؤكد أن الإسماعيلية يقولون بإمامة علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق، ويبدو أنهم فقدوا الاتصال بحلقة الأئمة فظنوا أن الإمام من بعد جعفر الصادق هو ابنه الكبير إسماعيل، وعندما قيل لهم:

إن إسماعيل قد مات حال حياة والده أنكروا ذلك. وقد صوروا إسماعيل في صورة المهدي المنتظر، فالإسماعيلية كانت منقطعة عن المصدر اليقيني للمعلومات وهو الإمام، وربما كان الدعاة بعيدين عنه، ولم يجالسوه، لأن مجالسة الإمام وبحث هكذا أمور في غاية العسر والشدة، فعيون دولة البطون تجوب دوماً حول الإمام وتحصي عليه حركاته وسكناته، وحركات الذين يتصلون وسكناتهم لتتأكد من طبيعة هذه الإتصالات كل ذلك يدفعنا إلى الاعتقاد أن إمامة إسماعيل اجتهادية كان القصد منها إقامة علم لأتباع أهل البيت والمتعاطفين معهم في منطقة معينة، وإضفاء الشرعية على سادة هذه الحركة وقادتها.

ومن المؤكد، أيضاً، أن (التكتيك) قد اختلط عندهم بالأصول وأن كثيراً من معارفهم وتوجهاتهم لا تمت لأهل البيت بصلة، بمعنى أنهم لم يعلموها لأعضاء الفرقة الإسماعيلية إنما هي من قبيل الافتراض، أو من اجتهاد قادة هذه الحركة.

وليس من المستبعد أن تكون عواطفهم صادقة نحو أهل بيت النبوة، ولكنها كانت بحاجة إلى التوجيه المباشر من الأئمة، وهذا ما افتقرت إليه الحركة الإسماعيلية، بمعنى أن أمرها لم يكن بيد الأئمة، وأنها فقدت الاتصال بهم وعوض القائمون عليها عن ذلك بالافتراض أو الاجتهاد.

3 - الواقفية: تطلق هذه التسمية على غير فرقة من فرق الشيعة، وتتمثل في من قال بإمامة أحد الأئمة ووقف بعد موته، وقال: إنه القائم المنتظر. فالإسماعيلية من الواقفية وبعض أتباع موسى بن جعفر من الواقفية، وتعزى ظاهرة الواقفية إلى فقدان الصلة بين الأتباع وبين إمام زمانهم، وعدم القدرة على الاختلاط به والاستماع إليه ومعرفة حقيقة الحال، ووراء هذه الظاهرة أحياناً استبداد القائمين على هذه الجماعة أو تلك ورغبتهم الجامحة في الاستيلاء على ما في أيديهم من أموال جمعت باسم الإمام.


الصفحة 65

إدعاء التشيع

كانت طريقة اتصالات الأئمة مع شيعتهم تحير دولة البطون وتربكها، لذلك دست عيونها وجواسيسها من حول الإمام، فادعوا التشيع، وهم ليسوا شيعة، وغايتهم منصبة على معرفة تحركات إمام الزمان وأعوانه، وعلى تحريف ما يسمعونه منه وتشويهه ونشره بين الناس ليكرهوا المسلمين بأئمة أهل بيت النبوة وبأهل البيت، وليوحوا لهم بأن الأئمة وأولياءهم أعداء للإسلام، وأن الخليفة وبطانته هم حماة الإسلام الحقيقي، ومن هذا الفرق اللعينة التي كانت تتلقى دعماً من دولة البطون لتظهر التشيع والموالاة ولتتقول على الأئمة وتشوه سمعتهم وأولياءهم الفرق التالية:

1 - الفرقة الخطابية وتضم أصحاب أبي الخطاب، محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي. وقد كشف الإمام جعفر أمر هذا الرجل فلعنه وتبرأ منه، وحذر الشيعة من شروره. فأعلن أبو الخطاب كذبه علناً، وادعى أن جعفر بن محمد جعله وصياً وقيماً له، ثم ادعى النبوة والرسالة. وهذه الفرقة تقول بالرجعة والتناسخ (1).

والدليل على أن هذه الفرقة مجموعة من عيون دولة البطون امتهنت الظهور بالتشيع والتقول على الأئمة أن أبا الخطاب وأعوانه كانوا يمارسون نشاطاتهم علناً.

2 - الفرقة الغرابية: وتضم مجموعة من عيون دولة البطون وجواسيسها ادعت التشيع لتشويه معناه وتنفير الناس منه ومن أهل البيت وأئمتهم، فقالت هذه الفرقة: أن الله قد أرسل جبريل إلى علي، فأخطأ وذهب إلى النبي لأنه كان يشبهه، وقالوا أنه كان أشبه من الغراب بالغراب والذباب بالذباب (2). وكانت هذه الفرقة تمارس نشاطها بعلم دولة البطون ومن دون أن تتعرض لأية معادلة. وهذا يؤكد أن أفرادها موظفون في دولة البطون غايتهم تنفير الناس من التشيع ومن موالاة أهل بيت النبوة.

____________

(1) راجع: فرق الشيعة للنوبختي ص 39 و 42.

(2) راجع: أصل الشيعة وأصولها للإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ص 110.

الصفحة 66
3 - الفرقة العلباوية: وتضم أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي الذي ادعى التشيع، وخرج بتقليعة جديدة مفادها أن علياً أفضل من النبي، وأن علياً بعث محمداً ليدعو إليه فدعا لنفسه، وجماعة من هذه الفرقة قالوا بألوهية أشخاص أصحاب الكساء وقالوا: خمسة في شئ واحد!

الجامع المشترك بين فرق الضلالة

لا أحد في الدنيا ينكر أن معاوية وأركان دولة البطون عدوا التشيع من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب صاحبها بالموت من دون سؤال أو محاكمة، وعدوا التشيع عملياً جريمة أشد خطورة من جريمة الكفر والزندقة. وقد ذكرنا أن معاوية أصدر لولاته سلسلة من (المراسيم) طلب فيها منهم أن يمحوا من ديوان العطاء والأرزاق كل من يشتبهون بموالاته لعلي وأهل بيت النبوة وأن لا يجيزوا لأحد منهم شهادة، وأن يهدموا بيت من يشتبهون بحبه لعلي وأهل بيته ثم يقتلوه.

والسؤال هو: كيف استطاعت هذه الفرق أن تدعي التشيع علناً في هذه الظروف؟ ولماذا لم تطبق عليها (المراسيم) معاوية، بل أعطيت كل الحرية لنشر أكاذيبها؟ واختلافاتها؟ والأهم أن أسماءها لم تمح من ديوان عطاء الخليفة بل زادت أرزاقها!

كل هذا يؤكد أن قادة هذه الفرق وأعضاءها ما هم إلا عيون دولة البطون أو جواسيسها ومهمتهم التجسس على الأئمة وشيعتهم واختلاق الأكاذيب والأخبار الشاذة لتغيير الناس من أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم، ومن التشيع باعتبار أن حركة التشيع وقيادتها هما الخطر الحقيقي الذي يهدد مستقبل دولة البطون.

ولغايات إجهاض الحركة العلمية الدينية التي قادها الأئمة لتقديم الإسلام للأمة بصورته النقية التي تلقوها من جدهم رسول الله، لقد كانت هذه الفرق مجرد دوائر حكومية تتقاضى راتبها من دولة البطون للغاية المحددة التي وجدت من أجلها.

ثم إن معاوية قد أصدر (مرسوماً) لكافة ولاته في جميع أقاليم مملكته أمرهم

الصفحة 67
فيه ألا يدعو فضيلة لأبي تراب إلا وجاءوا بمناقض لها في الصحابة، فهذه الأخبار التي اختلقتها الفرق الضالة تصب في مصب (مرسوم) معاوية. لقد فشلت جهود معاوية وأوليائه في طمس البيان النبوي المتعلق بفضل علي وأهل بيت النبوة، ففرعوا من مخططهم شعبة لهذه الاختلاقات.

الشيعة الإمامية والفرق الضالة

إن الشيعة الإمامية هي الفرقة الناجية لأنها والت الأئمة الاثني عشر، وتتلمذت عليهم، وبالتالي تلقت الإسلام من أنقى مصادره، ترى أن مقولات الفرق الضالة وأشباهها تناقض الإسلام مناقضة تامة. لذلك لعن الأئمة الكرام هذه الفرق وتبرأوا منها وكشفوا حقيقتها وضلالتها للناس، وعزلوها عزلاً علمياً تاماً.

وبفضل الله ومنته، فإن هذه الفرق قد اندثرت مع سقوط دولة البطون وانهيار دوائر تلك الدولة وانقطاع عطائها عن دعاتها ولم يبق من هذه الفرق نافخ نار وقيل:

بعداً للقوم الظالمين. 95 % من الشيعة الآن إمامية.

ادعاء التشيع والسعي إلى الجاه والسلطان

هزت المحن التي تعرض لها أهل بيت النبوة وجدان الأمة هزاً عنيفاً، وأدركت الأمة أن لأهل بيت النبوة قضية عادلة، فتعاطفت قلبياً معهم، والفظائع التي ارتكبها خلفاء البطون أثارت استياء الأمة جلياً. ولكن الأمة كانت معقدة تماماً لا ترى لنفسها حولاً ولا قوة، فالثروة قد تكدست عند فئة قليلة، والأغلبية الساحقة تعاني الجوع والحرمان وتعتمد في حياتها على الرزق أو العطاء الشهري الذي يقدمه الخليفة وأعوانه، وليس من مصلحة أحد من هذه الأغلبية أن يغامر بعطائه ورزقه، وأن يدخل في معركة فاشلة مع الخليفة وأعوانه! لذلك استمرأت الأمة القعود وسوغت ذلها وعجزها عن مواجهة الطغاة، فعند ما حدثت مذبحة كربلاء بكت عيون الأمة حسيناً بدموع من دم، وأدركت أن الساحة قد خلت نهائياً من فارسها المرتجى، وأدركت أكثرية الأمة أو هكذا أقنعت نفسها بأنها لا تملك إلا البكاء بصوت منخفض حتى لا يسمعها خليفة البطون وأعوانه فيغضبون ويقطعون

الصفحة 68
الرزق والعطاء فلا أحد يثق بأحد، ولا أحد ينجد أحداً، وكل واحد مرتبط بنفسه.

لقد ماتت الأحاسيس تماماً.

ولكن الأمة لم تخل من أبطال، لقد هال زيد بن الحسن الظلم فخرج، وقتل وصار بطلاً، تقر بذلك العيون والقلوب والعقول، ولكن الأصابع لم تكن تقوى على الإرشاد إليه، فكيف بالسيوف؟ وخرج الحسين بن علي ثائراً على الظلم، واستشهد هو وأصحابه، وتعدد الخارجون على الظلم وتتابعت قوافل الشهادة وهذا الطراز لم يكن له مطمع إلا تحدي الظالمين والشهادة والدعوة لمن يرتضيه الناس من آل محمد.

وهنا لك رجال مغامرون أدركوا أن الخليفة قد وصل إلى منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر وجمع الأتباع، وها هو الخليفة ورجاله يتنعمون بما لذ لهم وطاب، ويرقصون فوق الجماجم والأشلاء، في الوقت الذي تشقى فيه الغالية من الناس، فما الذي يمنع أولئك المغامرين من أن يجمعوا الأتباع كما جمع الخلفاء ويعدوا القوة كما أعد الخلفاء، ويغصبوا منصب الخلافة كما غصبه الخلفاء، ثم يتنعمون بخيرات الدنيا كما تنعم الخلفاء!؟

من أجل هذا رفعوا شعار التشيع لأهل بيت النبوة لغايات استقطاب الناس حولهم، ورفعوا شعار مقاومة الظالمين وشرعية الخروج عليهم، مع أنهم لا يعرفون التشيع، ولا يؤمنون به، ولا يدرون تفاصيل قضية أهل بيت النبوة، ولا مطمع لهم إلا الملك بغض النظر عن الوسيلة التي يلجؤونها للوصول إليه، حتى إذا قبضوا على الخلافة صاروا أشد على أهل بيت النبوة من أسلافهم الذين سبقوهم إلى النار. أولئك مغامرون وجائعو سلطة، أرادوا المناجرة بكل ما يثير عطف الأمة، ويستقطبها من حولهم، وهم على استعداد لرفع أي شعار يحقق لهم هذا المطلب، سواء أكان التشيع لعلي أم التشيع لخليفة البطون.

* * *

الصفحة 69

الباب الثاني
الإمامة بعد وفاة النبي


الصفحة 70

طائفة جديدة من الأسئلة

بعد ثلاثة أشهر هاتفني صديقي السني، وحددنا موعداً لجلستنا الثانية، أقبل الرجل بوجه طلق بشوش، فعانقني بحرارة بالغة، مبدياً أصدق العواطف، ثم جلسنا فقال صديقي:

لقد قرأت بتمعن ومرتين أجوبتكم عن كافة تساؤلاتي، وتفهمت الآن وبعمق مفهوم الشيعة والتشيع وأشهد أن أجوبتكم التي جاءت تحت عنوان (مفهوم الشيعة والتشيع) تصلح أن تكون بحثاً مستقلاً وقائماً بذاته، لقد استوعبت هذا المفهوم تماماً، وأصبحت مهيأً لهجر الأفكار الخاطئة والخرافات التي كانت عالقة بذهني عن الشيعة والتشيع وقد جئت طبقاً لاتفاقنا بطائفة جديدة من الأسئلة آمل أن تتلطفوا بالإجابة عنها. وناولني ورقة كتب عليها الطائفة الثانية من أسئلته وهي:

يبدو واضحاً أن منصب الإمامة أو الولاية أو القيادة أو الرئاسة العامة للمسلمين، من بعد النبي، كان السبب في حدوث أول خلاف بين المسلمين وأهمه. وربما كان السبب في تفريق الأمة إلى فرق شتى أهمها السنة والشيعة. فهل تتفضل فتبين لي كيف عالجت الشريعة الإسلامية قضية تولي هذا المنصب بعد وفاة النبي؟، وهل هنا لك نصوص تبين من يتولاه وكيفية انتقاله من شخص إلى آخر، وهل استبعدت هذه النصوص، ولماذا؟ وكيف أمكن التغطية على استبعاد نصوص شرعية عممت على المسلمين؟ وكيف أجمعت الأمة على إنكار هذه النصوص، ثم التنكر لها؟ وما هي أهم نقاط الخلاف والاختلاف بين شيعة أهل بيت النبوة وغيرهم من الشيع الإسلامية؟ راجياً أن توضح هذه النقاط - إن وجدت - توضيحاً كاملاً، مبيناً أدلة كل فريق من الفريقين، وهل هنالك تشابه بين نظام الخلفاء التاريخي، ونظام الأئمة الشرعي، وأرجو أن تكون الأجوبة موثقة بما أمكن من الإيجاز، ويمكنك عند الاقتضاء الإشارة إلى مرجع يتضمن هذه النصوص، وسأتولى بنفسي الرجوع إليه. وبتعبير جامع، ما هي عقيدة الشيعة في الإمامة أو القيادة أو الولاية بعد وفاة النبي، مستذكراً ما ورد تحت عنوان مفهوم الشيعة والتشيع؟


الصفحة 71
قلت لصديقي السني: سأجيب، إن شاء الله، عن كل تساؤلاتك، ولكن ليس وفق الترتيب الذي ذكرته، لأنه ترتيب نظري يتجاهل مجريات الواقع التاريخي، وستكون إجاباتي تحت عنوان (الإمامة أو الولاية، أو القيادة من بعد النبي) من دون الإشارة إلى تساؤلاتكم، حتى إذا تسلمت أجوبتني تأكدت ساعتها بأنني قد أجبت عنها جميعها، تاركاً الحكم لك على الأجوبة. ويهمني جداً أن أسمع رأيك، أو أقف على الأثر الذي ستتركه تلك الأجوبة عليك.

* * *

الصفحة 72

الصفحة 73

الفصل الأول
التنكر لنصوص الإمامة

نجح تحالف شيع بطون قريش الذي أسفر عن ولادة الدولة التاريخية الإسلامية في استبعاد كافة النصوص النبوية التي بينت الأئمة من بعد النبي وطريقة تنصيبهم، مثلما نجحت في زحزحة أول أولئك الأئمة علي بن أبي طالب عن حقه في الإمامة بعد وفاة النبي، وتم رسمياً إلغاء الدور الشرعي المميز لأهل بيت النبوة باعتبارهم أحد الثقلين، لأن شيع البطون قد اجتهدت في دينها، ورأت أن من مصلحة المسلمين ووحدتهم استبعاد الرجل الذي وتر بطون قريش في أبنائها، واستبعاد ذريته ووضع حد للتميز الهاشمي. ورأت شيع البطون أنه ليس من العدالة والإنصاف أن يكون النبي من بني هاشم وأن يكون الإمام أو الولي من بعد النبي منهم، وأن تحرم بطون قريش ال‍ 23 من هذين الشرفين معاً، والصواب والتوفيق يكمنان في أن يكون النبي من بني هاشم، وأن تكون الخلافة من بعده لبطون قريش تتداولها في ما بينها (1).

وهكذا قدم الاجتهاد على النص الشرعي لمصلحة رأتها شيع بطون قريش، وعطلت عملياً كافة النصوص الشرعية النبوية المتعلقة بتحديد الأئمة وبيان شخصياتهم ووسيلة تنصيبهم، وتم استبدال هذا النمط الشرعي الذي يغطي بالكامل وبالوضوح التام ظاهرة تعيين الإمام وتنصيبه في إطار قواعد شرعية محكمة، بنمط اجتهادي مرن يحقق الغاية من إيجاده. ومع ولادة النمط الإجتهادي بذرت عملياً بذرة الخلاف والإختلاف بين المسلمين، واهتزت، ومن القواعد،

____________

(1) راجع: الكامل لابن الأثير 3 / 124، آخر سيرة عمر حوادث سنة 23، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 97 و 107، كما نقلها عن تاريخ بغداد لأبي الفضل أحمد بن أبي الطاهر.