الفصل الثالث : الصحابة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في « مطلب دعواهم ارتداد الصحابة » :
ومنها أنه روى الكشي منهم ـ وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله ـ وغيره عن الامام جعفر الصادق (رضي الله عنه) ـ وحاشاه من ذلك ـ أنه قال : « لما مات النبي (صلى الله عليه وسلم) ارتد الصحابة كلهم إلاّ أربعة : المقداد وحذيفة وسلمان وأبوذر (رضي الله عنهم) ، فقيل له : كيف حال عمار بن ياسر ؟ قال « حاص حيصة ثم رجع » . هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت ، وهم لا يقولون بذلك ، وهذا هدم لاساس الدين ، لان أساسه القرآن والحديث ، فاذا فرض |
ارتداد من أخذ من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلاّ النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والاحاديث ، نعوذ بالله من إعتقاد يوجب هدم الدين . وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا : كيف يقول الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاسِ) ، وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلاّ نحو خمسة أو ستة أنفس منهم ، لامتناعهم من تقديم أبي بكر على علي وهو الموصى به . فانظر إلى كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة ، فهؤلاء أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى ، وفي هذه الهفوة فساد من وجوه : فانها توجب إبطال الدين والشك فيه ، وتجوّز كتمان ما عورض به القرآن ، وتجوّز تغيير القرآن ، وتخالف قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده : (وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسنى) وقوله في حق المهاجرين والانصار : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) و : (أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحونَ) وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النَّاسِ) وقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وغير ذلك من الايات والاحاديث الناصة على أفضلية الصحابة واستقامتهم على |
الدين ، ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد كفر . ما أشنع مذهب قوم يعتقدون إرتداد من اختارهم الله لصحبة رسوله ونصرة دينه...(1) |
قبل أن أشرع بالرد على ما جاء في كلام محمد بن عبد الوهاب المتعلق بهذا المطلب ، أودّ أَن أنوّه إلى أمر مهم جداً ألا وهو : أن الشيعة لا يعتقدون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وما عداه من كتب فانها تحوي الصحيح وغيره مهما كانت منزلة هذه الكتب أو مصنفيها ، وعلى هذا الاساس فان وجود رواية في أي من كتبهم لا تعني بالضرورة أنهم يقولون بصحتها ، وأمثال هذه الروايات موجودة فعلاً في كثير من كتب الشيعة رغم عدم اعتقادهم بصحتها ، وذلك على العكس من الاخوة من أهل السنة الذين يضفون على بعض كتبهم ـ وبخاصة تلك التي يسمونها ( الصحاح ) وعلى رأسها كتابي البخاري ومسلم ـ رداء القدسية ، حتى قالوا عن صحيحي البخاري ومسلم : أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله(2) ، وأنه لو حلف
____________
(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 12 ـ 13 .
(2) تدريب الراوي : 91 ، علوم الحديث : 14 ، الخلاصة في أصول الحديث : 36 ، مقدمة أبي الصلاح : 9 .
وقد تبين ممّا سبق أن هذا الاعتقاد فيه الكثير من الغلو والشطط ـ بعد ما تبين حال بعض الرواة والروايات التي ذكرناها ـ وسيأتي المزيد مما يثبت أن الصحاح هي كأيّ كتاب آخر فيها الغث والسمين .
وتبعاً لذلك فلو آخذ الشيعة أهل السنة بكل رواية وردت في كتبهم وصحاحهم وادعوا ضلالتهم تبعاً لذلك ، لانفتح على أهل السنة باب يستحيل غلقه ، ولكن الشيعة لا يفكرون بمثل عقلية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من المتعصبين الذين يضللون المسلمين ويتهمون مخالفيهم بالفسق والكفر وغير ذلك ، وهم إذ يستشهدون ببعض الروايات التي في كتب أهل السنة وصحاحهم ، فهي من باب إقامة الحجة عليهم بما عندهم ، ولتنبيه إخوانهم من أهل السنة إلى المحاولات التي تبذلها بعض الجهات الحاقدة التي تريد أن تفرق شمل المسلمين وتضعف شوكتهم بالقاء البغضاء فيما بينهم .
____________
أما فيما يتعلق بالصحابة ـ وهو موضوع في غاية الحساسية ـ فان الشيعة ينظرون إليهم بأُسلوب عقلاني لا يخالف كتاب الله ولا سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والشواهد التاريخية تثبت صحة نظرية الشيعة فيما يتعلق بالصحابة ، وسوف نحاول أن نبين موقف القرآن الكريم ومن ثم السنة النبوية الشريفة والتاريخ من الصحابة ـ بالاعتماد على مصادر أهل السنة ـ حتى يتبين لكل ذي بصيرة أن الشيعة لا يقولون في الصحابة ما يخالف الكتاب والسنة والواقع .
الصحابة في القرآن
لقد استشهد الشيخ ابن عبد الوهاب بجملة من الايات الكريمة للتدليل على عدالة الصحابة ، لكنه أغفل أُموراً عديدة :
منها : إنه أَخذ من تفاسير هذه الايات ما يوافق غرضه وأعرض عن غيرها .
ومنها : لقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة توضح
أما الايات التي استشهد الشيخ بها ، فسوف أورد بعض ما قيل في تفسيرها :
1 ـ قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(1) .
قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في الاية قال : نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الاية : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة ...) ثم قال : يا أيها الناس ، من سرّه أن يكون من تلكم الاُمة فليؤد شرط الله منها .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (كُنْتُمْ...) يقول : على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه كقوله : (وَلَقَدِ
____________
(1) سورة آل عمران : 110 .
وأخرج أحمد بسند حسن عن علي قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « أُعطيت ما لم يُعط أحد من الانبياء ، نُصرت بالرعب ، وأُعطيت مفاتيح الارض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجُعلت أُمتي خير الامم » .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر : (كُنْتُمْ...) الاية ، قال : أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)(1) .
2 ـ قوله تعالى (رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (2) .
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله ، قال : كنا عند النبي (صلى الله عليه وسلم)فأقبل عليٌّ ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : « والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » ، ونزلت (إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) .
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : علي خير البرية .
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا...) الاية ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي : « هو أنت وشيعتك يوم
____________
(1) الدر المنثور 2/293 ـ 294 .
(2) سورة البينة : 8 .
وأخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « ألم تسمع قول الله : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا...) أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غراً محجلين »(1) .
أما قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) فهو مخصوص بالمؤمنين الذين لم يغيِّروا ولم يبدّلوا ، كما سوف يتبين فيما بعد .
وقوله تعالى : (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فان هذه العبارة قد وردت في عدد من الايات ، وبما أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ، فقد قال تعالى : (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابوا وَجاهَدوا بِأَموالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ)(2) .
فالمؤمنون الذين تنطبق عليهم هذه الصفات المذكورة في الاية هم الصادقون .
وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى : (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، يعني : أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لاجل الدين
____________
(1) الدر المنثور 8/589 .
(2) الحجرات : 15 .
لكن بعض الصحابة ومنهم بعض المهاجرين الاولين قد تغيروا فيما بعد وأقبلوا على الدنيا ولذاتها وتعاظمت ثرواتهم حتى كان الذهب الذي خلّفه بعضهم يقطّع بالفؤوس ، كما هو مذكور في أخبارهم لمن راجع كتب التاريخ ، كما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد حذّر من أن هجرة البعض قد لا تكون لله خالصة .
فعن عمر بن الخطاب قال : قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : « العمل بالنية ، وإنما لامرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه »(2) .
4 ـ أما قوله تعالى : (أولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3) ، فان المقطع الذي يسبقها في نفس الاية هو قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، كما بينت بعض الايات الاُخرى صفة المفلحين في قوله تعالى : (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ وَجاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أُولَئِكَ لَهُمُ
____________
(1) التفسير الكبير 29/286 .
(2) صحيح البخاري 7/4 كتاب النكاح .
(3) سورة الحشر : 9 .
فالمفلحون هنا هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنون الصادقون الذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم ، وليس الذين تخلّفوا عنه طائعين .
والايات السابقة لهذه الاية تبيّن لنا حال أُولئك ـ مع العلم أنهم كانوا من الصحابة ـ فى قوله تعالى : (وَاِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ القَاعِدينَ * رَضُوا بِأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ)(2) .
وفي تفسيرها قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( أُولُوا الطَّوْلِ ) قال : أهل الغنى .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( رَضُوا بأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) قال : مع النساء .
وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص : أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى جاء ثنية الوداع يريد تبوك ، وعلي يبكي ويقول : تخلفني مع الخوالف ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « ألا
____________
(1) سورة التوبة : 88 .
(2) سورة التوبة : 86 و87 .
وهذه الايات تشكل أكبر رد على ادعاءات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ تثبت أن جميع الصحابة ليسوا سواء ، كما سوف يتبين بشكل أكثر وضوحاً فيما بعد .
5 ـ أما قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النَّاسِ)(2) .
فقد أخرج ابن كثير عن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالبناوة يقول : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم » ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : « بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الارض »(3) .
فقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : « خياركم من شراركم » ، يدل على وجود الاخيار والاشرار ضمن الصحابة .
هذا فيما يتعلق بالايات التي استشهد بها الشيخ على صحة إدعائه ، وقد تبين ما فيها ، ولكن الشيخ فاته أن في القرآن الكريم آيات أُخرى تقلب نظريته رأساً على عقب ، وإليك جملة منها :
____________
(1) الدر المنثور 4/259 ـ 260 .
(2) سورة البقرة : 143 .
(3) تفسير القرآن العظيم 1 / 197 .
أجمع المفسرون على أن الايات نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة مشهورة ، وثعلبة هذا صحابي أنصاري بدري أُحدي ، لكنه خان عهد الله ورسوله وما أعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مواثيق ، فختم له بالنفاق وطبع على قلبه إلى يوم القيامة .
قال إبن عبد البر ـ في ترجمة ثعلبة بن حاطب : شهد بدراً وأُحداً ، وهو مانع الصدقة فيما قال قتادة وسعيد بن جبير ، وفيه نزلت (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ... ) الاية (2) .
2 ـ قوله تعالى : (وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)(3) .
قال السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي (رضي الله عنه) قال : بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده .
____________
(1) سورة التوبة : 75 ـ 77 .
(2) الاستيعاب 1/210 .
(3) سورة الاحزاب : 53 .
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله : (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) الاية ، قال : نزلت في طلحة بن عبيدالله ، لانه قال : إذا توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تزوجت عائشة(1) .
فطلحة بن عبيدالله صحابي من السابقين ، وممن شهد المشاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ كما يزعمون ـ ومع ذلك فقد آذى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الايات في توبيخه .
3 ـ قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لاَ تَرْفَعُوا أَصواتَكُمْ فَوقَ صَوتِ النَّبي وَلاَ تَجْهَروا لَهُ بالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعض أنْ تَحْبِطَ أَعمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرونَ * إنَّ الَّذينَ يَغُضونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذينَ امتَحَنَ اللهُ قُلوبَهُمْ لِلتَّقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظيمٌ)(2) .
أخرج جمع من المحدّثين والمفسرين في تفسير هذه الاية بأن المخاطب في هذه الايات هما الصحابيان الشيخان أبو بكر وعمر
____________
(1) الدر المنثور 6/643 .
(2) سورة الحجرات : 2 ـ 3 .
عن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا : أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الاخر برجل آخر ـ قال نافع لا أحفظ إسمه ـ فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلاّ خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فانزل الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ...) الاية ، قال إبن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الاية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر(1) .
4 ـ قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقبَيه فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ )(2) .
أخرج الطبري عن سلمة عن ابن إسحاق... أن هذه الاية أُنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيمن انهزم عنه بأُحد من الصحابة ، قال : أي أفئن مات أو قتل نبيكم رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم
____________
(1) صحيح البخاري 6/171 ، سنن الترمذي 5/387 ، الدر المنثور 7/546 ، سنن النسائي 8/226 وغيرهم .
ومعلوم أن معظم الصحابة ـ ومنهم أبوبكر وعمر وعثمان ـ قد فرّوا عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد، ولم يثبت معه إلاّ القليل، وفي مقدمتهم أميرالمؤمنين(عليه السلام) .
وهناك آيات اُخرى كثيرة في هذا الشأن لا مجال لذكرها ، وقد استعرضت عدداً منها في الفصول التي تحدّثت فيها عن الصحابة في كتابي ( الصحوة ) فليراجع .
الصحابة في السنة النبوية
قول الشيخ :
ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة نبيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد كفر(2) .
قلت : أما كتاب الله ، فقد بينا أننا لا نعتقد ما يخالفه من خلال الشواهد القرآنية التي أوردناها ، وتبين أن عقيدتنا مطابقة لكتاب
____________
(1) تفسير الطبري 4/74 .
(2) رسالة في الردّ على الرافضة : 13 .
وبقي لنا أن نبين عقيدتنا فيهم من خلال السنة النبوية الشريفة ، وما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق بعض الصحابة ، معتمدين في ذلك على أقوى الروايات التي وردت في أقوى مصادر أهل السنة وفي مقدمتها صحاحهم :
لقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن أصحابه سوف ينقلبون على أعقابهم ويحدثون في دين الله ما ليس منه في جملة من الاحاديث النبوية الشريفة والتي تكاد تكون متواترة عن جمع من الصحابة ، كما في حديث الحوض ، وكما أخبر بأنهم سوف يتنافسون على الدنيا ويحرصون على الامارة وستكون ندامة عليهم وحسرة .
وقد أثبتت الوقائع كل ذلك، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك شيئاً لم يبينه لاُمته ، ولا خاف عليهم فتنة إلاّ وحذرهم منها ، حتى أعذر إليهم لكيلا يكون لاحدهم حجة بعد ذلك ، وفيما يلي سوف نستعرض بعض هذه الاحاديث من أوثق مصادر أهل السنة :
1 ـ في الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن عقبة بن عامر ، قال : صلّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قتلى أُحد ، ثم صعد المنبر كالمودع للاحياء والاموات ، فقال : « إني فرطكم على الحوض ، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة ، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا
2 ـ عن أبي وائل ، قال : قال عبدالله : قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : « أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعن إلي رجال منكم ، حتى إذا أهويت لاُناولهم ، اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك »(2) .
3 ـ عن أبي حازم ، قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول : « أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم... »(3) .
4 ـ عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : « ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك »(4) .
5 ـ عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : « يرد
____________
(1) صحيح مسلم 4/1796 ، صحيح البخاري 8/112 .
(2) صحيح البخاري 8/149 ، صحيح مسلم 4/1794 .
(3) صحيح البخاري 9/58 باب الفتن .
(4) صحيح البخاري 8/149 ، صحيح مسلم 4/1800 .
لاحظ عبارة ( ارتدوا ) في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
6 ـ عن ابن المسيب أنه كان يحدّث عن أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : « يرد علي الحوض رجالٌ من أصحابي فيحلؤن عنه فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى »(2) .
7 ـ عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : « بينا أنا قائم ، إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال هلم ، قلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه
____________
(1) صحيح البخاري 8/149 ـ 152 باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلاّ عيش الاخرة .
(2) صحيح البخاري 8/149 ـ 152 باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلاّ عيش الاخرة .
8 ـ وعن أُم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها قالت : كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ، ولم أسمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشطني ، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : « أيها الناس » ، فقلت للجارية : استأخري عني ، قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء ، فقلت : إني من الناس ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « إني لكم فرط على الحوض ، فاياي لا يأتيني أحدكم فيُذب عني كما يُذب البعير الضال فأقول : فيم هذا ؟ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً »(2) .
9 ـ عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول على هذا المنبر : «ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تنفع قومه ! بلى والله ، إن رحمي موصولة في الدنيا والاخرة ، وإني أيها الناس فرط لكم على الحوض ، فاذا جئتم قال رجل : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، وقال أخوه : أنا فلان بن فلان ، قال لهم : أما
____________
(1) صحيح البخاري 8/149 ـ 152 باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلاّ عيش الاخرة .
(2) صحيح مسلم 4/1790 .
10 ـ عن أبي بكرة ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : « ليردن علي رجال ممن صحبني ورآني حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني فلاقولن : رب أصحابي ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك »(2) .
كما عيّرت عائشة أُم المؤمنين مروان بن الحكم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قد لعنه ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق ذكرها ابن خيثمة أنها قالت لمروان بن الحكم ـ حين قال لاخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد ما قال ـ والقصة مشهورة : أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن أباك وأنت في صلبه...(3) .
إلى غير ذلك من النصوص التي تثبت أن الصحابة لم يكونوا كلهم عدولاً ولا سواء في الميزان عند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، هذا مع أن الصحابة أنفسهم لم يكونوا يعتقدون في أنفسهم ما يعتقده القائلون بعدالتهم المطلقة فيهم ، فقد ورد عن بعض الصحابة الاعتراف بأنهم
____________
(1) مسند أحمد 3/18 .
(2) مسند أحمد 5/48 .
فعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء بن عازب (رضي الله عنه)فقلت : طوبى لك ، صحبت النبي (صلى الله عليه وسلم) وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي ، إنك لا تدري ما أَحدثنا بعده ! !(1) .
وعن ابن عباس قال : يقول أحدهم : أبي صحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولنعلٌ خلق خير من أبيه(2) .
هذه بعض الشهادات التي تبين حال الصحابة ، وأجد ذلك كافياً في إثبات صحة اعتقادنا فيما يتعلق بالصحابة ، وقد ثبت أننا لا نخالف في ذلك كتاب الله ولا سنة نبيه المتواترة ، كما أن نظريتنا تنطبق على الواقع من سيرة الصحابة وباعترافاتهم .
الصحابة وأهل البيت
قال الشيخ ابن عبد الوهاب في « مطلب الوصية بالخلافة » ، فيما ينسبه من القول إلى الشيعة :
وأن الله اختار لصحبته من يبغض أجلّ أهل بيته (عليهم السلام) . |
____________
(1) صحيح البخاري 5/159 ـ 160 .
(2) مجمع الزوائد 1/113 وقال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .
1 ـ عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث : أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مغضباً وأنا عنده فقال : « ما أغضبك ؟ » قال : يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة ، وإذا لقونا بغير ذلك ؟ قال : فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)حتى احمرّ وجهه ثم قال : « والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم لله ولرسوله » ، ثم قال : « أيها الناس ، من آذى عمي فقد آذاني ، فانما عم الرجل صنو أبيه »(1) .
2 ـ عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال : بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة إذ أتينا على حديقة ، فقلت :يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ! فقال : « إن لك في الجنة أحسن منها... » فلما خلا لي الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟ قال : « ضغائن في صدور أقوام لا
____________
(1) سنن الترمذي 5/652 وقال : هذا حديث حسن صحيح ، المستدرك 3/233 ، مسند أحمد 4/165 ، مصابيح السنة 4/191 .
3 ـ عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علياً أميراً على اليمن ، وبعث خالد بن الوليد على الجبل ، فقال : « إن اجتمعتما فعليّ على الناس » ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله ، وأخذ عليّ جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة ، فقال : اغتنمها فأخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بما صنع ، فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) في منزله ، وناس من أصحابه على بابه ، فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً ، فتح الله على المسلمين ، فقالوا : ما أقدمك ؟ قال : جارية أخذها علي من الخمس ، فجئت لاُخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) ; فقالوا : فأخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنّه يسقط من عين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسمع الكلام ، فخرج مغضباً وقال : « ما بال أقوام ينتقصون علياً ، من ينتقض علياً فقد انتقصني ومن فارق علياً فقد فارقني ، إن علياً مني وأنا منه ، خُلق من طينتي وخُلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم » ، وقال : « يا بريدة ، أما علمت أن لعلي أكثر من
____________
(1) مجمع الزوائد 9/118 .
وفي رواية ابن عساكر ، قال بريدة : وكنت من أشد الناس بغضاً لعلي ، وقد علم خالد بن الوليد... ( إلى أن قال ) : فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط إلاّ يوم قريظة والنضير ، فنظر إلي فقال : « يا بريدة ، إن علياً وليكم بعدي ، فأحب علياً فانه يفعل ما يؤمر »...
وقال عبدالله بن عطاء : حدثت بذلك أبا حرب بن سويد بن غفلة فقال : كتمك عبدالله بن بريدة بعض الحديث ، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له : « أنافقت بعدي يا بريدة ؟ ! »(2) .
4 ـ وعن عمرو بن شأس الاسلمي ـ وكان من أصحاب الحديبية ـ قال : خرجت مع علي (عليه السلام) إلى اليمن فجفاني في سفري ذلك حتى وجدت في نفسي عليه ، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد حتى سمع بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فدخلت المسجد ذات غداة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس في ناس من أصحابه ، فلما رآني أبدا
____________
(1) المعجم الاوسط 6/232 .
(2) تاريخ دمشق 42/191 .
5 ـ وعن سعد بن أبي وقاص ، قال : كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي ، فنلنا من عليّ ، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غضبان يُعرف في وجهه الغضب ، فتعوذت بالله من غضبه ، فقال : « ما لكم ومالي ، من آذى علياً فقد آذاني »(2) .
6 ـ عن حيان الاسدي ، سمعت علياً يقول : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « إن الاُمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي وتُقتل على سنتي ، من أحبك أحبني ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب من هذا » يعني لحيته من رأسه(3) .
7 ـ عن جابر ، قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى علي بن أبي طالب يوم الطائف وأطال مناجاته فرأى الكراهية في وجوه رجال ، فقالوا : قد
____________
(1) مجمع الزوائد 9/129 وقال : رواه أحمد والطبراني باختصار والبزار أخصر منه ورجال أحمد ثقات .
(2) المصدر السابق 9/129 وقال : رواه أبو يعلى والبزار باختصار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خداش وقنان وهما ثقتان .
(3) المستدرك 3/142 وصححه ووافقه الذهبي .
8 ـ عن زيد بن أرقم قال : كانت لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً : « سدّوا هذه الابواب إلاّ باب علي » ، فتكلم في ذلك ناس ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد فاني أُمرت بسدّ هذه الابواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أُمرت بشيء فاتبعته »(2) .
9 ـ عن زر : قال علي : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الاُمي إلي : أنه لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق(3) .
من كل هذا يتبين لنا أن عدداً غير قليل من الصحابة كانوا يبغضون أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام) كما صرحت به هذه الروايات التي أخرجها أئمة المحدثين والحفاظ من أهل السنة ، وليس الشيعة وحدهم يدّعون ذلك ، وليس لنا أن
____________
(1) تاريخ دمشق 2/316 ، المعجم الكبير للطبراني 2/186 .
(2) المستدرك 3/15 .
(3) صحيح مسلم 1/86 كتاب الايمان ، باب : الدليل على أن حب الانصار وعلي (رضي الله عنهم) من الايمان وعلاماته ، وبغضهم من علامات النفاق .
سب الصحابة
وفي : « مطلب السب » قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله ... ، قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ... ومن سب من رضي الله عنه فقد حارب الله ورسوله ، وقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ... والقرآن مشحون من مدح الصحابة (رضي الله عنهم) ، فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم ، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضائلهم ، ومكذبه كافر ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : « النجوم أمنة السماء فاذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لاصحابي فاذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة |
____________
(1) المستدرك 3/130 وصححه ووافقه الذهبي ، كما صححه الالباني أيضاً .
لاُمتي فاذا ذهب أصحابي أُتي اُمتي ما يوعدون » ... . وقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم » وقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : « لا يدخل النار من حضر الحديبية إن شاء الله تعالى » ... وقد روي بأسانيد بعضها حسن عن ابن عباس قال : كنت عند النبي (صلى الله عليه وسلم) وعنده علي (رضي الله عنه) فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : « يا علي سيكون في أُمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة قاتلوهم فانهم مشركون ...(1) . |
إنّ ماذكره محمد بن عبد الوهاب ليس بحثاً علمياً مبنائياً ، فلابد أولاً من المناقشة في المباني التي تترتب عليها التفريعات ، والمبنى الاساسي الذي يدور حوله هذا البحث هو مسألة عدالة جميع الصحابة الذي أصبح محط أنظار العلماء ، ونحن فيما سبق قد ناقشنا هذه المسألة وبيّنا بطلان القول بعدالة جميع الصحابة ، وعليه فتجري قواعد الجرح والتعديل عليهم وتبحث أحوالاتهم ، ومن ثمّ يميّز الصحيح من السقيم منهم .
____________
(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 15 ـ 18 .
فنقول : إن هذا الحديث ـ المروي بهذه الصورة ـ يشكل حجة على الشيخ وعلى القائلين بقوله ، وليس حجة لهم ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « وأنا أمنة لاصحابي ، فاذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون... » ، فان هذا يثبت ما نذهب إليه من أن الكثير من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انقلبوا على أعقابهم ، وهو توضيح لاحاديث ( الحوض ) التي ذكرناها سابقاً .
أما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « وأصحابي أمنة لاُمتي فاذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يوعدون » ، فذلك يقتضي أن الامّة قد ضلّت بعد انقراض الصحابة وستبقى كذلك إلى قيام الساعة ، لاننا لا نتوقع عودة الصحابة إلى الحياة مرة أُخرى ، أما إذا كان المقصود بأن الاُمة ستبتلى بالفتن بعد ذهاب الصحابة ، فالاُمة قد ابتليت بهذه الفتن في وجود الصحابة ، وما مقتل عثمان وما جرى من حروب الجمل وصفين وغير ذلك إلاّ دليلاً على ما نقول .
إن هناك تناقضاً في هذا الحديث لا يمكن حلّه ، لان هذا الحديث قد تعرّض إلى عملية تحريف في صيغته خدمة لاغراض
أما كيف يمكن أن يُحل هذا الاشكال ؟ فذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الصيغة الصحيحة لهذا الحديث ، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « النجوم أمان لاهل السماء فان طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون ، وأنا أمان لاصحابي فاذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لاُمتي فاذا ذهب أهل بيتي أتى أُمتي ما يوعدون »(1) .
وبذلك يتبين أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الامان لاهل الارض ، وهم الذين أخبر النبي بأنهم الثقل الثاني الذي لا يفارق الثقل الاكبر ( القرآن الكريم ) حتى يردا عليه الحوض معاً .
والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ، وقد اعترف بذلك العديد من علماء وحفاظ أهل السنة .
قال ابن حجر الهيتمي المكي : وفي رواية صحيحة : « إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما : كتاب الله وأهل بيتي عترتي » ، وزاد الطبراني : « إني سألت ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم »... .
____________
(1) المستدرك 3/457 .
ثم اعلم أن لحديث التمسك بالكتاب وأهل البيت طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً... وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلات الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرى أنه قال ذلك بغدير خم ، وفي أُخرى أنه قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف... .
ولا تنافي ، إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها ، إهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة...
وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أماناً لاهل الارض...(1) .
وتكفينا هذه الشهادة من خصم عنيد للشيعة ، فانه بعد أن يعترف بكل ذلك يعود إلى تعصبه فيتحامل على الشيعة ويكيل لهم الاتهامات الباطلة ، وما ذلك إلا لجهله بحقيقة الشيعة الذين فهموا
____________
(1) الصواعق المحرقة : 230 ـ 232 .
أما الحديث الذي يدعي أن الله قد غفر لاهل بدر مهما عملوا ، فيكذبه الواقع ، لان بعض البدريين خالفوا أوامر النبي ووصاياه ، وطبع على قلب البعض منهم بنص القرآن الكريم كما ثبت في قصة ثعلبة بن حاطب .
أما أن أحداً ممن حضر الحديبية لا يدخل النار ، فعلماء أهل السنة ينقضون ذلك ، فقد قال ابن حزم : وعمار (رضي الله عنه) قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي ، شهد بيعة الرضوان ، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه ، فأبو العادية (رضي الله عنه) متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً !! وليس هذا كقتلة عثمان (رضي الله عنه) ، لانهم لا مجال للاجتهاد في قتله ... !! بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان ، فهم فساق ملعونون(1) .
يقول ابن حزم هذا وينسى أن في جملة قتلة عثمان رجل ممن شهد بيعة الرضوان في الحديبية وهو عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وفي ترجمته مايأتي :
____________
(1) الفصل في الملل والنحل 4/161 .
فاذا كان قتلة عثمان كما يصفهم ابن حزم وغيره كابن كثير ، فكيف تكون الشهادة لهم بالجنة ؟ ! !
وفضلاً عن ذلك ، فان الاحاديث الصحيحة قد جاءت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاخبار بأن قاتل عمار بن ياسر وسالبه في النار ، وأبو العادية قاتل عمار وهو من أهل الحديبية فهو في النار رغم كل إدعاءات ابن حزم وغيره ، مما يثبت عدم صحة الحديث الذي يدعي بأن أحداً ممن بايع تحت الشجرة لا يدخل النار .
أما الحديث المزعوم عن الرافضة ، فنقول فيه : إن هذا الحديث هو من جملة الاحاديث المكذوبة التي اختلقتها السياسة الجائرة لتتخذها ذريعة للفتك بالمعارضين لانظمة الحكم التي كان يقودها الطغاة من بني أُمية وبني العباس ، ومسألة الوضع في الحديث من باب الخصومة السياسية والمذهبية مسألة معروفة عند الباحثين
____________
(1) الاستيعاب 2/840 ، أُسد الغابة 3/370 .
وإذا كان المقصود بالروافض الذين رفضوا خلافة الشيخين ، فقد كان ينبغي على الصحابة المخلصين الملتزمين بأوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يبادروا إلى قتل كل من أمير المؤمنين (عليه السلام)وجميع بني هاشم وعدداً من كبار الصحابة كسعد بن عبادة والزبير بن العوام وعمار بن ياسر وغيرهم ، لانهم امتنعوا عن بيعة أبي بكر لفترة ما ، أما سعد بن عبادة فقد امتنع عن البيعة حتى توفي كما هو ثابت في مصادر التاريخ والحديث .
فضائل الصحابة
وقال محمد بن عبد الوهاب أيضاً :
وقد تواتر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يدل على كمال الصحابة (رضي الله عنهم) خصوصاً الخلفاء الراشدين ، فان ما ذكر في مدح كل واحد مشهور بل متواتر ، لان نقلة ذلك أقوام يستحيل تواطؤهم على الكذب ويفيد مجموع أخبارهم العلم اليقيني بكمال الصحابة وفضل الخلفاء...(1) . |
____________
(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 18 .
وعلى هذا الاساس ـ وكما قد تبين من بعض المباحث المتقدمة ـ نقول : إن الشيعة لا يسبون الصحابة بهذا المفهوم الذي يذكره الشيخ ويدعيه ، وإنما يقولون : أن صفة العدالة المطلقة منتفية عنهم جميعاً ، فبعضهم عدول وبعضهم غير ذلك ، والقول بارتداد بعضهم ليس كلاماً اخترعته الشيعة ، بل هو مما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدقه الوحي كما مر .
وبهذا يتبين أن القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة تؤيد قول الشيعة في الصحابة .
أما هذا التناقض الذي يلمسه المرء بين عبارات الثناء من جهة وعبارات التوبيخ وتهمة الارتداد والاحداث لبعض الصحابة ، فناشئ عن أمرين :
1 ـ إن النصوص التي ذكرت الصحابة بعبارات التبجيل ليست مطلقة بحيث تشمل كل من يحمل إسم صحابي ، بل فيها إشارات واضحة بأن هذه العبارات موجهة لفئات معينة من الصحابة ، لذا نجد أن بعض الكلمات أو العبارات التي ترد في نفس الاية أو في
ومن النصوص القرآنية التي طالما استشهد بها القائلون بعدالة الصحابة المطلقة :
قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَاللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظيماً)(1) .
فان العبارة الاخيرة تشترط المغفرة والاجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المؤمنين فقط وليس كلهم ، وقد أوقع ذلك بعض المفسرين في الحرج ، لان ذلك يناقض الادعاء بعدالة الصحابة أجمعين ، فحاولوا صرف العبارة عن معناها الحقيقي ، فتردد البعض في القطع بتفسير مدلولها ، كما يتضح من قول الرازي في بيان مدلول لفظة ( منهم ) حيث قال : بأنها لبيان الجنس لا للتبعيض ويحتمل أن يقال هو للتبعيض(2) .
____________
(1) سورة الفتح : 29 .
(2) التفسير الكبير 28/109 .
ففي هذه الاية إشارة واضحة إلى إمكان أن ينكث بعض الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعتهم ، وقد حدث ذلك فعلاً بشهادة كتب التاريخ والسيرة والحديث .
2 ـ إن الروايات التي جاء فيها مدح الكثير من الصحابة ـ والتي كانت سبباً في انخداع المسلمين ـ هي ليست إلاّ روايات مختلقة كانت تستهدف طمس فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت عامة .
روى أبو الحسن المدائني في كتاب الاحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لانه كان منهم أيام علي (عليه السلام) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الايدي
____________
(1) سورة الفتح : 10 .
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الافاق : ألاّ يجيزوا لاحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقربه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .
ثم كتب إلى عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله...
فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق .
ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها...
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال : إن أكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية
فمعظم الفضائل التي جاءت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحابة ومدحهم هي في الحقيقة نصوص موضوعة نسبت إليه زوراً وبهتاناً ولا تمت إلى الحقيقة بصلة ، وكان ذلك بوحي من معاوية الذي سخر أجهزته الاعلامية في خدمة هذا الغرض .
إن نظرة متفحصة لهذه الروايات المتكاثرة في فضائل الصحابة تكشف للباحث آثار الوضع عليها ، وقد وضعت روايات كثيرة في مقابل الروايات الصحيحة التي جاءت في فضائل أهل البيت وهي أكثر من أن تحصى ، كرواية « أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة » والتي لا يجد الباحث عناءً في معرفة أنها قد وضعت في مقابل الحديث الصحيح « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » مثلاً .
وقد مرّ فيما سبق الاشارة إلى بعض هذه الروايات التي وضعت في مقابل الروايات الصحيحة في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كقصة المرأة التي جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوصاها بأن تأتي أبا بكر إذا توفي النبي ... .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11/44 ـ 46 .
إن المتناقضات التي يلمسها الباحث في فضائل الصحابة ـ وبخاصة الخلفاء الثلاثة الاوائل ـ كافية لان تكشف عن زيفها ، ومن الامثلة على ذلك أنهم يروون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال : « لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً... » ، وتجدهم في المقابل يروون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)« إن لكل نبي خليلاً من أُمته وإن خليلي عثمان بن عفان » ! !(1) .
إن هذه الروايات المكذوبة ما هي إلا إفرازات الواقع الذي أراد معاوية تثبيته في أذهان الناس ، فانه أطلق العنان أولاً للرواية في فضائل عثمان فتسابق الوضاعون في إختلاقها ، حتى إذا وجد أنها قد طغت كالسيل أمر بالرواية في فضائل الخليفتين السابقين له ، ولكن الوضاعين ـ رغم جهودهم غير المشكورة ـ لم يستطيعوا أن يخرجوا من المأزق الذي وضعوا فيه رغم إغراقهم في رواية الفضائل المكذوبة لبعض الصحابة .
وعلى أي حال فنحن لا نريد الاطالة في هذا الموضوع ، إلاّ أننا
____________
أسماء الصحابة
قال الشيخ في « مطلب استهانتهم بأسماء الصحابة » :
وقد تواتر عنه (صلى الله عليه وسلم) ما يدل على وجوب تعظيمهم وإكرامهم ، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في مواضع من كتابه ، ويلزم من إهانة هؤلاء إياهم استخفافهم لذلك عندهم ، ومن اعتقد ما يوجب إهانتهم فقد كذب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما أخبر من وجوب إكرامهم وتعظيمهم ، ومن كذبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر . ومن عجب أنهم يتجنبون التسمية بأسماء الاصحاب ويسمّون بأسماء الكلاب ، فما أبعدهم عن الصواب وأشبههم بأهل الضلال والعقاب(1) . |
وهذا المطلب كما ذكرنا له صلة بمسألة أصل عدالة الصحابة جميعاً ، لتكون مناقشاتنا مبتنية على المباني والاسس الصحيحة ،
____________
(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 26 ـ 27 .
الفصل الرابع : أُمّ المؤمنين عائشة
قال الشيخ في « مطلب سبهم عائشة رضي الله عنها المبرأة » :
ومنها : نسبتهم الصديقة الطيبة المبرأة عما يقولون فيها إلى الفاحشة ، وقد شاع في هذه الازمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم . قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امرِي مِنْهُمْ مَااكتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ وَالَّذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظيمٌ...)(1) . وقد روى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة رضي الله عنها أنها المبرأة المرادة من هذه الايات . |
____________
وروى سعيد بن منصور وأحمد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أُم رومان رضي الله عنها ما يدل أن عائشة رضي الله عنها هي المبرأة المقصودة بهذه الايات...(1) . |
وفي مطلب « مشابهتهم اليهود » قال الشيخ :
ومن قبائحهم تشابههم باليهود ، ولهم بهم مشابهات ، منها : أنهم يضاهون اليهود الذين رموا مريم الطاهرة بالفاحشة بقذف زوجة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)عائشة المبرأة بالبهتان وسلبوا بسبب ذلك الايمان...(2) . |
حديث الافك
إن قضية الافك تحتاج إلى شيء من التفصيل ، لان الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ كعادته ـ يخلط الاوراق بهدف إثارة الضجيج للتعمية على الحقائق وصرف الاُمور إلى غير وجهها لينفذ بذلك إلى غرضه الحقيقي ألا وهو إلصاق التهم بالشيعة جزافاً .
فقوله : ( وقد شاع في هذه الازمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم )
____________
(1) رسالة في الردّ على الرافضة : 22 ـ 23 .
(2) رسالة في الردّ على الرافضة : 43 .
بعد هذه المقدمة نقول :
1 ـ إن إتهام الشيعة بنسبة الفاحشة إلى زوج النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)هي محض افتراء لم يقل به أحد من الشيعة لا من السابقين ولا من اللاحقين ، بل إن الشيعة أكثر تنزيهاً وتقديساً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكلّ الانبياء (عليهم السلام) من جميع الطوائف المنضوية تحت إسم الاسلام ، فعلماء الشيعة قد صنّفوا كتباً لاثبات قدسية ساحة الانبياء وبراءة عرضهم من كلّ ما يشين ، وردّوا على كلّ من ادعى بجواز مثل هذه الاُمور المشينة على الانبياء ، والتي نجد البعض منها في روايات
____________
(1) سورة الحجرات : 6 .
وقد عبَّر السيد المرتضى (رحمه الله) عن هذه الحقيقة فقال في معرض ردّه على المفسرين الذين نسبوا الخيانة الزوجية إلى زوجة نوح (عليه السلام)مدّعين أن ابنه كان من سفاح ، فقال :
والوجه الثالث : أنه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنما ولد على فراشه فقال (عليه السلام) : إن ابني ، على ظاهر الامر ; فأعلمه الله تعالى أن الامر بخلاف الظاهر ونبهه على خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لانه إنما أخبر عن ظنه وعما يقتضيه... وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج .
قال المرتضى : ولان الانبياء (عليهم السلام) يجب أن ينزهوا عن هذه الحال، لانها تعيير وتشيين ونقص في القَدْر ، وقد جنّبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكلّ ما ينفرّ عن القبول منهم(1) .
فهذا الكلام أكبر رد على من ينسب إلى الشيعة الكلام بما يخل بالادب تجاه الانبياء (عليهم السلام) ، وذلك على العكس مما نجد في كتب وصحاح أهل السنة التي تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وغيره من الانبياء أُموراً مشينة كالتبول من وقوف ، وخروج النبي إلى المسجد وعلى
____________
(1) تنزيه الانبياء : 18 .
2 ـ أما قول الشيخ بأن أُم المؤمنين عائشة هي المرادة من الايات ، وأن هذا مشهور متواتر بين الشيعة ، فان هذا ما تدّعيه مصادر أهل السنة قاطبة ، وهي تكاد تكون مجمعة على ذلك فعلاً ، لكن لنا في كلّ ذلك نظر ، ونحن لا نلقي الكلام جزافاً بدون الاستناد إلى الدليل ، ولاجل أن تتبين الحقيقة بشكل واضح ، فسوف نستعرض أهم روايتين وردتا في أقوى مصادر أهل السنة فيما يتعلّق بحديث الافك ثم نناقشها مناقشة علمية على ضوء الادلة والشواهد ، مع الاشارة إلى أقوال بعض العلماء والشراح الذين وقعوا في حيرة وارتباك واضحين وهم يحاولون تصحيح حديث
____________
(1) أُنظر صحيح البخاري 1/66 ، 67، 76 ، 78 ، 79 ، 7/25 ، 49 ، 50 .
قالت عائشة : كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إِذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيه سهمي ، فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ما أُنزل الحجاب ، فكنت أُحمل في هودجي وأُنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من غزوته تلك وقَفَلَ دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فاذا عقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه .
قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه .
وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل فساروا .
ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلّمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الافك عبدالله بن أُبي بن سلول .
قال عروة : أُخبرت أنه كان يُشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .
قال عروة أيضاً : لم يُسم من أهل الافك أيضاً إلاّ حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنه بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم ، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى ، وإن كبر ذلك يقال عبدالله بن أبي سلول .
قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه
فإن أبي ووالده وعرضي | لعرض محمد منكم وقاء |
قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيسلم ثم يقول : « كيف تَيكُم » ثم ينصرف ، فذلك يريني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أُم مسطح قبل المناصع ، وكان مُتبرّزنا وكنا لا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .
قالت : فانطلقت أنا وأُم مسطح وهي ابنة أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف وأُمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أُثاثة بن عبد المطلب ، فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أُم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، اتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه ولم تسمعي ما قال ؟ قالت : وقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الافك ، قالت : فازددت مرضاً على مرضي ، فلمّا رجعت إلى بيتي دخلّ علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسلم ثم قال : « كيف تيكم »
قالت : ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله .
قالت : فأما أُسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أُسامة : أهلك ، ولا نعلم إلاّ خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك .
قالت : فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بريرة فقال : « أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .
قالت : فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي وهو على المنبر فقال : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل
قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني الاشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الاوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .
قالت : فقام رجل من الخزرج وكانت أُم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج .
قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل .
فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين .
قالت : فثار الحيّان الاوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم على المنبر .
قالت : فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم .
قالت : وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا يرقأ لي
فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت علي إمرأة من الانصار فأذنت لها فجلست تبكي معي .
قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علينا فسلم ثم جلس .
قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء .
قالت : فتشهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين جلس ثم قال : « أما بعد ، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا ، فان كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فان العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه » .
قالت : فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لابي : أجب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عني فيما قال .
فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقلت لامي : أجيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عني فيما قاله ، قالت أُمّي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم أني بريئة لا تصدقوني
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في النوم رؤيا يبرئني الله بها .
فوالله مارام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى أنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أُنزل عليه .
قالت : فسري عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عائشه ، أما الله فقد برأك » .
قالت : فقالت لي أُمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه فاني لا أحمد إلاّ الله عزوجل .
قالت : وأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالاِْفْكِ ...) العشر الايات ، ثم أنزل الله هذا في براءتي .
قالت عائشة : وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : « ما ذا علمت أو رأيت » ؟ فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلاّ خيراً .
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم)فعصمها الله بالورع .
قالت : وطفقت أُختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، ثم قال عروة : قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ، ليقول : سبحان الله ، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أُنثى قط .
قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله(1) .
وأخرج البخاري عن مسروق بن الاجدع قال : حدثتني أُم
____________
(1) صحيح البخاري 5/148 ـ 154 باب حديث الافك ، صحيح مسلم 4/2129 ـ 2137 كتاب التوبة ، باب حديث الافك وقبول توبة القاذف .
وأخرج البخاري عن مسروق أيضاً قال : دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له وقال :
حصـان رزان مـا تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
____________
وأخرج البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : والذي تولى كبره ، قالت : عبدالله بن أُبي بن سلول(2) .
هذه هي أهم الروايات التي ذكرت حديث الافك في الصحيحين ، وسنكتفي بها ونعرض عن باقي الروايات التي في المصادر الاُخرى ، وسوف يتبين للقارئ الكريم أن هذه الروايات تطرح إشكالات معضلة ربما تنسف نظرية جمهور أهل السنة بنسبة القضية إلى أُم المؤمنين عائشة .
الاشكالات على حديث الافك
1 ـ قول عائشة : بعد ما أُنزل الحجاب
من المعلوم أن قضية الافك التي ترويها عائشة قد وقعت في غزوة المريسيع والتي كانت إما في السنة الخامسة أو السادسة من
____________
(1) صحيح البخاري 5/155 ، 6/133 .
(2) صحيح البخاري 6/127 .
2 ـ قول عائشة : وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سأل زينب... .
وقد صحت الروايات بأن فرض الحجاب نزل يوم زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من زينب ، ونزل في قضيتها ، وكان ذلك بعد المريسيع وبعد خيبر التي وقعت في العام السابع من الهجرة النبوية الشريفة .
فعن ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فخدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عشراً حياته ، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أُنزل ، وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه ، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)بزينب بنت جحش : أصبح النبي (صلى الله عليه وسلم) بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ، ثم خرجوا وبقي منهم رهط عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأطالوا المكث ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخرج وخرجت معه كي يخرجوا ، فمشى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ، ثم ظن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا ، فرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة ، فظن أن قد خرجوا
3 ـ قول عائشة : وكانت النساء خفافاً لم يهبلن ... .
لا يعقل أبداً أن لا يشعر حاملو الهودج بعدم وجودها فيه مهما كانت خفيفة الوزن ، خصوصاً وأنه قد ذكر بأن الذي كان يحمل هودجها رجلان فقط أحدهما أبو موهبة ، وفي بعض الروايات أبو مويهبة وحده(2) .
4 ـ قول عائشة : وكان الذي تولى كبر الافك عبد الله بن أُبي .
هذا يناقض ما ورد في رواية مسروق من إتهام حسان بن ثابت بأنه هو الذي تولى كبره ، وقول عائشة : وأي عذاب أشدّ من العمى ، يدلّ على أن الاية قد نزلت في حسّان .
5 ـ قول أُم رومان لعائشة : هوني عليك فوالله لقلّما كانت إمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلاّ كثّرن عليها .
____________
(1) صحيح البخاري 8/66 باب آية الحجاب ، وفيه روايات أُخرى بنفس المعنى عن أبي مجلز وعن أبي قلابة وعبد العزيز بن صهيب كلهم عن أنس ، وفي صحيح مسلم 2/1048 عن أبي قلابة عن أنس بنفس المعنى .
(2) السيرة الحلبية 2/292 ، فتح الباري 8/347 ، إرشاد الساري 4/391 ، البداية والنهاية 5/324 .
6 ـ قول عائشة : ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله... .
إذا علمنا أن أُسامة بن زيد كان في السابعة عشرة من عمره حين أمّره النبي على الجيش قبل وفاته بأيام قليلة في العام الحادي عشر من الهجرة ، فيكون عمر أُسامة في السنة السادسة من الهجرة ـ عام المريسيع ـ على أبعد التقديرات ، لا يزيد على إثنتي عشرة سنة ، وهذا السن لا يؤهله لان يكون مستشاراً في قضية بالغة الحساسية ، وذلك يناقض قول ابن حجر بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستشير في الامور العامة ذوي الاسنان من أكابر الصحابة(1) .
فكيف يتركهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه القضية الخطيرة ويستشير طفلاً لا خبرة عنده في هذه الامور ؟ ولماذا لم يستشر عمر بن الخطاب صاحب الموافقات الذي ينزل القرآن بموافقته دائماً كما يقال ؟ ! !
____________
(1) فتح الباري 8/378 .
لقد وردت الروايات من مصادر أهل السنة الموثوقة بأن عائشة قد اشترت بريرة بعد فتح مكة ، لانه لما خيّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فاختارت نفسها ، كان زوجها يبكي ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعباس : « يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة... »(1) .
8 ـ ورد في حديث الافك قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر .
بينما تدل الروايات الصحيحة أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد في عام غزوة المريسيع ، كما تذكر الروايات أن الذي أشار على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)باتخاذ المنبر هو تميم الداري ، وقد أحس الشراح بتلك الغلطة وحاولوا أن يجدوا لها مخرجاً .
فقد قال ابن حجر العسقلاني ، وجزم به ابن سعد : بأن ذلك كان في السنة السابعة ، وفيه نظر ، لذكر العباس وتميم فيه ، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع ، وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وفيه نظر أيضاً لما ورد في حديث الافك في الصحيحين عن عائشة قالت : فثار الحيّان الاوس والخزرج حتى كادوا يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا ، فإن حمل التجوز في ذكر المنبر وإلاّ فهو
____________
(1) صحيح البخاري 7/62 ، إرشاد الساري 4/394 ، 7/261 ، فتح الباري 8/379 .
9 ـ ورد في الرواية ذكر الصحابي سعد بن معاذ .
والمعلوم أن سعد بن معاذ قد قُتل في معركة الاحزاب ( الخندق ) ، وهي قبل المريسيع ، إذ ذهب أكثر المؤرخين والمحدثين إلى أن غزوة الخندق كانت سنة أربع ، ومنهم البخاري الذي روى في باب غزوة الخندق قال : قال موسى بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع(2) .
وقال القاضي عياض : في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس عليه ، ونبهنا عليه بعض شيوخنا ، وذلك أن الافك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق ، وسعد بن معاذ مات في الرمية التي رُميها بالخندق ، فدعا الله فأبقاه حتى حكم في بني قريظة ، ثم انفجر جرحه فمات منها ، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع ، إلاّ ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس(3) .
____________
(1) فتح الباري 2/318 .
(2) صحيح البخاري 5/137 باب غزوة الخندق .
(3) فتح الباري 8/381 .
وهذا يتنافى مع القول بعدالة الصحابة المطلقة أولاً ، وثانياً فان سعد بن عبادة صحابي عظيم وهو زعيم الانصار ، وهو الذي كان بادر إلى عقد إجتماع السقيفة على أمل أن ينال الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكن مجيء المهاجرين الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ـ إلى السقيفة أفشل مخططه ، فانصرفت الخلافة إلى أبي بكر ، وأيده عليها من الانصار أُسيد بن حضير الذي حرض قومه على بيعة أبي بكر ، كما هو معروف ، بينما خرج سعد بن عبادة مغاضباً ولم يبايع أبا بكر ، ولا كان يجمع معهم في صلاة أو حج حتى خرج إلى الشام وقُتل هناك ، وقيل أن الجن قتلته ، وهي خرافة لا يصدقها عاقل ، فلتراجع(1) .
ومن هذا تبين لنا أن يد السياسة قد تلاعبت في الامر ، وأن
____________
(1) تاريخ الطبري 4/218 ـ 222 ، تاريخ الاسلام 3/148 ، الامامة والسياسة 1/27 ـ 28 ، الطبقات الكبرى 3/616 ـ 617 ، الاستيعاب 2/559 ، الاصابة 2/30 ، أسد الغابة 2/205 .
11 ـ قول عائشة : فتشهّد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين جلس ثم قال : « أما بعد يا عائشة ، إنه بلغني منك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله... إلخ » .
نقول أولاً ، إن كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمل في طيّاته إتهاماً لعائشة ، وهذا عجيب جداً ، إذ كيف يتفق موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) مع الايات الكريمة التي تعيب على المؤمنين سوء ظنهم ؟! وذلك في قوله تعالى (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هذَا إِفْكٌ مُبينٌ) الاية ، فكيف فات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك ولم يظن خيراً ؟ ! !
والعجيب أن يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رواية ابن عساكر عن أشرس مرفوعاً قوله (صلى الله عليه وسلم) : « ما بغت إمرأة نبي قط » ، وعن مجاهد : « لا ينبغي لامرأة كانت تحت نبي أن تفجر » .
فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف كل ذلك ، فما باله يساوره القلق فيذهب ليستشير الصبيان فيما يجب علمه ، ثم يغضب من عائشة ولا تجد منه ذلك اللطف الذي كانت تعهده منه قبل ذلك حتى قالت
وفضلاً عن هذا ، فان إدعاء عائشة أنها كانت جارية صغيرة السن فعجيب أيضاً ، إذ أن الحادثة كانت في السنة السادسة من الهجرة وعمر عائشة ينبغي أن لا يقل عن خمسة عشر عاماً على أقل تقدير ، والمرأة المتزوجة منذ سنوات لا يقال لها جارية صغيرة .
كما أن قولها أنها كانت لا تقرأ من القرآن كثيراً فأعجب وأغرب بعد مضي أكثر من خمس سنوات لها في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مهبط الوحي ، وكأن النبي كان مقصّراً في تعليم ـ نسائه القرآن !!!
ولا ندري كيف أصبحت عائشة بعد ذلك مرجعاً دينياً مهماً تفتي وترد على الصحابة وتخطئهم ؟! بل كيف يُدّعى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا بأن نأخذ شطر ديننا منها !!!
12 ـ قول عائشة : وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة... .
لقد وردت الروايات بأن مسطح بن أثاثة كان من أصحاب الافك ، وأن أبا بكر كان ينفق عليه قبل الحادثة هذه لقرابته من أبي
لكن الشواهد الصحيحة من التاريخ والسيرة والاثر تنافي أن يكون أبو بكر قد أنفق على أحد بعد الهجرة على الاقل ، وليس هناك ما يثبت أن أبا بكر كان في سعة من العيش بحيث يسمح له وضعه بالانفاق على غيره ، لان عائشة ابنته وهي زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ذكرت أنها والنبي كانا يتضوران جوعاً ويعانيان من ضيق العيش ، ومع ذلك فان أبا بكر لم ينفق عليها شيئاً ولا أرسل لها ما يقيم أودها كما كان يفعل غيره كسعد بن عبادة الذي كانت جفنته تدور مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيوت أزواجه(1) .
إن قضية إنفاق أبي بكر على مسطح ماهي إلاّ فضيلة أُخرى مفتعلة وضعتها أيدي الكذابين ليتقرّبوا إلى السلطة الحاكمة ، كما اختلقت حديث الافك المعروف كلّه .
ومَن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب حديث الافك للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الذي أوفى فيه على الغاية .
____________
(1) الطبقات الكبرى 3/614 ، الاصابة 2/30 ، أُسد الغابة 2/204 .