مقدمة المركز:
من أبرز نشاطات "مركز الأبحاث العقائدية" الاهتمام بالمستبصرين، والتأكيد على النخبة منهم، الذين قضوا وقتاً طويلا في البحث والتحقيق وتمحيص الأدلّة، ومن ثمّ الرحلة إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام).
وبحق، فان فترة الانتقال من أصعب ما يواجهه المرء، حيث يحصل له نوع من الشكّ في كل شيء، ليضعه على طاولة البحث، لأنّ الإنسان قد عوّد نفسه أن ينظر إلى الموروث الفكري نظرة تقديس، ولا يعطي لنفسه الحقّ حتى في البحث والتساؤل عن دليل هذا الموروث.
ومن هذا المنطلق يكمن سرّ عظمة هؤلاء الذين تحرّروا من قيود التمسّك الأعمى بالموروث، وأعطوا الحق الكامل لأنفسهم في البحث عن الصحيح من السقيم منه، وانتقلوا إلى مرحلة اليقين الكامل بعدما اعتراهم الشكّ في الكثير من المسائل العقائدية.
ومن أبرز هؤلاء النخبة الأستاذ المستشار الدمرداش العقالي حفظه الله، الذي له باع واسع في كثير من الأبحاث العقائدية والمسائل الخلافيّة، مع ما له من ملكة وموهبة فذّة في فن الخطابة وإيصال كلمة الحقّ إلى المخاطب
وفي زيارتي إلى القاهرة وجّهتُ دعوة خاصّة إلى المستشار العقالي لزيارة مركز الأبحاث العقائدية، فلبّى الدعوة، وكان حضوره في المركز مفيداً جدّاً، وذلك بالقاء عدّة محاضرات في محافل عامّة وخاصّة، بالإضافة إلى لقائه بمراجع الدين في الحوزة العلمية، وزيارته لأهمّ المؤسسات العلمية التابعة للحوزة.
وبعد زيارته المباركة، ارتأى المركز تدوين محاضراته، وتنظيمها، مع بعض التعديلات، مراعين في ذلك الحفاظ على أسلوب المحاضرة، ومن ثمّ طبعها في كتاب تحت عنوان: "محاضرات عقائدية"، وذلك لما تحويه من نكات دقيقة واستنتاجات علمية عديمة النظير.
سائلين المولى عزّوجلّ للمستشار العقالي طول العمر والموفّقية والسداد.
وفي الختام، نقدّم جزيل شكرنا إلى المحققين في قسم المستبصرين، لما بذلوه من جهد في كتابة هذه المحاضرات وتنظيمها وضبط واستخراج الآيات القرآنية والروايات الشريفة وأقوال العلماء، ونخصّ بالذكر منهم سماحة الشيخ محمد اللبان الذي كانت مهمّة إعداد هذا الكتاب على عاتقه.
مركز الأبحاث العقائدية
فارس الحسّون
المحاضرة الأُولى:
"الرحلة إلى الثقلين"
[تمهيد]
الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على من أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
أما بعد: فإنّ من نعم الله عزّ وجلّ التي تتوالى على الناس في كل عصر وحين نعمة ما استحدثه العلم المعاصر من وسائل للتخاطب والتعارف، لم يكن للأولين عهد بها، هذه النعمة التي تتمثّل في أجهزة الإتصال والتلفاز والانترنيت، بحيث إذا سُخرت لشكر أنعم الله بالدعوة الى منهجه والاستمساك بحبله كانت نعمةً سابغةً وكانت عاقبتها يوم القيامة الفوز المبين إن شاء الله.
وأنا إذ أتحدث الى كل من يتفق له أن يشاهد أو يسمع حديثي، فإني أرجو أن يقع منه موقع القبول وأن نكون وإيّاه ممن (يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتّبِعونَ أحسَنَهُ أولئِكَ الَّذينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأولئِكَ هُمْ أُولُوا الألبَابِ)(1).
____________
1 - الزمر: 18.
[الهوية الشخصية]
وأستأذن المشاهد الكريم والمستمع اللبيب في أن اعرّفه بشخص المتحدث الفقير إلى الله، الدمرداش بن زكي بن مرسي بن علي بن عبد العال بن علي بن علاّم.
عربي الأصل والأرومة، مصري الجنسية والإقامة.
فقد ولدتُ ونشأتُ في أواسط صعيد مصر في إقليم أسيوط وهو: إقليم ذو تأريخ شأنه شأن كل بقاع مصر، ولكن إقليم أسيوط يتميز بأنّه ظل دائماً مكاناً ومستقراً للدعاة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة.
ونذكر من روّاد علماء أسيوط العلاّمة جلال الدين السيوطي، وتأليفاته ومصنّفاته أكثر من أن تحصى.
كانت نشأتي في إقليم أسيوط، لأُسرة أنعم الله عليها بمجموعها بالكثير من المال، وكانت تملك معظم الأراضي الزراعية لقرية العقال وما حولها، وإن كان العبد الفقير ليس له حظّ من هذه الملكيات، فقد كان من فقراء العائلة.
وقد قيّض الله لي أبوين وجّهاني منذ صغري الى حفظ كتاب الله عزّ وجلّ، بغية إلتحاقي بالأزهر الشريف، ثمّ شاء الله عزّ وجلّ أن يوجّهني إلى التعليم المدني، وانتهت دراستي بالتخرّج من كلّية
اشتغلت فترة بالمحاماة في صدر شبابي، ثم عُيّنت قاضياً في وزارة العدل المصرية، وتدرجت في سلك القضاء المصري إلى درجة مستشار بمحكمة استئناف القاهرة ـ ودرجة مستشار أعلى درجات القضاء فنياً وإن لم تكن أعلاها وظيفياً ـ ثم استقلت من القضاء للاشتغال بالعمل السياسي، فانتخبت من قواعد حزب العمل المصري في مؤتمره الثالث ـ المنعقد عام 1984 م ـ بإجماع قواعد الحزب نائباً لرئيس الحزب، ثمّ صدر قرار رئيس جمهورية مصر العربية بتعييني عضواً في مجلس الشورى المصري عام 1986م، ثمّ انتخبتُ عضواً بمجلس الشعب المصري في العام التالي ـ وحصلتُ في هذه الانتخابات التي جرت في أبريل عام 1987م حصلت على 127 ألف صوت، وهي أعلى نسبة حصل عليها عضو بمجلس الشعب المصري آنذاك ـ ومارستُ دوري في مجلس الشعب المصري على هدىً من كتاب الله عزّ وجلّ من الالتزام بتحقيق السلام الاجتماعي للأُمة، وكل ذلك مسطور ومضبوط في مضابط مجلس الشعب المصري.
[الطريق إلى الاستبصار]
وإنّما الذي يعنيني في مقامي هذا بعد أن عرّفتكم بشخصي
لقد مرّ عليّ زمن استغرق عقدين من السنين أحاول خلالهما أن أتعرف على وجه الحق في أساس الاعتقاد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكان منطلقي في بداية البحث هو نشأتي الريفية التي جُبلت على حب أهل البيت وإعطائهم الولاء القلبي الكامل.
ولمّا شغلت منصب القضاء في مصر في عام 1965م و1966م و 1967م ـ أي على مدى أعوام ثلاث ـ إتفق لي أن أتولى الفصل في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين، وكذلك في قضايا الأحوال الشخصية للمسيحيين، في إحدى مدن الصعيد وهي مدينة " كوم امبو "، من أعمال محافظة أسوان، وفي هذه المدينة يتعايش المسلمون والمسيحيون في سلام اجتماعي واحترام متبادل، وقد اتفق لي أن عرضت عليّ قضية طلاق بين مسيحي ومسيحية، وكان مبنى الدعوى التي أقامها الزوج على الزوجة هي الزنا!! وهو السبب الوحيد لفصم العروة الزوجية عند الأقباط الأرثودكس.
وأود أن أشرح للمستمع وللمشاهد أنه: قبل ثورة يوليو 1952م التي فجرها جمال عبد الناصر، كان القضاء في الأحوال الشخصية للمسيحيين يعود الى محاكم محلّية خاصّة بهم في
وكان القسيس الذي حضر معي الجلسة يبدو عليه التوتر والإنزعاج والقلق ممّا يرمي به المدّعي ـ الزوج ـ زوجته المدّعى عليها! فأشفقت عليه ممّا يعانيه وأردت أن أداعبه مخفّفاً عنه، فقلت له: هلاّ فكرتم بالبحث عن طريق لتخفيف الإنغلاق في مسألة الطلاق، بحيث يستطيع الزوج عندكم أن يطلق من غير حاجة الى إتهام زوجته بالزنا؟!
فجاء ردّ الرجل سريعاً ومنفعلا وقال: أتريد أن تجعل الطلاق عندنا مثل ما عند المسلمين " طَقَّتْ حَنَكْ "؟! ومعناها كلمة طائرة يتفوّه بها الرجل فتطلّق المرأة من غير ضوابط، لقد شدتني هذه العبارة!
وفي اليوم التالي كنت أجلس للقضاء في الأحوال الشخصية بين المسلمين، فتقدّمت مني إمرأة مسلمة ترفع دعوى بطلب نفقة زوجية من زوجها لامتناعه من الإنفاق عليها، فلمّا طلبت من الزوج الجواب على الدعوى، كان جوابه: إني طلقتها منذ عام
وإذا بالمرأة تصرخ وتستجير وتواجه دعوى زوجها عليها وتصفها بالكذب، وأنّه كان معها في معاشرة زوجية منذ أيام فقط!!
كان لهذا التخاصم وقع كوقع الصاعقة عليّ، فقد أعاد الى ذهني كلمة القسيس عن الطلاق الخالي من الضوابط، حيث أن الطلاق في الراجح على مذهب أبي حنيفة يمكن أن يتم غيابياً وبلفظ صريح أو بكناية أو معلّق.
فوجدت أن الأمر يحتاج الى مراجعة من هو أعلم مني بشؤون الشريعة والأحوال الشخصية، فذهبت لزيارة فضيلة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ـ وكان أستاذاً لي في كلّية الحقوق ـ وشكوت إليه قواعد الطلاق في مذهب أبي حنيفة التي تجيز وقوع مثل هذه المأساة بحيث تطلق الزوجة في غيبتها ومن دون علمها ومن دون شهود على ذلك، ثمّ يبقى زوجها معاشراً لها بغياً وعدواً!!
فكان جواب الشيخ أبي زهرة لي: يا ولدي لو كان الأمر بيدي ما جاوزت في القضاء والفتيا مذهب الإمام الصادق(عليه السلام).
ووجهني إلى أن أعود الى سورة الطلاق وإلى شروح مذهب أهل البيت حول أحكام الطلاق.
ولما عدت إلى السورة وإلى شروح الأحكام، تبيّن لي أنّ
كانت هذه أوّل محطة جادّة وضعتني في مواجهة مع نفسي، إذ أنّ الأمر جدٌّ لا هزل فيه، فقلت في نفسي: إبحث وتقصى واستعصم بما تعلم أنه الحق.
[مع كتاب المختصر النافع وفتوى الشيخ شلتوت]
ثمّ اتفق لي أن قرأت كتاباً مطبوعاً على نفقة وزارة الأوقاف المصرية، في عهد وزيرها العالم الجليل المرحوم الشيخ أحمد حسن الباقوري، كتاب طبعته وزارة الأوقاف المصرية عام 1955م عن الفقه الإمامي الشيعي عنوانه " المختصر النافع في فقه الإمامية " للمحقّق الحلي، فزاد يقيني من أن الفقه الشيعي كما وصفه الشيخ الباقوري في مقدمة الكتاب: باعدتنا عنه الأهواء وحجبتنا عنه السنون، رغم أنّ فيه العلاج الأمثل لكثير من عللنا الاجتماعية.
كانت قراءتي لهذا الكتاب متزامنة مع قراءتي للفتوى التي أصدرها فضيلة الشيخ محمود شلتوت ـ شيخ الجامع الأزهر
ومن يومها بدأت رحلتي في التعبّد بمذهب الإمامية، مؤملا أن يزيدني الله إطلاعاً واستبصاراً على كتب أخرى.
[القرآن الكريم وأهل البيت(عليهم السلام)]
وهيأ الله لي أن أعكف على القرآن الكريم الذي حفظت الكثير منه صغيراً، أتنسم في آياته البيّنات معالم أهل البيت، وبدأت أرجع إلى التفاسير المعتمدة عند العامة، فهالني ماوجدت من مواقف قرآنية قطعية تبيّن أنّ هذا القرآن الذي أنزله الله بين محكم ومتشابه لابدّ لفهمه من أن يكون هناك دليل هاد يقود العقل بين آياته قيادة مبرّأة من الجهل والهوى، وأن هذه القيادة التي يقتضيها المنطق القرآني ومنهجه قد تمت الدلالة عليها في وقائع الحياة اليومية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فها هو المنهج الإسلامي يتنزّل به الوحي على أمة أمية مضى عليها حين من الدهر تعبد اللات والعزى ومناة، ووصفها الله عزّ وجلّ بأنّها أمة كانت في ضلال مبين، وحينما فتحت المدرسة المحمدية كان أول من وفد على ساحتها بفطرة نقية صبي مجتبى تربى في
فقد تعلّمنا في المدارس منذ الصغر أن يوصف علي وحده بأنّه كرّم الله وجهه، وهذا التكريم كان بداية الإعداد لولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام)ولمنصبه الإلهي في البيان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث يكون بيانه مطابقاً لمراد الله تعالى تماماً كبيان رسول الله، واستبان لي البرهان في هذه القضية ـ قضية بيان أمير المؤمنين وأنّه عين بيان رسول ربّ العالمين، بيان علي(عليه السلام) كبيان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بدلالة ما وقع عند نزول سورة براءة، وفي شرح سورة براءة وما حدث قبل وبعد نزولها!
[تبليغ سورة براءة]
لقد استفاضت كتب التفسير عند السنة(1) أنّه في العام التاسع
____________
1 - أنظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 2 / 346، التفسير الكبير للفخر الرازي: 15 / 523 ـ 524، تفسير روح المعاني للآلوسي: 5 / 240، الدر المنثور للسيوطي: 3 / 209.
ونزلت الآيات العشر من سورة براءة مستهلة بقوله عز شأنه: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى اللَّذِينَ عَاهَدتُمْ مِنَ المُشرِكينَ * فَسِيحُوا في الأرْضِ أربَعَةَ أشهُر وَاعلَمُوا أنّكُمْ غَيرُ مُعْجِزي اللهِ وَأنَّ اللهَ مُخزي الكافِرينَ * وَأذانٌ منَ اللهِ وَرَسولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ أنَّ اللهَ بريءٌ مِنَ المُشرِكينَ وَرَسُولُهُ...)(1).
فسورة براءة تعني أن هذا العام الذي يحجّ فيه أبو بكر بن أبي قحافة أميراً على الحجيج هو آخر عام يحجّ فيه الناس بين مشرك ومسلم، وأنّه لا يجوز للمشركين، (إنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْربُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)(2).
فلمّا نزلت الآيات أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام)ليبلّغ هذه السورة، ورجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقال: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلاّ أنت
____________
1 - التوبة: 1 ـ 3.
2 - التوبة: 28.
فهذا الأمر الإلهي كشف عن أن عليّاً (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي عبّر عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث صحيح بقوله: " إنّ عليّاً منّي وأنا منه "(1).
وذهب علي يتلو على الناس سورة براءة نائباً عن رسول الله نيابة النفس عن النفس ونيابة الجزء عن الكلّ.
هذا الحادث دليل قطعي على منصب إلهي، اجتبى الله فيه عليّاً (عليه السلام)، ومن قبله أحداث ومن بعده أحداث، فمن قبله فتح خيبر وما أدراك ما فتح خيبر؟!
[حديث الراية]
والمروي في كتب السنة وفيما يعدّ عندهم من الصحاح في المسميات ـ البخاري ومسلم ـ أنّه في يوم فتح خيبر واللفظ لمسلم:
" عن أبي هريرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم خيبر: لأعطينّ هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه".
قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ.
____________
1 - الخصائص للنسائي: 87 و 98، مستدرك الحاكم: 3 / 111، كما أخرجه البخاري بلفظ آخر: 3 / 168.
قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب فأعطاه إيّاها، وقال: إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.. "(1).
ومضى أمير المؤمنين بالراية مشهوداً له بأنّه يحبّ الله ورسوله، مثنياً عليه بأنّ الله ورسوله يحبّانه ; قائماً بعمل نكص عنه غيره، وكم من أعمال جسام نكص عنها غيره فأدّاها؟!
أي دليل أبلغ من هذا على اختصاصه بالمنزلة الرفيعة؟
[حديث المنزلة]
وختمت مشاهد الغزوات النبويّة بغزوة تبوك في عام العُسرة، والتي ندب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها الناس للغزو، فلمّا همّ علي بالخروج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره رسول الله بالبقاء في المدينة، فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟! ـ خاتمة العُسرة والحاجة ماسّة لبطولة علي (عليه السلام)، إذ يأمره الرسول بالبقاء في المدينة ـ فجاء التفسير النبوي: " إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك "(2).
فاستبقاه في المدينة، لأنّ بقاءه فيها كبقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
1 - صحيح مسلم: 7 / 121، كما ذكر هذه الحادثة بألفاظ وأسانيد أُخرى.
2 - أنظر: المناقب لابن المغازلي الشافعي: 33.
[سرية أُسامة]
وختمت المشاهد قبيل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسرية أُسامة، لمّا ثقل المرض على رسول الله وأمر بإنفاذ سرية أُسامة بن زيد، أمر بخروج جيش أمّر عليه أُسامة ـ وهو أصغر من في سريته سناً ـ وألحق بسريته شيوخ الصحابة وعلى رأسهم أبي بكر وعمر ولم يستبق معه في المدينة إلاّ عليّاً.
فإذا بمن أمرهم الله تعالى بالنفير يتقاعسون ويقعدون! وفي أسماعهم وعيد الله (إلاّ تَنْفِرُوا يُعذِّبكُمْ عَذَاباً ألِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكُمْ)(1) وأبوا أن يستجيبوا للخروج ببعث أسامة حتى لحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بربّه فاهتبلوها فرصة، ليكون منهم يوم السقيفة للنكث والإنقلاب وتبديل ما أمر الله به وتغيير ما عاهدوا عليه رسول الله يوم الغدير بولاية أمير المؤمنين علي.
[واطمأن القلب]
لمّا وقعت على هذه الحقائق واطمأن قلبي إليها من مصادر السنّة قبل مصادر الشيعة، لاح الحقّ معها جليّاً، فاستعنت بالله عزّ وجلّ مستبصراً وطالباً المزيد من البيان والأدلّة والمزيد من الإطلاع
____________
1 - التوبة: 39.
[الحصول على كتب الشيعة في السعودية]
فمنّ الله عليّ وأكرمني بأن أعارتني وزارة العدل المصرية عام 1969م كمستشار قانوني لوزارة الداخلية السعودية، ويسّر الله لي بأسباب هي أقرب إلى الكرامة ـ بحمد الله ـ أن أطّلع على عدد من كتب المذهب الشيعي ـ كانت محمولة مع الحجاج الإيرانيين القادمين عن طريق البر إلى السعودية ـ وكانت قد تمّت مصادرة هذه الكتب وأصبحت في حوزة وزارة الداخلية.
وحتى لا أطيل عليكم، فقد تمّ اطلاعي عليها، فوجدتها تشرق بكلّ ما في كتاب الله من دلالات، أيّ أنّ منطلقي إلى الاستبصار والتشيّع كان من كتاب الله أوّلا، ومن مصنّفات الشيعة التي وجدتها لا تعدوا كتاب الله ولا تصادمه ثانياً.
[مسألة تحريف القرآن]
وفي هذه الخصوصية، خصوصية الموقف من كتاب الله بين السنة والشيعة، أذهلني ما يفتريه جهلاء أهل السنة ـ لا أعمم ففيهم العقلاء ـ على الشيعة من الزعم بأنّ الشيعة لا يدينون بالقرآن الذي بين أيدي المسلمين، وأنّ لهم قرآناً آخر، فإذا باطلاعي على كتاب
مثل قول عائشة فيما ترويه كتب السنة: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن(1).
ومثل قول عمر: فكان ممّا أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها(2)، وبقي حكمها، وهي على زعمه آية: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة "(3).
فكل هذه الدعاوي عند أهل السنة التي تخدش العصمة للكتاب الكريم وتوهم بوقوع التحريف فيه، يرفضها الشيعة جملةً وتفصيلا، ويصونون الكتاب الكريم بأحداق عيونهم وأفئدتهم وبحسن تطبيقهم لأحكامه.
____________
1 - الإتقان في علوم القرآن: 2 / 40، الدر المنثور: 5 / 180، وانظر: تفسير القرطبي: 14 / 113.
2 - صحيح البخاري: 8 / 26، وانظر: الدرّ المنثور: 5 / 180.
3 - سنن ابن ماجة: 2 / 854، السنن الكبرى: 8 / 211، مجمع الزوائد: 6 / 6، فتح الباري: 9 / 54، الدر المنثور: 5 / 180.
فعمر عندما يجترىء على أحكام الطلاق فيحرّفها عن مراد الله، ويمضي الطلقات الثلاث في المجلس الواحد باللفظ الواحد، غافلا ومتغافلا ومجترءاً على قول الله في كتابه: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ)(1) بما يعني اختلاف الزمان بين طلقة وطلقة، لكنه اجترأ فطلّق الطلقات الثلاث بلفظ واحد!
وليس محدّثكم هو الذي يقول عن عمر اجترأ، بل يقول ذلك واحد من أشد أتباع عمر ـ حتى في نصبه من أشد النواصب ـ ابن تيمية! فقد إستهول فعلة عمر في عبثه بأحكام الطلاق حيث قال: لا يصحّ لديّ ما قال به عمر من وقوع الطلاق ثلاثاً في المجلس الواحد، بل لابدّ من التفريق بين الطلقات(2).
[مصر تعدل عن مذهب أهل السنة في الطلاق]
وعند هذه النقطة أحيط المشاهد والمستمع الكريم بالعلم:
____________
1 - البقرة: 229.
2 - انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: 33/44، 54 ـ 57.
ثمّ أبشّر المشاهد والمستمع الكريم أنّ مصر خطت خطوة أكبر في العدول عن مذهب أهل السنّة في الطلاق مطلقاً، حيث صدر القانون المصري المعروف بقانون الخلع في يناير عام 2000م والذي من ضمن أحكامه أن لا يقع الطلاق إلاّ في حضرة القاضي وبشاهدين عدلين.
[خطاب ونصيحة موجّهة إلى أهل السنة]
الخلاصة من حديثي معكم: إنّ من التمس الحقّ وجده، ومن أراد أن يستبصر بصّره الله، ومن أراد أن يستنير نوّر الله قلبه.
ولذا أناشد كل مسلم، بل كل إنسان: بأن يراجع موقفه من ربّه ونبيّه وإمامه، فيسرع إلى عقد الولاء لآل محمّد صلوات الله عليهم، وتصحيح عبادته باتباع مراجعهم الذين يأخذون من أنوار آل محمّد
وأُناشد كل مسلم: بأن يعمل على تحرير رقبته من النار، وأن لا يستمسك بالمقولة التي تجعله عبداً في التقليد، فيندرج فيمن قال الله تعالى فيهم (إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّة وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(1)، فإنّي أقول لهم بقول الله عزّ وجل: (أوَلَوْ جِئتُكُمْ بِأهدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَليهِ آبَاءَكُمْ)(2).
أقول من هذا المنبر راجياً أن يصل قولي إلى كلّ من هيّأه الله لاتّباع الحق: لقد جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم، يا أهل السنّة في مشارق الأرض ومغاربها، هلاّ استجبتم لأمر الله وخلعتم اتّباع الطاغوت وهرعتم وأسرعتم الى اتّباع منهج آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول قولي هذا منيباً ومستغفراً ومستجيراً ومستمسكاً ومتوسّلا ومستشفعاً بمحمد وآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يغفر الله لي هناتي وسقطاتي، وأن يرفع عني وزري وإصري.
وصلّى الله على عبده ورسوله محمد وآله الطاهرين.
____________
1 - الزخرف: 23.
2 - الزخرف: 24.
المحاضرة الثانية:
"الإمامة في كتاب الله الحكيم"
[أهمّية الإمامة]
الحمد لله، وسلام على عباده الّذين اصطفى، وعلى النبي الخاتم وآله الطاهرين أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
أمّا بعد: فيا أيّها الإخوة الأحباب سلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
لعلّي لا أبالغ إذا قلت لكم: إنّ أهمّ وأشرف موضوع خليق بأن تجنّد له العقول والأبصار والألباب وتتوفّر العقول على بحثه والتثبّت منه هو موضوع الإمامة، ذلك أنّها تمثّل في شجرة الإيمان الثمرة.
إنّ الشجرة المباركة التي جعل الله أصلها ثابت في الأرض بلا إله إلاّ الله وفرعها منبثق في السماء برسول الله إنّما ثمرتها الحقيقية الإمامة، وإذا تجرّدت الشجرة من الثمرة فقدت وظيفتها وأصبحت عالة على الأرض التي تستقل بها.
أيها الأحباب، أهمّية الإمامة تأتي كذلك، باعتبار مظلوميتها
فتعالوا نردّ على تحدّي من طبع الله على قلوبهم وجعل في آذانهم وقراً، نردّ على تحدّيهم بأن نعيش مع كتاب الله في بيان الإمامة، (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَايَشَاءُ)(1).
فتعالوا بالقول الثابت نتعرّف على النظرية العامّة في القرآن حول الركنين الأساسيين الربوبيّة والعبوديّة.
[الربوبيّة والعبودية]
إنّ قصّة الخلق تدور حول الربوبية والعبودية: ربٌّ خلق وعبدٌ مخلوق مطلوب منه أن يعبد الذي خلقه، وهو لكي يعبده لابدّ أن يكون على بيان من مراد المعبود بياناً قطعيّاً لا مظنّة فيه.
إذن، فالقضيّة أصلها حقوق الربوبية وواجبات العبودية:
ففي حقوق الربوبية ـ إعلم يا أخي ـ أنّ الله ليس ربّ البشر فقط، ولا ربّ الإنس والجن فقط، ولا ربّ الشجر والحجر والحيوان، بل هو ربّ كل شيء، ولذلك فإنّ الإمامة التي يجحدها الناس في عالم البشر هي في الحقيقة تسري في كل المخلوقات.
____________
1 - إبراهيم: 27.