الكفّار أتباع الأنبياء السابقين لمّا يسمعوا رسلهم يقولون أمام المحكمة الكبرى: (لاَ عِلْمَ لَنَا)، أتباع نوح وهود وصالح وشعيب لمّا يسمعوا الأنبياء يقولون: (لاَ عِلْمَ لَنَا)، يقول أحدنا جاءك الفرج يا مسلم! أنا يسألني عن عملي أقول لم يأتني أحد.. لم يوجهني أحد.. لم يرسل إليّ أحد!!
إنّ من مشاهد القيامة أن يموج الخلق فى إنكار رسالة الرسل تخلّصاً من عبء الحساب، فيعود الله إلى الرسل: أنتم تقولون لا علم لكم ـ عدل مطلق ـ وأتباعكم يقولون أنّكم لم تبلّغوا؟!
عندئذ يتلاوم الأنبياء والرسل أنفسهم ويعود إليهم إحساسهم، لأنّ الأمر في غاية الخطورة، فيقولون: لا يا ربّنا وعزّتك وجلالك بلّغنا كما أردتنا.
فيقول: مَن يشهد لكم أنّكم بلّغتم قلتم لا علم لنا وأقوامكم ينكرون أنّكم بلّغتم؟
فيقولون: يشهد لنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، تصديقاً لقول ربّنا تعالى: (فَكَيفَ إذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشهيد وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤلاءِ
____________
1 - المائدة: 109.
فكما أخذ الله العهد على الأنبياء أن يؤمنوا به، أخذ بدوره العهد علينا وعلى البشرية كلها أن نؤمن بالأئمة من بعده.
إقرأ يا أخي وتأمل هذه العبادة التي أكرمنا الله بها نحن معشر شيعة آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وأسأل الله أن يحشرنا بها ـ إنّ الله تعالى خلق الأنبياء أرواحاً وأنواراً وكتب لهم شرف النبوة والرسالة، ولكنّه أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً يجعلهم في حالة انتظار التي تعتبر أشرف العبادات.. حالة الإنتظار الماثلة في قول الله عزّ وجلّ: (وَإذ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيينَ) النبيون والمرسلون جميعاً لأنّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسول، (وَإذ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِن كِتَاب وَحِكمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(2).
كل نبي منذ آدم (عليه السلام) لا يبرئ ذمّته أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله حتى يؤمن بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى يؤمن بالنبي الخاتم،
____________
1 - النساء: 41.
2 - آل عمران: 81.
وما أروع هذا الخطاب المحمدي لمعشر اليهود الذي ينمّ عن غيرته (صلى الله عليه وآله وسلم): لمّا دخل المدينة فوجد اليهود صياماً، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: هذا يوم نجّى الله فيه موسى من فرعون وقومه، فقال: أنا أولى بموسى منكم.
وليس هذا قول نبوي فحسب، بل هو القرآن: (إنَّ أوْلَى النَّاسِ بِإبراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذا النَّبيُّ وَالَّذينَ آمَنُوا وَاللهُ وَليُّ المُؤمِنينَ)(1).
فالأنبياء في حالة انتظار ليتشرفوا، يتشرفون بأي شيء؟
إعلم أن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل خلق الله ابتداءاً وآخر رسل الله ابتعاثاً،... الله كان موجوداً وآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومن قصّ الله ومن لم يقصص من النبيّين، لكن وجود يختص به مكنون في علم الله، وجود التقدير الذي يختصّ به علم الله.
فالأنبياء مطلوب منهم إذا ظهر محمّد على كوكب الأرض أن يصطفوا خلفه ويؤمنوا به ويتّبعوه. وأخصّ كتابين ـ التوراة والإنجيل ـ من الكتب التي كتب الله لها البقاء إلى ما بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)يجد فيها تحديداً ـ بنصّ القرآن وبنصّ التوراة وبشهادة الإنجيل ـ
____________
1 - آل عمران: 68.
كانت الإنسانية موعودةً بأن تدخل في طريق العبودية رويداً رويداً، نبياً بعد نبي، حتى إذا أتمّت مناهجها في معرفة الله شرّفها الله بالرحمة التامة ببعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أتظنّ يا أخي أنّ الله قد كتب على الأنبياء أن يكونوا في حالة انتظار ـ وحالة الانتظار حالة متّصلة ـ اعتباطاً؟ كتبها عليهم لأنّها أشرف العبادات.
كلّ عبادة بدنية تستغرق وقتاً محدوداً.. تصلي في عشر دقائق أو ربع ساعة أو ساعة أو ساعتين، تزكّي مالا خمسه أو يزيد، تصوم أياماً معدودات.. أمّا الإنتظار فحالة استقرار بين النفس والروح تستغرق الوقت كلّه، لأنّك لا تعلم متى يأتي الموعود!
فالأنبياء وهم مأمورون بانتظار أنوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا في حالة مستمرة من العبادة.
____________
1 - الأعراف: 157.
____________
1 - الزمر: 30.
2 - الأنبياء: 34.
3 - العنكبوت: 57.
لكن كيف يكون كافياً وفيه المحكم وفيه المتشابه؟ فيه المحكم الذي لا يختلف على تفسيره وتأويله، وفيه المتشابه الذي يحتمل عدة معاني في فهم الخلق له، لكنّه في مراد الله له معنى واحد.
إعلم أنّ مراد الله من القرآن مراد واحد، فقد أنزل باللغة العربية على أمة أمية والأمة الأمية ذات اللغة العربية، ومن مشاكل هذه الأمة العربية في شأنها العربي أنها لم تكن تعرف صناعة ولا
____________
1 - هود: 17.
2 - الأنعام: 38.
يقصّ الحقّ تبارك وتعالى علينا في سورة الزمر في سبع آيات عجيبة تبيّن أنّ القرآن نزل باللغة العربية: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هَذَا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرونَ * قُرآنَاً عَرَبيّاً غَيرَ ذِي عِوَج لَعَلَّهُمْ يَتَّقونَ)(1).
قف يا أخي، الله تعالى يقول ضربنا للناس كل الناس منذ أن أُنزل القرآن إلى يوم القيامة، ضربنا لهم أن أمثال القرآن توضّح الحقائق. قرآناً عربياً غير ذي عوج، وهذا تأكيد على وصفه بأنّه عربي، ولو كان مظنون أنّه عربي ـ أنّه غير ذي عوج ـ لكان الوصف عند النحاة جائزاً، لكنّه يشير إلى أنّه رغم أنّه عربي لكنّه مبرّأ من العوج، وغير ذي عوج إشارة إلى أنّ اللغة العربيّة لغة مليئة بالمجاز والكناية والتشبيه والتعبير عن الشيء بضدّه وعن القريب كأنّه بعيد، فهي اللغة المليئة بالرموز، وهذه الرموز عند تحديد مدلول اللفظ تؤدي إلى العوج كلّ واحد يفهم أمراً ما، لكن المطلوب رفع العوج عن القرآن، كيف نرفعه؟
____________
1 - الزمر: 27 ـ 28.
إنّ الله تعالى يقول لكي نرفع العوج عن القرآن نضرب لكم مثلا ثانياً: أيّهما أعون على فهم الكلام أن يكون الذي يسمع رجل غير عادي.. رجلا سلماً لرجل يدفع رجل قادر على استيعاب ما يسمع.. رجل واحد يسمع من رجل واحد، وأمّا أن يكون رجلا فيه شركاء متشاكسون.
يعني لو أن حضراتكم تسمعون العبد الفقير، وبعد أن ينتهي المجلس يسألكم واحد خارج المجلس وعلى فرض أنّه سأل عشرة أو اثني عشر هل يمكن الاتفاق على الكلام الذي قلته؟ فكل واحد سيقول حسب فهمه.
فالله تعالى يحذّر من أن يكون كتاب الله ملكاً لأناس عاديين يسمعون الرسول، ألم يقل الحقّ: (وَمِنهُمْ مَنْ يَستَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِن عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفَاً)(2)، وهكذا صنف من الناس هل يكون أحدهم حجّة على مراد الله؟
____________
1 - الزمر: 29 ـ 31.
2 - محمد: 16.
فالحمد لله على نعمة الله أن جعل هناك رجلا سلماً لرجل، أي الحمد لله على كمال الدين وتمام النعمة لولاية علي ابن أبي طالب(عليه السلام).
ثم يقول الحقّ: الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون أنّك ميّت وأنّهم ميّتون، سبحان الله أيوجد عاقل يجهل أو يتجاهل أو يتغافل عن أن محمّداً ميّت؟ كيف لا يعلمون أنّ محمّداً ميّت وهو بشر؟
ففي أكثر من مقام وقف المعصوم يَبلّغ ويبيّن: إنّما أنا بشر يوشك أن أدعى فأجيب(1)، لكن الحقّ يشير إلى أنّ الأمة ممكن أن ينبعث فيها واحد أو اثنين تكمن فيه الجرأة على الله لأن يقول إنّ محمّداً لا يموت(2)!!
____________
1 - أنظر: صحيح مسلم: 7 / 122، سنن الدارمي: 2 / 432، سنن البيهقي: 2 / 148 و7 / 30، مسند أحمد: 3 / 17، المستدرك للحاكم النيسابوري: 3 / 109، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 163، سنن النسائي: 5 / 45 و 51 و 130، الخصائص للنسائي: 93، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 66، وغيرها من المصادر.
2 - إشارة الى قول عمر بن الخطاب عندما اُخبر بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنظر: مسند أحمد: 3 / 196، صحيح البخاري: 4 / 194، سنن ابن ماجة: 1 / 520، السنن الكبرى للبيهقي: 8 / 142، مجمع الزوائد: 9 / 38، فتح الباري: 8 / 111 وغيرها من المصادر.
فمقتضى بشرية الرسول وحتمية لحوقه بربّه، ومقتضى أبدية الرسالة إلى يوم القيامة أن يكون هناك من يبيّن ما بلّغه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بياناً يوافق كلّ عصر.
[النبي(صلى الله عليه وآله) وعلي(عليه السلام): ]
أيّها الأحباب، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له مع علي (عليه السلام) مناجاة في الغداة والعشي لم تكن لأحد غيره!
تروي أمّ المؤمنين أم سلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناجا علياً حتّى كاد أن يذهب يومها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أن فم رسول الله عند أذن علي وفم علي عند أذن رسول الله فيتناجيان طويلا(1).
ما معنى هذا؟
إنّ هناك حالة خصوصيّة، لماذا يناجيه الرسول؟!
إنْ كان كلاماً ممكناً يفهمه العامة.. يفهمه الناس فلماذا هذه المناجاة؟ لا يوم ولا إثنين ولا ثلاثة، في الغداة والعشي، بحيث أُمّ
____________
1 - أنظر: كتاب الأربعين للشيرازي: 48، بحار الأنوار: 38 / 309، المناقب للخوارزمي: 146.
فالمتأمّل في المناجاة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في العهد المكّي يدرك ذلك، حيث كان التصاق الإمام بالرسول التصاقاً دائماً.. رُبِّي في حجره ونزل الوحي وعلي يسمعه، وكان أوّل من آمن به وصلّى معه وكان يتلّقى الحقائق منذ أوّل يوم يتلقّاها من غير تشويش، ولذلك نقول أنّ محمّداً عبد الله ورسوله وأنّ علياً وليّ الله وحجته.
ما معنى الحجّة هنا؟
إنّ الله لما اجتبى عليّاً على صغر سنه أقام به الحجّة على أنّ الإسلام هو دين الفطرة الذي يتقبّله الصغير قبل الكبير، لأنّ الله تعالى وصف دينه في أكثر من موضع بأنّه: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمونَ)(1)، فلو كان الإيمان بالدين على مَن بلغ أشدّه كيف يكون دين الفطرة؟
إنَّ عليّاً أسلم وكان صغيراً، تفكّر قليلا ـ الحجة.. صاحب الفطرة السليمة ـ وقال أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
____________
1 - الروم: 30.
إنّ إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام) ثابتة بالدليل القطعي، وتبينها أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند المدرستين على حدّ تعبير العلاّمة السيد العسكري.
إنّ لعليّ مقاماً لرسول الله مقام هارون من موسى، وفي أكثر من مقام وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باللفظ وبالفعل فأصبحت سنّة قولية وفعلية:
وصفه بقوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي "(1).
____________
1 - فضائل الصحابة لابن حنبل: 14، صحيح مسلم: 7 / 120، سنن الترمذي: 5/304، شرح مسلم للنووي: 15 / 174، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 110، المصنف لابن أبي شيبة: 7 / 496، سنن النسائي: 5 / 45، الخصائص للنسائي: 78، المعجم الكبير للطبراني: 1 / 148، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/59، تفسير القرطبي: 1 / 266، البداية والنهاية لابن كثير: 7 / 376، ومصادر كثيرة أُخرى ذكرت هذا الحديث بألفاظ وأسانيد مختلفة.
وبيّن بالعمل أنّه يعتبره نفسه فعلا في مطالب آية المباهلة من سورة آل عمران، تحدد أنّ عليّاً نفسه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا نزل قول الله في شأن عيسى: (إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2)... إلى قوله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَاجَاءَكَ مِن العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدعُ أبنَاءَنَا وَأبنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنفُسَنَا وَأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبتَهِلْ فَنَجعَلْ لَعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبينَ)(3)، وهذه القصّة شهدها أصحاب رسول الله وأهل الكتاب لتكون حجّة على العالمين، يقول فيها ادع ابناءك ونفسك ومن في منزلة نفسك ونساءك، فدعى فاطمة وبعلها والحسنين وجعلهم خلفه وشرع يباهل.
تأكد أنّ عليّاً(عليه السلام) نفسه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمر الله في القرآن المؤمنين أن يصلّوا على رسول الله، وجاء الأمر عزيزاً وقديراً وعميقاً، فبدأ الله الصلاة بنفسه وثنى بملائكة قدسه قبل أن يأمر المؤمنين: (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ
____________
1 - فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: 14، شرح مسلم للنووي: 15 / 174، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 111، المصنف لابن أبي شيبة: 7 / 496، السنن الكبرى للنسائي: 5 / 121، المعجم الصغير للطبراني: 2 / 22، وغيرها كثير، وقد ورد بألفاظ وأسانيد عديدة.
2 - آل عمران: 59.
3 - آل عمران: 61.
فاكتمل الفضل في جواب الله، آية الصلاة وآية أهل البيت في سورة الأحزاب، فاكتمل الفضل بالتأكيد: (إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيراً)(3).
إنّ علياً(عليه السلام) نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه قطب الرحى في آل محمّد خلف رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
وعادوا يسألوه ـ واستجلب أسماعكم لهذه النقطة لأنّها قاطعة لو كانوا يعقلون ـ عادوا يسألوه ما معنى أن نصلّي على آل محمّد؟ فقال لهم ـ وهي من أثبت ماثبت لدي ـ في خواتيم صلاتهم
____________
1 - الأحزاب: 56.
2 - أنظر: مسند أحمد: 6 / 292، الدر المنثور: 5 / 198، ومصادر أُخرى ذكرت هذه الحادثة بهيئات أُخرى.
3 - الأحزاب: 33.
وأنا ألفتُ نظركم إلى هذا التوجيب، تعالوا إلى الآيات القرآنية في سورة النساء في قول ربّنا تعالى: (أَمْ يَحسُدونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَد آتَيْنَا آلَ إبرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلكاً عَظيماً * فَمِنهُمْ مَن آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(1).
القرآن يقول: آتينا آل إبراهيم، ما هي حقوقهم من غير أن تحسدهم؟ آل إبراهيم آتيناهم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً.
واسأل نفسك بعد أن تستوعب هذه العطايا الربّانية لآل إبراهيم، وهل آل محمّد أقلّ بالقربة من آل ابراهيم؟ وتجيب البديهية والمنطق والإيمان والنقل والعقل: أنّ آل محمد أفضل من آل إبراهيم، وذلك لأنّهم أرفع شأناً من آل إبراهيم.
القرآن يقطع بأن أهل البيت أئمة الأمة الله جعلهم عدل الكتاب، والكتاب بأيدي الناس كلّهم، وآلاف المصاحف تطبع، وكلّ بلد يعمل على طبعه، فلا معنى للكتاب بغير الحكمة، والحكمة هي فهم عين مراد الله من الكتاب: (آتَيْنَا آلَ إبراهيمَ
____________
1 - النساء: 54 ـ 55.
إذن ما معنى وما فائدة وما نتيجة أن يكون أهل البيت أئمة الأمة وعندهم الكتاب وعندهم الحكمة أي معرفة معنى الكتاب ثم يبقوا معزولين عن القيادة والسلطان؟
إذن، لا يكمل حكم الله!
[حكم المفقود عند أبي حنيفة والرجوع إلى فقه أهل البيت(عليهم السلام) ]
كنت عضواً في مجلس الشعب المصري، ووقعت واقعة استدعت الإحتجاج بفكر آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): فقد غرقت عبّارة في البحر تنقل العمّال المصريين من جدّة إلى السويس، اسمها " سالم اكسپريس "، ولعلّ بعضكم قرأ الخبر من أربع سنين، وهلك في الحادثة قرابة 1200 نفس، إذ أُنتشلوا من البحر 500 جثة ولم تنتشل 700 جثة وأصبحت في حكم المفقود.إنّ الشركة المالكة للباخرة عليها التزام قانوني بدفع التأمين لورثة الركاب، وقد أعلنت في الصحف المصرية أنها تستدعي الورثة للمجيء وأخذ الحقوق، وحدّدت يوماً لصرفها، فتوافد الناس من كل أنحاء مصر لأخذ التعويضات، وقبل أن تصرف
____________
1 - النساء: 54.
إن القانون المصري لا يعطّل الشريعة مباشرة، ولكنّه يستنبط قوانين لا تتلائم معها!!
لم يرق لرجال القانون في مصر حكم أبو حنيفة ـ بالرغم من أنّ الفقه في مصر على مذهب أبي حنيفة ـ فأخذوا يبحثون عن فقيه آخر يخرجهم من هذا المطب! ففي فقه أحمد بن حنبل حكم المفقود 15 سنة، ولا أعرف من أين جاءوا بمدّة 15 سنة و 60 سنة، فوجدوا أنّ ابن تيمية ـ وهو فقيه حنبلي ـ وعليه العمدة عندهم قد أنقص المدّة إلى خمس سنوات، ومعروف عن ابن تيمية أنّه يخرج أحياناً على المذهب الحنبلي ولا يلتزم بقواعده ـ وهذا ممّا يصنعه الله لكي يتنبّه الناس إلى الحقّ كإبطاله الطلاق باللفظ الواحد ثلاثاً بل يبني على أنّه واحد رغم أنّه قول المذاهب الأربعة ـ فمحامي الشركة طلب الإنتظار خمس سنين، فنشأت جراء ذلك مظاهرة ضخمة جدّاً أمام مجلس الشعب المصري، فقد خرج آلاف الناس للمطالبة بالتعويضات. ورفض ممثل المتظاهرين قرار الشركة وطالب بقرار شرعي آخر يضمن للناس
وكلّف مفتي مصر الشيخ محمّد سيد طنطاوي بإيجاد منفذ للخروج من هذا المأزق، فجاءني بعد الفجر وقبل طلوع الشمس في بيتي وقال لي: ألا يوجد عندك حلّ؟! لعلّ ما قرأته من تآليف أصحابك يرشد إلى مدّة أقلّ من الخمس سنوات.
فدعوته للتذاكر وقلت: تعال نقرأ سويّة ـ وفي الحقيقة كنت على بينة ـ فتعال نقرأ سوياً كتاب لمحمد جواد مغنية " فقه المذاهب الخمسة ".
وطالعنا مسألة المفقود، فقرأ بنفسه عن الإمام الصادق صلوات الله عليه ـ صاحب البيان والعلم لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ: أنّ المفقود إذا فقد في حال لا تتصوّر معها بقاء الحياة عُد ميتاً ولو بعد ساعة، كأن يكون قد دخل في النهر ولم يخرج أو ابتلعه حوت فلم يخرج.
قال المفتي: يعد ميتاً ولو بعد ساعة، فأخذ نفساً عميقاً وقال: والله هذا الكلام المعقول!
فقلت له: لأنّ الشيخ محمد جواد مغنية جاهل بالحكم، فقد رجع كعادته إلى منبع العلم، فانّه يأتي للأحكام من غير تقصير ولا جدل.
وأضفت: ماذا سيكون رأيك لو علمت أنّ هذه المسألة كانت
قال المفتي: سأكتب فتوى بهذا المعنى ستقرأ على أعضاء مجلس الشعب.
وكانت هذه فرصة لأن يطلّعوا فيها على مصدر الشيعة الإمامية على سبيل القطع في مسألة حقوق الناس، ففوجئت بأنّه كتب الفتوى وقال فيها: يقول بعض أهل العلم!!!
يا مولانا: أليس من الأصول العلمية والأمانة في النقل أن تذكر المصدر؟
فلمّا تليت الفتوى في مجلس الشعب وفيها كلمة " يقول بعض أهل العلم " اعترض أربعة من كبار الأعضاء ومنهم وزير الأوقاف السابق، فوقف يقول: من أين جاء المفتي بهذا الكلام؟ هذا كلام ليس له أساس، أين أهل العلم هؤلاء؟!
كانت وجوه الأعضاء ورئيس مجلس الشعب متجهة نحوي، فأرسل إليّ ورقة صغيرة مكتوب فيها: أنا أعرف ما تقول!
فكتبت على نفس الورقة: ولكن غيرك من الأعضاء لا يعرف ما أقول، فإمّا أن تقول أو أقول.
فإذا به ينطقه الله ويقول للأعضاء: فضيلة المفتي واسع الإطلاع، لابدّ وأنّه اطّلع على رأي الشيعة الإمامية وهو يقول: إنّ المفقود يُعد ميّتاً ولو بعد ساعة إن كان خبر موته يكفي العلم.
إنّ التصميم على إبعاد أنوار مذهب أهل البيت (عليهم السلام) تسبب تعطيل الشريعة كلّها طالما كان القانون مسنداً إلى الطاغوت، دون أن يسند الى مذهب آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
[لا تستفيد الأمّة من الكتاب والحكمة إلاّ إذا كان القرار بيد الأئمّة(عليهم السلام): ]
إذن، فالإمامة أوتيت الكتاب والحكمة، ولا تستفيد الأمة من الكتاب والحكمة إلاّ إذا كان القرار بيد الأئمّة.
وقوله تعالى: (وآتَيْنَاهُمْ مُلكَاً عَظِيماً)(1) وذكره للملك بفعل مستقل (وَآتَيْنَاهُمْ) ألم يكن اختيار؟ فقد أفردهم للتأكيد: (وَآتَينَاهُمْ مُلكاً عَظِيماً)، ثمّ أنزل من لا يسلّم بهذه الحقيقة منزلة الكافر بحيث يستحق جهنّم: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) به هنا ضمير عائد على أقرب مدخول مفرد وهو الملك، (فَمِنهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنهُمْ مَنْ صَدَّ عَنهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعيراً)(2)، فالصدّ عن حقّ الإمامة الثابت في كتاب الله أدخل الأمة في هذه المتاهة!
____________
1 - النساء: 54.
2 - النساء: 55.
لنجعل الميزان والبرهان لما نُسب للأئمّة المعصومين (عليهم السلام)كتاب الله، احتجاجاً بحديث الثقلين وأنّ أحدهما يصدّق الآخر، نعرض مالدينا ـ وهو كثير ـ على كتاب الله، فالنصّ الذي نجده متفق مع كتاب الله نواجه به الدنيا ونحن على يقين أنّه من أنوار الأئمّة(عليهم السلام)، وأمّا النصّ الذي يصادم كتاب الله نؤخره وننحيه حتى يحكم فيه صاحب الحق وهو الإمام عجّل الله فرجه الشريف.
فالنصوص التي محلّ ظنّ بأنّها تتصادم مع القرآن تنتظر القطع من صاحب الحق(عليه السلام)، في حين أن النصوص المتّفقة مع القرآن نضعها على العين والرأس.
[الحكمة من غيبة الإمام المهدي(عليه السلام): ]
بالمناسبة يا أحباب، إنّ حالة الإنتظار التي نحن فيها للفرج الشريف ولّدت سؤالا مطروحاً عند المثقفين الماديين الذين يحب أحدهم أن يبحث التشيع فيقول: اقتنعت بأنّ الله ربّنا وأنّ ربّنا تعالى أرسل رسلا وأنّه ختمهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على
يا أخي الحبيب، قلت لكم: إنّ عبادة الانتظار فرضت على الأنبياء انتظاراً لمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي مفروضة على مَن بعد الرسول انتظاراً للإمام الغائب، والدنيا تموج بالمذاهب الفاسدة، وبجنب كل يوم انتظار أراد الله تعالى أن يعطي البشرية فرصة تجرب فيها كل باطل.
فتميل مرةً إلى الرأسمالية ومرةً إلى الاشتراكية وتظنّ تارةً أنّها بعلومها المادّيّة قد استغنت عن الوقت الإلهي!
هذا الاستغناء الذي ورد في سورة والليل إذا يغشى ووارد في سورة العلق لمّا قال تعالى: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَالَمْ يَعلَمْ)(1) أردف قائلا: (كَلاّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(2)، أي أنّ الإنسان إذا استكمل العلم بما علّمه الله أخذ يعصي الله بعلومه ظنّاً منه أنّه استغنى عن الله!!
فلابدّ للبشرية أن تأخذ فرصة تتصوّر فيها أنّها استغنت بعلومها، حتّى إذا بلغت ذلك المبلغ وهي توشك أن تبلغه، يأتي فرج الله عزّ وجلّ لظهوره الشريف على إثر استعلاء أهل الأرض باسم العلم، فيقهر كل إمكانيات الأرض.
إنّ هذا النصر للإمام القائم (عليه السلام)سيكون آخر براهين الله على البشر، على أنّ الله يفعل ما يشاء.
____________
1 - العلق: 5.
2 - العلق: 6 ـ 7.
[مسك الختام: ]
أسأل الله تبارك وتعالى أن يقيمنا في حضرة المعصوم، وأن يرزقنا أخوةً صادقةً فيما بيننا يا أحباب.
إنّ قلباً يعتمر بحبّ محمّد وآل محمّد ثم يطفيء سراج المودّة لإخوانه أو يصعّر الخد لإخوانه يعدم حبّ محمّد وآل محمّد بلا ريب.
إننا مستهدفون الآن من الاستكبار العالمي، ومن الصهيونية العالميّة، ومن بقايا الأنظمة العفنة عبّاد المنافع.
أيّها الأحباب، علينا في هذه الفترة أن نزيد من أُخوتنا، وأن نجتهد في هزيمة إبليس في كلّ الدنيا: بأن يستبصر على أيدينا أكبر عدد، سواءاً من غير المسلمين أم من عامّة المسلمين، لأنّ لا شيء أغلى عند الله عزّ وجلّ من أن يأتي مؤمن وفي يمينه سفر سُجّل فيه أنّه كان سبباً في عتق نفس من النار، لئن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك ممّا على الأرض.
يا أحباب، نوثّق أُخوتنا.. نعمّق دورنا في التبليغ.. ونبارك
يا أحباب، إنّ الله أراد منكم أن لا تجعلوا للناس حجّة على الله، وذلك جميل فضله تعالى: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(1)، كيف يكون للناس حجّة؟
كونوا أنتم الحجة على العالمين.. نقّوا سرائركم.. طهّروا جوانحكم.. وثّقوا أخوّتكم.. إدعموا دوركم في التبليغ للمذهب في مشارق الأرض ومغاربها حتى يكون لكم يوم القيامة شرف الوقوف خلف الأئمّة الأطهار.. خلف أصحاب الأعراف الذين يعرفون كُلا بسيماهم.. أئمّتنا الأطهار الذين لا يجتاز عبد الجنّة إلاّ إذا عرفوه فقبّلوه، وما يدخل عبد النار إلاّ إذا عرفوه فرفضوه، وهناك سيكون الرفض القاطع.
إعلم يا أخي، إنّ أيّ جهد تقدّمه لنشر الحقيقة والتوعية للمذهب هو جهد يلحقك بركب الشهداء على الناس يوم القيامة، فلا تبخل بجهدك.
أيّها الاحباب، في ختام كلمتي أسأل الله وأسألكم أن تدعوا لي أن يجعلني أهلا لشرف هذه الوقفة بين أيديكم، لأنّي أخشى أن لا أكون أهلا له.
والله المستعان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
____________
1 - النساء: 165.