قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)).


قال الشيخ عبد المهدي مطر:

تعيفوا وركبنا في سفينته * فميز اللج من عافوا ومن ركبوا
وساوموا فاشترينا حب حيدرة * ولا نبيع ولو أن الدنا ذهب


الصفحة 4

الصفحة 5

الإهداء

إلى:

قائد السفينة...

التي تشق بحر الوجود، لتنقذ الغرقى...

وتوصلهم إلى شاطئ النجاة...

إلى:

النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدي كتابي هذا

راجيا منه القبول


الصفحة 6

الصفحة 7

كلمة المركز

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إن دراسة السيرة والتأريخ دراسة علمية أمينة تقوم على أساس النقد والمقارنة وتحليل المضامين. حيث أنها تشخص أمامنا حقائق عديدة، وتكشف لنا أسرارا وأعماقا لا تكشفها القراءة التقليدية والرؤية الاستسلامية للمدون الموروث.

فلقد تعرضت كتابة السيرة والتاريخ عبر القرون إلى التحريف والخلط والتشويه، فالكذب والوضع والدس شوه وجه التأريخ نقاء الحقيقة، وتدخلت الأهواء والمصالح الدنيوية وقوى السياسة والسلطات التي تخشى شهادة الحق في صفحات التأريخ، تدخلت في كتابة التأريخ، وتحريف الحقائق وتضليل الأجيال.

وبالرغم من كل ذلك فإن بعض مصادر التأريخ والسيرة قد حفظت للحق وثائقه ودفاعه والشواهد على أحقيته.

وقد تركزت جهود هائلة عبر أجيال من الحكام وقرون من محاولات التزوير والتحريف وإخفاء كل ما يبرز أحقية أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الامة الاسلامية علميا وسياسيا على أساس منهجهم في فهم وحفظ الشريعة والعقيدة.


الصفحة 8
وكان تبني المعالم الكبرى في المنهج الإسلامي هو السبب في تعرض أهل البيت (عليهم السلام) للظلم والاضطهاد، وشن الحرب الدعائية والدموية ضدهم وضد منهجهم.

ولعل من أبرز تلك المعالم كانت الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة، وعدم الإقرار بولاية ومشروعية الحاكم الظالم، والإيمان بأن الإنسان حر مختار، وهو المسؤول عن اختياره وإرادته. إن تلك المبادئ التي جلاها منهج أهل البيت (عليهم السلام) من أعماق الرسالة الإسلامية أصبحت تشكل موقفا متكاملا وردا على حالات الركود والجبرية والخنوع للسلطات الجائرة، إذا ما عبثت بالكتاب والسنة وجاوزت الشريعة والقانون الإلهي. وبالرغم من كل ما وضع من حجب، وما تبني من وسائل الأرهاب والتضليل استطاع أهل البصائر من ذوي العلم والوعي والفكر والفطرة السليمة اجتياز الحواجز النفسية، وإدراك الحقيقة، والوقوف إلى جنب الحق الذي تجسد في منهج أهل البيت (عليهم السلام) وخطابهم للامة، فبالوعي والموضوعية اليقظة، والتحرر من الجمود، ومحاكمة التقليدي الموروث يتمكن العقل من قدرته على الاكتشاف والتشخيص، لذا فإن الشعار العلمي السليم الذي تجب المناداة به، هو دعوة المسلمين إلى فتح آفاق الحوار العلمي البناء، والإطلال على ما بين أيدينا من ثروة علمية، وسيرة وتأريخ وتراث من خلال الفهم المتفتح والصدر المنشرح، والقصد الباحث عن الحقيقة.

ويمكن تجسيد هذا المنهج بانشاء مراكز للبحوث والدراسات الإسلامية المقارنة وتبني المعاهد والجامعات والمؤسسات الثقافية المتخصصة بهذا المنهج، وإعادة كتابة التأريخ والسيرة لتنقيتهما من الشوائب والمدسوسات، وتبني سياسة التقريب والتفاهم بين المسلمين.


الصفحة 9
قارئنا الكريم: إن كتاب (وركبت السفينة) للاستاذ مروان خليفات نموذج لوقفة التأمل مع الذات، والانطلاق ببحث علمي مقارن، وتحقيق موضوعي رصين في طروحاته الفكرية يكشف عن وعي الكاتب بالتأريخ.

وهو رحلة علمية ومذهبية رائعة تجلت فيها حرية الفكر، والبحث المحايد عبر السفينة التي أبحر فيها من شاطئه الذي كان يستقر في مآويه إلى الشاطئ الآخر آمنا من مخاطر الأمواج وقصف الريح الكاسح، مستهديا بالكتاب والسنة وأدلة العقل وشواهد التأريخ.

وهذا العمل الثقافي الرصين يشكل مساهمة فعالة في التقريب بين المسلمين، وإسقاط الحواجز النفسية فيما بينهم، وتعريف بعضهم بالبعض الآخر.

وفي الختام نسأل الله سبحانه أن يوحد صفوف المسلمين، ويعيد للامة الإسلامية عزها ومجدها في ظلال الكتاب والسنة المطهرة.

إنه سميع مجيب

مركز الغدير       
1 / محرم / 1418 هـ‍


الصفحة 10

الصفحة 11

تقديم

الدكتور عبد الهادي الفضلي

منذ أن كانت الجمهورية الإسلامية في إيران وأصدرت دستورها إسلاميا خالصا اعتمدت فيه على مصادر التشريع الإسلامي فقط ومن خلال مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ثارت ثائرة الإمبريالية العالمية التي تهيمن على معظم وأهم الثروات الاقتصادية والأسواق والمعابر في البلاد الإسلامية، والتي استطاعت أن تبعد المسلمين عن تحكيم الإسلام في حياتهم بحجة أن الدين لا علاقة له بالسياسة، وليس هو إلا طقوسا فردية توثق علاقة الإنسان بالله فقط من دون أن تمس شيئا من واقع الدنيا، فوجهت كل ما تملك من وسائل إعلام وأساليب دعاية مضللة ضد الإسلام حكومة وتشريعا وحركات سياسية.

وكان من هذا أن صدر أكثر من مائتي كتاب ورسالة من قبل أعداء مذهب أهل البيت التقليديين ممن ينتمون إلى بعض المذاهب الإسلامية الحادثة تهاجم التشيع والشيعة، من خلال التضليل لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) والتضبيب على معطيات مذهب أهل البيت، والتعتيم على ما يدعو إليه من التمسك بالشريعة الإسلامية كاملا وفي جميع مجالات الحياة.

وكل هذا نتيجة الصدى القوي الذي أحدثته الثورة الإسلامية الإيرانية، حيث وعت ونبهت الأمة الإسلامية أن تهيمن على ثروات البلاد الإسلامية من أن تسلب من قبل الإمبريالية العالمية.

ورأى أتباع أهل البيت أن لا يتصدوا للرد وفضح ألاعيب وأكاذيب هذه

الصفحة 12
الدعايات المضللة وهذه الضجات الكاذبة المفتعلة، لئلا يشغلوا أنفسهم عما هو أهم من هذا وأولى وهو بناء الإنسان والمجتمع في هدي تعليمات الشريعة الإسلامية.

وشاء الله تعالى أن ينتصر لأهل بيت نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانبرى الغيارى من أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى إلى الرد ولكن عن الطريق السليم الذي يحفظ لكل مذهب حقه في الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والحجة، البالغة فسلكوا منهج المقارنة والموازنة بين مفاهيم وحقائق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والمذاهب الأخرى.

وصدر من هذا عدة كتب ورسائل كان لها أثرها العميق والبعيد في الدعوة إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ومتى حاولنا أن نتعرف العوامل المؤثرة في انتشار التشيع في هذه الحقبة التي نعيشها، وبالتوقيت المضبوط منذ انبثاق الجمهورية الإسلامية في إيران وحتى كتابة هذا التقديم، لما وقفنا على غير ما ذكر فكل، فعل له رد فعل، وكان للكتب التي صدرت بتأثير من الإعلام الإمبريالي العالمي أن جعلت الشيعة يتمسكون بمذهب أهل البيت بفعل أقوى وأمكن، لأنهم يعرفون حق أهل البيت وأحقية مذهبهم.

كما كان للكتب التي صدرت ردا عليها ممن أشرت إليه من المسلمين الغيارى من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى أن فتحت الباب واسعا أمام الآخرين لاعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

والكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم هو من تلكم الكتب التي كتبت انتصارا لمذهب أهل البيت من مؤلف تخصص جامعيا بدراسة المذاهب

الصفحة 13
الإسلامية، وحملته روح المقارنة والموازنة إلى تأليف كتابه هذا ليتوصل إلى معرفة الفرقة الناجية التي أشارت إليها رواية " ستفترق أمتي... " كما ذكر هذا في مدخل كتابه.

فتناول في بحثه نشوء المذاهب السنية في العقيدة والتشريع، واضعا إصبعه على أبرز المعالم الفكرية فيها وأهم الإشكالات في أسس هذه المذاهب، من واقع حياة الصحابة في اجتهادهم وعدالتهم وشؤونهم الأخرى التي ترتبط بموضوع بحثه.

ثم انتقل إلى مدرسة أهل البيت موثقا مشروعيتها، ومبرهنا على النجاة في إتباع أهل البيت (عليهم السلام)، معقبا ذلك وخاتما بذكر شئ من سيرة الأئمة الأثني عشر (عليهم السلام).

وكنت قبل هذا دعوت في أكثر من محاضرة وأكثر من مقالة إلى فتح باب الدراسات المقارنة لأ نها الطريق السوي إلى الوصول إلى النتيجة المقبولة شريطة أن يلتزم الباحث أصول وشروط البحث العلمي.

وقد كان المؤلف الكريم ملتزما إلى حد كبير باصوليات البحث العلمي، فخرج موفقا إلى حد غير قليل في بحثه ونتائجه.

وهو بهذا الكتاب يضم سفرا آخر من أسفار الدراسات المقارنة، التي نرجو أن تكثر وتلتزم بالمقارنة دائما لنلتقي كمسلمين مؤمنين بالاعتصام بحبل الله الذي هو عصام التوحيد والتوحد على جادة سواء وكلمة سواء.

وفقه الله تعالى إلى المزيد من البحث المقارن، إنه تعالى ولي التوفيق وهو الغاية.


الصفحة 14

الصفحة 15

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أكرم الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

لم أكن أتوقع نفاد الطبعة الأولى من كتابي هذا - في هذه الفترة الوجيزة، وهذا يدل على حسن الاستقبال الذي لقيه من القراء الكرام..

إنه فضل من الباري سبحانه أن أقدم كتابا متواضعا للمتطلعين الى معرفة الحق والنور، وأن يحظى هذا الجهد الفكري والعلمي، بما أشاع في أعماقي السرور، وزادني حماسا وشغفا في أن أعيد طبعه بشكل مأمول، - ولهذا تركت الزمن، منغمسا في اضافة مايجب أن يضاف وحذف مايتطلب حذفه، وتنقيحه من جديد ليظهر في شكل أكثر نضجا.

لست أزعم الكمال في عملي هذا، ويعذرني القارئ العزيز - إذا وجد فيه عثرة صغيرة فاتني الانتباه لها...

وعلى هذا - أقول: اذا كان الكتاب - قلب الكاتب، فالقارئ هو وجهه..

وطوبى لكل من يبحث عن الحقيقة في كل مكان بلا موروث متزمت، وصولا الى الحق المبين.

اربد - الاردن
مروان خليفات


الصفحة 16

الصفحة 17

مقدمة الطبعة الأولى

أحمدك اللهم حمدا يليق بجلالك، حمد عبد مذعن مقصر معترف بكثرة نعمائك. وصل اللهم على خير الورى محمد وآله الذين استخلصتهم لنفسك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك صلاة لا غاية لعددها ولا نهاية لأمدها.

وبعد.. فإن كل كتاب يشق طريقه إلى الوجود لا بد أن يكون له أنصاره ومعارضوه. وهذا أمر طبيعي، لاختلاف أفكار الناس. والكتاب الذي بين يدي القارئ العزيز ليس بدعا من تلكم الكتب، بل ربما يكون من أكثرها إثارة، لطبيعة الأفكار التي يطرحها.

هو كتاب ينتصر للحق وأهله..

كتاب يرسم للسائرين طريق النجاة بأدلة يقبلها كل مسلم بعقله وقلبه.

وقد يثور علينا البعض. لا لشئ، إلا لأن الكتاب يخالف موروثاتهم وإن وجدوه حقا. ونحن لا نستغرب هذا، فهذه حقيقة سطرها الله في قرآنه فقال:

(وأكثرهم للحق كارهون) (1).

ولكن كيف يرفض المسلم الحق؟! ألسنا مدعوين لاتباع الحق كيفما كان

____________

1 - المؤمنون: 70.

الصفحة 18
وأينما؟ أوليس من حق المسلم على المسلم النصيحة؟

إذا فدعوني أعرض نصيحتي، فإن كانت حقا فالحق أحق أن يتبع، وإن لم تروها كذلك، (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (1).

____________

1 - الزمر: 17 و 18.

الصفحة 19

بداية الرحلة

في وقت الغروب، وعلى إحدى طرق القرية كنت أمشي مع صديقي الشيعي، حيث كان لا يأتي علينا يوم إلا ويحتد النقاش بيننا. تمنيت في وقتها أن يصبح هذا الصديق سنيا، وعزمت أن أنقله من مذهبه إلى المذهب الشافعي!!

وجرت الأيام والتحقت بكلية الشريعة، وفي الدروس كان مشايخنا يتطرقون إلى الشيعة، وكان البعض منهم يكفرهم.

ومع أنني كنت على المذهب الشافعي، إلا أنني بدأت أتأثر بما يطرحه أساتذتي السلفيون، فيما يختص بالعقيدة، فصرت أردد معالم العقيدة السلفية - مقتنعا بها - وكنت أعرض هذه العقيدة مع ذكر الأدلة على صديقي الشيعي. وما يقال عن الشيعة في قاعة الدرس من تهم ضدهم، لكي أبدأ بهدايته!! لكنه كان يرد علي بكل قوة.

وذات يوم وفي أثناء مسيرنا وبينما كنت احدثه عن فضائل أبي بكر وعمر قاطعني قائلا - كالمنتصر -: رزية الخميس!

قلت: خيرا ماذا تقصد؟

قال: إنها حادثة كانت قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأيام، حيث قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: (هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده). فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع، أو يهجر، حسبنا كتاب الله!!


الصفحة 20
فقلت له: هل وصل بكم الأمر أن تنسبوا هذا الكلام للفاروق، الذي ما عصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قط؟!!

قال: تجد هذه الحادثة في صحيحي البخاري ومسلم (1).

عندئذ يئست من جوابه وشعرت بالهزيمة، وقلت فورا: وإن قال ذلك، فهو يبقى صحابيا!! أسأل الله الغفران... عبارة لم تأت صدفة، ولكنها تعبير عن عقيدة ترسخت في نفوسنا. وسألته: في أي كتاب قرأت هذه الحادثة؟ لأنني وإن وقفت موقف المعاند الذي هزم ولم يعترف، لكنني كنت أتمزق ألما.

فقال: في كتاب " ثم اهتديت " لأحد علمائكم الذين تشيعوا.

قلت ساخرا: وهل هناك عالم من علمائنا تشيع.

قال: نعم، فالتيجاني صاحب هذا الكتاب يذكر كيف تشيع وأسباب تشيعه.

وطلبت الكتاب منه، وبدأت بقراءته فور وقوعه بين يدي، ورزية الخميس تدور في ذهني وكنت أتوجس خيفة من عثوري عليها.

فأخذتني قصة الكاتب الممتعة وأسلوبه الجذاب، وقرأت نصوص إمامة آل البيت (عليهم السلام)، ومخالفات الصحابة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورزية الخميس...، والمؤلف يوثق كل قضية من صحاحنا المعتبرة. فدهشت لما أقرأ وشعرت أن كل طموحاتي انهارت وسقطت أرضا، وحاولت إقناع نفسي بأن هذه الحقائق غير موجودة في كتبنا.

____________

1 - راجع الحادثة في صحيح البخاري، كتاب المرض والطب، باب قول المريض قوموا عني. صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية. طبقات ابن سعد 2 / 37...

الصفحة 21
وفي اليوم الثاني عزمت على توثيق نصوص الكتاب من مكتبة الجامعة، وبدأت برزية الخميس، فوجدتها مثبته في صحيحي مسلم والبخاري بطرق عدة.

وكان أمامي احتمالان: إما أن أوافق عمر على قوله، فيكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهجر - والعياذ بالله - وبهذا أدفع التهمة عن عمر. وإما أن ادافع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقر بأن بعض الصحابة بقيادة عمر ارتكبوا خطأ جسيما بحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى طردهم. وهنا أتنازل أمام صديقي عن معتقدات طالما رددتها وافتخرت بها أمامه.

وسألني صديقي عن صحة ما في الكتاب فقلت وقلبي يعتصره الألم: نعم، صحيح.

بقيت فترة حائرا تأخذني الأفكار شرقا وغربا، وعرض علي صديقي كتاب " لأكون مع الصادقين " لمؤلفه التيجاني وكتابه " فسئلوا أهل الذكر " وغيرها، فكشفت هذه الكتب أمامي حقائق كثيرة وزادت حيرتي وشكي.

وحاولت إيقاف حيرتي، بقراءة ردود علمائنا على هذه الحقائق، لكنها لم تنفعني بل زادتني بصيرة بأحقية مذهب أهل البيت (عليهم السلام). وقرأت كتبا كثيرة، لا يسعني ذكرها، فكانت ترسم لي صورة الحقيقة بألوان من الحجج الدامغة، التي كان عقلي يقف مبهورا محتارا أمامها، فضلا عن حيرة علمائنا في التعامل معها.

إلى أن اكتملت صورة الحقيقة في ذهني كالشمس في رابعة النهار، واعتنقت مذهب آل البيت الأطهار (عليهم السلام) أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأشقاء القرآن، وأولياء الرحمن، سفن النجاة، وأعلام الورى، ورحمة الله للملأ، بكل قناعة واطمئنان قلب.

وها أنا الآن - وبعد تخرجي من كلية الشريعة - على يقين تام بصحة ما أنا عليه. أقول هذه الكلمات ويمر بذهني كيف عزمت على هداية صديقي الشيعي

الصفحة 22
وأهله، وإذا بالصورة قد انعكست، فكان هو سبب هدايتي، وفقه الله.

ولا أنسى تلك اليد - يد الرحمة الإلهية - التي كانت تعطف علي باستمرار أيما عطف. فلك الحمد رباه حمدا يليق بجلالك العظيم ومنك الجسيم.

لماذا هذا الموضوع؟

لقد اخبرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن امته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة (1).

ونحن نرى اليوم المسلمين فرقا عديدة، وكل واحدة تدعي انها على الحق، وقد رأيت هذا الأمر مهما جدا وعليه يتوقف مصير الإنسان، لذا فحري بكل مسلم يرجو الخلاص يوم القيامة ان يجتهد في معرفة هذه الفرقة فيتبعها.

وأنا بحمد الله قد فعلت، وبعد البحث الجاد وجدت هذه الفرقة، وثبت لي بالدليل العقلي والنقلي انها هي الناجية، وسأثبت ذلك في هذا الكتاب.

ومن الغريب ان المسلم يقرأ حديث الافتراق هذا ولا يقوم بواجبه الشرعي في البحث عن هذه الطائفة بحرية وموضوعية كي تبرأ ذمته ويلقى ربه بقلب سليم.

وخبر الافتراق " لا يمكن معه اختصار الفرق الى سبعين ولا الى سبع، فضلا عن واحدة. فالخير اذن كل الخير ان يبحث الانسان عن الحق ويعتقده ويدعو إليه وان خالفته الدنيا كلها، وان يجتنب الضلال ويدعو إلى نبذه ولو داهنه أصحابه

____________

1 - راجع حديث الافتراق في مستدرك الحاكم 1 / 6 و 128. سنن الترمذي 5 / 26. مسند أحمد 2 / 332.

الصفحة 23
كلهم، هذا هو الذي سار عليه رسل الله وأمر به الله، فلا تصادموا سنة الله وتخالفوا منهج رسله " (1).

والواجب " على المسلم بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) واختلاف المذاهب والآراء، وتشعب الفرق والنحل: ان يسلك الطريق الذي يثق فيه بأنه يوصله الى معرفة الأحكام المنزلة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الرسالة، لأن المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في الشريعة كما انزلت ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما انزلت والمسلمون مختلفون والطوائف متفرقة، فلا الصلاة واحدة، ولا العبادات متفقة، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة...؟!

فماذا يصنع؟ بأي طريقة من الصلاة إذن يصلي؟ وبأي شاكلة من الآراء يعمل في عبادته ومعاملاته، كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك؟!

ولا يجوز له أن يقلد الآباء، ويستكين إلى ما عليه اهله واصحابه. بل لا بد أن يتيقن بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله تعالى، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب.

نعم، لا بد له أن يتيقن بأ نه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى، ويعتقد أنه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها وأخذ الأحكام منها. ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) (2)، (بل الإنسان على نفسه

____________

1 - مجلة الجامعة الإسلامية: العدد 62 (الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي).

2 - القيامة: 36.

الصفحة 24
بصيرة) (1)، (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (2) " (3).

وليس من التذبذب أن يغير الإنسان أفكاره وأن يخرج على بعض موروثاته المنحرفة ما دام هدفه الحق " فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والايمان، فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه اتبعه، وليس هذا مذبذبا. بل هذا مهتد زاده الله هدى... والواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق فيتبعه حيث وجده " (4).

" وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه فيه، وترك القول الذي وضحت حجته، أو الانتقال من قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهو مذموم " (5).

توطئة

إن عامل البيئة والظروف المحيطة بها هي التي تحدد فكر أي إنسان واتجاهاته، حيث تصبح الموروثات البيئية مع مرور الزمن ومع الاعتياد عليها قولا وسلوكا:

حقائق ثابتة لا يجوز الخروج عليها، فإذا ما عرض على إنسان شئ يخالف معتقداته فإن الرواسب الفكرية لمجتمعه والتي أصبحت تجري في عروقه تنبعث

____________

1 - القيامة: 14.

2 - المزمل: 19.

3 - عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر: ص 63 - 64.

4 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2 / 252 - 253.

5 - المصدر السابق 20 / 213 - 214.

الصفحة 25
عنده تلقائيا وتقف في وجه كل من يخالفها. ولكن المسلم، ذلك الإنسان العظيم، يفرض عليه دينه أن يرحب بأفكار الآخرين ويناقشها بانفتاح وموضوعية.

" إننا لا نرفض الحوار الهادف الذي تكشف فيه الحقائق، وتكشف به العقائد الزائغة والمنحرفة، فذلك منهج أصيل دعا إليه ديننا " (1).

ولكن لو نظرنا إلى حال الأمة الإسلامية لوجدناها طرائق قددا (كل حزب بما لديهم فرحون) (2). وأصبحت كل طائفة من الطوائف الإسلامية تنظر لأفكارها على أنها مسلمات لا يجوز التعرض لها (3). وإذا ما ناقشت أفكار الآخرين فإنها تحمل عليها بخيلها ورجلها. هذا مع أن الله (4) دعا المسلمين للإنفتاح على أهل الكتاب فضلا عن الإنفتاح على أنفسهم، قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) (5).

فما بال المسلمين لا ينفتحون على بعضهم البعض؟ " لماذا هذا التجافي بين أبناء المذاهب الإسلامية؟

هل انتخب كل منا مذهبه عن وعي وإدراك وبعد الدرس والتحقيق؟ أم وكيف حصل هذا الانتماء؟... ولا بد أن نعترف بأن هذه الموضوعية ستكون أمرا

____________

1 - أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة، الدكتور عمر الاشقر، 233 - 234.

2 - المؤمنون: 53.

3 - هذه النظرية خاطئة وقد ذمها الله في كتابه فهذا القول كقول مشركي العرب: * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * - الزخرف: 23.

وأعتقد أنه لا يرضى أي مسلم أن يكون كمشركي العرب في تقليد الآباء.

4 - آل عمران: 64.

الصفحة 26
صعبا للغاية عندما نواجه قضايا تتعلق بالعقائد والتقاليد والموروثات التي تشبعت بها العروق وألفتها النفوس...

فلو أنك سألت شابا ولد في مدينة (النجف) فقلت له: هل ستكون شيعيا لو حصل أنك ولدت من أبوين سنيين؟ وهكذا لو سألت الحلبي، هل أنك ستكون سنيا بهذه الطريقة لو أنك ولدت في النجف من أسرة شيعية؟ هنا سوف لا نختلف حول الجواب الذي سنسمعه، بل يمكننا أن نضع الجواب مقدما على أنه من المسلمات التي لا خلاف فيها. وهذه الملاحظة وحدها تكفي لأن تضعنا أمام الحقيقة كلها، وتكفي لأن تبعث فينا الاستغراب لهذا التجافي والتنافر الحاصل بيننا... فلقد بلغت بنا تلك العصبيات حدا بالغ الخطورة حتى صار تعصبنا لأي شئ ألفناه هو أشد ألف مرة من استعدادنا للتمسك بالحكم الشرعي الثابت... ما الذي يحملني على الاعتقاد - إلى حد التسليم - بأن مذهبي الذي ورثته عن، آبائي ومجتمعي الصغير هو الحق الأوحد الأمثل كمالا وأنه الصورة الأكثر كمالا للدين الإسلامي الحنيف، ولا يشاركه مذهب آخر في حظه هذا من الكمال؟

ما الذي حملني على هذا الاعتقاد، أهو القرآن الكريم، أم السنة المطهرة، أم العقل السليم أم هي العصبية التي لا تستند إلى شئ؟!

ولماذا لايمكنني أن أعتقد بأن المذاهب الأخرى هي مثل مذهبي على الأقل؟... ثم ألست مسؤولا غدا عن سبب اعتقادي وتبعيتي الدينية؟

وهذا السؤال الخطير الذي يجب أن أقف عنده موقف الجد.... وأمام تلك الحقائق، فلا مفر من كوننا جميعا على قدم سواء في المسؤلية، مسؤلية البحث والتحري والاستكشاف، ثم انتخاب الموقف الواعي القويم غير المنحاز وغير المتطرف.


الصفحة 27
وكلنا متساوون في الحاجة إلى مراجعة مواقفنا، ثم إعادة بنائها على أساس سليم " (1).

اقتحام العقبة

هناك عقبة تقف أمامنا ولا بد من اقتحامها قبل الدخول في صلب الموضوع. فقد يقول قائل: إن طرح موضوع كهذا فيه اعتداء على أفكار الآخرين وأئمة المذاهب....

ربما يكون هذا الكلام فيه شئ من الصحة، ولكن هل نبقى هكذا لا يعرف أحدنا رأسه من رجليه؟ وهل نغمض أعيننا ونصم أذاننا وحديث الافتراق ينقر أسماعنا في كل لحظة؟! وهل نترك البحث عن الحق ونضيع كي لا تمس المعتقدات بسوء؟

وهؤلاء الأئمة محل احترام ما داموا ملتزمين بأوامر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم). كما أنهم لن ينفعونا ويدافعوا عنا في ذلك اليوم (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه) (2) فاتباع الحق وحده هو الذي ينفع (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع) (3).

____________

1 - منهج في الانتماء المذهبي، صائب عبد الحميد: ص 15 - 30. إن هذا الذي طرحه الاستاذ صائب منهج قويم دعا إليه ديننا. قال تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * - سبأ: 24.

فلنطبق هذا المنهج القرآني في بحثنا هذا وليشك المسلم في منهجه مع اعتقاده بصحته، فإن الشك بداية الوصول للحقيقة.

2 - عبس: 24 و 35.

3 - يونس: 35.

الصفحة 28

في عهد النبي

كان الصحابة (1) يرجعون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يعرض لهم من أمور، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيبهم وفق التشريع الإلهي، ونحن نعلم ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مخلدا ليرجع الناس في كل زمن إليه في أمورهم الدينية والدنيوية، وقد مات (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ان قام بواجبه خير قيام، ولا بد من مبين للشرع الإلهي بيانا كاملا صحيحا بحيث يطمئن المسلم إلى أن بيانه هذا هو المقصود الشرعي.

ولكن من هو هذا المبين الذي انتخبه الله لنا؟ هذا السؤال هو الذي قسم الأمة إلى فرق عديدة. إن الله (2) لم يقبل من الإنسان إلا أن يأتي بالإسلام الذي أنزله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (3) ولكن اين نجد هذا الإسلام الذي لا يقبل الله غيره؟ أهو عند الأشعري والمذاهب الأربعة؟ أم هو عند السلفية؟ أم هو عند الإمامية؟ أم عند المعتزلة؟ أم عند الماتريدية؟ وهكذا يستمر التساؤل حتى نصل إلى آخر الثلاث وسبعين فرقة.

تعال معي أيها القارئ الكريم لنبحث عن هذا المبين حتى نأخذ ديننا عنه ونبرئ ذمتنا أمام الله.

تعال لنبحث عن الأطروحة الإلهية التي تخلو من الثغرات والشطحات، القائمة على الجزم واليقين، لا نقص بها ولا زيادة ولا تغيير. تعال لننظر في أدلة كل فريق من الفرق الآتية لنرى أين موقعها من الإسلام حتى لا نبقى كأولئك الذين يقولون: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) (4).

____________

1 - آل عمران: 85.

2 - الجاثية: 32.

الصفحة 29

على طاولة البحث

بعد البحث في هذه الفرق وجدت أن أكثرها قد انتهت وليس لها وجود إلا في بطون الكتب. لذلك سأقتصر في بحثي على ثلاث مدارس إسلامية تشغل حيزا كبيرا على الساحة الإسلامية، فلنحصر بحثنا في هذه الاحتمالات الثلاثة الآتية:

أولا: أن نأخذ ديننا عن أبي الحسن الاشعري والمذاهب الأربعة (1).

ثانيا: أن نأخذ ديننا عن الكتاب والسنة بمفهوم السلف الصالح (2).

ثالثا: أن نأخذ ديننا عن أئمة آل البيت (عليهم السلام) (3). وقبل الخوض في هذه

____________

1 - وهذا ما يعرف بمذهب الأشاعرة، وهم ينتمون إلى أبي الحسن الاشعري في الاصول ويأخذون الفروع عن المذاهب الأربعة بتقليد أحدهم، وقد كان أبو الحسن الأشعري معتزليا ثم ترك مدرسة الاعتزال وعمل مذهبا وسطا بين مذهب أهل الحديث والمعتزلة.

أما الأئمة الأربعة فهم: أبو حنيفة النعمان، مالك بن أنس، محمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل وجمهور الناس الذين يقلدون الأشعري والأئمة الأربعة يعرفون بأهل السنة، وهم يمثلون السواد الأعظم من المسلمين، وانشق عن أهل السنة جماعة تعرف بالسلفية.

2 - وهذا هو منهج السلفية ويتسمون بأهل السنة والجماعة. والسلفية هم أتباع ابن تيمية الحراني ويرون أن سبيل خلاص المسلمين هو في الرجوع إلى الكتاب والسنة وفهمهما كما فهمهما السلف الصالح، ومن أسمائهم: أهل الحديث.

3 - وهو منهج الشيعة الإمامية و " الشيعة هم الذين شايعوا عليا (رضي الله عنه) على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافتة نصا ووصية، إما جليا وإما خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده " الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 146. قالت الشيعة الإمامية: إن الدين يؤخذ من الكتاب والسنة لكن بواسطة إمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهؤلاء الأئمة إثنا عشر إماما ولا يخلو زمن من أحدهم، ومن أسماء الشيعة: الجعفرية، الإثنا عشرية.