إن الأحاديث الصحيحة التي في كتب السنن قد تبلغ أربعين ألف حديث - دون تكرار - وهذا يعني أن 1565 صحابيا رووا أربعين ألف حديثا!! فلو وصلت إلينا روايات هؤلاء المائة والاثني عشر ألف صحابي فكم سيصبح عندنا من الحديث؟!!!
ألا يحق للمسلم أن يقوم ويقعد لهذه الطامة؟ ومهما عاند المعاندون فالحقيقة ستبقى قائمة على أن أكثر السنن ضائعة (2)، ومن يقول عن الشمس التي في كبد السماء نهارا بأنها غائبة فليراجع عقله!
خاتمة المطاف في أحاديث الصحابة
لقد أثبتنا بالأرقام والحروف، بما لا يدع مجالا للشك، أن كل صحابي يحفظ الآلاف من الأحاديث، ولكننا فقدنا الكثير منها. ولابد من التأكيد على أن كل صحابي عنده من السنن ماليس عند غيره، يقول الدكتور عبدالغني عبد الخالق: " ولقد تكون صحبة الواحد منهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة واحدة ويكون منفردا بها ويصدر في هذه الساعة ما لم يطلع غيره أصلا، ولذلك وجب القول بأن كل فرد من الصحابة يحتمل انه قد حمل شيئا من السنة لم يحمله غيره " (3).
____________
1 - يرى الذهبي أن عدد الصحابة الرواة نحو ألف وخمس مئة نفس، وقد قام الدكتور أكرم ضياء العمري بتحقيق هذه المسألة في كتابه (بقي بن مخلد القرطبي) فبلغ عدد الصحابة الرواة 1565 صحابي، ذكر تحقيقه هذا سيد كسروي حسن في تحقيقه لكتاب: أسماء الصحابة الرواة: ص 10 - 11.
2 - لأنه يجب القول أن 110 آلاف صحابي عندهم من الحديث أضعاف ما عند الألف والخمسمائة وخمسة وستين صحابيا، الذين هم مجموع الرواة في كتب السنن، فتدبر.
3 - حجية السنة: ص 456.
يقول ابن تيمية: " وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدث، أو يفتي أو يقضي، أو يفعل الشئ، فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه أولئك - أو بعضهم - لمن يبلغون فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل شيئا، ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ماليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء " (2).
وقال ابن سعد في طبقاته: " قال محمد بن عمر الأسلمي: إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم ماتوا قبل أن يحتاج إليهم "!! وقال: " ومنهم من لم يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا ولعله أكثر له صحبة ومجالسة وسماعا من الذي حدث عنه!! ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث... وعلى الاشتغال بالعبادة والأسفار في الجهاد في سبيل الله حتى مضوا فلم يحفظ عنهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ " (3).
تأمل أخي القارئ في هذه الشهادة؟ ألا تعني أن هناك صحابة لم يرووا شيئا مع انهم أكثر سماعا وصحبة ممن رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وأليس هذا اعترافا منه بضياع السنن وإن لم يصرح بذلك؟!
____________
1 - يقول محمد زهو في الحديث والمحدثون: ص 147 " الاشتغال بالخلافة والحروب عامة عاق كثيرا من الصحابة عن تحمل الحديث وروايته كما في الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير " فزهو يعترف أن عند هؤلاء سننا لم تصل إلينا!!
2 - رفع الملام.
3 - راجع حجية السنة: ص 150.
وهذه الأسباب التي ذكرها، ليست بمانع للرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالصحابة لم يكونوا منشغلين بالعبادة والأسفار في الجهاد مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع ذلك استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوصل الإسلام كاملا.
ويعترف رشيد رضا السلفي بضياع السنن حيث قال: " ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) حظا عظيما!!!! لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين " (2).
لا أدري كيف علم رشيد رضا بأن هذه الأحاديث المنسية الضائعة ليست مما هو بيان للقرآن وأمور الدين وهي مفقودة؟! فإذا كان قد اطلع عليها فهي ليست ضائعة!
فقوله هذا مجرد ظن لا يعول عليه.. ولذلك فنحن نقبل شهادته ولا نقبل تأويله. وقال محمد محي الدين عبد الحميد: " فأما سنة رسول الله فلم تكتب، وليس فيهم - أي الصحابة - من يدعي حفظها جميعها ولا أكثرها، وكل واحد منهم قد فاته من قول الرسول أو فعله الشئ الكثير " (3).
وقول محيي الدين بأن كل صحابي قد فاته من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الشئ الكثير، هو اعتراف ضمني بضياع السنن.
ويعترف أبو شهبة صاحب كتاب - دفاع عن السنة - بضياع السنة والأخبار،
____________
1 - ذكر قوله أبو رية في الأضواء: ص 50.
2 - من تقديمه لكتاب توضيح الأفكار، الصنعاني: ص 15.
فتأمل عبارته " وضياع الأخبار "!! إنها تتضمن المعنى نفسه في قولنا: ضياع السنة، ولكن اللفظ مختلف!!
والآن بعد أن أثبتنا ضياع الكثير من السنة نأتي للسؤال التالي: هل حمل الله الصحابة سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لينقلوها لمن بعدهم؟!
أرى أن الجواب واضح، فلو جعل الله الصحابة نقلة الدين، لكان عالما بتضييع سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) - والعياذ بالله - لأن كثيرا من السنن سواء كانت تشريعية، أو عقائدية أو أخلاقية قد بقيت في صدور اولئك المائة وعشرة آلاف صحابي، فكيف يمكن التصديق بأن الله (3) قد اختارهم لتبليغ دينه، وهو يعلم بذهاب السنن معهم وضياعها؟!! ولابد من القول أن الله قد اختار لتبليغ دينه بعد نبيه أناسا قد حفظوا السنة ووعوها، لكي تنقل هذه السنة المدونة من شخص مختص بها إلى غيره، وهذه أضمن طريقة لبقاء الإسلام.
ألا ترى أن الإسلام كان موجودا بوجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث إذا ذهب تفرقت الأمة؟
أما القول: إن الله قد وزع دينه على 114 ألف صحابي ليبلغوه للناس - مع علمه بأنه لن يروى إلا عن 1565 منهم - فهو افتراء باطل على الله عزوجل شأنه العظيم!
وينبغي - لقارئنا الكريم - أن يعرف: أن هذه السنن التي بقيت في صدور الصحابة، فيها المقيد والمخصص والناسخ والمفصل، وهذا مما يجعلنا أمام مشكلة كبرى، فمن يدري، بأننا ربما نمارس بعض الأحكام المقيدة أو المخصصة أو المنسوخة بالسنن التي
____________
1 - الوسيط في علوم مصطلح الحديث: ص 519.
إن في هذا المنهج - منهج أهل السنة والجماعة - ضياعا لكثير من الآثار النبوية والتي لا يستغني عنها المسلم. فلو أن الله جعل هذا المنهج هو المعبر عن دينه لما سمح بضياع نص واحد، ومن هذا نعلم أن الله لم يختره، كما أن الله لم يقبض نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بعد أن أكمل الدين وبين كل ما يحتاجه الناس. ولو أن الله جعل الصحابة سفراءه في التبليغ لاستلزم ذلك إبقاءهم أحياء حتى يخرجوا كل ما عندهم من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك تبرأ ذمتهم أمام الله والأجيال ثم يقبضهم الله إليه.
ولو افترضنا - أيضا - أن الله اختار الصحابة لينقلوا دينه للناس، للزم ذلك عدم موت هذا الجم الغفير منهم والذي يقدر ب 114 ألف صحابي في عصر من العصور ويلزم ذلك، إذا سئل أحدهم عن أمر ما أن يجتمعوا من جميع أقطار الأرض ليتداولوا فيه ويطرحوا ما عندهم من سنن بخصوص المسألة المطروحة، ويبحثوا فيما إذا كان هناك مقيد أو مخصص أو ناسخ في تلك السنن وصولا الى الجواب المطلوب. وإلا لو سئل أحدهم وأجاب حالا فلربما يقع في الخطأ وذلك لاحتمال وجود الناسخ أو المقيد أو المخصص مع صحابي آخر.
لكل هذا نقول: يجب على من يخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مهمته أن يكون على علم تام بالسنة النبوية وعلومها، وأن يتم تداول هذا العلم بين خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قيام الساعة. هذا ما يفرضه العقل والشرع.
ضياع السنة في عهد التابعين
لقد تم فقدان الكثير من السنة في عهد التابعين، إضافة الى مافقد منها في عهد الصحابة. وفي الصفحات التالية نقدم الأدلة التي تؤكد ذلك وبالتفصيل.
أبو قلابة عبد الله بن زيد البصري (1):
" كتب أحاديث كثيرة، وجمع ثروة علمية لا تقدر، وكان يقول: الكتاب أحب إلي من النسيان ".
وأوصى أبو قلابة بكتبه فقال: " ادفعوا كتبي إلى أيوب إن كان حيا وإلا فاحرقوها (2)!! فجئ بها عدل راحلة من الشام " (3).
إن كتب ابن قلابة تعدل راحلة، فهل وصلت إلينا مضامين كتبه؟! أعتقد أنه لم يصل إلينا منها إلا القليل، وفقدها خير دليل على ذلك!
ذكوان أبو صالح السمان:
قال الأعمش " كتبت عن أبي صالح ألف حديث " (4) وكانت لدى سهيل بن أبي صالح صحيفة عن أبيه، وللأسف، لم يخرج البخاري منها شيئا (5)، وإذا كان مسلم قد أخرج منهاماهو مثبت في صحيحه، فإنه لم يستوعبها كلها. فياترى أين نجد الألف حديث التي كتبها الأعمش عن أبي صالح؟ فما وردنا عن الأعمش قليل بالنسبة لألف حديث!
____________
1 - ما سنكتبه هنا قد اعتمدنا فيه على كتاب: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور الأعظمي، بالإضافة إلى ما وجدناه من خلال بحثنا.
2 - انظروا كيف يفعل أمناء الإسلام بسنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
3 - الكفاية: ص 351 - 352. تذكرة الحفاظ 1 / 94، الرامهرمزي: ص 51. الأعظمي: 1 / 144.
4 - الأعظمي: 1 / 147.
5 - المصدر السابق. الموضوعات، ابن الجوزي.
الشعبي:
هو من كبار التابعين ورد عنه قوله: " ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالما!! " (1).
إن الشعبي قد نسي من الحديث ما لو حفظه أحد لكان عالما، وأقل عالم في ذلك الزمان كان يحفظ عشرة آلاف حديث، فهذا يعني أن الشعبي نسي الآلاف من الأحاديث!!
وزد على ذلك أن ما كان يحفظه الشعبي قد اندرس قسم كبير منه. فلقد كانت للشعبي كتب عدة، منها: كتاب الجراحات، كتاب الصدقات، الفرائض، كتاب في الطلاق وله مجموعة فقهية من الأحاديث (2) " ولا ندري عن هذه المجموعة الفقهية شيئا " (3) فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة!!
عبيدة بن عمرو السلماني المرادي:
من فقهاء الكوفة كانت عنده كتب كثيرة، فدعا بها عند موته فمحاها، وقال:
أخشى أن يليها أحد بعدي فيضعوها في غير موضعها (4).
هذا تابعي محا كتبه التي جمع فيها السنة، وهذا محو للسنة!
عروة بن الزبير بن العوام:
من كبار التابعين جمع أحاديث عائشة في حياتها " ويبدو أنه جمع كمية كبيرة من الكتب، وأحرق إما بعضها أو كلها، تحت مؤثرات شتى، وكان يتألم بعد ذلك على ما
____________
1 - تذكرة الحفاظ: ص 84. الأعظمي: 1 / 152.
2 - راجع كتاب الأعظمي: 1 / 153. الكفاية: ص 264.
3 - الأعظمي: 1 / 153.
4 - الأعظمي: 1 / 156 - 157. ابن سعد: 6 / 630. العلل: 1 / 43. تاريخ بن أبي خيثمة.
روى معمر عن هشام بن عروة، قال: أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي " (2). هكذا تذهب أحكام الإسلام التشريعية. ونحن نتألم على ضياع كتب الفقه هذه كعروة، لكن الفرق أنه فقدها بإرادته أما نحن فمن ضحايا التاريخ.
أبو بكر بن حزم الأنصاري:
تابعي فقيه قال مالك عنه: " لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما عند أبي بكر بن حزم... وقد أوصاه عمر أن يكتب له ما عند خالته عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية وما عند القاسم بن محمد بن أبي بكر ولم ينقل إلينا شئ عن الذي انجزه أبو بكر ابن حزم، ولعله ضاع فيما ضاع من ثروتنا عبر القرون " (3)!!
وقد أرسل ابن حزم الأنصاري الى عمر بن عبد العزيز كتبا " ويبدو انه لم يحتفظ بنسخة من كتبه، لأنه عندما سئل ابنه عن مصير تلك الكتب قال: ضاعت " (4).
وهكذا تضيع مواد الإسلام، ولا أدري هل جعل الله سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عرضة للضياع أم إنه حفظها عند من يقدر قيمتها؟
____________
1 - الأعظمي: 1 / 158.
2 - المصدر السابق: ص 158. ابن سعد: 5 / 133. رجال ابن اسحاق: ص 41.
الرامهرمزي: 35.
3 - لمحات في اصول الحديث، محمد أديب صالح: ص 67 - 68 ويعترف الاستاذ محمد أديب صالح بأن هناك ثروة حديثية ضاعت، فتدبر!
4 - التهذيب: 12 / 39. الأعظمي: 1 / 169.
الحسن البصري:
من مشاهير التابعين، وكان عند الحسن كتب (1) لكنه للأسف أحرقها. قال سهل بن حصين بن مسلم الباهلي: " بعثت إلى عبد الله بن الحسن بن أبي الحسن ابعث إلي بكتب أبيك، فبعث إلي: انه لما ثقل، قال: اجمعها لي، فجمعتها له، وما ندري ما يصنع بها، فأتيته بها، فقال للخادم: استجري التنور، ثم أمر بها، فأحرقت غير صحيفة واحدة، فبعث بها إلي... " (2).
فليتأمل العقلاء كيف تحرق السنن وتندرس. ومن المؤكد أن لدى الحسن سننا كثيرة لم تصل إلينا. قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: " اختلفت إلى الحسن عشر سنين، أو شاء الله، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع من قبل ذلك " (3).
لو سمع الربيع من الحسن كل يوم حديثا واحدا على مدار عشر سنين لبلغ ما عند الحسن 3650 حديثا، ولكن لم يصل إلينا عن الحسن ربع هذا الرقم!!!
سفيان بن عيينة:
كتب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة. قال العجلي: " كان حديث ابن عيينة نحوا من سبعة آلاف " (4) قال يونس بن عبد الأعلى: " كتبت عن سفيان كثيرا ".
هذا سفيان بن عيينة عنده سبعة آلاف حديث وما روي عنه لا يساوي شيئا بالنسبة لهذا الرقم!!!
____________
1 - الأعظمي: 1 / 173.
2 - ابن سعد: 7 / 1: 127.
3 - مصطلح الحديث، الشهاوي: ص 201.
4 - تاريخ بغداد: 9 / 179.
يحيى بن أبي كثير اليماني:
أحد الأئمة الأثبات الثقات المكثرين، رأى أنسا ولم يسمع منه (1).
قال الأوزاعي: " جالست يحيى بن أبي كثير، وكتبت عنه أربعة عشر كتابا أو ثلاثة عشر، فاحترق كله "!! أي احترقت السنة!!
عبد الملك بن جريج:
حضر في مجلس عطاء سبع عشرة سنة (2) " ولقد كتب كثيرا جدا من الأحاديث النبوية، كما ألف كتبا عديدة حتى إنه لما قدم على أبي جعفر، قال له: جمعت حديث ابن عباس ما لم يجمعه أحد " (3).
" أما عن عدد مؤلفاته ونوعيتها وأسمائها فلا نعلم عنها شيئا بالتفصيل... ويذكر ابن النديم أن له من الكتب (4):
1 - كتاب السنن.
2 - كتاب الحج أو كتاب المناسك.
3 - كتابا في التفسير.
4 - كتاب الجامع.
وقد فقدت هذه الكتب التي تحمل سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)! وصرح الأعظمي أن ابن جريج كتب أحاديثا كثيرة جدا مع أن الذي وصل إلينا عنه قليل قياسا لما ورد من حفظه للحديث وجمعه لحديث ابن عباس بما يعدل حمل بعير!!
____________
1 - الأعظمي: 1 / 321. هدي الساري، ابن حجر: 2 / 223.
2 - تاريخ بغداد: 10 / 401 - 402.
3 - الأعظمي: 1 / 286. تاريخ بغداد: 10 / 400.
4 - الفهرست: ص 266.
كثير بن مرة الحضري:
ذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب أن عبد العزيز والد عمر بن عبد العزيز كتب إلى كثير بن مرة الحضري عالم حمص وكان قد أدرك بحمص سبعين بدريا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب له أن يكتب إليه ما سمع من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
قال عجاج: " إلا أن المصادر لم تخبرنا عن امتثال كثير بن مرة للأمير. فنقف أمام هذا الخبر التاريخي متسائلين: ترى هل كتب كثير للأمير ما طلب منه من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وإذا كتب إليه فما مقدار ما كتبه، وعن أي الصحابة كتب إليه؟ ثم إلى من آلت تلك الصحف أو الدفاتر المدونة؟ كل هذه أسئلة تعرض أمامنا، وتحتاج إلى بحث وتنقيب، وريثما يكشف لنا التاريخ عن خبايا تراثنا العظيم!! نجيب عن هذه الأسئلة على ضوء ما لدينا من أخبار قليلة.
إن ما نعرفه من عناية هؤلاء بالحديث يرجح عندنا أن يستجيب كثير بن مرة لطلب الأمير ولو ظن الأمير عبد العزيز امتناع عالم حمص عن إجابته ما كتب إليه، مما يرجح عندي أن كثيرا تلقى رسالة الأمير وأجابه إلى طلبه، لما عرف عن كثير من نشاط علمي عظيم... " (1).
ولكن ما هو مصير هذا النشاط العلمي العظيم وما كتبه للأمير؟!
عبد الرحمن الأوزاعي:
من أئمة المذاهب الفقهية، ألف كتبا عديدة " ولم يبق منها شئ إلا الاقتباسات في الكتب " (2).
وقد كتب الأوزاعي عن المحدث يحيى بن أبي كثير أربعة عشر كتابا أو ثلاثة عشر
____________
1 - السنة قبل التدوين: ص 374.
2 - الأعظمي: 1 / 278.
" وكان يعتمد في فتاويه على ما لديه من أخبار وآثار " " قال الهقل بن زياد:
وسئل الأوزاعي يوما عن مسألة فقال: ليس عندي فيها خبر، إن التي أفتيتها كلها كان عندي أخبارها " (3)!!
وقد تتبع عبد الله الجبوري ما روي عن الأوزاعي فوجد له في البخاري 40 حديثا ومسلم 51 وابن ماجة 73 والنسائي 50 وأبي داود 40 والترمذي 40. فيكون مجموع ماجاءنا عن الأوزاعي - بعد غض النظر عن المكرر - 294 حديثا!!
إن الأوزاعي لا يفتي إلا بخبر مروي كما مر، وقد أجاب في ثمانين ألف مسألة، وروي له في كتب السنن 294 حديثا فهذا يعني أننا فقدنا عشرات الآلاف من الأخبار التي كانت عند الأوزاعي!! وضع علامات تعجب ولا حرج!!
فماذا سيقول المعاندون عن هذه الرزية؟ وهل تبقى لأحد عين يرفعها في وجه الحقيقة؟ فالرواية ثابتة على أن الأوزاعي أجاب في ثمانين ألف مسألة والأوزاعي نفسه يقول: " التي أفتيتها كان عندي أخبارها "، فهل يبقى جواب إلا التسليم لهذه الحقيقة؟!
وهناك عدة كتب للأوزاعي مفقودة، يقول الجبوري: " منها: ماوقع للأوزاعي من العوالي... أما كتابه الأول - أي العوالي - فيبدو أنه في الحديث كما يظهر من اسمه " (4) ولكن أين هو؟!!
____________
1 - انظر الإمام الأوزاعي، عبد الله الجبوري عن سير أعلام النبلاء وتهذيب التهذيب.
2 - المصدر السابق: ص 42 - 43، عن تذكرة الحفاظ: 1 / 179. تهذيب التهذيب: 2 / 240 و 242.
والبداية والنهاية: 10 / 116.
3 - المصدر السابق: ص 43 عن ابن عساكر ج 10، وكتب صدقة بن عبد الله السمين عن الأوزاعي ألفا وخمسمائة حديث " الميزان 2 / 310 - 311.
4 - الإمام الأوزاعي: ص 82 - 83.
خاتمة المطاف في أحاديث التابعين:
أولا لابد من التنويه الى أننا أخذنا قسما من شخصيات التابعين، ولو طاوعنا القلم لأتينا على مجلد كبير. ولكن السؤال هنا: من هو المسؤول عن ضياع هذه الكتب والسنن؟!
أعتقد أن الجواب يكون في أحد أمرين: إما أن الله هو المسؤول إذ جعل سنته عند هؤلاء بين الحرق والمحو والضياع، وحاشا لله من هذا القول الباطل، وإما أن نقول أن الله لم يخترهم وهو الصحيح وإلا لاتهمنا الله بالظلم والتفريط في سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). إن فعل التابعين من حرق السنن (1) ومحوها هو دليل على أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم أوصياء على الدين.
لقد كان الله يعلم أنه لو ترك السنة بيد التابعين فانها ستذهب بين الحرق والمحو والاندراس لذلك نحن نقول: إن الله قد جعل السنة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند شخص يخلفه وهو يقوم ببيان الدين وإذا مات أعطى السنة المدونة لمن بعده، وهكذا حتى قيام الساعة، وهي أضمن طريقة لحفظ السنة بدلا من أن تترك بين الحرق والمحو...
ضياع السنة بعد التابعين
إن السنة التي تعرضت للحرق والمحو والاندراس في عهد الصحابة والتابعين، كذا كان حظها في عهد المحدثين. وفي هذه الصفحات سيقف المرء مذهولا أمام عدد الأحاديث التي فقدت في هذا العهد.
____________
1 - قال الدكتور عجاج الخطيب في اصول الحديث: ص 204: " ومن الجدير بالذكر أنه كان لعبدالله بن لهيعة (174 هـ) محدث الديار المصرية كتب كثيرة، احترقت!!! سنة " 169 هـ " وكانت كتبه صحيحة " عن تذكرة الحفاظ: 1 / 220 ومع أن ابن لهيعة والأوزاعي ليسا من التابعين لكنني رأيت أنه لا بأس من أن أجعلهما في هذا البحث.
ولكن ماذا يساوي هذا الرقم الذي وصل إلينا من الأحاديث أمام ما كان يحفظه منها المحدثون؟
كان البخاري يحفظ مائة الف حديث صحيح خرج منها في صحيحه 8000 حديث بالمكرر. ورد عنه قوله: " أحفظ مائة ألف حديث صحيح "، " وما تركت من الصحاح أكثر " (2).
إذا كان عند البخاري مائة ألف حديث صحيح ولم يخرج منها إلا 8000 حديث، فهذا يعني أننا خسرنا 92 ألف حديث صحيح!!! وهو رقم يفوق رقم عدد الأحاديث الصحيحة الموجودة الآن بكثير: ولو قلنا إن البخاري يحفظ أربعين ألف حديث صحيح وهي الموجودة في كتب السنن فيبقى الاشكال قائما ومعناه أننا خسرنا 52 ألف حديث صحيح كان يحفظها البخاري.
أما أبو زرعة الرازي فقال فيه الحافظ أبو بكر محمد بن عمر الرازي: " لم يكن في
____________
1 - الحديث والمحدثون، محمد زهو: ص 453.
2 - كل الكتب التي تحدثت عن البخاري.
وقال الحافظ يحيى بن منده: " وبلغني بإسناد هو لي مسموع أن أبا زرعة قال: أنا أحفظ ستمائة ألف حديث صحيح، وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير والقراءات... " (2).
إن عدد الأحاديث الصحيحة عند المحدثين سبعمائة ألف حديث وهو الرقم الذي كان يحفظه أبو زرعة ويؤيده ما صح عن أحمد بن حنبل أنه قال: " صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر " (3).
فأين ذهبت هذه السبعمائة ألف حديث التي حفظها أبو زرعة وأشار لها أحمد بن حنبل؟!!
إن الموجود الآن كما قلنا أربعون ألف حديث صحيح. وهذا يعني أننا خسرنا قرابة 600 ألف حديث صحيح!!!. حقيقة: يطول وقوف الباحثين حيارى عندها. أين ذهبت هذه الآلاف المؤلفة من الأنوار النبوية؟
إن لدى المحدثين 700 ألف حديث صحيح والموجود الآن أربعون ألفا! ألا يعني هذا أن أكثر من ثلثي السنة قد اندرس؟! فهل سنقر بهذه الحقيقة التي تنطق بها النصوص؟ (4)
____________
1 - راجع " أبو زرعة الرازي "، الدكتور سعدي الهاشمي: 1 / 207 عن تهذيب الكمال.
2 - المصدر السابق، وراجع تاريخ ابن كثير: 11 / 37.
3 - تدريب الراوي: 1 / 50. تهذيب التهذيب: 7 / 30.
4 - إن كل محدث كان يحفظ الآلاف من الأحاديث، فقد كان عند مسلم صاحب الصحيح ثلاثمائة الف حديث مسموعة. طبقات الحفاظ: 2 / 151. وكتب أحمد بن الفرات ألف ألف وخمسمائة ألف حديث.
خلاصة التهذيب: ص 9. وكان إسحاق بن راهويه يحفظ أكثر من مئة ألف حديث. الحديث والمحدثون: ص 351. وقال يحيى بن معين: " كتبت بيدي ألف ألف حديث " تدريب الراوي: ص 50.
وغيرهم الكثير.
فلنفترض أنها أكثر، ولتكن خمسين (1) أو ستين ألفا فماذا يغير هذا من القضية، إن النتيجة ستبقى كما هي، وهي ضياع القسم الأكبر من السنة.
وقد أقر أبو زرعة الرازي بأن حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحصى، فقد سئل: أليس يقال إن حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة آلاف حديث؟ فقال: " ومن قال ذا؟! " قلقل الله أنيابه!! " هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ " (2).
تسعة وثلاثون موطأ مفقود!!!
فيما سبق كنا نتحدث عما وسعته صدور المحدثين، وهم فضلا عما حملوا من الحديث فقد دونوه في كتبهم، فممن دون الحديث في كتب خاصة: الأوزاعي، والثوري، وحماد بن سلمه، ومعمر بن راشد، والربيع بن صبيح، وهشيم بن شبير السلمي الواسطي، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن مبارك، ومالك بن أنس، وفضلا عن هؤلاء فقد " تلاهم كثيرون من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، ومن ثم نجد أنه ما في مصر من الأمصار الإسلامية إلا وقد جمع الأحاديث فيه إمام أو أئمة... والأثر الباقي من كتب هذا القرن - الثاني الهجري - هو الموطأ " (3).
لقد ذكر أبو شهبة عشرة أسماء ممن دونوا الحديث وقال: تلاهم كثيرون في النسج على منوالهم. وذكر الدكتور نور الدين عتر: إن عدد الموطآت في هذا العهد أربعون موطأ (4) ولكن الأثر الباقي كما يقول أبو شهبة هو موطأ مالك!!
____________
1 - ذهب السيوطي إلى أن الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة لاتبلغ - دون تكرار - خمسين ألفا!، تدريب الراوي: 1 / 100.
2 - الإصابة: 1 / 3. توضيح الأفكار، الصنعاني: ص 43.
3 - راجع الوسيط في علوم الحديث: ص 67.
4 - راجع كتابه: في علوم الحديث: ص 59.
ولا نريد أن نقيس حفظ الآخرين على حفظه، ولكن لنأخذ موطأ مالك الأثر الباقي من الأربعين! هذا الأثر يحوي 700 حديث. ولو افترضنا أن كل موطأ من هذه الموطآت يحوي 700 حديث لبلغ عدد الأحاديث الضائعة ثمانية وعشرين ألف حديث!!
مع أن هناك موطآت أكبر من موطأ مالك كموطأ ابن أبي ذئب (2).
عشرات المسانيد مفقودة!!!
المسند: هو عبارة عن كتاب حديث، يرتب صاحبه الأحاديث فيه حسب رواتها وإن اختلفت موضوعاتها، وإذا أردنا أن نكون دقيقين في التعريف فإن المسند هو " الجزء الذي تجمع فيه أحاديث رجل معين، كمسند أبي بكر الصديق، ومسند عمر بن عبد العزيز " (3).
لقد درج العلماء على كتابة الحديث بهذه الطريقة، ولكن أكثر مسانيدهم قد فقدت، أو لم تتم... والمذكور منها:
1 - مسند ابن صبيح.
قال عز الدين التنوخي: " ومن المؤسف أنا لا ندري شيئا عن مصير مسند ابن صبيح " (4).
____________
1 - تدريب الراوي: ص 52.
2 - تدريب الراوي: 40 - 41.
3 - الرسالة المستطرفة: ص 46.
4 - من كتاب الجزء الأول من شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع الفراهيدي، تأليف الشيخ عبد الله بن حميد السالمي.
3 - مسند أحمد بن حازم بن محمد بن أبي غرزة: أبي عمرو الغفاري " ت / 276 ه "، قال الذهبي في السير 13 / 239: له مسند كبير وقع لنا منه جزء!!
4 - مسند أحمد بن سنان: أبو جعفر الواسطي القطان " ت / 256 هـ "، انظر السير 12 / 244.
5 - مسند أحمد بن منيع بن عبد الرحمن: أبي جعفر البغوي " ت / 244 هـ ".
6 - مسند بقي بن مخلد " ت / 279 هـ ": انظر السير 12 / 291، ومعجم الأدباء 7 / 67.
7 - مسند شعبة: آدم بن اياس " ت / 220 هـ ".
8 - مسند الصحابة للبغوي: أبو القاسم عبد الله بن محمد " ت / 317 هـ ".
9 - مسند الصحابة الذين نزلوا مصر: محمد الربيع الجيزي.
10 - مسند عبد الله بن دينار: أبو نعيم الأصبهاني " ت / 430 هـ ".
11 - مسند علي بن عبد العزيز البغوي " ت / 286 هـ ": انظر السير 13 / 348.
12 - مسند علي: مطين أبو جعفر محمد بن عبد الله " ت 297 هـ "، انظر السير 14 / 42.
13 - مسند عمر للإسماعيلي: أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني " ت / 371 هـ "، في مجلدين، انظر السير 16 / 293.
14 - مسند عمر النجار.
15 - مسند الفريابي: أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن " ت / 301 هـ ".
16 - مسند قيس بن الربيع.
17 - مسند مالك لابن عدي: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني " ت / 365 هـ ".
____________