كلمة المجمع
إنّ من طبيعة الناس أن يختلفوا; ولكن الله يحبّ أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة داخل إطار التصور الإيماني الصحيح. ومن ثم لم يكن بدّ أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون. وقد أنزل الله الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه(1).
وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد; لا يستقيم أمر هذه الحياة. وهذا الذي يقرره القرآن يقوم على قاعدة التوحيد المطلق. ثم يقع الانحراف، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير.
ومن هنا يتبيّن أنّ الناس ليسوا هم الحَكَم في الحق والباطل ما داموا عرضة للهوى والبغي والضلال.
ولقد جاء الكتاب.. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هنا وهناك; وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع الى الحق الذي يردّهم إليه.
فالبغي ـ حسب النصّ القرآني(2) ـ هو الذي قاد الناس الى المضيّ في الاختلاف وفي اللجاج والعناد.
والجهل عامل آخر للاختلاف والفرقة، غير أنّ الجاهل ينبغي أن يسأل العلماء ماجهل، كما قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(3).
ومن هنا كان تجاوز الجاهل لهذا الأصل الذي يرتضيه العقل ويستسيغه العقلاء بغياً وتعدّياً لأوضح القواعد والطرق التي من شأنها أن تسدّ طريق الفرقة والاختلاف.
____________
1- و 2- راجع الآية 213 من سورة البقرة.
3- الانبياء: 7 و النحل: 43.
وقد علم الله ورسوله أنّ اُمّته ستختلف من بعده، كما اختلفت في حياته.
من هنا جعل القرآن للاُمة نبراساً من بعد الرسول يحذو حذوه (صلى الله عليه وآله) ويقدّم للاُمة ما تقصر عن فهمه وتفسيره، وهو أهل البيت (عليهم السلام)، وهم المطهّرون من كل رجس ودنس والذين نزل القرآن على جدّهم المصطفى وتلقّوه منه فعقلوه عقل وعاية ورعاية، فآتاهم الله ما لم يؤت أحداً سواهم.. كما نصّ الرسول (صلى الله عليه وآله) على مرجعيتهم الشاملة في حديث الثقلين المشهور، فحرصوا على صيانة الشريعة الإسلامية والقرآن الكريم من الفهم الخاطئ والتفسير الباطل ودأبوا على تبيان مفاهيمه الرفيعة، فكانوا مرجعاً للاُمة وملاذاً للمسلمين، يدفعون الشبهات ويستقبلون الاسئلة والإثارات بحلم وأناة. ويشهد تراثهم المعطاء على حُسن تعاملهم مع أصحاب السؤال والحوار، ويدلّ على طول باعهم وعمق إجابتهم التي تشهد لهم بمرجعيتهم العلمية في هذا المضمار.
والكتاب الذي بين يدي القرّاء الكرام هو رحلة أحد الاخوة الى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بعد دراسة عميقة وتحقيق في كتب التراث، توصل من خلالها الى انّ مذهب أهل البيت هو الحق الذي يجب اتّباعه والتمسّك به.
وقد بادر المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) ـ منطلقاً من مسؤولياته التي أخذها على عاتقه للدفاع عن حريم الرسالة ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) ـ الى طبع هذا الكتاب، راجين من الله تعالى أن يتقبّله من مؤلّفه الاُستاذ صباح علي البياتي وغيره من الاخوة الذين ساهموا في اخراج الكتاب بما يليق به إنّه خير معين والحمد لله ربّ العالمين.
المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
قم المقدسة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
بعث الله نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله) بالهدى ودين الحق، فأخرج به البشرية من الظلمات الى النور، وأنزل عليه كتاباً محفوظاً لا يتغير على مرّ الأزمان، فيه الهدى والنور والعصمة من الضلال، ودعا فيه الاُمة الى الاجتماع ونبذ الفرقة، فقال عزّ من قائل(واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تَفرقوا)(1). وأخبرهم بأن الفرقة والتنازع يؤديان الى الضعف والفشل وذهاب القوة والمنعة، وتسلط أعداء الدين عليهم، فقال: (ولا تنازعُوا فتفشَلوا وتذهبَ ريحكُم)(2).
لكن على الرغم من كل ذلك، فإن الخلاف قد ذرّ قرنه بين المسلمين، ولم تمض أيّام قليلة على فراق النبي (صلى الله عليه وآله) اُمته، حتى خرج المسلمون حاملين سيوفهم على عواتقهم، يضرب بعضهم وجوه بعض، ثم تطوّر الأمر أكثر فأكثر، فراحت تظهر فرق وطوائف تحمل أسماءً شتى، تتخذ من الجدل والسفسطة ديدناً، ويغلو بعضها فيحكم بايمانه وحده ويرمي جميع المسلمين ممن لا يؤمن بفكرته بالكفر، وتتطور الاُمور إلى الاسوأ فالأسوأ، فتتجرد السيوف مرة اُخرى لتحزّ أعناق المخالفين، وإذا كان المسلمون في بداية أمرهم قد اقتتلوا وهم يظنون أنهم جميعاً على دين الإسلام، فإن ما حدث بعد ذلك، ان الفرق الإسلامية بدأت تتناحر فيما بينها مستحلّة دماءها وأموالها واعراضها، وكأن المخالف لها خارج عن الملّة حلال الدم والمال.
____________
1- آل عمران: 3.
2- الأنفال: 8.
وهذا الكتاب ليس الاّ محاولة متواضعة لتشخيص مواطن الداء، وتعيين أنجح السبل لإيقافه، ليكون ذلك فاتحة لأصحاب النوايا الحسنة ممن يهمهم مصلحة الإسلام والمسلمين لإعادة النظر في كل ما سبق، من أجل بناء نظرية إسلامية متينة تستطيع الثبات بوجه الأعاصير العاتية التي تهب عليها من كل مكان.
ولست ادّعي أنني استوفيت كل ما يجب استيفاؤه في ذلك، ولا أُحطت علماً بكل ما ينبغي علمه، ولكن عذري للقارئ عن تقصيري أنني قد بذلت ما وسعني البحث، وليس بعد الجهد حيلة.
الفصل الأول
المنعطف
المنعطف
لم تكن هناك مشكلة في بداية الأمر، فيما يتعلق باتجاهي الفكري الديني، فلقد تعلمت الصلاة في سن مبكرة، وبدأت أُواظب على قراءة القرآن عند أحد جيراننا، والّذي كان إمام مسجد الحي، وكنت طيلة سنيّ شبابي الاُولى، أتردد على المسجد القريب من البيت للمواظبة على الصلوات طلباً لثواب الجماعة.
كان إمام المسجد هو مرجعنا الديني، وقد بدأت علاقتي معه تتوثّق مع مرور الأيام، فكنت آتي المسجد في وقت مبكر، حيث أجلس إليه، يشاركني في ذلك بعض الشبان المتدينين، وكانت الحلقة تضم كهولا من أبناء الحي أيضاً، فنجلس ونتداول بعض الاُمور الدينية، ونتبادل الآراء حول بعض المسائل الفقهية المبتلى بها، وكثيراً ما كان الشيخ إمام المسجد يخصص بعض الجلسات ليحدثنا عن أئمة المذاهب الأربعة وعلمهم وتقواهم-وبخاصة الشافعي- حتى صار هؤلاء الأئمة الأعلام مثلا أعلى نسعى للاقتداء بهم.
مضت بضع سنوات على تلك الحال لم تصادفني فيها مشكلة في العقيدة، كانت الاُمور تتلخص في المواظبة على العبادات، والإلتزام بحسن الخلق والاستقامة، وهذه الاُمور تكفي لأن تجعل المرء مرضياً عند الخالق والمخلوقين، وتضمن له سعادة الدارين، كما كان يؤكد لنا إمام مسجدنا.
بقي الأمر على تلك الحال، حتى في أحد الأيام، ذهبت فيه الى المسجد لأداء فريضة العصر، وكعادتي في التبكير بالذهاب لكي تتاح لي فرصة
عندما دخلت حجرته، وجدته يحدّث رجلا كهلا يجلس بين يديه مستمعاً الى نصائح الشيخ الذي كان يحدّثه عما يجب فعله لأداء فريضة الحج، فجلست استمع للمحاورة، حتى أثار انتباهي ملاحظة أبداها الشيخ، وفيها يوصي الرجل بأن يتحول من المذهب الشافعي الى المذهب الحنفي قبل الانطلاق أثارت هذه الملاحظة دهشتي، إذ أنني لم أكن قد سمعت بمثلها من قبل، ولم أفهم السبب الموجب لتغيير المذهب، لذا فإنني انتظرت بفارغ الصبر انصراف الرجل لأُبادر الشيخ إمام المسجد بالسؤال عن سبب ضرورة تغيير هذا الرجل مذهبه.
أجاب الشيخ مبتسماً: حتى يجوز له ملامسة النساء أثناء الطواف، لأن ذلك وفق مذهبنا ينقض الوضوء كما تعلم.
أطرقت مفكراً، فقد كانت المرة الاولى التي اتنبه فيها الى هذه المسألة. نعم، كنت أعرف أن اتباع المذاهب الاُخرى - من غير الشافعية - لا يتوضؤون من الملامسة، ولكنني لم أكن قد أعرت الأمر شيئاً من الأهمية، ولكن في هذه المرة بدأت أُفكر في الأمر بشكل جاد.
سألت الشيخ: إذا لامس الرجل الحنفي المذهب إمرأة من غير المحارم، ثم صلى دون أن يعيد الوضوء، فهل صلاته صحيحة؟
قال: نعم.
قلت: لكن الشافعي المذهب تكون صلاته باطلة، وعليه إعادة الوضوء والصلاة؟
قال: نعم.
فكرت في الأمر ملياً، ثم سألت الشيخ قائلاً:
أي المذاهب الأربعة صحيح وجدير بالاتّباع أكثر من غيره؟
قال: كلها صحيحة وجديرة بالاتّباع قلت متسائلا: كيف حكم الشافعي ببطلان الوضوء من الملامسة وخالفه الآخرون في ذلك؟
قال: تبعاً للاجتهادات، فالشافعي(رضي الله عنه) اجتهد في تأويل آية الملامسة بأنها تعني تلامس البشرة، وتأول غيره بأنها تعني الجماع، كل حسب اجتهاده.
قلت: فالإمام الشافعي قد انفرد بهذا التأويل، ألا يمكن أن يكون مخطئاً؟
قال الشيخ بغضب: كيف تجرؤ على تخطئة الإمام الشافعي، وماذا نكون نحن بالنسبة الى هذا الإمام المجتهد رضوان الله تعالى عليه، حتى نخطّئه!!
اُخذتُ بسورة الغضب، فأطرقت ساكتاً.
قال الشيخ متكلفاً الهدوء: يا بني، لا تردد مقالات أعداء الإسلام الذين يريدون التشكيك في معتقداتنا وفي أئمتنا رضوان الله عليهم.
قلت: إنني لم أُردد مقالة أحد.. لكنه كان سؤالا خطر ببالي.
قال الشيخ ملاطفاً: أعلم أن نيتك سليمة فلا تؤاخذني.. سل عما شئت.
قلت: أخشى أن يغضبك سؤالي.
قال: كلا، لن أغضب فسل عما شئت.
قال: تبعاً لاجتهادات الأئمة، لقد بذل كل منهم جهده في استنباط الأحكام من الأدلة المتوفرة لديه، وكان لكل منهم رأيه الخاص في تلك الأدلة، ولكنهم جميعاً مجتهدون، وهم مأجورون حتى لو أخطأوا كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك.
قلت: إذا كانت جميع المذاهب صحيحة، فهل يجوز الانتقاء، كتقليد أحد الأئمة في بعض المسائل، وتقليد غيره في مسائل اُخرى؟
قال بحزم: كلا، لا يجوز ذلك، إن ذلك تحايل على الشريعة.
قلت: لكننا نقلد الإمام أبا حنيفة أثناء الحج قال: مؤقتاً، لضرورة تستدعي ذلك، وتنتفي بانتفائها.
قلت: لماذا لم يجتمع المسلمون على مذهب موحّد يجمع شملهم وينهي الاختلاف؟
قال: إن الاختلاف ضروري لتيسير الشريعة على المكلفين، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "اختلاف اُمتي رحمة".
حان وقت الصلاة فافترقنا، وبعد الانصراف ناداني الشيخ فرافقته الى حجرته حيث ناولني كتاباً وهو يقول: لا تنس أن الاختلاف رحمة.
قرأت على غلاف الكتاب: رحمة الاُمة في اختلاف الأئمة.
بدأت بقراءة الكتاب في البيت، ورغم ذلك فإنني لم اقتنع، كانت القضية بالنسبة لي تتطلب جواباً على تساؤلات منها: إذا كان أحد الأئمة قد أخطأ في اجتهاده، وتبين للمكلف خطؤه، فلماذا لا يجوز مخالفته في تلك المسألة والأخذ برأي مجتهد آخر؟ وإذا كان الشافعي قد أخطأ في تأويل آية الملامسة، فما يدريني كم أخطأ هو وغيره في مسائل اُخرى؟
مع المذاهب
كانت أشهر الصيف بالنسبة لي فترة خصبة، كنت اتفرغ فيها للمطالعة، وها هي العطلة الصيفية توشك على البدء، فلأستغلها في البحث، وهذه المرة ليست كتب الأدب والروايات - التاريخية منها خاصة - بل كتب الفقه، وتذكرت أن صاحب كتاب "الميزان" - الذي بهامشه كتاب رحمة الاُمة - قد ذكر أنه قد قرأ كثيراً من الكتب، وأورد قائمة طويلة بأسمائها قبل تصنيفه لكتابه هذا، فحاولت أن أتتبع بعض ما قرأ منها، ولكنني بقيت شهوراً أدور في حلقة مفرغة دون أن أصل الى شيء حاسم، لكن كتب الطبقات التي وقعت في يدي أفادتني بعض الشيء في توضيح بعض الاُمور التي كنت غافلا عنها، فقد كانت هذه الكتب ترفع من شأن أئمة المذاهب -كل يطري إمام مذهبه ويحيطه بهالة من القدسية- مما ذكّرني بما كان يحدثنا به إمام مسجدنا من مناقب اولئك الأئمة، والتي تبيّن لي أنها كلها كانت مفتعلة، وضعها المتعصبون لمذاهبهم، وظهرت لي الخلافات التي كانت بين أرباب المذاهب وتخطئة بعضهم البعض، بل وحتى تكفير بعضهم البعض أحياناً، ولاحت لي في سماء الفقه أسماء لم أكن قد سمعت بها من قبل، وتساءلت متعجباً: أين كان هذا الحشد من الفقهاء، ولماذا لم أسمع بهم؟! وقد أرشدني أمين المكتبة - وكان صديقاً لي- الى بعض الدراسات الحديثة في هذا الشأن، مما أتاح لي الفرصة للتعرف على الأدوار التي مرّت بها مسيرة الفقه الإسلامي وبداية نشأة المذاهب، ومن تلك الكتب: (تاريخ المذاهب الاسلامية) للشيخ محمد أبو زهرة، فتمكنت من متابعة مسيرة الفقه من بدايته وحتى العصر الحاضر،
إن التشريع الإسلامي قد مرّ بأدوار متعددة: دور الرسالة النبوية، ودور عصر كبار الصحابة، ثم صغار الصحابة، ثم التابعين وتابعي التابعين... الخ.
وفي عصر تابعي التابعين ظهر بعض أئمة الفقه كأبي حنيفة الذي أخذ عن ابراهيم النخعي والشعبي، وحماد بن سليمان، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم من التابعين.
وعلماء التابعين الذين أخذ عنهم أئمة المذاهب هم الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبيد بن الحارث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت. وقد نقل علم هؤلاء السبعة ابن شهاب الزهري وربيعة الرأي، وهما ممن تتلمذ عليه الإمام مالك.
وحول الاختلاف بين المذاهب، يقول محمد أبو زهرة: "تكونت مذاهب الأمصار، وقد ابتدأ الاختلاف في المدائن بتكوين المدارس الفقهية، فكان بالعراق مدرسة فقهية لها منهاج، ثم بالحجاز، ثم بالشام، ثم كان الشيعة لهم مدرستهم، ثم صار بعد ذلك في كل مدرسة رجل بارز يلتف حوله تلاميذ يمدّهم بالرواية، والدراية الفقهية... فكان بالكوفة شيخ القياس أبو حنيفة، وكان بالمدينة شيخها مالك، وكان بالشام شيخها الأوزاعي، وكان بمصر الليث ابن سعد، ثم جاءت الطبقة الثانية، فكان الشافعي وأحمد وداود، وتتابع من بعدهم الاجتهاد، ثم الانحياز المذهبي، فأصبح المجتهد لا يجتهد اجتهاداً مطلقاً، بل يجتهد في دائرة مذهبه، ثم انتقل الاجتهاد في دائرة اُصول المذهب الى التقيد بآراء الامام، مع الاجتهاد فيما لم يرو فيه نص في المذهب، ثم صار
ومن الاُمور المهمة التي أثارت انتباهي، هي أن الفقهاء الكبار لم يكونوا يرون لأقوالهم هذه القدسية التي نراها نحن لهم اليوم من اتباعهم، فأبو حنيفة يقول: "هذا أحسن ما وصلنا اليه، فمن رأى خيراً منه فليتبعه".
وقد سأله البعض: أهذا الذي انتهيت اليه هو الحق الذي لا شك فيه؟
فقال: لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه والشافعي كان يحث أصحابه على مخالفة قوله إذا وجدوا حديثاً يخالفه ويقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأن مالكاً كان ينهى أصحابه عن كتابة فتاويه، وعندما رأى أحد تلاميذه يدوّن أقواله قال له: ويحك يا يعقوب أتكتب كل ما أقول؟ إني قد أرى رأياً اليوم واُخالفه غداً، وقد أرى الرأي غداً واُخالفه بعد غد. وان الامام أحمد بن حنبل يقرر أن لكل انسان أن يجتهد(1).
فهؤلاء الأئمة الكبار قد اجتهدوا على قدر طاقاتهم، ولم يلزموا أحداً بالجمود الى آرائهم، ولكن الناس جمدوا بعد ذلك على آرائهم، وهكذا أخذ الإتّباع يسود التفكير الفقهي. ومن وراء الاتّباع كان التقليد; فالتقليد سار من القرن الرابع الهجري ولكنه كان تقليداً جزئياً ابتداءاً، ثم أخذ نطاقه يتسع حتى صار تقليداً كلياً في آخر العصور، كما يقول الشيخ أبو زهرة.
ويلخص الشيخ أبو زهرة أسباب التقليد بعدة نقاط وهي:
1 - إتّباع التلاميذ لشيوخهم.
2 - القضاء
____________
1- انظر تاريخ المذاهب الاسلامية، الكتاب الثاني: 265، 301، 303.
4 - التعصب المذهبي، وخاصة بين أتباع المذهب الحنفي وأتباع المذهب الشافعي.
بعد أن توصلت الى هذه النتائج، وقفت حائراً فيما يجب عمله، فلم أجد أمامي سبيلا إلاّ أن أخلع ربقة المذاهب كلها من عنقي، وأن أنتقي ما أعتقد صوابه دون الالتزام بمذهب معين.
وكانت اُولى الاُمور التي فعلتها بهذا الشأن، أنني خالفت الامام الشافعي في الوضوء.
مع الصوفية
تعرفت في هذه الأثناء على صديق كان يميل الى التصوف، ومن ثم راح يحدثني عن الصوفية وكراماتهم، وعندما سألني عن رأيي في التصوف، قلت بغير اكتراث:
أعتقد أن التصوف بدعة.
صاح بشيء من التأثر: بدعة!!
قلت: عفواً.. أعني أن السلف الصالح ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لم يعرفوا هذا الشيء الذي تتحدث عنه.
قال باشفاق: ما رأيك أن يكون أعظم صحابي رائداً للصوفية؟
قلت: أتعني أبا بكر الصديق(رضي الله عنه)؟
لم يتركني في حيرتي، بل أخرج قصاصة من صحيفة قديمة كانت ترجمة
أثارت المقالة دهشتي، وشعرت ببعض الزهو والفخر، عندها قال صاحبي: أليس من العجب أن يعرف الغربيون عن سلفنا الصالح ما نجهله نحن؟!
ثم راح يحدثني عن الصوفية وأصلها ونشأتها بشكل ملخص، والخرقة التي قد توارثوها عن علي بن أبي طالب(كرم الله وجهه)، وعلم الباطن، والفناء في ذات الله...الخ. لكن الشيء الذي استأثر باهتمامي من كلامه هو العلم الذي كان عند علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)، وجاءت مسألة الذرة مصداقاً لذلك، فقد كان لعلي من المواهب ما لا يملكه غيره من الصحابة إذاً، وتذكرت أنني طالما قرأت كثيراً من اعترافات الصحابة(رضوان الله عليهم) بتقدم "علي" عليهم في سائر العلوم، ولطالما قرأنا قول عمر بن الخطاب(رضي الله عنه): لولا علي لهلك عمر. إستغل صاحبي هذه المسألة، وراح يحاول اجتذابي الى الفكرة الجديدة، وأعطاني في أحد الأيام كتاب (إحياء علوم الدين) للامام الغزالي، وقد أعجبتني فكرة الزهد والرياضة الروحية التي يتحدث عنها الكتاب، وبدأت أُحاول تطبيق ذلك على نفسي، لكنني لم أتمكن من الاندماج مع جماعة الصوفية تماماً، إلاّ أنني بقيت على علاقة طيبة مع بعضهم...
أفكار جديدة
تعرفت بعد سنوات على صديق جديد، التقينا في المسجد، وتحدثنا بعد خروجنا، عن الاسلام وهموم المسلمين ومسألة المذاهب والتقليد، وفوجئت بأن الفتى كان يحمل بعض الأفكار الغريبة والجريئة أيضاً، خصوصاً أنني وجدته متفقاً معي في نبذ تقليد المذاهب، وعندما سألته عن مصدر معلوماته تردد قليلا في البوح بها، ولكنني ألححت عليه، فاعترف بأنه يتلقى هذه المعلومات من شيخه.
أبديت له رغبتي في التعرف على الشيخ، فوعدني خيراً، وبعد أيام طلب مني التهيؤ للقاء الشيخ.
توجهنا الى منزل الشيخ الذي استقبلنا بالترحاب ثم راح يحدثنا في مواضيع مختلفة، وتطرق في حديثه الى موضوع المذاهب واختلاف المسلمين بسببها، وأنحى باللائمة على المسلمين الذين تعلقوا ببعض المعتقدات الفاسدة، وتطرق في حديثه الى الصوفية، فراح يتهكم عليهم خمّنت أثناء الحديث أن يكون الشيخ وهابياً، ولم تكن معلوماتي عن الوهابية واضحة جداً، ولكنني كنت اُلاحظ أن جماعة الصوفية كانوا يذمونهم كثيراً، وكذلك كان إمام مسجدنا من قبل يمقتهم ويحذرنا منهم ومن بدعهم وضلالاتهم... بقيت ساهراً تلك الليلة، فاللقاء مع الشيخ كان مثيراً الى حد ما، وقفزت الى ذهني تساؤلات كثيرة لم أجد لها جواباً، لذا بكرت بالذهاب الى منزل الشيخ على غير موعد.
استقبلني بحرارة، لكنني أخبرته بأني قد جئت للتحدث معه على انفراد، فأدخلني الى البيت، وعندما استقر بنا المقام، أقبل علي الشيخ بنظرات متسائلة.
قطب حاجبيه قليلا، ثم قال مبتسماً: ماذا تعرف عن الوهابية؟
قلت: ليس كثيراً، ولكن يبدو أن هنالك أوساطاً كثيرة لا ترتاح لسيرتهم.
قال: (وأكثرُهم للحقِّ كارِهون)، ألا ترى أن أكثر الناس كانوا يحاربون الأنبياء؟
أطرقت ساكتاً: فابتدرني بالقول: نحن في الحقيقة سلفيّون، وإن عقيدتنا تقوم على التوحيد ونبذ الشرك ومحاربة البدعة، فهل ترى في ذلك بأساً؟
قلت: كلا، بل أن أساس الدين يقوم على هذه الدعائم.
قال بانشراح: فذلك ما نرمي إليه، أن نعيد الاسلام الى سيرة السلف الصالح، ونحرر المسلمين من الخرافات والبدع وننقذهم من الشرك.
ثم انبرى الشيخ للحديث بالتفصيل عن هذا الأمر مستكثراً من الشواهد القرآنية وداعماً كلامه ببعض الأحاديث النبوية الشريفة أحياناً والسيرة المثلى للصحابة الكرام. حتى خلص الى حقيقة مفادها: أن أكثر المسلمين قد انحرفوا عن الاسلام حين تركوا خط السلف.
قلت: ماذا عن الاُمور المتعارف عليها بين المسلمين، والتي أصبحت في حكم المسلّمات.
قال بحدّة: كلها بدع لا أصل لها، وهي التي قادتهم الى الشرك.
قلت: فمعظم المسلمين اليوم هم في الحقيقة مشركون؟!
قال: نعم، بالتأكيد.
شعرت ببعض الأسى، إلاّ أن الشيخ كان قوي العارضة، وكان يدعم آراءه بالشواهد القرآنية المتتالية، حتى أحسست بالعجز أمام أدلته، ولم أجد بداً من الاستسلام للفكرة الجديدة والاعتراف بصوابها.
الدعوة
بدأت مرحلة جديدة من العمل، وبخاصة في أوساط الشباب، وكانت الفكرة التي ندعو إليها برّاقة جذابة، تتمثل في محاربة الشرك والبدعة، والدعوة الى التوحيد الخالص، وإعادة الاسلام والمسلمين الى الطريق الصحيح الذي انتهجه السلف الصالح.
تأقلمت مع الفكرة الجديدة بعد أن اقنعت نفسي بصوابها - رغم ما في النفس - واندفعت في العمل مع باقي أعضاء الجماعة، فكنا نلتقي بالشيخ اُسبوعياً حيث نتدارس القرآن، وكان الشيخ يستمع الى آرائنا ويعطينا المزيد من المعلومات، ثم يقوم بتوجيهنا، وزودنا ببعض مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم، كما لاحظت أن الشيخ كان يفسّر لنا الآيات معتمداً على تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب.
حاولت في هذه الأثناء أن أجتذب أقربائي الى الفكرة الجديدة، الاّ أن معظمهم رفض الأفكار الجديدة، وعندما شكوت الى الشيخ ما اُلاقي منهم - وكنت أتوقع أن يواسيني ويسألني دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ـ لكنه فاجأني بقوله متمثلا بالآية الكريمة: (إنَّ الذينَ كَفروا سَواءٌ عليهم أأنذرتَهُم أم لَمْ تُنذِرهُم لا يُؤمنونَ)(1).
____________
1- البقرة: 6.
الانفصام
بدأت سحب الخلاف تظهر بيني وبين الشيخ عندما ناقشته حول بعض الاُمور التي وردت في بعض الكتب التي كان يوصينا بقراءتها.
كان الأمر يتعلق بالدرجة الاولى ببعض المعلومات التاريخية التي وردت فيه، لكنني لاحظت أن الشيخ كان مقتنعاً تماماً بالاُمور التي اعترضت عليها، والمتلخص بتمجيد بني اُمية الذي كان الشيخ متحمساً فيه، بل وكان يمجّد حتى ولاة بني اُمية كالحجاج بن يوسف الثقفي وغيره، حيث اعتبرهم الشيخ من المجاهدين المخلصين للاسلام، واعتبر خلفاء بني اُمية جميعاً اُمراء للمؤمنين بحق، حيث رفعوا راية الاسلام ونشروه في مختلف الأصقاع.
وعلى الرغم من أن تاريخ ابن كثير كان معتمدنا الأول في معلوماتنا التاريخية، الاّ أن الشيخ كان يعترض أحياناً على بعض آراء ابن كثير أيضاً، خصوصاً قوله بتفسيق بعض خلفاء الاُمويين الذين اعتبرهم الشيخ كلهم اُمراء للمؤمنين لا ينبغي ذكرهم الاّ بعبارات الثناء لأنهم قد خدموا الاسلام، وأن كل ما يثار حولهم من شبهات، إنما هي من صنع أعداء الاسلام، وحتى قضية ثورة الحسين بن علي(رضي الله عنه) بدا الشيخ ميالا الى جانب يزيد وتصويب موقفه، وتخطئة موقف الحسين، وكذا حول وقعة (الحرّة)، وأن أهل المدينة قد أخطأوا بخروجهم على إمامهم يزيد بن معاوية، وأن يزيد ليس بمسؤول عما حدث.
وعندما احتججت على الشيخ بخروج معاوية على الخليفة علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)، أجابني الشيخ بأن الأمر هنالك مختلف، فمعاوية صحابي جليل، ولم يكن خروجه لغاية دنيوية ولا طلباً للملك، ولكنه كان يريد الاقتصاص
قلت: هل تنكر أن معاوية وحزبه كانوا بغاة؟
قال: لا، ولكنهم مجتهدون مخطئون، وهم مأجورون على كل حال.
كانت قضية الاجتهاد والتأول في الفقه، الاّ أنها انسحبت على كل الاُمور الاُخرى على ما يبدو، حتى المتضمنة الخروج على طاعة الامام وقتل المسلمين. صار الاتفاق بيني وبين الشيخ أمراً عسيراً، وخفّت حماستي للعمل، فأدلة الشيخ هذه المرة لم تكن مقنعة تماماً، فبادرني بالقول:
يا أخي، إن التاريخ الاسلامي قد تعرض للتزييف والتشويه من قبل أعداء الاسلام، وبخاصة الروافض، فانهم لم يألوا الاسلام شراً، وإذا أردت التحقق من ذلك ومعرفة تاريخ الاسلام على وجهه الصحيح، فعليك بكتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي، وسوف يثبت لك هذا الكتاب أن كل ما اُثير حول الصحابة من شبهات لا أساس له من الصحة، ولو كان الكتاب في متناول يدي لأهديتك إياه، ولكنك تستطيع الحصول عليه من المكتبات.
العواصم من القواصم
بحثت عن الكتاب الذي أوصاني الشيخ به في المكتبات حتى عثرت عليه، وقال لي صاحب المكتبة وهو يناولني الكتاب: هذه نسخة جديدة منقحة ومحققة تحقيقاً علمياً بشكل ممتاز.