مروان وطلحة
لم يقتصر مروان بن الحكم على مخالفة السنّة النبوية الشريفة فحسب، بل تعداه الى قتل الصحابة أيضاً، إلاّ أن من المستغرب أن يحاول بعض المؤلفين تبرأة مروان من هذا الفعل، فقد قال القاضي ابن العربي، في معرض حديثه عن أحداث معركة الجمل:
وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا أطلب أثراً بعد عين، ورماه بسهم فقتله. ومن يعلم هذا إلاّ علاّم الغيوب، ولم ينقله ثبت! وقد روي أنه أصابه سهم بأمر مروان، لا أنه رماه(2).
ويمكننا ملاحظة بعض الاُمور على مقولة ابن العربي، وهي ادعاؤه أولا أن هذا الخبر لم ينقله ثبت، وثانياً: محاولته تبرير عمل مروان بأنه لم يباشر قتل طلحة بنفسه، بل أمر من يرميه بسهم قاتل. ولا أدري ما الفرق بين أن يباشر المرء القتل بنفسه وبين أن يوكله الى من ينفذه نيابة عنه!
أما محب الدين الخطيب، فيعلق على الخبر بقوله:
آفة الآخبار رواتها، وفي العلوم الاسلامية علاج آفة الكذب الخبيثة، فإن كل راوي خبر يطالبه الاسلام بأن يعين مصدره على قاعدة من أين لك هذا؟
ولا تعرف اُمة مثل هذه الدقة في المطالبة بمصادر الأخبار كما عرفه المسلمون، ولا سيّما أهل السنّة منهم، وهذا الخبر من طلحة ومروان لقيط، لا
____________
1- اُسد الغابة 1: 514.
2- العواصم من القواصم: 160.
إن من أشد الاُمور أسفاً وإيلاماً، هي أن يدّعي مؤلف أنه يدافع عن الاسلام ثم يسيء الى الاسلام إساءة عظيمة بمخادعة المسلمين واستغفالهم، لأن هذه الادعاءات إن كان مصدرها جهل الخطيب بالموضوع -ولا أظن ذلك- فليس له أن يخالف شرطه ويتصدى للكتابة قبل استكمال عدته، وأما إن كان عالماً بالموضوع -وهذا هو ظني- فهذا أكبر عيب عليه، لأن عمله هذا ليس إلاّ خداعاً مفضوحاً للمسلمين، فإن الادعاء بأن خبر قتل مروان لطلحة لم ينقله ثبت، لا أساس له من الصحة! فإن الخبر قد نقله الاثبات، وأخرجه المحدثون في كتبهم بروايات لا مغمز فيها، فقد أخرج الحاكم النيسابوري قال:
1 - أخبرني محمد بن يعقوب الحافظ، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا عباد بن الوليد العنزي، ثنا صبان، ثنا شريك بن الحباب، حدثني عقبة بن صعصعة بن الأحنف، عن عكراش، قال: كنا نقاتل علياً مع طلحة ومعنا مروان، قال: فانهزمنا، قال فقال مروان: لا أدرك بثأري بعد اليوم من طلحة. قال: فرماه بسهم فقتله.
2 - حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا أشهل بن حاتم، عن ابن عون، قال: قال نافع: طلحة بن عبيدالله قتله مروان ابن الحكم.
____________
1- العواصم من القواصم: 160.
4 - حدثني محمد بن ظفر الحافظ، وأنا سألته، حدثني الحسين بن عياش القطان، ثنا الحسين، ثنا يحيى بن عياش القطان، ثنا الحسين بن يحيى المروزي، ثنا غالب بن جليس الكلبي أبو الهيثم، ثنا جويرية بن أسماء عن يحيى بن سعيد، ثنا عمي قال: لما كان يوم الجمل، نادى علي في الناس: لا ترموا أحداً بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف، ولا تطلبوا القوم، فإنّ هذا مقام من أفلح فيه أفلح يوم القيامة. قال: فتوافقنا، ثم إن القوم قالوا بأجمع:يا ثارات عثمان، قال: وابن الحنفية أمامنا بربوة معه اللواء، قال: فناداه علي، قال: فأقبل علينا يعرض وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، يقولون يا ثارات عثمان، فمد علي يديه وقال: اللهم أكب قتلة عثمان اليوم بوجوههم. ثم إن الزبير قال للأساورة، كانوا معه، قال: ارموهم برشق، وكأنه أراد أن ينشب القتال، فلما نظر أصحابه الى الانتشاب لم ينتظروا، فحملوا فهزمهم الله، ورمى مروان بن الحكم طلحة بن عبيدالله بسهم فشك ساقه بجنب فرسه، فقبض به الفرس حتى لحقه فذبحه فالتفت مروان الى أبان بن عثمان وهو معه فقال: لقد كفيتك أحد قتلة أبيك(1).
فهذه أربع روايات مسندة سكت الذهبي عن ثلاث منها واعترف بصحة
____________
1- المستدرك على الصحيحين 3: 370، وسكت الذهبي عن الروايات الاولى والثانية والرابعة، وقال عن الثالثة: صحيح.
فها هو ابن مروان يخبر بأن أباه قد اعترف بقتل طلحة يوم الجمل، والاعتراف سيد الأدلة كما يقال(2).
وقال ابن حجر: روى ابن عساكر من طرق متعددة أن مروان بن الحكم هو الذي رماه فقتله. منها: وأخرجه ابو القاسم البغوي بسند صحيح عن الجارود بن أبي سبرة، قال: لما كان يوم الجمل، نظر مروان الى طلحة فقال: لا أطلب ثاري بعد اليوم، فنزع له بسهم فقتله(3).
وقال محدث الدين الطبري: المشهور أن مروان بن الحكم هو الذي قتله، رماه بسهم وقال: لا أطلب ثأري بعد اليوم، وذلك أن طلحة زعموا أنه كان ممن
____________
1- تاريخ المدينة 2: 1170.
2- وانظر أيضاً، أنساب الاشراف 3: 29، تاريخ الاسلام للذهبي 3: 486، طبقات ابن سعد 3: 223، تاريخ خليفة بن خياط: 135، 139 عن الجارود بن أبي سبرة وابن سيرين ويحيى بن سعيد عن عمه، تهذيب التهذيب 5: 22 العقد الفريد 4: 128، مروج الذهب 2: 382، الكامل في التاريخ 2: 338، دول الاسلام: 23، صفة الصفوة 1: 341 رقم 6، تاريخ ابن شحنة 1: 217، تذكرة الخواص: 77 وكلها تدل على صحة الخبر.
3- الاصابة 2: 30، تاريخ دمشق 25: 112 رقم 8983، مختصر تاريخ دمشق 11: 207.
وقال ابن عبدالبر: لا يختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ، وكان في حزبه(2).
وقال ابن حجر العسقلاني: وعاب الاسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعدّ من موبقاته أنه رمى طلحة، أحد العشرة المبشرة يوم الجمل وهما جميعاً مع عائشة فقُتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف(3).
سعد بن عبد الله بن أبي سرح
كان هذا الوالي لعثمان على مصر بعد عزل عمرو بن العاص، وهو أحد الذين أهدر النبي (صلى الله عليه وآله) دمهم وأمر بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.
وسبب ذلك أن ابن أبي سرح أسلم، وكان يكتب بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيملي عليه (الكافرين) فيجعلها (الظالمين)، ويملي عليه (عزيز حكيم) فيجعلها (عليم حكيم)، وأشباه هذا; فقال: أنا أقول كما يقول محمد وآتي بمثل ما يأتي به محمد، فأنزل الله فيه (وَمَنْ أَظلمُ مِمَّنْ افترى على اللهِ كذِباً أو قالَ اُوحيَ إليَّ وَلَمْ يوحَ إليهِ شيٌ وَمَنْ قالَ سأنزِلُ مثلَ ما أَنزلَ اللهُ)(4).
وهرب الى مكة مرتداً، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتله، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاع.
فطُلب فيه أشد الطلب، حتى كف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال: "أما كان فيكم من
____________
1- الرياض النضرة 4: 230.
2- الاستيعاب رقم 1280.
3- تهذيب التهذيب 10: 82.
4- الأنعام: 93.
فقال عمر -ويقال أبو اليسر- لو أومأت إلينا قتلناه، فقال "إني ما أقبل باشارة، لأن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين".
وكان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) فيسلم عليه.
وولاّه عثمان مصر، فابتنى بها داراً، ثم تحول الى فلسطين فمات بها(1).
وكان ابن أبي سرح مختبئاً عند عثمان بن عفان عندما طلبه المسلمون بعد فتح مكة، وجاء به عثمان الى النبي (صلى الله عليه وآله)، وطلب منه مبايعته، فتريّث النبي (صلى الله عليه وآله) رجاء أن يقوم أحد المسلمين فيقتله، فلما لم يقم أحد، وألح عثمان على مبايعته حتى كرر ذلك ثلاثاً، عند ذلك بايعه النبي (صلى الله عليه وآله) كارهاً، ووبخ المسلمين لعدم مبادرتهم الى قتله، كما مر في الرواية.
ولا شكّ ان هذا الرجل لم يكن محط احترام المسلمين بعد ذلك، فقد ارتد وافترى على الله الكذب، وكان يقول للمشركين - بعد ردته -: دينكم خير من دين محمد.
ولولا تدخل عثمان -تجاوزاً لأمر النبي- للقي حتفه، ولاشك أن تردد النبي (صلى الله عليه وآله) في مبايعته، ومن ثم وصفه بذلك النعت المشين، ليدل على مدى احتقار النبي له، وعدم تصديقه في عرض إسلامه وبيعته التي جاءت خوفاً من القتل.
لهذه الأسباب كانت تولية عثمان لهذا الرجل على مصر، وعدم محاسبته
____________
1- البداية والنهاية 4: 340، أنساب الاشراف 1: 454، الكامل في التاريخ 1: 616، دلائل النبوة للبيهقي 5: 59، ترجمته من كتب تراجم الصحابة تفسير القرطبي 7: 40، تفسير البيضاوي 1: 391، الكشاف 1: 461، تفسير الرازي 4: 96، تفسير الخازن 2: 37، تفسير النسفي هامش الخازن 2: 37، فتح القدير للشوكاني 2: 133، جامع البيان مجلد 5 ج7:274.
هذا، إذا أضفنا الى كل ذلك تصرفات بعض الولاة الآخرين -وأهمهم جميعاً معاوية بن أبي سفيان- في ولاية الشام واحتجازه الأموال واضطهاده الصحابة المنكرين عليه، لوجدناها أهم العوامل في سرعة اشتعال الفتنة.
ولعل المنطق كان يفترض أن نقدم الكلام عن معاوية على غيره من الولاة، ولكنني قررت تأجيل الكلام عن معاوية الى محله، حيث سنقوم بتفصيل أحواله اعتماداً على الروايات الموثوقة التي جاءت عن الأئمة الأعلام.
يتبين مما سبق أن موقف عثمان من تولية الولاة، كان من الأسباب الرئيسية التي أدت الى توتر الوضع بشكل خطير جداً، وبالتالي تهيئة الأجواء المناسبة لنشوء الفتنة التي أطاحت رياحها العاتية بالخليفة فيما بعد، خصوصاً موقف أحد الولاة، وهو سعيد بن العاص من بعض أهل الكوفة، وتسيير الخليفة على أثر ذلك بعض أهل الكوفة والبصرة الى الشام، حتى انتهى الأمر بخروج جحافل المتمردين من الأمصار الثلاثة (الكوفة والبصرة ومصر) وتحركها الى عاصمة المسلمين وما جرى بعد ذلك من أحداث تناولتها أقلام المؤلفين قديماً وحديثاً، مما يدعونا الى تخصيص فصول مهمة لاستعراض تلك الأحداث الخطيرة التي أدت الى النتائج المعروفة، والتي كانت في الحقيقة هي السبب المباشر التي أدت الى الأحداث المأساوية التي تلاحقت فيما بعد.
ومواقف المؤلفين من هذه الأحداث هو الذي يهمنا بالدرجة الاولى، بسبب حملة التزييف التي تعرضت لها تلك الأحداث، وهذا ما سوف نحاول
حوادث اُخرى
الى جانب موقف عثمان من بعض الصحابة وإيذائه لهم بالضرب أو النفي، وإضافة الى توليته لبعض أقاربه من غير ذوي الفضل والسابقة، وما أثار ذلك من موجات من السخط عليه، فإنّ هناك اُموراً اُخرى فعلها عثمان، أثارت حفيظة المسلمين، رغم أن هذه الاُمور تعد من أضعف الأسباب التي أدت الى التمرد عليه في اعتقادي، إلاّ أنها كانت وقوداً اضافياً زاد من حدة اشتعال الغضب الذي بدأت علاماته تتضح أكثر فأكثر حتى انتهى الأمربالثورة على عثمان. فمن تلك الاُمور:
ردّ الحَكم
الحكم بن أبي العاص بن اُمية، عثمان بن عفان بن أبي العاص بن اُمية.
كان جاراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجاهلية، وكان أشد جيرانه أذىً له في الإسلام، وكان قدومه الى المدينة بعد فتح مكة، وكان مغموصاً عليه في دينه، فكان يمر خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه فأشار بأصابعه; فبقي على تخليجه، وأصابته ضلة(1)، واطلع على
____________
1- قيل: لدعاء النبي(ص) عليه. المؤلف.
ثم قال: "لا يساكنني ولا ولده" فغرّ بهم جميعاً الى الطائف.
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كلّم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردّهم، فأبى ذلك وقال: ما كنت لآوي طرداء رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم لما استخلف عمر، كلّمه فيهم، فقال مثل قول أبي بكر.
فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال: قد كنت كلمت رسول الله فيهم وسألته ردهم فوعدني أن يأذن لهم، فقُبض قبل ذلك.
فأنكر المسلمون عليه إدخالهم إياهم المدينة..
ومات الحكم بن أبي العاص بالمدينة في خلافة عثمان، فصلى عليه وضرب على قبره فسطاطاً"(1).
وقد أثار ردّ الحكم الى المدينة حفيظة بعض الصحابة الذين استنكروا ذلك، حتى روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: خطب عثمان فأمر بذبح الحمام وقال: إن الحمام قد كثر في بيوتكم حتى كثر الرمي ونالنا بعضه. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام وقد آوى طرداء رسول الله (صلى الله عليه وآله)!(2).
ولم يكتف عثمان برد الحكم، بل أغدق عليه أموالا طائلة من بيت مال المسلمين، فقد روي عن ابن عباس أنه قال:
____________
1- أنساب الاشراف 6: 137، أسد الغابة 1: 514 وانظر المعارف لابن قتيبة: 194، العقد الفريد 4: 103، تاريخ الاسلام حوادث سنة 31 ص 365، مرآة الجنان لليافعي 1: 85، محاضرات الراغب ج 2 ج 4 / 476، السيرة الحلبية 2: 76، وفي رواية أن كلا من أبي بكر وعمر قالا له لا أحل عقدة عقدها رسول الله(ص)، الرياض النضرة 2: 143، أسد الغابة 2: 53 رقم 1217، السيرة الحلبية 1: 337، الاصابة 1: 342 رقم 1781.
2- أنساب الأشراف 6: 137، والمصادر السابقة.
لكن بعض المؤلفين يحاولون أن يجدوا لعثمان مخرجاً، إما بنفي قصة رد الحكم من أساسها، أو بالبحث عن تأويلات للحادثة، فقد قال ابن العربي:
وأما ردّ الحكم، فلم يصح! وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذن له فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقال (أي عثمان) لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه. فلما ولي، قضى بعلمه في رده.
وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولو كان أبوه، ولا لينقض حكمه(2).
إن عدم اقتناع الخليفتين أبي بكر وعمر بحجة عثمان ورفضهما ردّ الحكم بدون شاهد أو شهود يقرّون بصحة دعواه، يعني أن عثمان بعد توليه الحكم لم يكن يحق له أن يقضي في هذا الأمر، لذا فقد عرض نفسه للنقد من قبل المسلمين، لأن أحداً لم يشهد له بصحة دعواه، فكان عمله هذا مجازفة في غير محلها.
وسيرة عثمان في مخالفة أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) تلقي ظلالا من الشكوك حول صحة مدّعاه، فهو قد آوى ابن أبي سرح، في حين كان الواجب يحتم عليه -تبعاً لأمر النبي- أن يبادر الى قتله حين لجأ إليه، لا أن يؤويه ويطلب له الأمان. ولو كانت هذه هي السابقة الوحيدة لعثمان في هذا الشأن، فلربما كان يمكن التماس بعض العذر له، ولكنها كانت تكراراً لحادثة مشابهة وقعت قبل
____________
1- المصدر السابق.
2- العواصم من القواصم: 89.
فأرسلت إليه وهو عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما جاء قال لمعاوية:
أهلكتني وأهلكت نفسك، ما جاء بك؟!
قال: يابن عم، لم يكن لي أحد أقرب إليّ ولا أمسّ رحماً بي منك، فجئتك لتجيرني، فأدخله عثمان داره وصيّره في ناحية منها، ثم خرج الى النبي (صلى الله عليه وآله) ليأخذ له منه أماناً، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
"إن معاوية في المدينة، وقد أصبح بها، فاطلبوه".
فقال بعضهم: ما كان ليعدو منزل عثمان، فاطلبوه به.
فدخلوا منزل عثمان، فأشارت اُم كلثوم الى الموضع الذي صيّره فيه، فاستخرجوه من تحت حمارة لهم.
فانطلقوا به الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال عثمان حين رآه: والذي بعثك بالحق، ما جئت إلاّ لأطلب له الأمان، فهبه لي.
فوهبه له، وأجّله ثلاثاً، وأقسم لئن وجده بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه.
وخرج عثمان، فجهزه واشترى له بعيراً، ثم قال: ارتحل.
وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى حمراء الأسد، وأقام معاوية الى اليوم الثالث
فلما كان في اليوم الرابع، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن معاوية أصبح قريباً لم ينفذ فاطلبوه".
فأصابوه وقد أخطأ الطريق، فأدركوه.
وكان اللذان أسرعا في طلبه: زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فوجداه بالجماء، فضربه زيد بالسيف، وقال عمار: إن لي فيه حقاً، فرمياه بسهم فقتلاه. ثم انصرفا الى المدينة بخبره...(1).
ونعود الى أقوال المؤلفين في قضية ردّ الحكم، فابن العربي -كعادته- يقول الشيء ثم ينقضه بنفسه، فنجده أولا يدعي أن قضية رد الحكم لم تصح، ثم يعود فيقول بأن العلماء قد أجابوا عن هذه المسألة، أي ايجاد المبررات التي تصحح موقف عثمان.
أما ابن تيمية فيقول: لم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله الى مكة.
وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره!
وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح!
وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد عزّر رجلا بالنفي، لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفياً دائماً...(2).
أما أن الطلقاء لم تكن تسكن المدينة، فنحن نعلم أن أبا سفيان وابنه
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 46، مغازي الواقدي 1: 333، سيرة ابن هشام 3: 111، السيرة الحلبية 2: 261، الكامل في التاريخ 2: 165، البداية والنهاية 4: 59 وغيرها.
2- منهاج السنّة النبوية 3: 196.
أما أن الحكم قد نفى نفسه باختياره، فهذا مثل خبر نفي أبي ذر نفسه باختياره ولا أفهم، ولا أظن أحداً يفهم كيف يختار الانسان النفي بارادته!
وأما أن قصة رد الحكم ليست في الصحاح، فقد قلنا إن الصحاح لم تشتمل على كثير من الاُمور والحوادث، لكن العجب من ابن تيمية انه ينفي قصة الحكم لعدم اشتمال الصحاح عليها، ولكنه يثبت قصة عبدالله بن سبأ التي لم تشتمل عليها الصحاح ولا المسانيد ولا السنن ولا كتب التاريخ ولا غيرها، عدا تاريخ الطبري برواية سيف بن عمر الوضّاع المتهم بالزندقة، فأي تناقض هذا!
أما أن نفي النبي (صلى الله عليه وآله) للحكم لا يستلزم بقاءه منفياً أبد الدهر، فالعجب من الشيخين أبي بكر وعمر كيف لم يفطنا الى ما فطن اليه ابن تيمية حين رفضا ردّ الحكم الى المدينة!
الحمــى
ومن الاُمور الاُخرى التي أثارت الرأي العام على عثمان هو أمر الحمى.
وهذا الأمر أيضاً قد اختلفت فيه وجهات النظر، فأما ابن العربي فقال: أما أمر الحمى، فكان قديماً، فيقال: إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية.
وإذا جاز أصله للحاجة إليه، جاءت الزيادة لزيادة الحاجة(1).
____________
1- العواصم من القواصم: 84.
أن النبي (صلى الله عليه وآله) ضمن النقيع للخيل..
قال حماد بن خالد راوي هذا الحديث عن عبدالله بن عمر العمري: يا أبا عبدالرحمان، خيله؟
قال: خيل المسلمين (أي المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت المال).
والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخاً منها، ومساحته ميل في ثمانية أميال، كما في موطأ مالك برواية ابن وهب.
ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن أبا بكر لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، لا سيّما وأن حاجة الجهاد الى الخيل والابل زادت عن قبل.
وفي زمن عمر اتسع الحمى فشمل (سرف) و (الربذة)، وكان لعمر عامل على الحمى، هو مولىً له يدعى هنياً.
وفي كتاب الجهاد من صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصيته أمير المؤمنين عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع الأثرياء كعبدالرحمان بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما.
وكما اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه، اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع الدولة وازدياد الفتوح، فالذي أجازه النبي (صلى الله عليه وآله) لسوائم بيت المال، ومضى على مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت المال في زمن عثمان، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الاسلامي.
إن المتبادر الى الذهن من أقوال ابن العربي والخطيب ومن تابعهما، أن عثمان بن عفان قد سار بنفس سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والشيخين أبي بكر وعمر في مسألة الحمى، فإذا كان الأمر كذلك، فما سبب اعتراض الناس إذاً، أيعقل أن يعترضوا على تخصيص الحمى لرعي خيل الجهاد؟ ولماذا لم يعترضوا على عمر بن الخطاب عندما توسع في الحمى!
إن الرواية التي استشهد بها الخطيب، والتي تتضمن وصية عمر بن الخطاب بمنع سوائم كل من عبدالرحمان بن عوف وعثمان بن عفان من الحمى، تؤكد صدق حدس عمر بن الخطاب في عثمان وقلقه من أن يستغل عثمان هذا الحمى لماشيته وماشية أقربائه.
وأورد ابن أبي الحديد المعتزلي جملة من الاُمور التي نقمها الناس على عثمان وكان منها: أنه "حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم الاّ عن بني اُمية"(2).
والحقيقة، فإن المعروف من سيرة عثمان تؤكد صحة هذه المقولة.
أما الرواية التي يستشهد بها الخطيب في احتجاج عثمان على ملأ من
____________
1- العواصم من القواصم: 85 هامش.
2- شرح نهج البلاغة 1: 199، 3: 39، السيرة الحلبية 2: 78.
كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة الف دينار انتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار(1).
ومعلوم أن الربذة كانت من مواطن الحمى، وترك عثمان ألف بعير بها يدل على أنه كان يرعى ماشيته في حمى المسلمين.
حادثة الهرمزان
كانت حادثة مقتل الهرمزان اُولى المشاكل التي اعترضت عهد عثمان وفي أول يوم من خلافته، ولعل هذه الحادثة لم تكن من الاُمور المهمة جداً، أو من الأسباب الرئيسية التي أدت الى وقوع الفتنة، لأن الحادثة -كما قلنا- وقعت في بداية عهد عثمان، قبل أن تحدث التغيرات السياسية التي وقعت فيما بعد، الاّ أن هذه الحادثة قد كشفت عن جوانب الخلل الكبير في سياسة عثمان وإدارته للاُمور.
وهذه الحادثة قد تعرضت هي الاُخرى الى عملية تزييف وتشويه للحقائق لأغراض خاصة، لذا ارتأيت ايرادها ومناقشتها وبيان وجه الخلل في الأعذار التي افتعلت لعثمان في كيفية معالجته هذه القضية، فالحادثة وإن كانت
____________
1- الطبقات الكبرى: ترجمة عثمان بن عفان.
وخلاصة القصة -كما ذكرها المؤرخون -: أن عبيد الله بن عمر قتل جُفينة والهرمزان وبنت أبي لؤلؤة، وجعل عبيدالله يقول: والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي -يعرّض بالمهاجرين والأنصار- فقام إليه سعد فنزع السيف من يده وجبذه بشعره حتى أضجعه وحبسه، فقال عثمان لجماعة من المهاجرين:
أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق.
فقال علي: أرى أن تقتله.
فقال بعضهم: قُتل أبوه بالأمس ويُقتل هو اليوم؟
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان، وإنما تم هذا ولا سلطان لك.
قال عثمان: أنا وليُّهم وقد جعلتها دية احتملتها من مالي(1).
وقد تباينت وجهات النظر حول الحادثة ونتائجها من تصرف عثمان في الأمر.
فأما القاضي ابن العربي، فقد حاول -كعادته- نسف القضية في البداية، ثم عاد فحاول أن يجد الأعذار لعثمان، اعتماداً على رواية في تاريخ الطبري، وقد تناقلها المؤرخون من بعده، فقال:
وأما امتناعه (عثمان) عن قتل عبيدالله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل.
____________
1- تاريخ الاسلام للذهبي 3: 306، تاريخ الطبري 4: 204، الكامل لابن الأثير 3: 75.