الصفحة 206
منك وهو لا يعصى. فأرسل عثمان الى علي فأبى أن يأتيه وقال: قد أعلمته أني لست بعائد(1).

وبذلك بدأ مروان يلعب الدور الخطير في زيادة حدة الأزمة مستغلا ضعف عثمان وانقياده حتى أزاله عن رأيه وجعله يتراجع عن توبته على رؤوس الأشهاد وبكائه من ندمه، الأمر الذي جعل الناس يرقّون له ويتعاطفون معه، وكادت الأزمة أن تنجلي تماماً لولا تدخل مروان، حتى قال عبدالرحمان ابن الاسود بن عبديغوث - فيما أخرج الطبري عن الواقدي-: قبّح الله مروان، خرج عثمان الى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس، حتى نظرت الى لحية عثمان مخضلّة بالدموع وهو يقول: اللهم إني أتوب اليك، اللهم إني أتوب اليك، اللهم إني أتوب اليك، والله لئن ردني الحق الى أن أكون عبداً قِنّاً لأرضين به، إذا دخلت منزلي فادخلوا علي، فوالله لا احتجب منكم، ولأعطينكم الرضا، ولازيدنكم على الرضا، ولانحيّن مروان وذويه.

فلما دخل أمر بالباب ففتح، ودخل بيته ودخل عليه مروان، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياء من الناس، وخرج مروان الى الناس فقال: شاهت الوجوه... الخ(2).

ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لهان الأمر، فلربما كان ثمة فرصة للعلاج أيضاً، ولكن دور مروان لم يقتصر على ذلك، بل تعداه الى ماهو أخطر من ذلك بكثير...

____________

1- الطبري 4: 360.

2- الطبري 4: 363.


الصفحة 207

الكتاب المشؤوم

علمنا ممّا سبق أن الثوار قد غادروا المدينة بعدما أخذوا العهود والمواثيق من الخليفة عثمان بن عفان بأن ينزع عن أعماله التي أقرّ لهم بها، وكان يمكن لهؤلاء أن يستمروا في مسيرهم الى بلادهم بعد ذلك، وكان من الممكن أيضاً تدارك ما حدث في المدينة، حيث كان باستطاعة عثمان أن يبعد مروان بن الحكم أو أن يمتنع من مجالسته واستشارته، ومن ثم يعتذر لأهل المدينة عما قاله مروان لهم، ويتعهد بعدم تكرار ما حدث، وبالالتزام بعهوده ومواثيقه.

كل هذا كان ممكناً وفي متناول يد عثمان، لولا أن مروان بن الحكم لم يكتف بما فعل، بل قام بعمل سرّي دون أن يُعلم الخليفة به، فكانت تلك بداية العاصفة التي اقتلعت كل شي فيما بعد.

وخلاصة ذلك، كما أخرج الطبري عن جعفر بسنده، قال:

إنما ردّ أهل مصر الى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة الى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلب بعضهم.

فلما أتوا عثمان قالوا: هذا غلامك! قال: غلامي انطلق بغير علمي.

قالوا: جملك! قال: أخذه من الدار بغير أمري. قالوا: خاتمك! قال: نقش عليه...(1).

وقد مرّ بنا في الفصل الأول الإشارة الى قصة الكتاب هذه كما أوردها البلاذري عن سعيد بن المسيب.

والمصادر التي ذكرت قصة الكتاب كثيرة، إلاّ أن ما يهمنا من الأمر هو ابراز دور مروان بن الحكم في هذه القضية من ناحية، وابراز آراء المؤلفين

____________

1- الطبري 4: 368.


الصفحة 208
ومواقفهم من هذه القضية، وانعكاس ذلك على آرائهم في الثوار من ناحية اُخرى.

يتطرق ابن كثير الى موضوع الكتاب هذا مبدياً رأيه في الموضوع بقوله:

وقد ذكر ابن جرير في تاريخه بأسانيده، أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد الى أمير مصر، فيه الأمر بقتل بعضهم وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان متأولا قوله تعالى: (إنّماجزاءُ الذينَ يُحاربونَ اللهَ وَرسولهُ وَيسعونَ في الأرضِ فَساداً أنْ يُقتّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّعَ أيديهمْ وأرجُلهم مِن خِلاف أو يُنفَوا من الأرضِ ذلكَ لهُم خِزيٌ في الدنيا وَلهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ).

وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان(رضي الله عنه) من جملة المفسدين في الأرض، ولا شك أنهم كذلك...

فلما قيل لعثمان(رضي الله عنه) في أمر هذا الكتاب... حلف بالله العظيم -وهو الصادق البار الراشد- أنه لم يكتب هذا الكتاب ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به...

فقالوا له بعد كل مقالة: إن كنت كتبته فقد خنت، وإن لم تكن كتبته، بل كُتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك وإما لعجزك.

وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير، فانه لو فرض أنه كتب الكتاب- وهو لم يكتبه في نفس الأمر- لا يضره ذلك، لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للاُمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام... وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنّتون خونة ظلمة مفترون...(1).

يقول ابن كثير هذا ويصف الخارجين على عثمان بهذه الأوصاف، وكأنه

____________

1- البداية والنهاية 7: 186.


الصفحة 209
يعطي مروان بن الحكم الحق فيما فعل، ولا يصفه بمثل هذه الصفات القبيحة، مع أن عمل مروان اجتراء كبير على منصب الخلافة، فضلا عما في عمله هذا من مفسدة عظيمة كانت هي السبب المباشر فيما حدث فيما بعد.

وليس ابن كثير أول من يصف هؤلاء القوم بهذه الأوصاف، بل سبقه القاضي ابن العربي - كما ذكرنا فيما سبق- ومن قبل ابن العربي قالها ابن حزم الأندلسي، حيث وصفهم بقوله: وعمّار(رضي الله عنه) قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي، شهد بيعة الرضوان، فهو من شهداء الله بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية(رضي الله عنه) متأول مجتهد مخطئ فيه، باغ عليه مأجور أجراً واحداً، وليس هذا كقتلة عثمان(رضي الله عنه)، لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله... بل هم فسّاق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل، على سبيل الظلم والعدوان، فهم فسّاق ملعونون(1).

فقاتل عمار بن ياسر - وهو الصحابي أبو العادية من الذين شهدوا بيعة الرضوان- فهو مغفور له لذلك، ويُحمل عمله على التأول والاجتهاد، أما عبدالرحمان بن عديس البلوي - الذي تقدم في ترجمته أنه ممن شهد بيعة الرضوان- فهو في رأي ابن حزم ليس كذلك، فلا مجال للتأول والاجتهاد في عمله، بل يحكم عليه ابن حزم بأنه واحد من الفسّاق الملعونين لمشاركته في الثورة على عثمان وقتله.

فكيف انقلب هؤلاء الصحابة إلى فسّاق وقتلة ومجرمين، مع الإدعاء بعدالة الصحابة أجمعين؟! ـ حتى الذين تلبّسوا بالفتن كما يقولون ـ ومن الذي أظهرهم بهذا المظهر؟ ولماذا يكون قاتل عمار بن ياسر بريئاً من جريمته، بينما يكون قاتل عثمان مجرماً؟! مع تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله) بأن قاتل عمار وسالبه

____________

1- الفصل في الملل والاهواء والنحل 4: 161.


الصفحة 210
في النار، إذ نقل ابن كثير عن ابن ديزيل باسناده الى يعقوب بن راقط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبدالله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه فقال لهما: ويحكما، اخرجا عني فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال - ولعبت قريش بعمار- "مالهم ولعمار؟ عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار، قاتله وسالبه في النار"(1).

فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بأن قاتل عمار في النار، فكيف صار في نظر ابن حزم متأولا، بل مجتهداً، بل مأجوراً على عمله ذاك!!

إن هذا التناقض في المواقف من الصحابة ليبعث على الدهشة حقاً، ولكن هذه الدهشة سرعان ما تتبدد عندما نعود الى الوراء قليلا ونذكر ما قلناه فيما سبق، من أن هذا الموقف العدائي يشمل فقط الصحابة الذين كانوا من أتباع علي بن أبي طالب، بينما يصبح أتباع معاوية وبني اُمية متأولين مجتهدين مأجورين - مثل معاوية- وهذا هو بالضبط ما كان يهدف اليه سيف ابن عمر في رواياته، ومن ثم انساق جمهور المؤلفين وراء هذاالهدف ذاته، وهذا ما سوف ينجلي بشكل أكثر وضوحاً فيما بعد.

ولم ينج الكثيرون من الوقوع في التناقض بتباين مواقفهم من الصحابة، فقد روى عمر بن شبة عن ابراهيم بن المنذر بسنده، قال: قدمت على عثمان ابن عفان(رضي الله عنه) فقلت: أرى وفد مصر قد رجعوا خمسين عليهم ابن عديس. قال: وكيف رأيتهم؟ قلت: رأيت قوماً في وجوههم الشر.

قال: فطلع ابن عديس منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطب الناس وصلى لأهل المدينة الجمعة، وقال في خطبته: ألا إن ابن مسعود حدثني أنه سمع

____________

1- البداية والنهاية 7: 267، الطبقات الكبرى 3: 260، مسند أحمد 4: 198، المستدرك 3: 387، سلسلة الاحاديث الصحيحة للالباني 5: 18 وقال: وهذا الاسناد صحيح رجاله ثقات من رجال مسلم.


الصفحة 211
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن عثمان بن عفان كذا وكذا"! وتكلم بكلمة أكره ذكرها(1).

لقد خضع عمر بن شبة لسلطان الرأي العام -كما فعل غيره- فلم يذكر نص قول النبي (صلى الله عليه وآله) في عثمان. إلاّ أن تتمة الرواية -كما ذكرها غيره- أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "ألا إن عثمان أضل من عبيدة على بعلها!!" فأخبرت عثمان فقال: كذب والله ابن عديس، ما سمعها من ابن مسعود، ولا سمعها ابن مسعود من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قط.

قال ابن الجوزي: هذا حديث لا نشك في أنه كذب، ولسنا نحتاح الى الطعن في الرواة، وإنما هو من تخرص ابن عديس!(2).

وقال ابن عراق الكناني: قال الذهبي في تلخيص الموضوعات: لا يدرى ممن أخذه ابن أبي الدنيا، وابن لهيعة على ضعفه قوي التشيع، أو قد افتراه ابن عديس(3).

فابن الجوزي والذهبي وغيرهما يحكمان على ابن عديس بالكذب حتى أنه لا حاجة للنظر في إسناد الرواية لتيقن كذب ابن عديس، وقد تناسى هذان وغيرهما أيضاً أن ابن عديس صحابي رضواني، والمفترض في الصحابة العدالة والتنزه عن الكذب!

موقف عثمان من الخلافة

لقد كانت الأحداث تتسارع الى نهايتها المحتومة بقتل الخليفة في عقر داره وعلى مرآى ومسمع من اُلوف الصحابة الذين تخلوا عنه، بل أن أكثرهم صار يمالئ عليه ويحرّض على قتله، كما سوف نثبت فيما بعد.

____________

1- تاريخ المدينة: 1156.

2- كتاب الموضوعات 1: 250.

3- تنزيه السنّة والشريعة 1: 350.


الصفحة 212
لقد كانت الفرصة بيد عثمان لاصلاح الأوضاع، ولكنه لم يلتفت إليها، وانساق وراء مروان وبني اُمية الذين لم يخلصوا له النصيحة، وكانوا ينظرون الى مصالحهم الذاتية ويقدّمونها على مصلحة الاُمة، فأوردوه موارد الهلكة، بعد أن صمّ عثمان سمعه عن نصح الصحابة الذين حاولوا انقاذ الموقف قبل فوات الأوان.

لقد كان موضوع الكتاب - الذي من المؤكد أن مروان بن الحكم قد افتعله في غفلة من الخليفة- هو السبب الأخير الذي اشعل فتيل الأزمة وفجّر الوضع.

وقد دأب المؤلفون على تحميل الثوار مسؤولية ما حدث، والادعاء بأن كانت هناك أيد تعمل في الخفاء للإطاحة بعثمان، وانساق أكثرهم وراء أكاذيب سيف بن عمر الذي حاول أن يجسّد الفتنة كلها في شخص عبدالله ابن سبأ المزعوم.

لكننا عندما نبحث مواقف الثوار، نجدها إيجابية الى أبعد الحدود، فقد كانت مطالبهم عادلة، وهم لم يتعجلوا الإغارة على عثمان، بل إنهم تراجعوا الى بلدانهم بعد أن أخذوا من عثمان الوعود بتغيير سياساته الخاطئة، ولكنهم عادوا الى المدينة ثانية بعد اكتشافهم كتاب مروان المزوّر على لسان عثمان، وهنا لابد من الاشارة الى مسألة طالما تشبث بها بعض المؤلفين الذين انساقوا وراء رواية سيف الذي يروي محاججة علي بن أبي طالب للثوار من أهل الكوفة بكيفية وصول خبر الكتاب الذي وجده المصريون مع رسول عثمان اليهم، متهماً إياهم بأن في الأمر اتفاقاً سرياً بينهم دُبّر بالمدينة، لكننا عندما نتصفح الروايات نجد معظمها يؤكد على عودة المصريين أولا ومحاججتهم عثمان، مما يدل على أن الوفد المصري الذي وجد الكتاب قد عاد أولا الى المدينة، ثم أرسلوا الى اخوانهم من أهل الكوفة والبصرة الذين جاءوا على إثرهم واتحدوا معاً في محاصرة عثمان.


الصفحة 213
وعلى أية حال، فإن الثوار ورغم كل ذلك لم يتعجلوا أمرهم، وأعطوا عثمان فرصة جديدة بتخييره بين عدة اُمور، لكنه رفضها جميعاً وفوّت الفرصة، وكانت البداية أنهم بعثوا بكتاب الى عثمان، فيما أخرج الطبري عن جعفر باسناده قال:

كتب أهل مصر بالسقيا - أو بذي خشب- الى عثمان بكتاب، فجاء به رجل منهم حتى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئاً; فأمر فاُخرج من الدار.

وكان أهل مصر الذين ساروا الى عثمان ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رؤوس أربعة، مع كل رجل منهم لواء، وكان جماع أمرهم جميعاً الى عمرو بن بُديل بن ورقاء الخزاعي -وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) - والى عبدالرحمان بن عديس التجيبي، فكان فيما كتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فاعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله الله، ثم الله الله، فإنك على دنيا، فاستقم إليها مع آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم أنا والله لله نغضب، وفي الله نرضى، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة، فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك، والله عذيرنا منك، والسلام.

وكتب أهل المدينة الى عثمان يدعونه الى التوبة، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله(1).

وقد مرّ فيما سبق أن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وغيرهما قد تدخلوا حتى أرجعوا القوم وأقنعوهم بأن عثمان راجع عما يكرهون، وضمنوا لهم ذلك، ولكن كتاب مروان بن الحكم قلب الأوضاع من

____________

1- الطبري 4: 369.


الصفحة 214
جديد، وجعلهم يرجعون الى المدينة ليفرضوا على عثمان شروطاً جديدة، فيما أخرج الطبري عن جعفر باسناده، من أن الثوار واجهوه بقولهم:

ألم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من إحداثك وراجع عما كرهنا منك واعطينا عهد الله وميثاقه؟! قال: بلى، أنا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك، وكتبت به الى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا علم لي بما تقولون. قالوا: بريدك على جملك، وكتاب كاتبك عليه خاتمك. قال: أما الجمل فمسروق، وقد يشبه الخط الخط، وأما الخاتم فانتُقش عليه، قالوا: فإنا لا نعجل عليك، وإن كنّا قد اتهمناك; اعزل عنا عمالك الفساق، واستعمل علينا من لا يُتهم على دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا.

قال عثمان: ما أراني إذاً في شي إن كنت استعمل من هويتم واعزل من كرهتم، الأمر إذاً أمركم!

قالوا: والله لتفعلن أو لتُقتلن، فانظر لنفسك أو دَع.

فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله.

فحصروه أربعين ليلة وطلحة يصلي بالناس(1).

من الانصاف القول بأن الثوار لم يكونوا يقصدون قتل عثمان بدءاً، بدليل أنهم حصروه مدة تقرب من أربعين يوماً، وكان في مقدورهم اقتحام بيته وقتله بسهولة، ولكنهم مع ذلك أعطوه فرصة كافية للتراجع عن موقفه، ولكنه أبى.

وقد جرت بين الطرفين في هذه الفترة مناظرات عديدة، وكل طرف يدلي بحجته، فقد أخرج الطبري عن الواقدي بسنده، قال:

أشرف عثمان عليهم وهو محصور وقد أحاطوا بالدار من كل ناحية فقال:

____________

1- الطبري 4: 371.


الصفحة 215
أنشدكم بالله عزّوجل، هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) أن يخير لكم، وأن يجمعكم على خيركم، فما ظنكم بالله! أتقولونه: لم يستجب لكم، وهُنتم على الله سبحانه، وأنتم يومئذ أهل حقّه من خلقه، وجميع اُموركم لم تتفرق! أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولاّه، والدين يومئذ يُعبد به الله ولم يتفرق أهله، فتوكلوا أو تخذلوا أو تُعاقبوا! أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، وإنما كابرتم مكابرة، فوكل الله الاُمة إذا عصته لم تشاوروا في الإمام، ولم تجتهدوا في موضع كراهته! أم تقولون: لم يدرِ الله عاقبة أمري، فكنتُ في بعض أمري محسناً ولأهل الدين رضاً، فما اُحدثت بعد في أمري ما يسخط الله، وتسخطون مما لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته!

واُنشدكم بالله، هل تعلمون لي من سابقة خير وسلف خير قدّمه الله لي، واشهدنيه من حقه وجهاد عدوه حق على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلا لا تقتلوني، فإنه لا يحل إلاّ قتل ثلاثة: رجل زنا بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفساً بغير نفس فيُقتل بها، فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفعه الله عزّوجل عنكم الى يوم القيامة، ولا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني لم تصلوا من بعدي جميعاً أبداً، ولم تقتسموا بعدي فيئاً جميعاً أبداً، ولن يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً.

قالوا له: أما ما ذكرت من استخارة الله عزّوجل الناس بعد عمر(رضي الله عنه) فيمن يولّون عليهم، ثم ولّوك بعد استخارة الله، فان كل ما صنع الله الخيرة، ولكن الله سبحانه جعل أمرك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسبقك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانك كنت ذا قدم وسلف، وكنت أهلا للولاية، ولكنك بدّلت بعد ذلك وأحدثت ما قد علمت، وأما ما ذكرت مما يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء، فانه لا ينبغي ترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلا.


الصفحة 216
وأما قولك إنه لا يحل الاّ قتل ثلاثة، فانا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت: قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شي من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه. وقد بغيت ومنعت الحق وحُلت دونه وكابرت عليه، تأبى ان تقيد من نفسك من ظلمت عمداً، وتمسكت بالامارة علينا وقد جُرت في حكمك وقسمك، فان زعمت أنك لم تكابرنا عليه، وأن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون بغير أمرك، فانما يقاتلون لتمسكك بالامارة، فلو أنك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك(1).

يتبين من هذه المناظرة بين عثمان والثوار، أن حجج عثمان لا تنهض أمام حجج الثوار الذين نقضوا كل ما استدل به على صحة موقفه، ومشكلة عثمان الكبرى كانت تتلخص في تمسكه بمنصبه رغم السخط الشعبي الذي يواجههه، والحقيقة فان قراءة التاريخ تثبت أن عثمان ومن ورائه بنو اُمية جميعاً كانوا ينظرون الى الخلافة نظرة المُلك، ويعتبرونها هبة من الله لا ينبغي التخلي عنها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك. وقد تبين مما سبق هذا المعنى في كلام مروان بن الحكم حينما خرج الى الناس من دار عثمان واتهمهم بأنهم يريدون نزع ملكهم من أيديهم، وأنهم وبنو اُمية مستعدون لأن يقاتلوا دون هذا الملك بالسيف.

وقد سبق لأبي سفيان -عميد البيت الاُموي- أن صرّح بهذا القول دونما تحرج حين قال لعثمان في بداية توليه الخلافة، فيما أخرج ابن عبدالبر عن الحسن:

قد صارت اليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني اُمية،

____________

1- الطبري 4: 395.


الصفحة 217
فانما هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار!(1).

ونظرة أبي سفيان إلى الملك أبعد من ذلك التاريخ، فانه بعد أن أمنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قُبيل فتح مكة، أمر عمه العباس أن يحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، فلما رأى أبو سفيان كتائب المسلمين تترى أمام عينيه وفي آخرها كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلاّ الحدق قال للعباس: "لقد أصبح ملك ابن اخيك عظيماً! فقال له العباس: ويحك، إنها النبوة. فقال: نعم إذاً..."(2).

فأبو سفيان لم يكن يصدّق أن النبوة ليست الاّ ملكاً، فكيف بالخلافة! والوليد بن عقبة حينما ولاه عثمان الكوفة قال لسعد المعزول عنها: إنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال له سعد: أراكم ستجعلونها مُلكاً.

ويبدو أن عثمان بن عفان وبنو اُمية جميعاً قد عملوا بنصيحة أبي سفيان فعلا، فتمسكوا بالخلافة على أنها مُلك شرعي لهم فيما يشبه ما اصطلح عليه الغربيون بنظرية (الحق الإلهي)، حتى دفع عثمان حياته ثمناً لها، ثم جاء معاوية وبنو اُمية فثبتّوا الخلافة على أساس الملك حتى النهاية.

بداية النهاية

فشلت المفاوضات بين عثمان والثوار أيام الحصار، ولم يتمكن الثوار من إقناع عثمان بالتزحزح عن موقفه، ومن ثم حدثت اُمور اُخرى عجّلت في دفع الاُمور الى النهاية، مما دفع الثوار الى تغيير موقفهم من الاكتفاء بمحاصرة عثمان الى إرادة قتله، فقد روى الطبري عن جعفر بن محمد باسناده، قال:

لما مضت أيام التشريق، أطافوا بدار عثمان(رضي الله عنه) وأبى إلاّ الاقامة على أمره،

____________

1- الاستيعاب 4: ترجمة أبي سفيان، وانظر النزاع والتخاصم للمقريزي: 20، تهذيب تاريخ دمشق 6: 409.

2- تاريخ الطبري 3: 54، الكامل لابن الاثير 2: 245.


الصفحة 218
وأرسل الى حشمه وخاصته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يقال له نيار بن عياض - وكان شيخاً كبيراً- فنادى: يا عثمان، فأشرف عليه من أعلى داره، فناشده الله وذكّره لما اعتزلهم. فبينا هو يراجعه الكلام، إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أن الذي رماه كثير بن الصلت الكندي، فقالوا لعثمان عند ذلك: إدفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي.

فلما رأوا ذلك ثاروا الى بابه فأحرقوه، وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة ابن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة في عصابة فاقتتلوا قتالا شديداً.

وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مدداً من أهل البصرة قد نزلوا صراراً -وهي من المدينة على ليلة- وأن أهل الشام قد توجهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالا شديداً على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزاً:


قد علمت جارية عطبوللها وشاح ولها حجولُ

أني بنصل السيف خنشليلُ

فحمل عليه عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو يقول:


إن تكُ بالسيف كما تقولُفاثبت لقرن ماجد يصولُ

بمشرفي حدّه مصقولُ

فضربه عبدالله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان بن الحكم فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى أنه قتله، وجرح عبدالله ابن الزبير جراحات، وانهزم القوم حتى لجأوا الى القصر فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عليه قتالا شديداً، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو بن حزم

الصفحة 219
الأنصاري باب داره وهو الى جنب دار عثمان بن عفان، ثم نادى الناس فأقبلوا عليه من داره، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا، وخُلّي لهم عن باب الدار، فخرجوا هراباً في طرق المدينة، وبقي عثمان في اُناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه، وقتل عثمان(رضي الله عنه)(1).

فالأمر الذي عجل بالنهاية وجعل الثوار يقررون قتل عثمان هو -كما ورد فيما سبق- مجيء قوات عسكرية كان قد استنفرها عثمان من عمّاله على الأمصار للدفاع عنه أيام الحصار، فقد ذكر الطبري عن جعفر بسنده قال:

لما رأى عثمان ما قد نزل به وما انبعث عليه من الناس، كتب الى معاوية ابن أبي سفيان وهو بالشام: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.

فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد علم اجتماعهم; فلما أبطأ أمره على عثمان، كتب الى يزيد بن أسد بن كرز، والى أهل الشام يستنفرهم ويعظّم حقه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عزّوجل به من طاعتهم ومناصحتهم، ووعدهم أن ينجدهم جند أو بطانة دون الناس، وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم معاجلي.

فلما قرئ كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر عثمان فعظّم حقه، وحثّهم على نصره، وأمرهم بالمسير إليه، فتابعه ناس كثير، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى، بلغهم قتل عثمان(رضي الله عنه)، فرجعوا.

____________

1- الطبري 4: 381.


الصفحة 220
وكتب عثمان الى عبدالله بن عامر: أن اندب إلي أهل البصرة، نسخة كتابه الى أهل الشام.

فجمع عبدالله بن عامر الناس; فقرأ كتابه عليهم، فقامت خطباء من أهل البصرة يحضونه على نصر عثمان والمسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود السلمي، وكان أول من تكلم وهو يومئذ سيد قيس بالبصرة، وقام أيضاً قيس ابن الهيثم السلمي فخطب وحض الناس على نصر عثمان، فسارع الناس الى ذلك; فاستعمل عليهم عبدالله بن عامر بن مجاشع بن مسعود فسار بهم، حتى إذا نزل الناس بالربذة ونزلت مقدمته عند صرار - ناحية من المدينة- أتاهم قتل عثمان(1).

كما روى البلاذري عن المدائني بسنده الى الشعبي قال: كتب عثمان الى معاوية أن أمدني، فأمده بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كرز البجلي، فتلقاه الناس بمقتل عثمان، فرجع من الطريق وقال: لو دخلت المدينة وعثمان حي، ما تركت بها محتلماً الاّ قتلته، لأن الخاذل والقاتل سواء(2).

فوصول الامدادات العسكرية من قبل ولاة عثمان كانت السبب المباشر في التعجيل بقتله، وكما روى الطبري عن الواقدي بسنده قال: ما زال المصريون كافّين عن دمه وعن القتال، حتى قدمت امداد العراق من البصرة ومن الكوفة ومن الشام، فلما جاءوا شجعوا القوم، وبلغهم أن البعوث قد فصلت من العراق ومن مصر من عند ابن سعد، ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذلك، كان هارباً قد خرج الى الشام، فقالوا: نعاجله قبل أن تقدم الامداد(3).

ولا شك أن تصرف عثمان بطلب الامداد من عماله كان خاطئاً، ولم ينقذه

____________

1- الطبري 4: 368.

2- أنساب الأشراف 6: 189.

3- الطبري 4: 394 - 395.


الصفحة 221
ولا أنقذ الموقف المتأزم، بل على العكس من ذلك، فإنه كان الضربة القاضية لكل الجهود التي بذلت لحل الأزمة، وكان على عثمان بدلا من المراهنة على عماله حتى آخر لحظة، أن يراهن على مساعي الصحابة الأخيار الذين لم يألوا جهداً لحل الأزمة، لولا أن عثمان أعرض عن كل ذلك، وظل متمسكاً بمواقفه التي كانت هي السبب في اشتعال الأزمة منذ البداية.

وعلى الرغم من تظافر الروايات على محاولة عثمان حسم الموقف عسكرياً، فإن بعض المؤلفين يصرون على التعامي عن ذلك، إذ قال ابن العربي عن عثمان: ما نصب حرباً ولا جيّش عسكراً..!(1).

تزييف الوقائع

لا شك أن هذه الفترة العصيبة - الحصار ثم قتل عثمان- قد تعرضت هي الاُخرى الى الكثير من محاولات التشويه والتزييف، وكانت حصة الثوار الذين أطاحوا بعثمان هي الأكبر فيما ناله التشويه، فقد قام بعض المؤلفين- وبخاصة سيف بن عمر- بتشويه صور اولئك الثوار ونال منهم أقبح نيل، لذا نجد الاتجاه العام عند جمهور المسلمين هو توجيه الطعن الى اولئك الثوار، وقد تعودنا منذ الصغر على كراهية اولئك (البغاة الخارجين على الإمام) كما كان يقال لنا دائماً ونقرأ في الكتب التي ألفها البعض حول موضوع الفتنة، ومردّ ذلك كله الى الانطباع السيء الذي تركته روايات سيف بن عمر التي وردت عند الطبري، والتي تظهر هؤلاء الثوار دائماً بمظهر الوحوش الكاسرة المجردة من كل القيم والأخلاق الانسانية، لذا أجد من المناسب أن أستعرض بعض الحوادث في هذه الفترة والكشف عن الزيف الذي تعرضت له تلك

____________

1- العواصم من القواصم: 72.


الصفحة 222
الحوادث وانسحاب كل ذلك على النظرة التي ينظر بها الجمهور الى اولئك الثوار.

روى ابن كثير - في معرض حديثه عن تلك الوقائع التي اعقبت محاصرة عثمان - نقلا عن الطبري برواية سيف، قال:

وجاءت اُم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا: ما جاء بك؟ فقالت: إن عنده وصايا بني اُمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها. فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تُقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جداً، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلاّ ما يوصله اليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. ولما وقع هذا أعظمه الناس جداً ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج، فخرجت اُم المؤمنين عائشة في هذه السنة الى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح لعل هؤلاء القوم يهابونك، فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال اُم حبيبة، فعزمت على الخروج...(1).

لكن البلاذري أورد القصة وليس فيها ذلك التهويل الذي يخلقه ابن كثير عن موقف الثوار من اُم حبيبة واجترائهم عليها بذلك الشكل المشين الذي لا يتناسب مع أبسط قواعد الإسلام، ولا يفعله حتى المنافق مع زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث ينقل عن أبي مخنف والواقدي، أن اُم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أتت عثمان بأداوة وقد اشتد عليه الحصار، فمنعوها من الدخول فقالت: إنه كان المتولي لوصايانا وأمر أيتامنا، وأنا اُريد مناظرته في ذلك، فأذنوا لها، فأعطته الأداوة(2).

____________

1- البداية والنهاية 7: 187.

2- أنساب الأشراف 6: 195.


الصفحة 223
كما أن ادعاء ابن كثير أن عمرو بن حزم كان يأتي عثمان بالماء -وهو ما تدعيه رواية سيف- فلا أساس له من الصحة، فقد مرّ بنا في الرواية التي ينقلها الطبري عن جعفر بن محمد أن عمرو بن حزم الأنصاري هو الذي فتح باب داره الملاصق لبيت عثمان ليدخل الثوار منه على عثمان!!

أما موقف اُم المؤمنين عائشة من عثمان في تلك الأزمة وذهابها الى الحج وعدم محاولتها الذب عن عثمان بحجة الخوف من أن ينالها ما نال اُم حبيبة، فهو غير صحيح أيضاً، ولكني سأؤجل الحديث عن موقف اُم المؤمنين عائشة الى فرصة اُخرى.

الموقف من قتلة عثمان

إن الباحث وهو يتصفح كتب التاريخ من أجل الوصول الى هوية قتلة عثمان الحقيقيين سرعان ما يجد نفسه في حيرة من أمره، فالأخبار فيها متضاربة جداً، وقائمة أسماء المتهمين بقتل عثمان طويلة أيضاً، وسبب ذلك يعود الى أن سيف بن عمر قد تلاعب بتاريخ هذه الفترة من أجل صرف انتباه القارئ عن الحقيقة، فهو يخترع أسماءً وشخصيات ما أنزل الله بها من سلطان، وينسب إليهم تصرفات عجيبة تدل على سقوطهم الخلقي من أجل تنفير الناس عنهم وصرف أذهانهم عن القتلة الحقيقيين لعثمان بن عفان.

أورد الطبري -كعادته- روايات مطولة بطريق سيف عن هذه الحادثة المؤلمة، تبيّن موقف عثمان المسالم الذي يضاده من الجانب الآخر قسوة الذين ثاروا عليه وقتلوه ونواياهم الشريرة، وتصرفاتهم تجاه زوجة عثمان وأهل بيته وخدمه بما يدل على مدى سقوطهم الخلقي والأدبي، قال:


الصفحة 224
وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة، وقد افتتح (طه * ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لِتَشقى)، وكان سريع القراءة، فما كرته ما سمع، وما يخطئ وما يتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه، ثم عاد فجلس الى عند المصحف وقرأ: (الذينَ قالَ لهم الناسُ إنَّ الناسَ قَدْ جَمَعوا لكُمْ فاخشَوهُم فَزادَهُم إيماناً وَقالوا حَسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل).

وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه: قد علمت ذات القرون الميل...

وأقبل أبو هريرة والناس محجمون عن الدار إلاّ اُولئك العصبة، فدسروا فاستقتلوا فقام معهم وقال: أنا إسوتكم، وقال: هذا يوم طاب امضرب -يعني أنه حلّ القتال وطاب، وهذه لغة حِمْيَر- ونادى: يا قوم مالي أدعوكم الى النجاة وتدعونني الى النار!

وبادر مروان يومئذ فنادى: رجل رجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع، فاختلفا، فضربه مروان أسفل رجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكب مروان واستلقى، فاجتّر هذا أصحابه، فقال المصريون: أما والله لولا أن تكونوا حجة علينا في الاُمة لقد قتلناكم بعد تحذير، فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد وهو يقول:


أضربهم باليابسِضرب غلام بائسِ

من الحياة آيسِ

فأجابه صاحبه، وقال الناس: قُتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله! فقال له عبدالرحمان بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم فقيل لي: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار! فابتليت به.