وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا في القول. حتى ارتفعت الأصوات.
ثم أقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلّوا الكلام وأسكتوا. فأسكت الناس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر وبدّل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قُتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة; فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد، ذبحاً كما يذبح الجمل، ألا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً، ولا سلكت به سبيلا قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبّه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم، ويسومونهم سوء العذاب.
أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه، مصتموه كما يماص الثوب الرحيض، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازاً وغصباً; تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ولا أغضب لعثمان من سيوفكم! ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.
فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها!
وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى.
ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق
لقد كان من نتائج هذه الخطب الاستفزازية، انقسام الناس الى معسكرين متعاديين، بينما يرى القاضي ابن العربي أنهم خرجوا لتأليف القلوب، وأن الطلب بدم عثمان لم يكن دعواهم، في الوقت الذي تثبت الوقائع جميعاً، أن دعوى المتحالفين الرئيسة كانت الطلب بدم عثمان، والادعاء بأنه قد قُتل بعد توبته، وقد مرَّ فيما سبق أن موقف عائشة من عثمان وتحريضه عليها قد استمر حتى اللحظة الأخيرة من حياة عثمان، وانها استبشرت بقتله عندما سمعت به، ولكن الأهداف الحقيقية لثورة عائشة وحلفائها على عثمان لم تتحقق عندما تولى علي بن أبي طالب الخلافة، خلافاً لما كانت ترجوه عائشة، فكانت الخطة تتطلب الطعن في خلافة علي ونقض شرعيتها، ومن ثم تأليب الناس على العصيان.
الدوافع الحقيقية للخروج
مرّ بنا فيما سبق موقف اُم المؤمنين عائشة من عثمان ومقالتها فيه من مختلف المصادر وعرفنا هدفها الحقيقي من الخروج، وبقي علينا أن نتبين الأهداف الحقيقية لكل من طلحة والزبير في الخروج، وقد مرّ فيما سبق نتف من الأخبار التي تدل على أن طلحة والزبير وتأليبهما على عثمان كان معلوماً عند معظم الناس، فقد واجههم عثمان بن حنيف ومبعوثاه اليهم بتلك الحقائق التي لم يتمكنا من ردّها، وقد أخرج البلاذري عن أبي مخنف قوله:
خطب طلحة بن عبيدالله الناس بالزابوقة فقال: يا أهل البصرة، توبة
____________
1- شرح نهج البلاغة 6: 314.
فقال ناس لطلحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا من ذمّه والتحريض على قتله!
كما وروى البلاذري بسنده الى الزهري، قال: لما قدم طلحة والزبير البصرة، أتاهما عبدالله بن حكيم التميمي بكتب كتبها طلحة إليهم يؤلبهم فيها على عثمان، فقال له حكيم: أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على التأليب عليه أمس والطلب بدمه اليوم؟! فقال: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلاّ التوبة والطلب بدمه!(1).
أما أنصار عثمان، فقد مرّ فيما سبق رواية الطبري عن الحوار الذي دار بين سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وقوله لمروان: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الابل! مشيراً بذلك الى أن المتهمين بقتل عثمان معهم وبرفقتهم، ولقد نفذ مروان الوصية فقتل طلحة بسهم، ولولا اعتقاده بأن طلحة يعد من قتلة عثمان لما أقدم على ذلك، وكما مرّ بنا في ترجمة مروان بن الحكم، أن ابنه عبدالملك كان يعتقد جازماً بأن طلحة من قتلة عثمان، ولولا أن أباه مروان اعترف له بقتل طلحة، لما أبقى من بني تيم -قبيلة طلحة- أحداً على وجه الأرض.
وقد أثبت معظم المؤرخين بأن طلحة كان من أشد المناوئين لعثمان، والمحرضين على دمه، فقد روى البلاذري بسنده الى ابن سيرين قال:
لم يكن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أشد على عثمان من طلحة!(2).
____________
1- أنساب الأشراف 3: 21.
2- أنساب الاشراف 6: 201.
وكان طلحة من أشد الناس تحريضاً عليه، وكان الزبير دونه في ذلك، روي أن عثمان قال: ويلي على ابن الحضرمية -يعني طلحة- أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي، اللهم لا تمتعه به ولقّهِ عواقب بغيه.
وروى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنّعاً بثوب قد استتر به عن أعين الناس، يرمي الدار بالسهام، ورووا أيضاً أنه لما امتنع على الذين حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة الى دار لبعض الأنصار، فأصعدهم الى سطحها، وتسوّروا منها على عثمان داره فقتلوه(1).
وقال أيضاً:
وروى المدائني في كتاب (مقتل عثمان) أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام، وأن علياً (عليه السلام) لم يبايع الناس إلاّ بعد مقتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم ابن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدوا بعلي (عليه السلام) على دفنه، فأقعد طلحة لهم في الطريق ناساً بالحجارة; فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يعرف بحش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رُجم سريره وهمّوا بطرحه، فأرسل علي (عليه السلام) الى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب، وروى الطبري نحو ذلك، إلاّ أنه لم يذكر طلحة بعينه!
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 35، تاريخ المدينة: 1169.
وروى الواقدي، قال: لما قُتل عثمان، تكلموا في دفنه، فقال طلحة: يُدفن بديرسلع، يعني مقابر اليهود!(1).
فطلحة لم يكتف بالتحريض على قتل عثمان، بل شارك في الهجوم على داره بالسهام، ولم يكفه كل ذلك، فأمر برمي نعشه بالحجارة، ومنع من دفنه في مقابر المسلمين!
أما الزبير، فإنه وان كان أقل نكاية في عثمان من طلحة، إلاّ أنه لم يكن أقل منه تحريضاً وإغراء بدم عثمان، فقد كان يقول: "اقتلوه فقد بدّل دينكم! فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب! فقال: ما أكره أن يُقتل عثمان ولو بدئ بابني! إن عثمان لجيفة على الصراط غداً!(2).
فتبين من كل ذلك أن المطالبين بدم عثمان كانوا هم أنفسهم من أشد المحرّضين عليه، بل ومن المشاركين في قتله، ومن العجب أن نجد اُم المؤمنين عائشة تتهم علياً بقتل عثمان أو بالتواطؤ على قتله وتطالب بخلعه وردّ الأمر شورى بين المسلمين في النفر الذين اختارهم عمر بن الخطاب، مع استبعاد من شرك في دم عثمان، وهي تعني بذلك علي بن أبي طالب!
فالمطالبة بدم عثمان إذاً كان عذراً متهافتاً غير واقعي، ولكن المتحالفين تترّسوا به من أجل تبرير خروجهم على السلطة، ولقد جاءت الأخبار
____________
1- شرح نهج البلاغة 10: 6.
2- شرح نهج البلاغة 9: 36.
خرج أصحاب الجمل في ستمائة... فلما جازوا بئر ميمون، إذا هم بجزور نحرت ونحرها ينشعب، فتطيروا; وأذّن مروان حين فصل من مكة، ثم جاء حتى وقف عليهما فقال: أيّكما اُسلّم بالامارة واُؤذّن بالصلاة؟ فقال عبدالله بن الزبير: على أبي عبدالله، وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد!
فأرسلت عائشة(رض) الى مروان فقالت: أتريد أن تفرّق أمرنا! ليصلِّ ابن اُختي.
فكان يصلي بهم عبدالله بن الزبير، حتى قدم البصرة، فكان معاذ بن عبيدالله يقول: ولله لو ظفرنا لافتتنّا، ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر، ولا خلُّى طلحة بين الزبير والأمر!(1).
وذكر أبو مخنف في (كتاب الجمل) أن علياً (عليه السلام) خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعها عائشة يريدون البصرة، فقال: أيها الناس، إن عائشة سارت الى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها، والله لو ظفرنا بما أرادوا -ولن ينالوا ذلك أبداً- ليضرب أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد(2).
وروى ابن كثير في خبر وقعة الجمل ومحاورة علي لطلحة والزبير، قول
____________
1- تاريخ الطبري 4: 454.
2- شرح نهج البلاغة 1: 233.
كما أخرج أحمد بن حنبل، وابن أبي شيبة، عن ابن عباس قال: أرسلني علي الى طلحة والزبير يوم الجمل، فقلت لهما: إن أخاكما يقرئكما السلام، ويقول لكما: هل وجدتما عليّ في حيف أو استئثار في فيء أو في كذا؟ فقال الزبير: ولا في واحدة منهما، ولكن مع الخوف شدة المطامع(2).
وقال ابن أبي الحديد:
وقد روى المدائني أيضاً نحواً مما روى أبو مخنف، قال: بعث علي (عليه السلام) ابن عباس يوم الجمل الى الزبير قبل الحرب، فقال له: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لكم: ألم تبايعني طائعاً غير مكره! فماالذي رابك مني فاستحللت به قتالي! قال: فلم يكن له جواب إلاّ أنه قال لي: إنا مع الخوف الشديد لنطمع، لم يقل غير ذلك.
قال أبو إسحاق: فسألت محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام): ما تراه يعني بقوله هذا؟
فقال: أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا، فقال: يقول، إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه، نطمع أن نلي مثل الذي وليتم!
وقال محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه، عن ابن عباس، قال: بعثني علي (عليه السلام) يوم الجمل الى طلحة والزبير، وبعث معي بمصحف منشور، وأن الريح لتصفق ورقه، فقال لي: قل لهما، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فما تريدان؟ فلم يكن لهما جواب إلاّ أن قالا: نريد ما أراد،
____________
1- البداية والنهاية 7: 233.
2- الفضائل: 92، المصنف 7: 539.
هذه الأخبار التي تصافق على إخراجها المؤرخون والمحدّثون تؤكد بأن المطامع السياسية والرغبة في الملك كانت الدافع الحقيقي للمتحالفين على الخروج، ويضاف إليها دوافع ثانوية تنبثق من هذا الواقع، وهي الرغبة في الاحتفاظ بالثروات الكبيرة التي تملكها القوم، فإنه بعد أن تبيّن لهم ولغيرهم أن سياسة علي بن أبي طالب المالية الجديدة، تستلزم تجريدهم من كثير من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في عهد الخليفتين السابقين له، بل وتجريدهم من الكثير مما في أيديهم أيضاً، لأن علي بن أبي طالب كان لا يرى في الصحبة امتيازاً خاصاً يخوّل لهم امتلاك الثروات، لذا فقد كان من أوائل كلماته قوله من على المنبر: فأفضل الناس عند الله منزلة، وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره، وأعملهم بطاعته، وأتبعهم لسنّة رسوله، وأحياهم لكتابه، ليس لأحد عندنا فضل إلاّ بطاعة الله وطاعة الرسول..
ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين...
وبعث الى طلحة والزبير، فكان مما قال لهما: نشدتكما الله، هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها، وأنا كاره لها؟ قالا: نعم، فقال: غير مُجبرين ولا مقسورين، فاسلمتماني بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟ قالا: نعم. قال: فما دعاكما بعد الى ما أرى؟ قالا: أعطيناك بيعتنا على ألاّ تقضي الاُمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبدّ بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 317.
فقال: لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً فاستغفر الله لكما، ألا تخبرانني: أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه؟ قالا: معاذ الله، قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، أنك جعلت حقّنا في القسم كحق غيرنا، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجالنا وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً قهراً ممن لا يرى الإسلام الاّ كرهاً.
فقال:... وأما القسم والاُسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ ذي بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد، وأما قولكما: جعلت فيأنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق الى الاسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضّلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلاّ هذا(1).
لقد فهم اولئك الصحابة أن بقاء الحكم في يد علي بن أبي طالب سيحرمهم من كثير من الامتيازات التي تعودوا على التمتع بها، وبالتالي فما الذي يجبرهم على الانقياد له؟ أليسوا مثله في الصحبة والسابقة والجهاد، ألم يرشحهم عمر بن الخطاب للخلافة في المجلس السداسي الذي كان مطلوباً منه اختيار أحدهم للخلافة؟
____________
1- شرح نهج البلاغة 7: 39.
وقد جاءت الأخبار مؤكدة هذا النهج في التفكير عند اولئك الصحابة، وتضمنت اعترافاتهم بذلك، وقد سبق بعضها فيما يتعلق بالرغبة في الامارة.
إن الأخبار التي رواها أبو مخنف والتي تضمن بعضها ما أخرج المدائني أيضاً - فيما نقل عنهما ابن أبي الحديد- تضمنت قول أبي مخنف: وحدثنا الأشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن أبي الخليل، قال: لما نزل طلحة والزبير المربد، أتيتهما فوجدتهما مجتمعين، فقلت لهما: ناشدتكما الله وصحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما الذي أقدمكما أرضنا هذه؟ فلم يتكلما، فأعدت عليهما، فقالا: بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا، فجئنا نصيبها!
قال: وقد روى محمد بن سيرين، عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما، فقالا له مثل مقالتهما الاولى: إنما جئنا نطلب الدنيا!(1).
وروى الطبري بسنده الى الحسن البصري: أن طلحة بن عبيد الله باع أرضاً له من عثمان بسبعمائة الف فحملها إليه، فقال طلحة: إن رجلا تتسق هذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله عزّوجل لغرير بالله سبحانه; فبات ورسوله يختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح، فأصبح وما عنده منها درهم. قال الحسن: وجاء هاهنا يطلب الدينار والدرهم، أو قال: الصفراء والبيضاء(2).
هكذاسارت الاُمور منذ أن تولى علي بن أبي طالب الخلافة وحتى مجيء المتحالفين الى البصرة، وكانت هذه مقدمات الأحداث التي انتهت بمعركتي
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 316.
2- الطبري 4: 405.
فالأهداف الحقيقية للمتحالفين كانت تتلخص في الاطاحة بالخليفة الجديد واختيار أحدهم للخلافة مكانه، ومن ثم الاستئثار بالأموال والنفوذ، وهي نفس السياسة التي نقموها على عثمان، ولكنهم كانوا يحتجون بسبقهم وصحبتهم على ولاة عثمان الذين كانوا مجردين من هذه الامتيازات.
بدء المعركة
عندما فشلت الجهود التي بذلها عثمان بن حنيف في إقناع المتحالفين بالرجوع عن موقفهم وإصرارهم على الاستيلاء على مدينة البصرة، وقد حاول عثمان بن حنيف إقناعهم أخيراً بانتظار مجيء كتاب الخليفة علي بن أبي طالب حتى يرى رأيه، وقد تظاهر المتحالفون بالموافقة على ذلك، لكنهم نكثوا عهدهم وغدروا بعثمان بن حنيف، وارتكبوا في أثناء ذلك جملة من الفظائع، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من أبرياء المسلمين، وقد ذكرنا فيما سبق رواية ابن العربي ومن بعده الخطيب لأحداث معركة الجمل الأصغر عن طريق سيف بن عمر، وسنذكر ها هنا عدداً من الروايات التي جاءت بطرق
روى الطبري عن أحمد بن زهير بسنده الى الزهري قال:
بلغني أنه لما بلغ طلحة والزبير منزل علي بذي قار، انصرفوا الى البصرة فأخذوا على المنكدر، فسمعت عائشة(رض) نباح الكلاب، فقالت: أي ماء هذا! قالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! إني لهيه، قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وعنده نساؤه: "ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب" فأرادت الرجوع، فأتاها عبدالله بن الزبير، فزعم أنه قال: كذب من قال إن هذا الحوأب.
ولم يزل حتى مضت، فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف، فقال لهم عثمان: ما نقمتم على صاحبكم! فقالوا: لم نره أولى بها منّا، وقد صنع ما صنع!
قال: فإن الرجل أمّرني، فاكتب إليه فاعلمه ما جئتم له، على أن اُصلي بالناس حتى يأتينا كتابه.
فوقفوا عليه وكتب، فلم يلبث إلاّ يومين، حتى وثبوا عليه فقاتلوه بالزابوقة عند مدينة الرزق، فظهروا، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله، ثم خشوا غضب الأنصار، فنالوه في شعره وجسده.
فقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة، توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه.
فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا!
فقال الزبير: فهل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان(رضي الله عنه) وما
فقال عبدالله بن الزبير: ومالك وللكلام!
فقال العبدي: يا معشر المهاجرين، أنتم أول من أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان لكم بذلك فضل، ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بايعتم رجلا منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك، فرضينا واتبعناكم، فجعل الله عزّوجل للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات(رضي الله عنه)واستخلف عليكم رجلا منكم، فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلّمنا، فلما توفي الأمير جعل الأمر الى ستة نفر، فاخترتم عثمان وبايعتموه من غير مشورة منا، ثم أنكرتم من ذلك الرجل شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً من غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله! هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق، أو عمل شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه؟ وإلاّ فما هذا!
فهمّوا بقتل ذلك الرجل، فقام من دونه عشيرته، فلما كان الغد، وثبوا عليه وعلى من كان معه، فقتلوا سبعين رجلا!(1).
كما أخرج الطبري عن عمر بن شبة بسنده، قال:
لما كانت الليلة التي أخذ فيها عثمان بن حنيف، وفي رحبته مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس، فأراد عبدالله أن يرزقه أصحابه، وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان، فقال: لستُ أخاف الله إن لم أنصره; فجاء في جماعة من عبدالقيس وبكر بن وائل، وأكثرهم عبدالقيس; فأتى ابن الزبير مدينة الرزق، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلوا عثمان
____________
1- تاريخ الطبري 4: 469.
قال: بدم عثمان بن عفان!
قال: فالذين قتلتموهم قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله؟
فقال له عبدالله بن الزبير: لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلّي سبيل عثمان بن حنيف حتى يخلع علياً!
قال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: إني لست في شك من قتال هؤلاء، فمن كان في شك فلينصرف، وقاتلهم فاقتتلوا قتالا شديداً وضرب رجل ساق حكيم، فأخذ حكيم ساقه فرماه بها فأصاب عنقه فصرعه ووقذه، ثم حبا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به رجل فقال: من قتلك؟ قال: وسادتي، وقُتل سبعون رجلا من عبدالقيس..(1).
وروى أبو مخنف القصة بتفصيل أكثر، قال:
فلما أقبل طلحة والزبير من المربد، يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا الى موضع الدباغين; فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلوهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا الى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مُسنّأة
____________
1- تاريخ الطبري 4: 474.
قال: وأتاهما عبدالله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمد، أما هذه كتبك إلينا؟ قال: بلى. قال: فكتبت أمس تدعونا الى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته، أتيتنا ثائراً بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلاّ هذه الدنيا، مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن علياً دعاني الى بيعته بعدما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه.
قال: ثم أصبحا من غد فصفّا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه، فناشدهما الله والاسلام، وأذكرهما بيعتهما علياً (عليه السلام)، فقالا: نطلب بدم عثمان! فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم، كلا والله، ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما؟! فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا اُمّه، فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله، فإنها أدنتك الى الظل، وأن الأمر بيني وبينك يابن الصعبة -يعني طلحة- أعظم من القول، لأعلمتكما من أمركما ما يسؤكما، اللهم إني قد أعذرت الى هذين الرجلين.
ثم حمل عليهم واقتتل الناس قتالا شديداً ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح، فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما: أن لعثمان
فمكثوا كذلك أياماً، ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم عليٌّ ونحن على هذه الحال من القلة والضعف، ليأخذن بأعناقنا.
فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب; فأرسلا الى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف يدعوانهم الى الطلب بدم عثمان وخلع علي وإخراج ابن حنيف من البصرة; فبايعهم على ذلك الأزد وضبّه وقيس بن عيلان كلها إلاّ الرجل والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم. وأرسلوا الى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم; فجاءه طلحة والزبير الى داره فتوارى عنهما، فقالت له اُمه: ما رأيت مثلك! أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما!
فلم تزل به حتى ظهر لهما وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة الاّ بني يربوع، فإن عامتهم كانوا شيعة لعلي (عليه السلام)، وبايعهم بنو دارم كلهم إلاّ نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل.
فلما استوثق لطلحة والزبير أمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها الثياب، فانتهوا
فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلمين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفهما فلما أسر ضُرب ضرب الموت ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا السبايجة وهم سبعون رجلا فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف الى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: اُخرج إليه فاضرب عنقه فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير! إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة واُقسم بالله إن قتلتموني ليضعنّ السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم، فلا يبقي أحداً منكم.
فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه. وأرسلت عائشة الى الزبير أن اقتل السبايجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك.
قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، وليَ ذلك منهم عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين; فسار اليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم،
قال أبو مخنف: فحدثنا الصقعب بن زهير، قال:
كانت السبايجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل، قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام، وكان السبايجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً.
قال: وخيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي، فاختار الرحيل، فخلّوا سبيله، فلحق بعلي (عليه السلام)، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرد، فقال علي: إنا لله وإنا إليه راجعون. قالها ثلاثاً...
قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً; فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم، يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر.
وتجالد الفريقان بالسيوف، فشدّ رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثم دب إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم رجل وهو يجود بنفسه فقال: من فعل بك؟ قال: وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً.
قال: وقُتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقُتل أصحابه كلهم، وهو ثلاثمائة من عبدالقيس، والقليل منهم من بكر بن وائل; فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنها، اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه، فاصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبدالله ابن الزبير ومحمد
قال أبو مخنف: ثم دخلا بيت المال بالبصرة ; فلما رأوا ما فيه من الأموال، قال الزبير: (وَعدكمُ اللهُ مَغانمَ كثيرةً تأخُذونَها فَعجَّلَ لكُمْ هذِهِ). فنحن أحق بها من أهل البصرة، فأخذا ذلك المال كله، فلما غلب علي (عليه السلام)، ردّ تلك الأموال الى بيت المال، وقسمها بين المسلمين(1).
هذه بعض الروايات التي حكت واقعة الجمل الأصغر ومقدماتها كما جاءت عن أرباب التاريخ، وهي باختلاف طرقها تعضد بعضها بعضاً وتصدّق بعضها بعضاً، ولا يشذ عنها إلاّ الروايات التي جاءت عن طريق سيف بن عمر، والتي تتضمن متناقضات عجيبة، وتخالف كل الروايات التي جاءت عن الأئمة الثقاة، ولا يفوتنا أن نشير الى التزييف الذي ظل يرافق روايات سيف في كلامه عن الشخصيات التي لعبت دوراً في هذه الأحداث ممن يحسبون على اتباع علي بن أبي طالب; وقد أوردنا ما ذكره محب الدين الخطيب وسيف بن عمر عن حكيم بن جبلة، والتهم الشنيعة التي ألصقاها به، إمعاناً في تشويه صورته واستغفالا للمسلمين وصدّاً لهم عن الحقيقة، لذا ساُورد ترجمة حكيم بن جبلة -كما وعدت القارئ- باختصار، رداً على تلك الافتراءات، وحتى يعرف المسلم حقيقة الأمر، فلا يتحمل إثماً عن جهل بالتحامل على صلحاء الاُمة.
قال ابن الأثير في ترجمة حكيم بن جبلة:
أدرك النبي (صلى الله عليه وآله)... وكان رجلا صالحاً له دين، مطاعاً في قومه، وهو الذي بعثه عثمان على السند فنزلها...(2).
وقال ابن عبدالبر إضافة لما تقدم:
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 318، وانظر أنساب الاشراف 6: 26.
2- اُسد الغابة 1: 52.
فحكيم بن جبلة صحابي قطعاً، مع فضله وصلاحه، ولكن سيف بن عمر جعله لصاً من شذاذ الآفاق، وتابعه المؤلفون بغير بصيرة، فنالوا من حكيم بن جبلة وأساءوا إليه تبعاً لسيف بن عمر، ومن ثم تراهم يدّعون أن سيف هو المدافع عن الصحابة!
وقعة الجمل الأكبر
لا أجد حاجة لتذكير القارئ بأن الهدف من عرض هذه الأحداث- والذي قد يضطرني أحياناً الى الاطالة في سرد الروايات- إنما هو لأجل أن يتمكن القارئ من البحث في تاريخ الاسلام وفق منهجية واضحة مبتنية على دراسة مقارنة، من خلال مطابقة الروايات المتعددة المصادر، للكشف عن الزيف الذي وقع في هذا التاريخ، ورداً على مزاعم القائلين بأن بعض المؤرخين كانوا ينافحون عن الصحابة، مما يستلزم صدق رواياتهم وبالتالي ضرورة تبنّيها دون سواها من الروايات التي جاءت بما يوحي بذم بعض الصحابة، حتى لو كانت هذه الروايات قد جاءت عن المؤرخين الثقات الذين تقدمت تراجمهم
____________
1- الاستيعاب 1: 367.