الصفحة 323

المستشرقون والتزييف

إذا كان الزهري وأمثاله قد كتبوا ما يرضي الاُمويين خوفاً أو طمعاً، فإن هناك من قد تبرّع للكتابة لهم والاشادة بهم والحط من خصومهم بدون هذه الدوافع، اللهم إلاّ رغبة في الحط من الإسلام بتزييف حقائق تاريخه. فمن القدامى:

1 - القديس يوحنا الدمشقي:

وهو في طليعة من ألّف في الرد على المسلمين.

ولد حوالي سنة (675م)، وتوفي سنة 749م وهو من اُسرة كانت في أيامها شهيرة معروفة، فكان أبوه في خدمة الخلفاء الاُمويين، وله منزلة وحظوة عندهم، وكان هو نفسه من المقربين اليهم والمتصلين بهم، ومن الذين يستشيرونهم في مهمات الاُمور...!

وقد نسب يوحنا الإسلام الى الهرطقة(1)، وادعى أن الرسول أخذ علمه من رجل من أهل الكتاب، أو من رجل من الهراطقة الأريوسيين... وزعم أيضاً أن الرسول كان قد نظر في التوراة والانجيل، وأنه تعلم منها وتنبأ...! ويعد يوحنا الدمشقي ممهّد الجادة للمستشرقين المعروفين بتحاملهم على الإسلام، فأكثر ما يزعمونه ويذكرونه عنه هو مما كان قد قاله ودوّنه قبلهم بما يزيد على ألف عام(2).

2 - يوحنا بن بنكاية:

وقد تعرض لنزاع علي ومعاوية، وأثنى على معاوية كثيراً، وذكر أنه كان

____________

1- الهرطقة عند النصارى: البدعة في الدين. المنجد في اللغة: 863.

2- جواد علي: 25.


الصفحة 324
عادلا قديراً، انتشر الأمن في زمانه، وعامل النصارى معاملة طيبة!(1).

أما من المستشرقين المحدثين فأهمهم:

الأب لامنس:

قال عبدالرحمان بدوي: "مستشرق بلجيكي وراهب يسوعي شديد التعصب ضد الاسلام، يفتقر افتقاراً تاماً الى النزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها. ويعد نموذجاً سيئاً جداً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين.

ولد في بلجيكا سنة (1862م)، وجاء الى بيروت في صباه، وتعلم في الكلية اليسوعية في بيروت، وبدأ حياة الرهبنة في سنة (1878م)، فأمضى المرحلة الاولى في دير لليسوعيين في قرية غزير في جبل لبنان طوال عامين، ثم قضى خمسة أعوام في دراسة الخطابة واللغات. وفي سنة (1886م) صار معلماً في الكلية اليسوعية ببيروت. وسافر الى انجلترة والى لوفان، ووصل الى فيينا في (1896م)، وعاد الى بيروت سنة (1897م)، حيث عيّن معلماً للتاريخ والجغرافيا في كلية اليسوعيين. ولما أسس (معهد الدروس الشرقية) ضمن كلية اليسوعيين في (1907م)، صار فيه اُستاذاً للتاريخ الإسلامي، ولما توفي لويس شيخو في سنة (1927م)، خلفه لامنس على إدارة مجلة المشرق، وهي مجلة فصلية تصدر عن اليسوعيين في بيروت، ولهم مجلة دينية شعبية تبشيرية اُخرى تدعى (البشير)، وقد تولى لامنس إدارتها مرتين قبل ذلك بزمن طويل، مرة في سنة (1894م)، ومرة اُخرى من سنة (1900م) إلى (1903م).

____________

1- جواد علي: 25.


الصفحة 325
وكان لامنس يكتب في هاتين المجلتين مقالات كثيرة، يكتبها بالفرنسية، ثم يتولى غيره ترجمتها الى العربية، وتنشر باللغة العربية، وتوفي لامنس في 23 أبريل (1937م).

وإنتاج لامنس يدور حول موضوعين:

ألف - السيرة النبوية.

ب - بداية الخلافة الاُموية.

لكن له إلى جانب ذلك كتب ودراسات حول موضوعات متفرقة في العقيدة الإسلامية، وتاريخ سوريا وآثارها، وفيما يلي ثبت بكتبه:

ألف - مصنفاته ومقالاته في السيرة النبوية:

1 ـ مهد الاسلام، 1914 م.

2 ـ مكة عشية الهجرة، بيروت 1923 - 1924م.

3 ـ مدينة الطائف العربية عشية الهجرة، بيروت 1922 م.

4 ـ غربي الجزيرة العربية قبل الهجرة، بيروت 1928 م، وهو مجموع من ست دراسات عن اليهود والنصارى قبيل الهجرة النبوية، وعن ديانات العرب قبل الإسلام، ويقع في 344 صفحة.

5 ـ المعابد قبل الإسلام في غربي الجزيرة العربية.

وهو في هذه الكتب الخمسة، إنّما يلخص أبحاث المستشرقين وعلماء الآثار والجغرافيا في هذه الموضوعات، وليس له أي إسهام أصيل، وفي ظل التمهيد بهذه الكتب التي تبيّن الوضع الجغرافي والديني والاقتصادي والاجتماعي للحجاز عامة، وللقريتين: مكة والطائف خاصة، كتب دراساته المتعلقة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) وتأريخ السيرة، وهي:


الصفحة 326
6 ـ القرآن والسنّة، كيف ألفت حياة محمد، بحيث ظهر في أبحاث في علوم الدين: ج 1 باريس 1910 م.

7 ـ هل كان محمد أميناً. أبحاث في علوم الدين: ج2 باريس 1911 م.

8 ـ عصر محمد وتاريخ السيرة، في المجلة الآسيوية 1911 م.

9 ـ فاطمة وبنات محمد، تعليقات نقدية لدراسة السيرة، روما (1912 م) ثم تناول مسألة خلافة النبي بعد وفاته، وذلك في كتاب بعنوان:

أ - الحكومة الثلاثية من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة.

وفي هذه الكتب الأربعة، تحامل لامنس على السيرة النبوية تحاملا شديداً، زاعماً أن القرآن وحده هو المصدر الذي يعتمد عليه في بيان سيرة النبي، وأن كتب الحديث كلها موضوعة من أجل تحقق غايات معينة هي تمجيد حياة النبي (صلى الله عليه وآله).

وقد نهج في هذا نهج ليوني كايتاني، فلم يُقم لكتب الحديث وكتب السيرة أي وزن، وهو في هذا لا يسوق أي دليل نقلي أو عقلي، ولا يرجع الى مصادر اُخرى عن السيرة، بل هو يلقي الكلام جزافاً ويعتمد على تحكمات ذهنية استقرت حسب معان ذهنية سابقة، ولم يكن لديه اطّلاع باحث مثل جولدتسيهر، يحاول أن يستمد دعواه من مصادر اُخرى تلمودية أو هلينية...الخ، بل راح يخبط دون أدنى سند أو برهان عقلي، وأبشع ما فعله، خصوصاً في كتابه (فاطمة وبنات محمد) هو أنه كان يشير في الهوامش الى مراجع بصفحاتها، وقد راجعت معظم هذه الإشارات في الكتب التي أحال إليها، فوجدت أنه إما أن يشير الى مواضع غير موجودة إطلاقاً في هذه الكتب، أو يفهم النص فهماً ملتوياً خبيثاً، أو يستخرج إلزامات بتعسف شديد يدل على فساد الذهن وخبث النية، ولهذا ينبغي ألاّ يعتمد القارئ على إشاراته الى مراجع، فإن معظمها تمويه وكذب وتعسف في فهم النصوص، ولا أعرف

الصفحة 327
باحثاً بين المستشرقين المحدثين قد بلغ هذه المرتبة من التضليل وفساد النية.

ب - في تاريخ بداية الخلافة الاُموية، وعلى نحو مشابه درس لامنس أولوية الخلافة الاُموية، فصنف الكتب والدراسات التالية:

1 - دراسات عن حكم الخليفة الاُموي معاوية الأول، بيروت 1907 م.

2 - خلافة يزيد الأول، بيروت 1912 م.

3 - زياد بن أبيه والي العراق ونائب معاوية الأول 1912 م.

4 - معاوية الثاني أو آخر السفيانيين.

5 - دراسات عن عصر الاُمويين، بيروت 1930 م.

6 - مجيء المروانيين وخلافة مروان الأول.

وفي هذه الدراسات بالغ لامنس في تمجيد الاُمويين بدافع من الحقد الشديد على الإسلام، وفارق هائل بين ما قام به يوليوس فلهوزن في كتابه (الدولة العربية وسقوطها) من انصاف لمعاوية ولبعض الاُمويين من تحامل اقترفه المؤرخون المسلمون الذين كتبوا في العصر العباسي، وكانوا تبعاً لذلك متأثرين بكراهية العباسيين للاُمويين ومشايعين لرواية أهل العراق، وبين الاندفاع الأهوج عند لامنس في تبرير أبشع جرائم يزيد والاُمويين عامة...(1)

وهكذا نجد التطابق بين أهداف المستشرقين والزنادقة من أعداء الاسلام، وكذلك في أساليبهم، فكل طعن في الاسلام يقابله أيضاً تمجيد للاُمويين بشكل يدل على أن هذا التمجيد لبني اُمية إنما يستهدف في حقيقته هدم الاسلام، وإظهار الاُمويين وكأنهم هم الذين يمثلون وجهة نظر الاسلام، وصارت جهود هؤلاء تصب في المجرى الذي رسمه الاُمويون وفي مقدمتهم معاوية لتزييف الحقائق عن تاريخ الاسلام.

____________

1- عبد الرحمان بدوي. موسوعة المستشرقين: 503.


الصفحة 328

موقف الجمهور

من الاُمور التي تبعث على الاستغراب حقاً، هو تمسّك جمهور المؤلفين المسلمين بالروايات الكاذبة التي دسّها الزنادقة في التاريخ الإسلامي، ورفض ما عداها بإصرار غريب، والادعاء بأن تلك الروايات هي (صحاح الاخبار) كما عبّر عنها القاضي ابن العربي!

ولا شك أن السياسة الاُموية كانت على درجة من الدهاء بحيث استطاعت طيلة ما يقرب من قرن من الزمان أن تبث إعلامها وتفرضه على المسلمين، حتى استقرت هذه المعلومات في أذهان العامة، وصارت تشكل المصدر الرئيس لمعارفه.

ولعل الأمر الذي يبعث على التساؤل هو: لماذا استمر هذا الخط الاُموي بعد انقراض دولتهم، والاطاحة بهم من قبل خصومهم العباسيين، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أكثر المؤرخين الكبار قد دوّنوا موسوعاتهم التاريخية في العصر العباسي، وكيف سمحت السلطة العباسية بذلك!

لقد أوضحنا في فصول سابقة، أن المؤرخين ـ أمثال الطبري - إنما اعتمدوا على ما وصلهم من مؤلفات ترجع اُصولها الى العصر الاُموي الذي بدأ فيه تدوين هذه الاُمور، فقاموا بنقلها كما هي عن مصادرها الاولى تلك. وهناك أمران آخران على جانب من الأهمية:

1 - إن المصالح السياسية العليا للدولة العباسية -وكل الدول التي جاءت بعدها- كانت تتفق تماماً مع مثيلاتها للدولة الاُموية، وإن استمرار هذا المنهج التاريخي كفيل بخدمة الدولة العباسية كما خدم الدولة الاُموية، وسوف اُناقش

الصفحة 329
هذا الأمر بتفصيل أكثر فيما بعد، ليزداد الأمر وضوحاً.

2 - إن الرأي العام الإسلامي الذي تشكل بفعل الاعلام الموجّه للدولة الاُموية طيلة ما يقرب من قرن من الزمان، قد ترسخ في الأذهان، وصار من الصعب تغييره، وقد تبنى هذا المنهج بعض المواضيع التي تدخل في صلب عقيدة المسلم، والتي تشكلت هي الاُخرى في بعض جوانبها نتيجة لهذه السياسة الإعلامية، ولعل أهم ما فيها هو: تقديس السلف الذي كان مقدمة لظهور مصطلح (عدالة الصحابة المطلقة)، والتي سوف نناقشها أيضاً في موضعها المناسب إن شاء الله.

ويمكننا ملاحظة عقيدة الجمهور من خلال أخذهم الأخبار من المصادر التي تتوافق -ولو ظاهرياً- مع هذه النظرة الاعلامية، ورفضهم لكل ما يخالف ذلك القصور. فنقرأ في ترجمة أبي مخنف لوط بن يحيى قولهم: شيعي محترق، صاحب أخبارهم!(1).

وبملاحظة عبارة (صاحب أخبارهم) تبين لنا أن المصدر الرئيس الذي يعتمده الجمهور ويأخذ منه الأخبار، هو الذي قد جاء عن طريق وسائل الاعلام الرسمية التي أسستها الدولة الاُموية، ودعمها رجال اللاهوت النصارى والمستشرقون المعاصرون والزنادقة الحاقدون على الإسلام، فأصحبت هي الأخبار المعتمدة عند الجمهور، وما عدا ذلك فهو ليس ممّا يعتمده الجمهور كمصدر لتناول الأخبار، بل هو من مصادر أهل البدع والأهواء. وقد لخّص بعض المؤلفين من القدامى والمحدثين هذه النظرية، وعبّروا عن رأيهم ذلك بكل صراحة ووضوح، فبعد أن يورد ابن كثير

____________

1- ميزان الاعتدال 3: 42، لسان الميزان 4: 492.


الصفحة 330
الدمشقي روايات الطبري عن طريق سيف، حول أحداث معركة الجمل، نجده يقول معلقاً:

هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلقة على الصحابة والأخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها، وإذا دُعوا الى الحق الواضح أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين!!(1).

ولم يسلم من ربقة هذا الاتجاه الفكري حتى المؤلفين المعاصرين الذين يُفترض فيهم التعمق الأكثر في التراث لتوفر أدوات البحث بشكل أفضل في هذا العصر، ولكننا نراهم لا يتبعون إلاّ سبيلا واحداً، وهو مجاملة الرأي العام الذي تشكل منذ أربعة عشر قرناً وبقيت قناعاته مستمرة الى يومنا هذا.

يقول محمد قطب في معرض حديثه عن المناهج التاريخية الإسلامية:

هناك عيب رئيسي في تلك المناهج بصفة عامة، هو التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين على حساب بقية مجالات الحياة الإسلامية: العقدية، الفكرية، والحضارية، والعلمية، والاجتماعية...الخ. ومما لا شك فيه أن التاريخ السياسي للمسلمين هو أسوأ ما في تاريخهم كله، فبصرف النظر عن المبالغات التي نشأت من الخلافات المذهبية وتلوينها لوقائع التاريخ، ككتابات الشيعة عن تاريخ أهل السنّة مثلا... فمما لا شك فيه أنه قد وقعت انحرافات كثيرة في المجال السياسي عن الخط الإسلامي الأصيل، وأن هذه الانحرافات قد وقعت في وقت مبكر من تاريخ الإسلام لم يكن ينبغي أن

____________

1- البداية والنهاية 7: 175.


الصفحة 331
تقع فيه(1).

فمع اعترافه بوجود انحرافات خطيرة في تاريخ الإسلام في وقت مبكر، إلاّ أنه يحاول الايماء بأن المبالغات التي وقعت في هذا التاريخ قد جاءت من الشيعة، ولكنه لا يلتفت الى التشويه الذي تولاه الزنادقة لتخريب هذا التاريخ وإفساد عقائد المسلمين بتلك المعلومات المدسوسة.

وإنك لتجد معظم الباحثين المحدثين، ومن ذوي المستويات العلمية العالية، يتناولون أحداث التاريخ الإسلامي بحذر شديد، فيحومون حول القضية الجوهرية حتى يكاد بعضهم ينطق بالحقيقة! إلاّ أنه سرعان ما ينكص على عقبيه، معتذراً للجمهور بافتعال أعذار واهية لا تسمن ولا تغني من جوع، وما ذلك إلاّ لأن بعض المؤسسات الدينية التي ورثت هذه العقائد من قرون متطاولة، ترفض أي مناقشة لهذه المواضيع، وويل لمن يتجرأ على خرق هذا الحظر المفروض على الحقيقة. إن النظر دائماً الى التاريخ السياسي للمسلمين على أنه أسوأ ما في تاريخهم، خطأ جسيم، فالتاريخ السياسي للمسلمين هو جزء من عقيدتهم، ولكن المشكلة تكمن في كيفية تناول هذا التاريخ...!

بين الزنادقة والاُمويين

لقد تبين من خلال استعراضنا للحوادث التي وقعت في زمن عثمان بن عفان وما بعدها بقليل، ومن خلال تحليل الروايات التي تفرّد بها سيف بن عمر، أن محاولة نفي تهمة الزندقة عن سيف بن عمر لا تجدي نفعاً، لأن الاحتجاج بمنافحته عن الصحابة مردود بتحامله الشديد على عدد غير قليل من

____________

1- كيف نكتب التاريخ: 16.


الصفحة 332
خيار الصحابة والتابعين. إلاّ أن الملفت للانتباه -وكما ذكرنا سابقاً- هو دفاعه المستميت عن معاوية وبني اُمية عامة وإظهارهم بمظهر الأتقياء البررة المدافعين عن الإسلام. وليس ثمة شك بأن الزنادقة لا يمكن أن يكونوا حريصين على تاريخ الإسلام، فلابد إذاً من وجود علاقة متينة بين أهداف هؤلاء الزنادقة، مضافاً إليهم المستشرقون الحاقدون على الإسلام، وأهداف الاُمويين في تخريب الإسلام. "فالزندقة لم تكن إلاّ نشاطاً مركزاً للمانوية، أرادت تحت ستار إسلامي شفّاف، وبطريق التأويل. وبالتشكيك بالقيم والعقيدة، أرادت تهديم الكيان القائم والسلطان العربي بنسف الاسلام"(1).

والأساليب التي أتبعها الزنادقة لتحقيق أهدافهم كانت على درجة كبيرة من الدهاء والخبث، فبعضهم يظهر بمظهر الزاهد العابد الواعظ المعرض عن الدنيا وزخرفها، بل وإن بعضهم استطاع افساد عقائد الناس عن طريق الخطب والمواعظ التي كانوا يلقونها من على المنابر، ويبثون فيها سمومهم بين المسلمين، ومن العجب أن الناس كانوا كثيراً ما تستهويهم أساليب هؤلاء الزنادقة!

قال ابن أبي الحديد:

كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ -أخو أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي- قاصاً لطيفاً وواعظاً مفوّهاً، وهو من خراسان من مدينة طوس، وقدم الى بغداد ووعظ بها، وسلك في وعظه مسلكاً منكراً، لأنه كا يتعصّب لإبليس ويقول: إنه سيّد الموحّدين!

وقال يوماً على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق! اُمر أن

____________

1- عبدالعزيز الدوري. مقدمة في تاريخ الاسلام: 93.


الصفحة 333
يسجد لغير سيّده فأبى:


ولستُ بضارع إلاّ إليكموأمّا غيركم حاشا وكلاّ

وقال مرة اُخرى: لما قال موسى (أرني) فقال (لن)، قال: هذا شغلك، تصطفي آدم ثم تسوّد وجهه، وتخرجه من الجنة! وتدعوني الى الطور ثم تُشمت بي الأعداء! هذا عملك بالاحباب، فكيف تصنع بالأعداء....!

وقال مرة اُخرى: إلتقى موسى وإبليس عند عقبة الطور، فقال موسى: يا إبليس لِمَ لَمْ تسجد لآدم؟ فقال: كلا، ما كنت لأسجد لبشر، كيف اُوحّده ثم التفت إلى غيره! ولكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت الى الجبل، فأنا أصدق منك في التوحيد!

وكان هذا النمط من كلامه ينفق على أهل بغداد، وصار له بينهم حديث مشهور وإسم كبير!(1).

ولجأ بعض الزنادقة الى تحريف وتزييف السنّة النبوية الشريفة، بوضع الأحاديث المكذوبة والافتراء على النبي (صلى الله عليه وآله) بنسبتها إليه، ومن أشهر هؤلاء الزنادقة الوضاعين، عبدالكريم بن أبي العوجاء الذي اعترف عندما عُرض على السيف بأنه وضع أربعة آلاف حديث يُحلّ فيها الحرام ويحرّم فيها الحلال!(2).

أما الزنديق الأكثر خطراً والأعظم مكراً فهو دون شك سيف بن عمر الذي لم يكتف بوضع الأحاديث المكذوبة، بل إنه قام بتزييف التاريخ الاسلامي أيضاً، ووضع للمسلمين تاريخاً مقلوباً رأساً على عقب، نصرة لبني اُمية دون سواهم، والذي يهمنا في المباحث القادمة أن نبيّن العلاقة الحميمة

____________

1- شرح نهج البلاغة 1: 107.

2- لسان الميزان 4: 61.


الصفحة 334
بين أعمال الزنادقة وبين سياسات الاُمويين والتي لا شك وأنها كانت تخدم أغراض الزنادقة تماماً، فانبروا للدفاع عنها بشكل مستميت. ولنبدأ باستكمال بحثنا حول هذه الفترة الخطيرة من تاريخ الاسلام، والتي تعرضت لأبشع صور التشويه والتزييف على أيدي الزنادقة، باستعراض الحوادث التي وقعت بعد معركة الجمل.


الصفحة 335


الفصل السابع

معاوية وعلي





الصفحة 336

الصفحة 337

معاوية وعلي


قلنا إن سلسلة الروايات التي تزعمها سيف بن عمر قد انقطعت عند الطبري بانتهاء معركة الجمل، ولعل البعض سوف يعتقد أن مرحلة التزييف في التاريخ الإسلامي سوف تنتهي عند ذلك، وتبدأ الحقائق بالظهور من الآن فصاعداً. ولكن الواقع أن التزييف لم يتوقف في هذه المرحلة، ولكنه اتخذ شكلا آخر من خلال تصدي المؤلفين الذين جاءوا بعد الطبري لتلك الحوادث بالتحليل، والذي كان يصب عادة في المجرى السابق الذي تبناه سيف بن عمر في محاولة تبرأة معاوية وبني اُمية وأشياعهم من الخروج عن جادة الصواب، ومحاولة تصويب أعماله ودعاواه التي تذرّع بها للخروج عن الطاعة وشق العصا، لذا فسوف تتركز أبحاثنا القادمة للكشف عن محاولات التزييف هذه، وإبراز النيات الحقيقية والدوافع لهذا الخروج، مع مناقشة آراء بعض المؤلفين الذين تصدوا لهذه المرحلة، حتى يتم استخلاص الحقائق كاملة، وسوف أبدأ باستعراض بعض آراء القاضي ابن العربي والشيخ محب الدين الخطيب حول هذه المسألة، باعتبارهما انموذجين يمثل أحدهما التيار المحافظ القديم، ويمثل الآخر التيار نفسه ولكن في العصر الحاضر، ولأن كتاب العواصم من القواصم كان هو الذي حفزني ودفعني الى البحث عن الحقيقة.

قال ابن العربي:


الصفحة 338
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً، وأما كونه لهذا السبب(1)، فمعلوم كذلك قطعاً، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاء وإلاّ سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا.

ولئن اتُّهم علي بقتل عثمان، فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ وهو متهم به، أو قل معلوم قطعاً أنه قتله، لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفاً. وهبك أن علياً وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم، ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته! فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اُولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام، وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأس مال في الحال ولا مبالاة عندهم بالاسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردّة ليست معصية، لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أن يتعدى حد عثمان وإشارته، فأي ذنب لهم فيه! وأي حجة لمروان وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره، يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح، والمطالبون ينظرون! ولو كان بهم قوة أو آووا الى ركن شديد، لما مكّنوا أحداً أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، ما صبروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض

____________

1- يقصد الطلب بدم عثمان.


الصفحة 339
منهم حي. ولكن عثمان سلّم نفسه، وتُرك ورأيه، وهي مسألة اجتهاد كما قدّمنا، وأي كلام كان يكون لعلي لو كتبت عنده البيعة، وحضر وليّ عثمان وقال الخليفة له: يا ايها، وما تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون! ماذا كان يقول إلاّ: أثبت وخذ. وفي يوم كان يثبت. إلاّ أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقاً للقتل. وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبداً، وكان يكون الوقت أمكن للطلب وأرفق في الحال وأيسر وصولا الى المطلوب.

والذي يكشف الغطاء في ذلك، أن معاوية لما صار إليه الأمر، لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحداً إلاّ بحكم، إلاّ من قتل في حرب بتأويل أو دسٍّ عليه فيما قيل، حتى انتهى الأمر الى زمان الحجاج وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة، فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أضحوا له يطلبون.

والذي تثلج صدوركم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر في الفتن، وأشار وبيّن، وأنذر الخوارج وقال "تقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق"، فبيّن أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه، وقال تعالى (وإنْ طائِفتانِ مِنَ المؤمنينَ اقتَتَلوا فَأصلِحُوا بَينَهُما فإِن بَغَتْ إحداهُما على الاُخرى فَقاتِلوُا التي تَبغي حتى تَفيء إلى أَمرِ اللهِ فإنْ فاءَتْ فَأَصلِحُوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقْسِطوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ)(1)، فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم إسم الاُخوة بقوله بعده: (إنما المؤمنون إخوةٌ فَأصلِحُوا بَينَ أَخَويكُمْ)(2)، وقال (صلى الله عليه وآله) في عمار: "تقتله الفئة الباغية"، وقال في الحسين(3): "ابني هذا سيّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين

____________

1- الحجرات: 9.

2- الحجرات: 10.

3- الصحيح: الحسن (المؤلف).


الصفحة 340
عظيمتين من المسلمين"، فحسّن له خلعه نفسه واصلاحه.

وكذلك يروى أنه أَذن في الرؤيا لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة.

فهذه كلها اُمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا تعدّت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة، والمخطئ أجراً واحداً. وما وقع في الروايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا- فلا تلتفتوا الى حرف منها، فإنها كلها باطلة!(1).

لقد أدلى ابن العربي باعترافات خطيرة تكشف الحقيقة عن مجريات الاُمور، والتي لا يجد الباحث بداً من الاعتراف بها لتوفر الأدلة عليها، ولكنه وكما قلنا سابقاً، فعل كما يفعل الكثير من الباحثين والمؤلفين -خاصة من المعاصرين- عاد فقلب ظهر المجن للحقيقة، وبدأ يردد نفس النغمة السابقة، محاولا جهد الامكان نفي التهمة عن بعض الشخصيات التي لعبت دوراً سلبياً في تلك الأحداث، مثل عثمان ومعاوية. ورغم أننا ناقشنا الكثير من الاُمور التي تدين تلك الشخصيات، إلاّ أن هناك اُموراً اُخرى لابد من توضيحها.

لقد اعترف ابن العربي أولا بأن جميع الصحابة في المدينة متهمون بقتل عثمان أو على الأقل على الرضا بقتله وتسليمه دون أن يتولوا الدفاع عنه، ولكنه عاد وبرّر عملهم هذا بأنه قد تم بموافقة عثمان أو بالأحرى بأمر عثمان الذي كان متبعاً في ذلك أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أمره بالاستسلام لقتلته وعدم محاولة مدافعتهم! وهذا العذر هو الشيء الوحيد الذي يتذرع به معظم المؤلفين لتبرير عمل الصحابة وخذلانهم لعثمان، ويتشبث المؤلفون المعاصرون بهذا

____________

1- العواصم من القواصم: 168.


الصفحة 341
العذر تشبث الغريق بالقشة، ولكننا عندما نعرض ذلك على العقل والمنطق والشرع، نجده عذراً متهافتاً تم اختلاقه للخروج من هذه الورطة! إذ أن استسلام الخليفة لقاتليه بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) يعني أن النبي هو المسؤول الأول عن الفتنة التي نشبت بعد مقتل عثمان، والحروب الطاحنة التي دارت بين المسلمين، والذين كان خليقاً بهم أن يكفوا عن هذا القتال، وكان خليقاً بالمطالبين بدم عثمان أن يكفوا عن طلبهم، طالما أن عثمان نفسه لم يحقن دمه امتثالا لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أدري إن كان هناك عاقل واحد بين المسلمين يصدّق أن النبي (صلى الله عليه وآله) يأمر بمثل هذه المفسدة، وينصح خليفة المسلمين بالاستسلام الى البغاة الذين جاءوا لقتله بغياً وعدواناً ودون سبب مشروع. وإذا كان الأمر يتطلب من كل خليفة أن يستسلم لأي خارج عليه فإن الخلافة تكون بلا معنى، بل إن منصب الخلافة نفسه كان سيبقى شاغراً أبد الدهر، لأن أي زمان لا يخلو من شذاذ الآفاق والفوضويين الذين سيبادرون الى قتل كل خليفة يحاول أن يردعهم عن مفاسدهم، وإذا كان عمل عثمان صحيحاً، فلماذا لم يقتدي به من جاء بعده من الخلفاء! لماذا لم يستسلم علي ابن أبي طالب للذين خرجوا عليه! ولماذا لم يستسلم جميع الخلفاء ابتداء من معاوية وانتهاء بآخر خليفة جلس على كرسي الخلافة بهذه السنّة التي سنّها عثمان بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله)!

الحقيقة هي التي نطق بها ابن العربي أولا، حين قال عن موقف الصحابة من قتل عثمان، فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا اولئك طلبوا حقاً وقد فعلوا حقاً!

أما معاوية، فلم ينكر ابن العربي، ولا يقدر غيره أن ينكر أنه ادعى المطالبة بدم عثمان، وأنه لم يكن محقاً في طلبه ذاك، إذ أن تكليفه الشرعي

الصفحة 342
كان يفرض عليه طاعة ولي أمره -كما أمر الله سبحانه وتعالى- فكان عليه أن يبدأ أولا بالامتثال لأمر الخلع الذي جاءه من الخليفة، فيخلع نفسه من منصبه، ثم يقدم على الخليفة ويعرض عليه ظلامته، ويطلب منه محاكمة المتهمين بقتل عثمان وإقامة الحد عليهم إن ثبتت عليهم التهمة بقتل عثمان ظلماً، فيأخذ العدل مجراه وتنتهي المشكلة، ولكن معاوية فضّل اتّباع سنّة الجاهلية على سنّة الاسلام، فراح يطالب بالثأر وتسليم قتلة عثمان إليه ليقتلهم دون محاكمة، ورفض في سبيل ذلك كل المحاولات التي قام بها بعض الصحابة للحيلولة دون نشوب الحرب بين المسلمين مجدداً.

أما اعتراف ابن العربي بأن معاوية قد كفّ عن ملاحقة قتلة عثمان عندما صار إليه الأمر، وأن بني اُمية ما كانوا يفعلون في ملكهم ما أضحوا له يطلبون، فان هذا الاعتراف هو أكبر دليل إدانة بحق معاوية، ويكشف عن نياته الحقيقية بكل وضوح، فإن تهاونه في ملاحقة قتلة عثمان يدل على إحدى اثنتين:

1 - إما أن يكون معاوية متيقناً من أن هؤلاء قد قتلوا عثمان بغياً عليه، وأن دعواه في المطالبة بدم عثمان صادقة وصادرة عن قناعة لا يشوبها ريب، تبرّر خوض تلك الحرب الضروس الذي سالت فيها أنهار من دماء المسلمين من الطرفين، فيكون معاوية بتهاونه عن إقامة الحد على اُولئك القتلة، قد عطّل حدّاً من حدود الله لا ينبغي التهاون فيه، لأن في تعطيل الحدود خروجاً على أمر الله ورسوله وتعطيلا للشريعة وإفساداً للمجتمع الاسلامي، وتشجيعاً لأهل البغي، فتكون جريمة معاوية في هذه الحالة، ليست بأقل خطراً من جريمته في الخروج على السلطة الشرعية وإراقة دماء المسلمين.


الصفحة 343
2 - وإما أن يكون معاوية متيقناً من أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة فعلا، وأنهم فعلوا حقاً، وأن مطالبته بدم عثمان لم تكن تصدر عن الواقع، فيكون معاوية مسؤولا أمام الله، وأمام التاريخ عن كل الدماء التي اُريقت بسبب ذلك، فضلا عن خروجه على السلطة الشرعية بغير وجه حق، والتي ترتبت عليها أعظم المفاسد.

إن الحقيقة التي يحاول معظم الذين ألّفوا في هذا الشأن -قديماً وحديثاً- أن يغمضوا أعينهم عنها، هي أن الطلب بدم عثمان لم يكن إلاّ وسيلة غير شريفة لتبرير غاية أكثر منها لؤماً، ألا وهي محاولة الوثوب على كرسي الخلافة الذي فشل كل من طلحة والزبير في الوصول إليه، ونجح معاوية وحقق غايته منه، فلما نال ما يشتهي وحقق الغاية من رفع شعاره الكاذب، انتفت الحاجة الى هذا الشعار، فكف معاوية عن ملاحقة المتهمين بقتل عثمان، لأن معاقبتهم لم تكن هي الغاية الحقيقية من رفع ذلك الشعار. فمعاوية لم يعف عمن تبقى من قتلة عثمان تكرماً منه وتفضلا -لأن ذلك لا يجوز شرعاً- ولكنه بعد أن وجد أنه قد حقق مبتغاه، تخلى عن دعوته!

البغاة

لقد دأب معظم الذين ألّفوا في الحوادث التي وقعت بين معاوية وعلي، الى محاولة تبرئة معاوية بهذه الآية من سورة الحجرات حول اقتتال طائفتين من المؤمنين، وكأن ما جرى بين علي ومعاوية كان هو السبب في نزول هذه الآية! وهم بذلك يحاولون إضفاء صفة الايمان على معاوية وحزبه، والادعاء بأن كلتي الطائفتين كانتا على حق، إلاّ أن طائفة علي كانت أدنى الى هذا الحق،

الصفحة 344
وذلك حين يربطون الحديث النبوي الشريف بشأن الخوارج بهذه الآية الكريمة، رغم أن التلاعب قد طال بعض ألفاظ هذا الحديث، من أجل الايحاء بما يدعم دعواهم، فإن الحديث قد ورد بقوله (صلى الله عليه وآله): "تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"(1).

قال الشوكاني: قوله "اولاهما بالحق"، فيه دليل على أن علياً ومن معه هم المحقّون، ومعاوية ومن معه هم المبطلون، وهذا أمر لا يمتري فيه منصف، ولا يأباه إلاّ مكابر متعسّف(2).

أما الآية من سورة الحجرات، فقال السيوطي في تفسيرها:

أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال:

إن الله أمر النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين، أن يدعوهم الى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض; فإن أجابوا، حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا الى أمر الله ويقرّوا بحكم الله...(3) فالله سبحانه وتعالى يأمر بالاصلاح بين الطائفتين وفق حكم الله، ولكن إذا بغت إحداهما ولم تستجب لحكم الله، فينبغي مقاتلتها، لأنها تكون باغية، حتى إذا ما أذعنت لحكم الله، فعندئذ يحكم بينهما وفق كتاب الله، وتعود الطائفتان الى الاُخوة الاسلامية التي تزعمها معاوية الى حكم الله؟ وهل كان معاوية بالفعل مخطئاً متأولا في هذه الحرب، كما يدّعي

____________

1- صحيح مسلم 2: 745.

2- نيل الأوطار 4: 348.

3- الدر المنثور 7: 56.