الصفحة 426
معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم اُتينا بطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب; فشرب معاوية ثم ناول أبي قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم قال معاوية: كنت أجمل شباب قريش وأجودهم ثغراً، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني(1).

وعن عبيد بن رفاعة قال: مرّ على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه، أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان الى أبي هريرة يقول له: أما تمسك عنّا أخاك عبادة! أما بالغدوات فيغدو الى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا، فأمسك عنا أخاك، فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال له: يا عبادة، ما لك ولمعاوية ذره وما حمل، فإن الله يقول: (تِلكَ اُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لها ما كسبتْ وَلكمْ ما كسبتُمْ)(2).

قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بايعناه عليها، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفى الله له بما بايع عليه نبيّه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء(3).

____________

1- مسند أحمد 6: 476، ولاشك أن الراوي قد أبدل كلمة الخمر باللبن.

2- البقرة: 134.

3- تاريخ دمشق 26: 197، مختصر تاريخ دمشق 11: 306

الصفحة 427
مرة اُخرى يتصدى الصحابي عبادة بن الصامت لمعاوية السادر في غيّه وكأنه لم يسمع نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الخمر، أو أن أحداً من ذلك الجم الغفير من الصحابة لم ينبهه الى ذلك إن كان هو قد صُمَّ عن السماع، ولا يكتفي بالاستمرار في إصراره على المعصية، بل يلوم الصحابي الذي ينصحه أو يمنعه من ارتكاب ذلك الاثم، والأغرب من ذلك موقف أبي هريرة، فهو بدلا من أن ينكر على معاوية أفعاله تلك، نجده ينكر على عبادة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! وكأنه لم يسمع شيئاً هو الآخر عن كل ذلك، رغم أنه أكثر من روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، والعجب منه أن يحاول إقناع عبادة بالآية الكريمة التي استشهد بها، وكأن معاوية من قوم عاد وثمود أو من بني إسرائيل ويفوته قوله تعالى (وأَنَّ هذهِ اُمّتكُمْ اُمةً واحدةً وأنا ربُّكمْ فاعبُدونِ)(1).

ولكن عبادة ألقمه حجراً حين عرّض بتأخر إسلام أبي هريرة، وعدم شهادته العهد بين أصحاب العقبة وبين النبي (صلى الله عليه وآله).

وليس عبادة بن الصامت وحده الذي فعل ذلك بروايا الخمر المحمولة لمعاوية، فإن صحابياً آخر قد فعل مثل ذلك، مما يدل على تكرر هذه الحالة عند معاوية واصراره عليها، فعن محمد بن كعب القرضي، قال: غزا عبدالرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشام، فمرّت به روايا خمر، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله.

فقال: كذب والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت

____________

1- الأنبياء: 92.


الصفحة 428
من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابقرنّ بطنه أو لأموتن دونه(1).

ويبدو أن الصحابي عبدالرحمان بن سهل الأنصاري قد سمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثاً في معاوية لم يكشف النقاب عنه، وتعهد بقتل معاوية إذا رأى مصداق الحديث بعينه، ولكن يبدو أن القدر لم يمهله ليبر بيمينه، وسوف يأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فهذه حال معاوية عندما كان أميراً على الشام، ولعل هذه التصرفات كانت من الأسباب القوية التي جعلت علي بن أبي طالب يبادر الى عزل معاوية بعد ما تولى الخلافة مباشرة، ولم يقرّه على عمله، وتحمل في سبيل ذلك خوض غمار الحروب الطاحنة لمنع معاوية من نشر الفساد، لكن من المؤسف أن عثمان بن عفان لم يأخذ على يد معاوية، بل تركه مطلق اليدين، بل وتولى الدفاع عنه وعن تصرفاته أحياناً عندما كتب إليه معاوية: إن عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله، فأما أن تكفّه إليك، وإما أن اُخلّي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان: أن أرحل عبادة حتى ترجعه الى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جنب الدار، فالتفت إليه وقال: مالنا ولك ياعبادة. فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا القاسم يقول: "إنه سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلّوا بربكم". فوالذي نفس عبادة بيده، إن فلاناً لمن اولئك. فما راجعه

____________

1- الاستيعاب 2: 401، اُسد الغابة 3: 299، الاصابة في معرفة الصحابة 2: 401، تهذيب التهذيب 6: 173، تاريخ دمشق 34: 419، مختصر تاريخ دمشق 14: 263.


الصفحة 429
عثمان بحرف(1).

لقد كانت سيرة معاوية هي التخلص من أي صحابي يعترض على مفاسده، فقبل عبادة كان هناك أبو ذر الغفاري الذي اعترض على تصرفات معاوية، فبعثه معاوية الى عثمان بعد أن كتب إليه بأن أبا ذر قد أنغل عليه الشام، ثم أرسله على بعير بلا وطاء حتى كاد يهلك في الطريق. وكان هدف معاوية واضحاً، وهو إبقاء الشام وأهله في حالة استلاب فكري لا يرون منه الحقيقة أبداً إلاّ كما يريدها معاوية، وقد استطاع معاوية بدهائه وعلى مدى عشرين عاماً من إمارته على الشام أن ينشيء جيلا منفصلا عن الأحداث الحقيقية التي تدور حوله، جيل لا يكاد يعرف من شرائع الإسلام إلاّ مظهرها الشكلي فقط، بينما هو لا يرى ما يجري حوله إلاّ بالشكل الزائف الذي توحيه وسائل إعلام معاوية له، فقد ذكر المؤرخون الذين ارّخوا لحرب صفين - مثلا على ما ندّعي- "ان هاشم بن عتبة"(2). استصرخ الناس عند المساء: ألا من كان له الى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس كثير شدّ بهم على أهل

____________

1- مسند أحمد 6: 444، المستدرك على الصحيحين 3: 357 وصححه على شرط الشيخين، تاريخ دمشق 26: 198، مختصر تاريخ دمشق 11: 307.

2- يكنى أبا عمرو، ويعرف بالمرقال. نزل الكوفة، أسلم يوم الفتح، وكان من الشجعان الأبطال والفضلاء الأخيار، فقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وهو الذي فتح جلولاء من بلاد الفرس وهزم الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح... شهد صفين مع علي(رض)، وكانت معه الراية، وهو على الرجالة، وقتل يومئذ... وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة:


يا هاشم الخير جزيت الجنةقاتلتَ في الله عدّو السُّنة

قال ابن الكلبي وابن حيان: له صحبة. وقال المرزباني: لما جاء قتل عثمان الى أهل الكوفة، قال هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الاُمة علي، فقال: لا تعجل فوضع هاشم يده على الاُخرى فقال: هذه لعلي وهذه لي، وقد بايعت علياً، وأنشد:


اُبايع غير مكترث علياًولا أخشى أميراً أشعرياً
اُبايعه وأعلم أن ساُرضيبذاك الله حقاً والنبيّا

الاصابة 6: 515، أسد الغابة 5: 353.


الصفحة 430
الشام مراراً، ليس من وجه يحمل عليه إلاّ صبروا له! فقاتل قتالا شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون منهم إلاّ حميّة العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها، وإنهم لعلى ضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا الى عدونا على تؤدة رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمنّ رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.

قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتىً شاب وهو يقول:


أنا ابن أرباب ملوك غسانوالدائن اليوم بدين عثمان
أنبأنا قراؤنا بما كانأن علياً قتل ابن عفّان

ثم شدّ لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عقبة: يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيّد الأبرار بعده عقاب النار، فاتق الله فإنك راجع الى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال.

قال الفتى: إذا سألني ربي قلت: قاتلتُ أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلّي كما ذُكر لي وإنهم لا يصلّون، وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم: يا بني، وما أنت وعثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في اُمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما قولك إنه لا يصلّي، فهو أول من صلّى مع رسول الله، وأول من آمن به، وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه قرّاء الكتاب. لا ينامون الليل

الصفحة 431
تهجداً، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك الأشقياء الضالّون.

فقال الفتى: يا عبدالله، لقد دخل قلبي وجلٌ من كلامك، وإني لأظنك صادقاً صالحاً، وأظنني مخطئاً آثماً، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ارجع إلى ربك وتب إليه فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحب التوابين ويحب المتطهرين.

فرجع الفتى الى صفه منكسراً نادماً، فقال له قوم من أهل الشام: خدعك العراقي قال: لا، ولكن نصحني العراقي"(1).

فمعاوية بن أبي سفيان قد "عمل دائباً منذ كان والياً على سورية زمن عمر بن الخطاب وعثمان، على إيجاد جيش مخلص له شخصياً، يستطيع الاعتماد عليه، وقد استثمر أفضل استثمار ضعف عثمان، ثم بقتله للحصول على الخلافة..."(2).

معاوية وشرائع الإسلام

قال الخضري بك: كان حكام الدولة الاُموية اُمراء للمؤمنين، وخلفاء، وليسوا أئمة كأئمة الشيعة، فهم يؤمون الناس في الصلاة، ولكنهم ليسوا مجتهدين ولا مشرّعين في الدين، فموقفهم في هذا مخالف للشيعة، فلم يضعوا لهم مذهباً دينياً معيناً يختلف عن مذهب أهل السلف، بل تقيدوا بمذهب أهل السلف من حيث العقيدة والتشريع(3).

____________

1- تاريخ الطبري 5: 42، كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 402، الكامل لابن الأثير 3: 313 حوادث سنة 37، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 35.

2- عمر ماهر حمادة: دراسة وتقيّة للتاريخ الاسلامي: 23.

3- محاضرات في التاريخ الاسلامي: 94.


الصفحة 432
ليس من شأننا الآن المقارنة بين عقائد الشيعة وعقائد الاُمويين، بل هدفنا هو الكشف عن مدى تمسّك الاُمويين بعقيدة السلف -كما يدعي الخضري بك- وتبيين ما إذا كان خلفاء بني اُمية مشرّعين أم لا، وهل كان اجتهادهم وتشريعهم لمصلحة الإسلام، أم كان بهدف محقه وتبديل السنّة النبوية خدمة لأغراضهم!

إن الكلام في أحداث بني اُمية يستغرق الكثير من الجهد والوقت، لذا فسوف اُحاول ذكرها بشيء من الاختصار - إظهاراً للحقيقة فحسب- معتمداً على أقوال العلماء والمحدثين الذين يعتدُّ بأقوالهم، حتى لا يظن أحد ان مصدر هذه الأخبار هو أعداء بني اُمية من الشيعة أو من العباسيين أو الخوارج أو غيرهم، بل سأذكر الأخبار التي جاءت -وكما قلنا سابقاً- عن العلماء والمحدثين الذين ليسوا بمتهمين على معاوية، بل هم يعتقدون بعدالته - كونه صحابياً- ويحملون كل أعماله على التأول والاجتهاد، ويحاول بعضهم إلتماس الأعذار له -كما مرّ عن السرخسي سابقاً- وسوف نرى مدى التناقض أحياناً بين الأخبار والآراء.

1 - الأذان في العيدين

لا خلاف بين المذاهب الإسلامية في أن صلاة العيدين لا أذان فيها ولا إقامة.

قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على عدم شرعية الأذان والاقامة في صلاة العيدين، قال العراقي: وعليه عمل العلماء كافة، وقال ابن قدامة في

الصفحة 433
المغني: ولا نعلم في هذا خلافاً ممن يعتد بخلافه(1).

وقال الإمام مالك إنه سمع غير واحد من علمائهم يقول: لم يكن في عيد الفطر ولا في الاضحى نداء ولا إقامة منذ زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى اليوم. قال مالك: وتلك السنّة التي لا اختلاف فيها عندنا(2).

وقال النووي: ولا يؤذن لها ولا يُقام، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت العيد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة. والسنّة أن ينادى لها: الصلاة جامعة لما روي عن الزهري أنه كان ينادي بها(3).

وروى الشافعي عن الزهري قال: لم يؤذّن للنبي (صلى الله عليه وآله) ولأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين، حتى أحدث ذلك معاوية بالشام، فأحدثه الحجاج بالمدينة حين اُمِر عليها!(4)

قال ابن حجر العسقلاني: اختلف في أول من أحدث الأذان فيها، فروى ابن أبي شيبة باسناد صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه معاوية. وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله، وروى ابن المنذر عن حصين بن عبدالرحمان، قال: أوّل من أحدثه زياد بالبصرة، وقال الداودي: أول من أحدثه مروان، وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه كما تقدم في البداءة بالخطبة!(5).

فمعاوية كان مجتهداً ومشرعاً إذاً، وليس الأمر كما يدعي الخضري بك،

____________

1- نيل الأوطار 3: 336، المغني 2: 235.

2- الموطأ 1: 177.

3- المجموع، شرح المهذب 5: 18 كتاب الصلاة: باب صلاة العيدين.

4- الاُم 1: 235.

5- فتح الباري 2: 453، ارشاد الساري للقسطلاني 2: 737، المصنف لابن أبي شيبة 2: 169، شرح الموطأ للزرقاني 1: 362.


الصفحة 434
ولكن معاوية كان مجتهداً في تغيير السنّة النبوية الشريفة وابتداع شريعة جديدة لا تتماشى مع شريعة الإسلام، وكما سوف يتبين بشكل أوضح فيما يأتي.

2 - ترك البسملة والتكبير

أخرج الشافعي من طريق عبيد بن رفاعة قال: إن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، فلم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أن يا معاوية، سرقت صلاتك! أين بسم الله الرحمن الرحيم؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟!

فصلى بهم صلاة اُخرى، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه(1).

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن المسيب أنه قال: أول من نقص التكبير معاوية.

كما وأخرج عن طريق ابراهيم، قال: أول من نقص التكبير زياد(2).

قال ابن حجر: هذا لا ينافي الذي قبله، لأن زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان!(3).

وقال الفخر الرازي: إن علياً (عليه السلام) كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة الى بني اُمية، بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علي (عليه السلام)!(4).

فعدم جهر معاوية بالبسلمة، وتركه التكبير عند كل رفع وخفض، إنما كان

____________

1- الاُم 1: 108.

2- المصنف 1: 242.

3- فتح الباري 2: 270.

4- التفسير الكبير 1: 180 الجهر بالبسملة في الصلاة.


الصفحة 435
من بغض علي بن أبي طالب وسعياً الى هدم السنّة النبوية الشريفة التي كان علي بن أبي طالب حريصاً عليها.

ويبدو أن هذه البدعة قد استشرت حتى بعد زمان معاوية، الى أن أبطلها عمر بن عبدالعزيز الذي "كتب الى عماله يأمرهم أن يكبّروا كلما خفضوا ورفعوا في الركوع والسجود، إلاّ في القيام من التشهد بعد الركعتين، لا يكبّر حتى يستوي قائماً، مثل قول مالك"(1).

ولم يقتصر التغيير والتضييع على البسملة والتكبير، بل إن أيدي التغيير قد طالت الصلاة كلها، حتى شقّ ذلك على صحابي كبير بقي حياً حتى رأى ما أحدثه معاوية وبنو اُمية في الصلاة التي هي عماد الدين، ألا وهو الصحابي أنس بن مالك الذي قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)! قيل: الصلاة. قال: أليس ضيّعتم ما ضيعتم فيها!

وعن عثمان بن أبي روّاد أخي عبدالعزيز قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت ما يبكيك! فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت!(2).

3 - ترك التلبية

لم يقتصر بغض معاوية وبني اُمية لعلي على مخالفته في ترك البسملة والتكبير -والتي كانت تخفي في الحقيقة أهدافاً أبعد من ذلك- بل تعداه الى ترك شعيرة من شعائر الحج، وسنّة مؤكدة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو التلبية، والتي اتفق العلماء عليها ووردت بذلك الأخبار الصحيحة المتكاثرة. فقد جاء "عن

____________

1- المدونة الكبرى 1: 70.

2- صحيح البخاري 1: 141 باب تضييع الصلاة عن وقتها.


الصفحة 436
عبدالله بن عمر(رضي الله عنه) أن تلبية رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

وعن عائشة(رض) قالت: إني لأعلم كيف كان النبي (صلى الله عليه وآله) يلبي: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك..."(1).

وعن ابن عباس(رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وآله) أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة.

وعن عبدالله بن عباس أيضاً أن اُسامة بن زيد(رضي الله عنه) كان ردف النبي (صلى الله عليه وآله) من عرفة الى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة الى منى، قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي (صلى الله عليه وآله) يلبي حتى رمى جمرة العقبة(2).

وعن عكرمة: أهلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى رمى الجمرة، وأبو بكر وعمر(3).

وعن ابن عباس: حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة(4).

وعن علي بن أبي طالب أنه لبّى حتى رمى جمرة العقبة(5).

فهذه هي السنة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وخلفائه من بعده، ولم يخالف هذه السنّة إلاّ معاوية، فعن سعيد بن جبير قال: كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال: يا سعيد، مالي لا أسمع الناس يلبّون؟! فقلت: يخافون من معاوية; فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك، وإن رغم أنف معاوية، اللهم العنهم

____________

1- صحيح البخاري 3: 170 كتاب الحج: باب التلبية.

2- صحيح البخاري 3: 204 كتاب الحج: باب التلبية.

3- المصنف لابن أبي شيبة 4: 342، المحلى لابن حزم 7: 136.

4- فتح الباري 3: 419.

5- المحلّى 7: 136.


الصفحة 437
فقد تركوا السنّة من بغض علي!(1).

وعن سعيد بن جبير أيضاً قال: أتيت ابن عباس بعرفة وهو يأكل رماناً، فقال: أفطر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعرفة وبعثت اليه اُم الفضل بلبن فشربه، وقال: لعن الله فلاناً، عمدوا الى أعظم أيام الحج فمحوا زينته، وإنما زينة الحج التلبية(2).

4 - قتل الصحابة

مرّ فيما سبق أن الحسن البصري عدَّ من موبقات معاوية الأربعة: قتل حجر بن عدي وأصحابه.

وحجر بن عدي من خيار الصحابة، "وهو المعروف بحجر الخير، وفد على النبي (صلى الله عليه وآله) هو وأخوه هانئ، وشهد القادسية، وكان من فضلاء الصحابة، وكان على كندة بصفين، وعلى الميسرة يوم النهروان، وشهد الجمل أيضاً مع علي، وكان من أعيان الصحابة، قال أحمد: قلت ليحيى بن سليمان: أبلغك أن حجراً كان مستجاب الدعوة؟ قال: نعم، وكان من أفاضل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) (3).

ورغم كل ذلك، نجد بعض المؤلفين ينبرون لتبرير عمل معاوية هذا، بل أنهم يوحون للقراء بأن معاوية هو المحق، وأن حجراً وأصحابه هم المذنبون، ومن هؤلاء المؤلفين، القاضي ابن العربي حيث يقول في معرض حديثه عن معاوية:

____________

1- السنن الكبرى للنسائي 2: 419، السنن الكبرى للبيهقي 5: 113، وقال السندي في شرحه لسنن النسائي: من بغض علي، أي لأجل بغضه، أي وهو كان يتقيّد بالسنن، فهؤلاء تركوها بغضاً له!

2- مسند احمد 1: 358، كنز العمال 5: 152.

3- الاستيعاب 1: 389، أسد الغابة 1: 697 الاصابة 2: 32.


الصفحة 438
فإن قيل: فقد قتل حجر بن عدي -وهو الصحابي المشهور بالخير- صبراً أسيراً بقول زياد، وبعثت اليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله. قلنا: قد علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا، فقائل يقول: قتله ظلماً، وقائل يقول: قتله حقاً.

فان قيل: الأصل قتله ظلماً إلاّ إذا ثبت عليه ما يوجب قتله. قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق! فمن ادعى أنه الظلم، فعليه الدليل! ولو كان ظلماً محضاً لما بقي بيت إلاّ لعن فيه معاوية، وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس- وبينهم وبين بني اُمية ما لا يخفى على الناس -مكتوب على أبواب مساجدها: (خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله): أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم)!.

ولكن حجراً -فيما يقال- رأى من زياد اُموراً منكرة فحصبه وخلعه وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً. وقد كلمته عائشة في أمره حين حج فقال لها: دعيني وحجراً حتى نلتقي عند الله!.

وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وأنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فمالكم لا تسمعون!(1).

أما مسألة الاختلاف في قتل حجر، هل هو حق أم ظلم، فسنترك للقارئ أن يتخذ القرار في ذلك، بعد أن نضع بين يديه الأخبار التي ذكرت هذه القضية وملابساتها، ومحاولة تقديم الدليل الذي طلبه القاضي ابن العربي. أما فيما يتعلق بموقف المسلمين من معاوية وسبب عدم لعنه وما رأى القاضي ابن العربي من قرن اسمه مع اسماء الخلفاء الأربعة على مساجد مدينة بغداد، رغم

____________

1- العواصم من القواصم: 219.


الصفحة 439
العداوة بين بني العباس وبني اُمية، فسوف نقوم بمناقشته في المبحث القادم بالتفصيل.

لكن المهم أن القاضي ابن العربي -كعادته- لم يذكر الاُمور المنكرة التي رآها حجر من زياد حتى حصبه وخلعه، وكيفية خلعه! وكيف أراد أن يقيم الخلق للفتنة حتى صار في نظر معاوية من المفسدين في الأرض!

أما طلب القاضي منّا أن ندع موضوع حجر ومعاوية جانباً حتى يوم القيامة، فإن ذلك هو دأب الاتجاه المحافظ الذي يريد التغطية على كل الجرائم المشينة التي وقعت في تاريخنا في تلك الحقبة، والتحذير دائماً من محاولة نبش هذا التاريخ لئلا تظهر الحقائق، وهي على عكس المعلومات التي ظلت الأجيال تتلقاها عن طريق وسائل الإعلام الاُموي ومؤيديه على مرّ القرون، ولكن هل يجوز للمسلمين أن يتركوا هذه الاُمور دون بحث عن الحقيقة، ولمعرفة المحق من المبطل، والمظلوم من الظالم، حتى لا يتولى الظالمين كما أمر الله سبحانه وتعالى، فقال عزّ من قائل: (وَلا تَركنُوا إلى الذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النارُ وَمالَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَولياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ)(1).

قال الفخر الرازي في تفسيرها:

قال المحققون: الركون المنهي عنه، هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم... واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن الى الظلمة لابد وأن تمسه النار، وإذا كان كذلك، فكيف يكون حال الظالم نفسه!(2).

____________

1- هود: 113.

2- التفسير الكبير 6: 407.


الصفحة 440

معاوية وحجر بن عدي

أورد المؤرخون، والذين ترجموا للصحابة قصة مقتل حجر بن عدي، فمنهم من ذكرها بتفاصيلها ومنهم من اختصرها، وسوف اقتطف أهم ما أورده الطبري عن هذه القضية.

قال الطبري - بعد أن أورد قصة وصية معاوية للمغيرة بن شعبة حين توليته على الكوفة بمدح شيعة عثمان وذم علي وشيعته-:

أقام المغيرة على الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهراً، وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حبّاً للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له، والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: بل إيّاكم فذمّم الله ولعن، ثم قام فقال: إن الله عزّوجل يقول: (كُونوا قَوّامينَ بالقِسطِ شُهَداءَ للهِ) وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم! فيقول المغيرة: يا حجر، لقد رُمي بسهمك إذ كنتُ أنا الوالي عليك، يا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضْبة السلطان احياناً مما يهلك أمثالك كثيراً، ثم يكف ويصفح.

فلم يزل حتى كان في آخر إمارته، قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول، وكانت مقالته: اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك واتبع سنّة نبيك (صلى الله عليه وآله)، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً! اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيّه والطالبين بدمه! ويدعو على قتلته! فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالمغيرة سمعها كل من كان

الصفحة 441
في المسجد وخارجاً منه وقال: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الانسان، مُرلنا بأرزاقنا واُعطياتنا فإنك قد حبستها عنا، وليس ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين!

قال: فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مُر لنا بأرزاقنا واُعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئاً، وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه. فنزل المغيرة فدخل، واستأذن عليه قومه فأذن لهم، فقالوا: علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة ويجترئ عليك في سلطانك هذه الجرأة! إنك تجمع على نفسك بهذا خصلتين: اما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الاُخرى فإن ذلك إن بلغ معاوية كان أسخط له عليه -وكان أشدهم له قولا في أمر حجر والتعظيم عليه، عبدالله أبي عقيل الثقفي- فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي، فيصنع شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شرّ قتلة، إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي، ولا أحب أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة!

ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم، حتى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكرونني لو قد جرّبوا العمال بعدي...

ثم يروي الطبري خطبة زياد بعد توليه الكوفة عقباً للمغيرة الذي هلك سنة إحدى وخمسين، فيورد خطبته التي استهلها بالوعظ والتهديد والوعيد، "ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرّظهم، وذكر قتلته ولعنهم، فقام حجر ففعل مثل

الصفحة 442
الذي كان يفعل بالمغيرة، وقد كان زياد قد رجع الى البصرة وولى الكوفة عمرو بن حريث، ورجع الى البصرة، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن الحريث، فشخص الى الكوفة حتى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خزّ أخضر، قد فرق شعره -وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن غبّ البغي والغي وخيم، إن هؤلاء حجّوا فأشروا، وأمّنوني فاجترأوأ علي، وأيم الله لئن لم يستقيموا لاُداوينكم بدوائكم. وقال: ما أنا بشيء إن لم امنع باحة الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده، ويل امك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان، ثم قال:


ابلغ نصيحة أن راعي إبلهاسقط العشاء به على سرحان

كما وأورد الطبري قصة اُخرى حول هذا الموضوع، عن علي بن حسن بسنده الى ابن سيرين قال: خطب زياد يوماً في الجمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي حجر فوت الصلاة، ضرب بيده الى كف من الحصا وثار الى الصلاة وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد، نزل فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب الى معاوية في أمره وكثّر عليه.

فكتب إليه معاوية أن شدّه في الحديد ثم احمله إلي.

فلما أن جاء كتاب معاوية، أراد قوم حجر أن يمنعوه، فقال: لا، ولكن سمع وطاعة، فشدّ في الحديد ثم حمل الى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له معاوية: أمير المؤمنين! أما والله لا أقيلك ولا استقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه. فاُخرج من عنده، فقال