الصفحة 598
الجوزجاني، فلماذا؟ ومن هو الجوزجاني؟

قال ابن عدي: سكن دمشق، فكان يحدّث على المنبر... وكان يتحامل على علي(رضي الله عنه).

وقال الدارقطني: كان من الحفاظ الثقات المصنفين، وفيه انحراف عن علي...(1)

فالجوزجاني ناصبي يبغض علي بن أبي طالب، فماذا يتوقع منه إزاء فضيلة لعلي بن أبي طالب، لكن الأمر الغريب أن يوثقه الجماعة ويمتدحوه، ويذكرون نصبه العداوة لعلي ووقوعه فيه دون اكتراث، في حين نجد موقفهم تجاه من يروي شيئاً في مثالب الشيخين شديداً جداً، ومن الأمثلة على ذلك. موقف الذهبي من أحد الحفاظ، وهو ابن خراش، فبعد أن يثبت عدالته وحفظه وبراعته، يقول: خرّج ابن خراش مثالب الشيخين، وكان رافضياً.. (ثم يقول مخاطباً إياه): فأما أنت أيها الحافظ البارع.. فأنت زنديق معاند للحق، فلا رضي الله عنك! مات ابن خراش الى غير رحمة الله... الخ(2)

وبعد كل هذا وذاك، فان الحافظ نورالدين الهيثمي قد ذكر حديث الطير برواية سفينة، وقال عنه: رواه البزار والطبراني باختصار، ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير فطر بن خليفة وهو ثقة!(3).

ومهما يكن من أمر، فان العادة جرت على تحسين أو تصحيح الحديث الضعيف إذا تكاثرت طرقه، وقد حسّن المحدّثون أحاديث ضعيفة لا تبلغ طرقها عُشر طرق حديث الطير، ولكنهم هنا يقفون طويلا، لا لأن طرق الحديث هي المشكلة، بل لأن متنه يخالف عقيدتهم في المفاضلة.

____________

1- تذكرة الحفاظ 2: 249.

2- المصدر السابق 2: 685.

3- مجمع الزوائد 9: 126.


الصفحة 599

مناقب عمر

إن الذي يراجع ما قيل في فضائل عمر، لابد أن يأخذه العجب حين يرى أن عمر بن الخطاب يتفوق في فضائله على أبي بكر الذي أجمع الجمهور على أفضليته على عمر، وسبب ذلك أن الوضّاعين الذين حثهم معاوية على اختلاق تلك الفضائل لم تكن تجمعهم لجنة تقوم بتنسيق أعمالهم، فكان همُّ الواحد منهم أن يختلق ما تجود به قريحته دون الإلتفات الى الآخرين، بل إنهم كانوا يتسابقون فيها، ولعل أعظم منقبة مفتعلة لعمر، مما أخرجه المحدثون عن أبي هريرة، قال:

قال النبي (صلى الله عليه وآله): "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من اُمتي منهم أحد فعمر"!(1).

وهذه المنقبة لو صحّت، فإنها خليقة بأن تزري بجميع مناقب أبي بكر! إن أفضل ما يثبت افتعال المناقب لعمر بن الخطاب، هو ما أخرجه البخاري أيضاً عن الزهري، قال: أخبرني حمزة عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "بينا أنا نائم شربت -يعني اللبن- حتى أنظر الى الري يجري في ظفري، أو في أظفاري، ثم ناولت عمر"، فقالوا: فما أوّلته؟ قال: "العلم"(2).

على أننا حينما نستعرض سيرة عمر بن الخطاب ومدى علمه يتكشف لنا أن عمر بن الخطاب لم يكن أعلم الصحابة كما يفترضه الحديث المزعوم، ولقد اعترف هو نفسه بذلك في أكثر من مناسبة، فعن معدان بن أبي طلحة، أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة، فذكر نبي الله (صلى الله عليه وآله)، وذكر أبا بكر، ثم قال:

____________

1- صحيح البخاري 5: 15 باب مناقب عمر.

2- المصدر السابق: ص 13.


الصفحة 600
إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن باصبعه في صدري وقال: "يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء"! وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن(1).

وأخرج عنه المحدثون أيضاً، أنه قال: إنكم تزعمون أنّا لا نعلم أحكام الربا! ولأن أكون أعلمها أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها!(2).

وعن عمر: أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) كيف قسم الجد؟ قال: "ما سؤالك عن ذلك يا عمر! إني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك"، فمات قبل أن يعلم ذلك(3).

قال ابن كثير: وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ثلاث وددت أن أسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كان عهد إلينا عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وباب من أبواب الربا(4).

وعن سعيد بن عبدالرحمان بن أبزى، عن أبيه: أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبتُ فلم أجد ماءً. فقال: لا تصلِّ! فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريّة فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصلِّ، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيّك"، فقال عمر: اتق الله يا عمّار، قال: إن

____________

1- صحيح مسلم 3: 1236، مسند أحمد 1: 15، سنن إبن ماجة 2: 910.

2- مصنف عبد الرزاق 8: 26، سنن البيهقي 3: 23.

3- مجمع الزوائد 4: 227 وقال: رواه الطبراني في الاوسط ورجاله رجال الصحيح.

4- تفسير القرآن العظيم 1: 606.


الصفحة 601
شئت لم اُحدّث به(1).

وعن أبي سعيد الخدري: كنّا في مجلس عند اُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً حتى وقف، فقال: أنشدكم الله! هل سمع أحد منكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "الاستئذان ثلاث مرّات، فإن اُذن لك، وإلاّ فارجع"؟ قال اُبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته إني جئت أمس فسلّمت ثلاثاً ثم انصرفت. قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو استأذنت حتى يؤذن لك. قال: استأذنت كما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتينّ بمن يشهد لك على هذا، فقال اُبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً، قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول هذا!

وفي رواية، فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ألهاني عنه الصفق بالأسواق!(2).

قال النووي في شرحه لهذا الحديث: وأما قوله لا يقوم معه إلاّ أصغر القوم، فمعناه أن هذا الحديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى إن أصغرنا يحفظه، وسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)...(3).

وعن أبي واقد الليثي، قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم العيد؟ فقلت: باقتربت الساعة، و ق والقرآن المجيد(4).

____________

1- صحيح مسلم 1: 280، صحيح البخاري 1: 93 وقد أسقط قول عمر: لا تصل، ولكن أثبتها إبن حجر في فتح الباري 1: 352 وقال: وهذا مذهب مشهور عن عمر.

2- صحيح مسلم 3: 1694، 1696.

3- صحيح مسلم بشرح النووي 14: 131.

4- صحيح مسلم 2: 607.


الصفحة 602
وقال ابن كثير في تفسير آية (وَإِنْ أَردتُم استبدالَ زَوج مَكانَ زَوج وَآتَيتُم إحداهُنَّ قِنطاراً فَلا تَأخذُوا مِنهُ شَيئاً أَتأخُذونهُ بُهتاناً وَاِثماً مُبيناً)(1).

قال الحافظ أبو يعلى: عن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: أيها الناس! ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم; فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول: (وآتيتُم إحداهنَّ قِنطاراً)(2)، فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر...!

قال ابن كثير: إسناده جيد قوي(3).

وقد مرّ في فصل سابق كيف أن صعصعة بن صوحان دلّ عمر بن الخطاب على كيفية توزيع المال حين جهل عمر ذلك.

فهذه شواهد قليلة من أصح الروايات حسب المقاييس المتعارف عليها، وفيها اعتراف عمر بأن كل الناس أفقه منه! وهي كلها تثبت أن عمر بن الخطاب لم يكن على تلك الدرجة من الأعلمية، لا بكتاب الله، ولا بسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ورغم ذلك تجد الجمهور متشبثاً بتلك الرواية التي وضعتها أجهزة الإعلام الاُموية من أجل إخفاء فضيلة لعلي بن أبي طالب، طالما

____________

1- النساء: 20.

2- النساء: 20.

3- تفسير القرآن العظيم 1: 478.


الصفحة 603
رددتها الألسن.

قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبدالرحيم بالرملة، ثنا أبو الصلت عبدالسلام بن صالح، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن إبن عباس(رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب"، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون، فإني سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين، عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة؟ فقلت: أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم؟

فقال: قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي وهو ثقة مأمون، سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمد بن حبيب الحافظ يقول -وسئل عن أبي الصلت الهروي- فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلّم عليه، فلما خرج تبعته فقلت له، إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن إبن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعلي بابها..." فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما رواه أبو الصلت...(1)

وقال نور الدين الهيثمي: (باب في علمه(رضي الله عنه)): قد تقدم في إسلامه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة: "أما ترضين أن زوجتك أقدم اُمتي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً". رواه أحمد والطبراني برجال وثقوا(2).

وقال ابن كثير: وقد ثبت عن عمر أنه كان يقول: علي أقضانا، واُبي

____________

1- المستدرك 3: 126.

2- مجمع الزوائد 9: 114.


الصفحة 604
أقرؤنا للقرآن، وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها(1).

وقال ابن عبد البرّ: عن سعيد بن المسيب، قال: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب(رضي الله عنه).

قال: وأخبرنا يحيى بن معين، عن عبدالملك بن سليمان، قال: قلت لعطاء: أكان أحد في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أحد أعلم من علي؟ قال: لا والله ما أعلمه.

وقال عن ابن مسعود: إن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب، وعن سعيد بن وهب، قال: قال عبدالله (ابن مسعود): أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب.

وروى عبدالرحمان بن اُذنية العبدي عن أبيه قال: أتيت عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)فسألته: من أين أعتمر؟ فقال: إيت علياً... وذكر الحديث وفيه: وقال عمر: ما أجدلك إلاّ ما قال علي.

وسأل شريح ابن هانئ عائشة اُم المؤمنين(رض) على المسح على الخفين، قالت: إيت علياً فاسأله...

وقال سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص: قلت لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: يا عم! لو كان صغو الناس إلى علي! قال: يا ابن أخي، إن علياً (عليه السلام) كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة، والقدم في الإسلام، والصهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والفقه في المسألة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون.

قال معاوية لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي علياً! قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال لتصفنّه، قال: أمّا إذ لابد من وصفه، فكان والله بعيد المدى،

____________

1- البداية والنهاية 7: 359.


الصفحة 605
شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه..

قال ابن عبد البرّ: وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب العلم والفقه بموت إبن أبي طالب...(1)

موافقات عمر

من المسلّمات الاُخرى عند الجمهور، قضية موافقات عمر بن الخطاب، وقد أطال القوم فيها وأكثروا -تبعاً لتناقض الروايات- حتى وجد شراح الأحاديث أنفسهم مرة اُخرى أمام معضلة الجمع بين الأحاديث. فعن أنس، قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فانه يكلمهن البرّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي (صلى الله عليه وآله) في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية!(2).

وعن ابن عمر قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي اُسارى بدر!(3).

وعن ابن عمر، أن عبدالله بن اُبي لما توفي جاء إبنه الى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله! أعطني قميصك اُكفّنه فيه وصلّ عليه واستغفر له، فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله)

____________

1- الاستيعاب 3: 1103 ترجمة علي بن أبي طالب.

2- صحيح البخاري 1: 111.

3- صحيح مسلم 4: 1865.


الصفحة 606
قميصه فقال: "آذني اُصلي عليه"، فاذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر(رضي الله عنه)فقال: أليس الله ينهاك أن تصلي على المنافقين! فقال: "أنا بين خيرتين، قال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، فصلى عليه، فنزلت ولا تصل على أحد منهم مات أبداً(1).

قال ابن حجر في شرحه على الحديث الأوّل: قوله وافقت ربي في ثلاث، أي وقائع، والمعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت! لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة الى نفسه... وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه من مشهورها قصة اُسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في الصحيح، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر، أنه قال: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر، إلاّ نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر، وهذا دال على كثرة موافقته، وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر....(2)

وقال النووي، في شرحه على الحديث الثاني: هذا من أجلّ مناقب عمر وفضائله(رضي الله عنه) وهو مطابق للحديث قبله، ولهذا عقّبه مسلم به(3).

وجاء في هذه الرواية: وافقت ربي في ثلاث، وفسرها بهذه الثلاث، وجاء في رواية اُخرى في الصحيح: اجتمع نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغيرة، فقلت: عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن. فنزلت الآية بذلك، وجاء في الحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا موافقته في منع الصلاة على المنافقين،

____________

1- صحيح البخاري 2: 97، صحيح مسلم 4: 1865.

2- فتح الباري 1: 401.

3- الحديث الذي قبله في صحيح مسلم 4: 1864، عن عائشة عن النبي (ص) أنه كان يقول: "قد كان يكون في الامم قبلكم محدّثون، فان يكن في اُمتي احد، فعمر بن الخطاب منهم". وقد أخرجه البخاري أيضاً كما مرّ سابقاً.


الصفحة 607
ونزول الآية بذلك، وجاءت موافقته في تحريم الخمر، فهذه ست، وليس في لفظه ما ينفي زيادة الموافقة والله أعلم(1).

أما ابن حجر الهيثمي، فذكر لعمر سبع عشرة موافقة(2).

وقال السيوطي: قد أوصلها بعضهم الى أكثر من عشرين!(3).

إن الأمر الذي يغفله دائماً شرّاح الأحاديث والحفّاظ، هو -كما قلنا- أن اُولئك الوضّاعين لم يكونوا مجتمعين في لجنة تنسّق أعمالهم، فكان كل واحد منهم يخرج برواية تخالف الاُخريات، فأوقعوا الشرّاح والعلماء والفقهاء في تلك المعضلات.

إن الدراسة الدقيقة لقضية الموافقات تثبت عدم صحة أي منها، وبما أن استعراضها كلها يستغرق وقتاً كثيراً، فسوف أكتفي بمناقشة واحدة منها، مع ذكر آراء الشرّاح فيها، وهي قضية موافقة عمر للنهي عن الصلاة على عبدالله بن اُبي، حيث يمكن ملاحظة ما يأتي:

1 - إن عمر بن الخطاب قال للنبي (صلى الله عليه وآله): أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين! وهذا يفترض أن آية النهي قد نزلت قبل الحادثة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد خالف أمر الله في عدم الصلاة عليهم!

2 - قوله: فنزلت ولا تصل على أحد منهم مات أبداً! وهذا يفترض العكس، أي أن الآية قد نزلت بعد نهي عمر للنبي (صلى الله عليه وآله)، وأن الله قد وافق عمراً في رأيه!

إن هذا التناقض قد أوقع شرّاح الحديث في مشكلة حقيقية، ولم يعرفوا

____________

1- شرح صحيح مسلم 15: 166.

2- الصواعق المحرقة: 154.

3- تاريخ الخلفاء: 96.


الصفحة 608
كيفية التخلص من هذا الإشكال، فراحوا يبنون آراء تبعث على السخرية، فقد قال ابن حجر: قوله: فقال يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه! كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، قد استشكل جداً حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته! وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك! وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام! ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. قلت: الثاني، يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث، قال: فأنزل الله: ولا تصلّ على أحد منهم...الخ.

وقال أيضاً: واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه... قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا، ولا يصح أن الرسول قاله...! وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح! وقال في البرهان: لا يصححه أهل الحديث! وقال الغزالي في المستصفى: الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح! وقال الداودي: هذا الحديث غير محفوظ...!(1)

وخلاصة القول في الحديث، أن أحدهم قد تورّط بوضع حديث (عمر المحدّث)، ولأجل ترسيخه في الأذهان نسج الآخرون روايات الموافقة، كما يدل على ذلك كلام النووي، ولأجل التأكد من عدم صحة الموافقة في قضية

____________

1- فتح الباري 8: 269.


الصفحة 609
الحجاب على سبيل المثال، راجع رواياته في مصادرها وقارن بينها فيما روي عن كل من عروة عن عائشة، وبين ما رواه أنس بن مالك(1).

قرين الحق

إن قضية (عمر المحدَّث) تقودنا الى حديث آخر يعتبر متمّماً لهذا الحديث وموضحاً له، وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله) -فيما يزعمون- عن ابن عمر "إنّ الله وضع الحقَّ على لسان عمر وقلبه"(2).

وبدون حاجة الى الإطالة في الكلام، فإننا نقول: إن هذا كله قد وضع في مقابل حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الخصوص، وفيه ما يدل على أن الحق مع علي بن أبي طالب، وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعضهم، فقال ابن تيمية: حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" من أعظم الكلام كذباً وجهلا، فان هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يُعرف عن أحد منهم أصلا، بل هذا من أظهر الكذب، ولو قيل: رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكناً، وهو كذب قطعاً على النبي (صلى الله عليه وآله)، فانه كلام ينزّه عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).

الملاحظ أن ابن تيمية لا ينزه النبي (صلى الله عليه وآله) عن الكلام المماثل في عمر بن

____________

1- راجع: صحيح البخاري 6: 148، 66، و 1: 49، صحيح مسلم2:1048.

2- مجمع الزوائد 9: 66، المستدرك 3: 87، سنن إبن ماجة رقم (108)، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 117، السنن الكبرى للبيهقي 6: 295، سنن أبي داود 2: 2، تحفة الاحوذي للمباكفوري 10: 116، عون المعبود للعظيم آبادي 8: 87.

3- منهاج السنّة النبوية 2: 167.


الصفحة 610
الخطاب، لكن الأعجب من ذلك هو إدعاء ابن تيمية أن أحداً لم يرو هذا الحديث لا بإسناد صحيح ولا حتى ضعيف! فإن تلميذه إبن كثير الدمشقي هو أول من يناقضه في ذلك، وإن كان يعزف على وتر مشابه لوتره.

إذ يقول: وقد ورد عن أبي سعيد واُم سلمة: إن الحق مع علي(رضي الله عنه)، وفي كل منهما نظر والله أعلم(1).

فابن كثير يثبت بأن للحديث إسنادين معروفين عن صحابيين، إلاّ أنه يبدي عدم إطمئنانه له، رغم عدم توضيحه لموقع نظره منه، ولا أدري إن كان ابن كثير قد استوفى طرق الحديث ام أنه تغافل عنه، لأن الروايات الصحيحة- التي ليس فيها نظر- قد وردت عن:

1 - أبي ثابت مولى أبي ذر، قال: كنت مع علي(رضي الله عنه) يوم الجمل، فلما رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس، فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر، فقاتلت مع أمير المؤمنين، فلما فرغ ذهبت الى المدينة، فأتيت اُم سلمة فقلت: إني والله ما جئت أسأل طعاماً ولا شراباً، ولكني مولى لأبي ذر. فقالت: مرحباً. فقصصت عليها قصتي فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت: الى حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس.

قالت: أحسنت، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"(2).

2 - عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، عن علي(رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار"(3).

____________

1- البداية والنهاية 7: 360.

2- المستدرك 3: 124 وصححه ووافقه الذهبي.

3- المصدر السابق وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.


الصفحة 611
3 - عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا عند بيت النبي (صلى الله عليه وآله) في نفر من المهاجرين والأنصار، فقال: "ألا أخبركم بخياركم"؟ قالوا: بلى، قال: "الموفون المطيبون، إن الله يحب الحفي التقي"، قال: ومرّ علي بن أبي طالب، فقال: "الحق مع ذا، الحق مع ذا، الحق مع ذا"(1).

وقال الفخر الرازي: ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله (صلى الله عليه وآله): "اللهم أدر الحق مع علي حيث دار"(2).

وطالما أن القرآن حق، فكون علي مع القرآن يعني أنه مع الحق حتى يردا على النبي (صلى الله عليه وآله).

العشرة المبشرة بالجنة

ومن الأحاديث التي بلغت حدّاً من الشهرة والذيوع، حتى لا يكاد مسلم من عامة المسلمين إلاّ ويعرفه ويعرف معظم رجاله، حديث العشرة المبشرة بالجنة، ومن الغريب أن الشيخين لم يخرجاه على عكس ما يعتقد الكثير من غير الباحثين! ويبدو أن شروطهما غير متوفرة فيه، وإلاّ فانهما يبادران الى إخراج فضائل الصحابة من ذوي الأهمية والمكانة العالية، كأمثال هؤلاء العشرة، وهم كما في سنن الترمذي وأبي داود واللفظ للأوّل: عن حميد بن عبدالرحمان بن عوف، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمان بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح

____________

1- مجمع الزوائد 7: 235 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

2- التفسير الكبير 1: 205.


الصفحة 612
في الجنة"(1).

إننا وبدون مناقشة إسناد الرواية، نستطيع أن نلاحظ عدة اُمور على هذا الحديث، فهو يكاد يكون نصاً على الخلفاء الأربعة على الترتيب، يضاف إليهم بعض الذين ترشحوا فيما بعد للخلافة، فكأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد لاحظ كل هذه الاُمور، ثم قال مقالته هذه! ولا أدري لماذا يخص النبي (صلى الله عليه وآله) هؤلاء النفر من أصحابه بالبشارة بالجنة، مع أن مذهب الجمهور هو أن جميع الصحابة هم من أهل الجنة، حتى الذين تلبّسوا بالفتن، فما معنى أن يؤكد النبي أن هؤلاء الصحابة بالذات هم من أهل الجنة!

إننا نستطيع أن نفهم أن يبشر النبي (صلى الله عليه وآله) آل ياسر بالجنة، وهو يراهم يعذَّبون على أيدي طواغيت قريش والنبي لا يستطيع الدفع عنهم، فيصبرهم ببشارتهم بالجنة تثبيتاً لهم على مواقفهم،وكذلك بشارته لاُم أيمن بأنها من أهل الجنة ترغيباً للزواج منها بعد أن ترملت ولم يبق لها معيل، وغير ذلك من المواقف، أما تخصيص هؤلاء العشرة الذين كانوا مدار الأحداث من بعده بالبشارة بالجنة، فأمر يبعث على الإرتياب.

إن نظرة فاحصة لهذا الحديث تبين لنا أن هؤلاء العشرة كانوا يمثلون قمة الارستقراطية القرشية، التي دارت على يدها كل الأحداث المهمة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن هؤلاء إنما كانوا أقطاب الرحى في تلك الأحداث الخطيرة، ما يعطي انطباعاً عاماً بأن هذا الحديث إنما وضع لتبرئة هؤلاء ليس إلاّ، ويقيناً أن هؤلاء الصحابة لم يكونوا قد سمعوا بهذا الحديث من فِيّ النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلاّ فلماذا كان عمر بن الخطاب يلاحق حذيفة بن اليمان ويستحلفه إن كان اسمه في

____________

1- سنن الترمذي 5: 647 باب مناقب عبدالرحمن بن عوف(رض)، سنن ابن ماجة 1: 144 فضائل العشرة(رض).


الصفحة 613
لائحة المنافقين التي أسرّها النبي لحذيفة أم لا، فهل كان عمر قد سمع الحديث من النبي، إلاّ أنه لم يكتف بكلام النبي إلاّ أن يشهد معه شاهد عدل! ولماذا ردّ أبو بكر وعمر شهادة عثمان بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وافقه على ردّ الحكم طريد رسول الله، مع العلم أن المبشر بالجنة لا يمكن أن يكون شاهد زور! وكيف نفسّر قول أحد هؤلاء المبشرين بالجنة، وهو سعد بن أبي وقاص الذي قال: ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لحي يمشي أنه في الجنة إلاّ لعبدالله بن سلاّم!(1).

وكيف نفسّر قول معاذ بن جبل حين حضره الموت، وقيل له: يا أبا عبدالرحمان، اُوصنا، قال: أجلسوني، ثم قال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ثلاث مرات: والتمسوا العلم عن أربعة رهط: عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلاّم الذي كان يهودياً ثم أسلم، فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة"!(2).

فعلى هذا ينبغي إزاحة أحد اُولئك العشرة لافساح المكان لعبدالله بن سلاّم حتى يكون العاشر.

____________

1- صحيح مسلم 4: 193، صحيح البخاري 5: 46 مناقب عبد الله بن سلاّم.

2- المستدرك 3: 416 وصححه ووافقه الذهبي.


الصفحة 614