قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، وقد تحامل بعضهم فنسبه الى الكذب، روى ذلك عن حماد بن زيد، وكان فيه تشيع، وأهل البصرة يفرطون فيمن يتشيع بين أظهرهم لأنهم عثمانيون.
قال ابن حجر (معلقاً): كيف لا ينسبونه الى الكذب وقد روى ابن عدي في الكامل عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلاّم، عن علي بن مهران، عن بهز بن أسد، قال: أتيت الى أبي هارون العبدي فقلت: أخرج إلي ما سمعت من أبي سعيد، فأخرج لي كتاباً فاذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان اُدخل حفرته وأنه لكافر بالله. قال: قلت تقرّ بهذا؟ قال: هو كما ترى. قال: فدفعت الكتاب في يده وقمت، فهذا كذب ظاهر على أبي سعيد.
قال ابن معين: كانت عند أبي هارون صحيفة، يقول: هذه صحيفة الوصي(1).
فالتهمة الموجّهة الى أبي هارون أنه يروي الكذب عن أبي سعيد بسبب مقالته في عثمان، ولكننا عندما نستعرض مواقف الصحابة من عثمان، لا نستبعد أن يصدر مثل هذا القول عن أحدهم، فقد قال الزبير بن عوام: إن عثمان لجيفة على الصراط غداً - كما مر بنا سابقاً -.
وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة، أن عماراً كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر، وأنا الرابع، وأنا شرّ الأربعة. (منْ لَمْ يحكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فأُولئكَ هُمْ الكافِرونَ)(2)، وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله.
وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له: بأي شيء كفرتم عثمان؟
____________
1- تهذيب التهذيب 7: 361، ميزان الاعتدال 3: 173.
2- سورة المائدة: 44.
وروي عن حذيفة، أنه كان يقول: ما في عثمان بحمد الله شك، لكني أشك في قاتله، لا أدري أكافر قتل كافراً، أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله، وهو أفضل المؤمنين إيماناً!(1).
ويبدو أن ابن معين كان يستنكر قوله هذه صحيفة الوصي، ولعل السبب في توهينه واتهامه بالكذب هي هذه الاُمور، وليس لكونه كذاباً في ذاته، فما يخالف عقيدة الجمهور يعد عندهم كذباً. ويتبدّى لنا الموقف بجلاء في ترجمة الحافظ أحمد بن الأزهر النيسابوري:
قال الذهبي: اتهمه يحيى بن معين في رواية ذاك الحديث عن عبدالرزاق، ثم إنه عذره.
قال ابن عدي: هو بصورة الصدق، قلت (الذهبي): بل هو كما قال أبو حاتم: صدوق.
وقال النسائي وغيره: لا بأس به.
قال الذهبي: ولم يتكلموا فيه إلاّ لرواية عن عبدالرزاق عن معمر حديثاً في فضائل علي، يشهد القلب أنه باطل! وكان عبدالرزاق يعرف الاُمور، فما جسر يحدّث بهذا إلاّ سراً لأحمد بن الأزهر ولغيره...!(2).
وقال ابن حجر: وقال أحمد بن يحيى بن زهير التستري: لمّا حدّث أبو الأزهر بحديث عبدالرزاق في الفضائل، يعني معمر عن الزهري، عن عبيدالله، عن ابن عباس، قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي(رضي الله عنه) فقال "أنت سيّد في الدنيا، سيّد في
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي 3: 50 - 51.
2- ميزان الاعتدال 1: 82.
من العجيب أن يلقى هذا الحديث هذا الاستنكار من قبل المحدّثين، وسنده كلهم ثقات، بل أئمة حفّاظ، ولا أدري ماالذي أنكره الذهبي من متنه حتى شهد قلبه ببطلانه، فأي غرابة في أن يكون علي بن أبي طالب سيداً في الدنيا والآخرة! ولو أن هذا الحديث ورد في أحد الخلفاء الثلاثة قبله، فهل كان سيلقى مثل هذا الإنكار؟!
عندما لم يجد القوم مطعناً على الحديث ينفذون منه، طلعوا برأي عجيب، فقد قال أبو حامد ابن الشرقي: هو حديث باطل، والسبب فيه أن معمراً كان له ابن أخ رافضي، وكان معمّر يمكنه من كتبه، فأدخل عليه هذا الحديث.
وقال ابن عدي: أبو الأزهر بصورة أهل الصدق عند الناس، وأما هذا الحديث، فعبد الرزاق من أهل الصدق، وهو ينسب الى التشيع، فلعله شبّه عليه!(2).
لكن هل من المعقول أن تبلغ الغفلة بإمام حافظ مثل عبدالرزاق درجة حتى أن ابن أخيه الرافضي يستطيع أن يدخل في كتبه أحاديث مكذوبة دون أن يفطن عبدالرزاق! وما معنى قول الذهبي: وكان معمر يعرف الاُمور، فما جسر يحدّث بهذا إلاّ سرّاً. أليس ذلك يعني أن الأحاديث التي تثير سخط
____________
1- تهذيب التهذيب 1: 10.
2- المصدر السابق.
هذه خلاصة مواقف المحدّثين من النواصب والشيعة، ويظهر لكل منصف أنهم لم يكونوا عدولا في مواقفهم منهم، رغم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضع لهم مقياساً لا يخطئ في التعامل مع الرواة على قاعدة الحب والبغض لعلي بن أبي طالب الذي قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الاُمي (صلى الله عليه وآله) إلي: أنه لا يحبني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافقً(2).
____________
1- ميزان الاعتدال 3: 608.
2- صحيح مسلم 1: 86 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، سنن الترمذي 13: 177 مناقب علي، سنن إبن ماجة باب 11 من المقدمة، سنن النسائي 2: 271 باب علامة المؤمن، الخصائص للنسائي: 38، مسند أحمد 1: 84، 95، 128، تاريخ بغداد 2: 255، 8: 417، 16: 426، حلية الأولياء 4: 185 وقال: حديث صحيح متفق عليه، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 198، البداية والنهاية 7: 354، الاستيعاب 2: 461، اُسد الغابة 4: 292، كنز العمال 15: 105، الرياض النضرة 2: 284.
أما الألفاظ المستنكرة التي كانت سبباً في التهم، فسوف نتعرض لها في الفصل القادم إن شاء الله، وأما موقف المحدّثين من بعض أهل البدع من الطوائف الاُخرى كالخوارج، فسوف نذكرها بعد قليل.
دوافع الوضع في الحديث
إن أهم الدوافع للوضع في الحديث، يلخصها العلماء - الذين تعرضوا لذلك- في الصراعات السياسية والفكرية والمذهبية، ومحاولات الزنادقة لإفساد الشريعة، وبعض أهل الصلاح والزهد الذين ظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعاً، والقصاص، وقد تناولنا طرفاً من تلك الأسباب، وبقي أن نتبسط قليلا - بعد هذه المقدمات- في السبب الرئيسي للوضع، ألا وهو الصراعات السياسية وما يلحقها.
تكاد آراء الباحثين من الجمهور - قديماً وحديثاً- تتفق على اتّهام الشيعة بالدرجة الاُولى بالوضع في الحديث، فقد مرّ بنا سابقاً قول ابن أبي الحديد الذي قال: واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة...الخ.
ومن المعاصرين، قال البكّار: انقسمت الفرق السياسية في الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان من أشهرهم الشيعة، وقد سئل الإمام مالك عنهم فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فانهم يكذبون، وقال حماد بن سلمة: حدثني شيخ من
وكما وضعواالأحاديث في فضل علي وآل البيت، وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة، ولا سيما الشيخان ومعاوية والدولة الاُموية، ومن ذلك قولهم:
"إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"! وهكذا أسرفت الشيعة في وضع الأحاديث بما يتفق وأهوائها...(1)
أما بقية الفرق الإسلامية كالخوارج والجهمية وغيرهم، فقد مرّ قول الذهبي بأن البخاري كان يروي عنهم لأنهم لا يكذبون، وقال البكار: أما الخوارج، فقد كانوا بعيدين كل البعد عن الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنهم يكفّرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقاً، والكذب كبيرة في حقهم، فكيف الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ بل هناك أدلة كثيرة على أنهم أصدق من نقل الحديث، فهذا قول ابن تيمية في رده على الرافضة يقول: ونحن نعلم أن الخوارج شرّ منكم. ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم...(2)
وبعد أن ينقل العمري رواية ابن لهيعة، من أن أحد شيوخ الخوارج قد تاب وأعلن أنهم كانوا إذا هووا أمراً جعلوا منه حديثاً! يقول: فلو صح ما نقل عن ابن لهيعة، فان دور الخوارج في الوضع ضئيل جداً، ولا يعدو أن يكون هوىً لفرد منهم وليس صفة تعمهم(3).
إن المشكلة تتلخص في تحديد أصحاب البدع وتمييزهم، فما هي سماتهم حتى يُعرف أن هؤلاء مبتدعة وأن هؤلاء غير مبتدعة، إذ أن من
____________
1- أسباب رد الحديث: 122.
2- المصدر السابق.
3- بحوث في تاريخ السنّة المشرّفة: 27.
والأعجب من كل ذلك أننا نقرأ عن شيخ من الشيعة يتوب ويعترف بوضع فرقته للحديث حسب الهوى، ثم يطالعنا نص آخر يقول إن شيخاً من الخوارج تاب من بدعته واعترف بوضعهم للحديث نصرة لرأيهم، ومرّة نقرأ أن محرز أبو رجاء القدري قد تاب واعترف بوضعهم للحديث نصرة لفكرتهم، إلاّ أننا لا نقرأ أن شيخاً من الجمهور تاب وكشف عن وضعهم للحديث نصرة لمذهبهم، ومع ذلك نقرأ اعتراف المحدّثين بأن بعض أئمتهم كنعيم بن حماد والمصعبي وغيرهما كانوا يضعون الأحاديث في تقوية السنّة!
إن معرفة أسباب وضع الحديث يقتضي معرفة الدوافع إليه أولا، إذ أن لكل جريمة دافعاً يدفع إليها، فما الذي يدفع بالفرق الإسلامية إلى وضع الحديث؟
إن الجواب على ذلك، أن مرحلة الصراع الفكري حول الخلافة هو الدافع الرئيسي الذي يدفع للوضع، لأن منصب الخلافة هو رأس السياسة وسنامها، وكل فرقة تدعي أحقيتها فيها، فاذا أعوزها الدليل لجأت الى الوضع.
من هذا المفهوم ننطلق لنحدد مدى حاجة كل فرقة للدليل على أحقيتها في
فلو أننا نظرنا الى الخوارج، لوجدناهم قد خالفوا الاُمة كلها في أفكارها ومعتقداتها، إذ أن معظم الفرق الإسلامية تدعي الخلافة في قريش، وشذّ عنها فرقة الخوارج في ذلك، ثم بالغ الخوارج وتطرفوا في آرائهم حتى كفّروا كل من لا يقول بمقالتهم، أي أنهم كفّروا جميع المسلمين عدا الخوارج، وعندما نستعرض تاريخ الخوارج نجدهم في الغالب كانوا من الأعراب غير المتفقهين في الدين، فكانوا يلجؤون الى تأويل الآيات القرآنية لدعم آرائهم، ولكن تأويل الآيات كان يحتاج الى أحاديث تدعم هذا التأويل، فكانت حاجتهم الى الوضع شديدة، وعندما أورد الحافظ ابن حجر حديث ابن لهيعة عن الخارجي الذي تاب واعترف بوضعهم للحديث، قال: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون، ثم مضى عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثاً وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدّث به، ولم يذكر من حدّثه به تحسيناً للظن، فيحمله عنه غيره، ويجئ الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به، مع كون أصله ما ذكرت(1).
وزيادة في التوضيح، نقول: ما الذي يمنع أيّاً من وضع الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فترة الرواية الشفهية؟ ثم يتناقل هذا الحديث الموضوع حتى يتم تدوينه فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل.
ورغم أنّ هذا حقيقة - وقد تبين ذلك فيما سبق- فان الجمهور يعود
____________
1- محمود أبو رية. اضواء على السنّة المحمدية: 137.
إن ابن حجر يضرب صفحاً عن النواصب ويذكر الحارث الأعور لأنه تشيّع لعلي بن أبي طالب! وسوف يرد سبب ذلك في الفصل القادم.
ونعود الى دوافع وضع الحديث: فنقول:
إن حاجة الجمهور لتدعيم نظريته السياسية لم تكن بأقل من حاجة الخوارج، إن لم تكن أكثر، فالجمهور عندما وجد نفسه أمام نصوص دامغة، يحتج بها الشيعة لتدعيم نظريتهم، وجد نفسه مضطراً في نهاية الأمر الى الاعتراف بضرورة وجود نص يدعم هذه الحجة، فكانت الأحاديث الموضوعة التي استعرضنا قسماً منها فيما سبق، والتي دخلت الصحاح، واستكان لها الجمهور لذلك.
أما الشيعة، فقد كانوا أقل هذه الفرق حاجة للوضع لتدعيم نظريتها السياسية، فهم يعتمدون على نصوص قوية صحيحة، بل ومتواترة، اعترف بها جمهور المحدّثين والحفّاظ، لكنهم تنكّروا لمدلولها، وهذا أمر طبيعي، إذ أن اعترافهم بمدلولها سيؤدي إلى هدم نظرية الجمهور السياسية من الأساس،
____________
1- مرّ فيما سبق: الدليل على وضع بعض الصحابة للحديث إرضاء لبني اُمية وكيداً لعلي وأهل بيته.
2- أوليس عروة بن الزبير وحريز بن عثمان من بين اُولئك؟!
3- لسان الميزان 1: 309.
وقد يسأل سائل، ما المانع في أن تكون الأحاديث التي يحتج بها الشيعة لتدعيم نظريتهم موضوعة هي الاُخرى؟ لكن الحقيقة أن ذلك أمر لا يمكن تصوره أو الاقرار به لسببين:
1 - إن معظم هذه الأحاديث قد جاءت عن طريق الجمهور، وليس عن طريق الشيعة وحدهم، وهو أمر قد اشترطه المحدّثون، أو بالأحرى هو الطوق الذي حاصر به جمهور المحدّثين الشيعة، لمنعهم رواية مثل هذه الأحاديث، فعلى الرغم من تساهل الجمهور في رواية الفضائل، إلاّ أنهم استثنوا من ذلك انفراد الشيعي برواية فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيته، فاذا كان لها متابع أو شاهد من طريق الجمهور وإلاّ ردّت.
2 - إن رواية مثل تلك الأحاديث كانت مجازفة كبيرة قد تؤدي الى الموت أحياناً، وقد مرّ بنا موقف المتوكل من الجهضمي الذي روى ما يخالف هوى الخليفة، فكاد يدفع حياته ثمناً لذلك، وقضية الحافظ ابن السقا مثال آخر، فقد قال الذهبي: واتفق أنه أملى حديث الطير، فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه! فمضى ولزم بيته، فكان لا يحدث أحداً من الواسطيين...(1)
وفي ترجمة عبدالله بن شدّاد:
عدّه خليفة في تابعي أهل الكوفة.
وقال ابن سعد: في الطبقة الاُولى من تابعي أهل المدينة... وكان ثقة قليل الحديث شيعياً.
____________
1- تذكرة الحفاظ 3: 965 ترجمة ابن السقا.
قال عطاء بن السائب: سمعت عبدالله بن شدّاد يقول: وددت أني قمت على المنبر من غدوة الى الظهر، فأذكر فضائل علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) ثم أنزل، فيُضرب عنقي!
قال الذهبي: هذا غلوّ وإسراف!(1).
فالشيعي يجد نفسه محاصراً من جهتين إذا ما نوى أن يروي في فضائل علي أو أهل البيت - السلطة من أمامه بالسيف، والمحدّثون من ورائه بالرّدـ إذا لم يتابع على روايته من طريق آخر ليس في إسناده شيعي!
فالروايات التي جاءت في فضائل علي وأهل بيته، إنما جاءت عن طريق المحدّثين من الجمهور، مع محاولة تأويل أي رواية تحمل إيحاءً بالنص على علي. بل إن الاعتراف بشرعية خلافة علي بن أبي طالب لم تأتِ إلاّ في القرن الثالث الهجري، عندما قرّر أحمد بن حنبل - على رغم أهل الحديث - أن علي بن أبي طالب هو الخليفة الراشد الرابع حسب الترتيب، الأمر الذي لاقى استنكاراً من زملائه أهل الحديث، حيث أخرج ابن أبي يعلى عن وديزة الحمصي قال: دخلت على أبي عبدالله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي(رضي الله عنه)، فقلت له: يا أبا عبدالله، إن هذا لطعن على طلحة والزبير! فقال: بئسما قلت، وما نحن وحرب القوم وذكرها؟ فقلت: أصلحك الله، إنما ذكرناها حين ربَّعت بعلي، وأوجبت له الخلافة، وما يجب للأئمة قبله. فقال لي: وما يمنعني من ذلك؟ قال: قلت: حديث ابن عمر(2).
____________
1- سير أعلام النبلاء 3: 488.
2- يعني الحديث الذي أخرجه بعض المحدثين، وفيه أنهم كانوا يذكرون أبا بكر وعمر وعثمان ثم يسكتون، وقد مرّ هذا الحديث فيما سبق، وقول ابن معين فيه.
وما حدث في القرن الثالث يذكرنا بما حدث في القرن الأول الهجري، فعن العوام بن حوشب، قال: حدثنا سعيد بن جهمان، قال: سمعت سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الخلافة بعدي في اُمتي ثلاثين سنة". قال محمد بن يزيد في حديثه: فحسبوا ذلك فكان تمام ولاية علي. فقالوا لسفينة: إنهم يزعمون أن علياً لم يكن خليفة؟
فقال: من يزعم ذلك؟ أبنو الزرقاء أولى بذلك وأحق(2).
وابن الزرقاء هو مروان بن الحكم، وهذا يدلنا على أن الروح الاُموية نفسها قد بقيت سارية الى القرن الثالث الهجري في النظر الى علي بن أبي طالب بأنه لم يكن من الخلفاء!
____________
1- طبقات الحنابلة 1: 393.
2- كتاب الفتن لأبي نعيم: 57.
الفصل الرابع عشر
الوصيّـة
الوصيّـة
لقد وردت لفظة الوصي ووصي الأوصياء، وغيرها في الفصل السابق، عند الكلام عن موقف المحدّثين من الرواة الشيعة، وقد كانت من جملة الاتهامات التي كانت توجّه الى اُولئك الرواة، والتي كان يترتب عليها ترك البعض منهم وتضعيفهم هو القول بالوصية، فما هي هذه الوصية، وأين منشؤها؟
عندما استعرضنا بعض روايات الطبري عن طريق سيف بن عمر، وجدناه يذكر الوصية على أنها مقولة ابتدعها عبدالله بن سبأ اليهودي المتظاهر بالإسلام، والتي يدعي فيها بأن لكل نبي وصياً، وأن علي بن أبي طالب هو وصي النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، باعتبار أن هذه المقولة إنما كانت من اختراع هذا اليهودي الذي لم يسبق الى القول بمثلها أحد من الناس من الصحابة وغيرهم، وأن هدفه كان تأليب الناس على عثمان بن عفان - كيداً للإسلام ومحاولة لتحطيم الدولة الإسلامية - وأن الكثير من الناس -وفيهم بعض الصحابة- قد انخدعوا بمقولة هذا اليهودي وتابعوه عليها.
ولقد أصبحت رواية الطبري هذه عن سيف هي المدار الذي دارت عليه معظم كتابات المؤلفين - قديماً وحديثاً - عند التعرض لموضوع الفتنة التي حدثت في زمن عثمان، ومن ثم أصبحت الأساس الذي بنى عليه المؤلفون
فأنت ترى أبا جحيفة يسأل علياً عن شيء خصهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسرار الوحي، وما سأل هذا السؤال إلاّ لأنه سمع لغطاً من الشيعة حول الوصية والخلافة التي يدّعونها لعلي، فنفى ذلك علي نفياً باتاً، وأقسم على ذلك.
ثم استثنى أشياء لاتمت الى معتقدات الشيعة بصلة، وقد جاء هذا الحديث بروايات عدة في بعضها زيادات، وليس فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى لعلي بشيء
على الرغم من أن الرواية التي أخرجها البخاري واستشهد بها أبو زهو على الأدلة التي لاتمت في اعتقادي الى موضوع الوصية بشيء، إلاّ أننا سنفترض ذلك، ولو أن أبا زهو كان قد حقق في الأمر جيداً، لوجد أن البخاري وغيره قد أخرجوا روايات اُخرى أكثر وضوحاً في ردّ الوصية، فقد أخرجوا - واللفظ للبخاري- عن الأسود، قال: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصيّاً! فقالت: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته الى صدري -أو قالت حجري- فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه؟!(2).
فهذه الروايات التي أخرجها أئمة المحدثين، تنقل عن عائشة القول بنفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب، وهذا يفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوص لعلي قُبيل وفاته، لذا قال ابن كثير الدمشقي: وأما ما يغترّ به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الاغبياء، من أنه أوصى الى علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيّته..(3)
ولكن الأخبار حول موضوع الوصية قد ذاع وانتشر، ولم يكن الشيعة هم الذين اخترعوا هذه المفردة، حتى دخلت هذه اللفظة في معاجم اللغة كلقب لعلي بن أبي طالب، فقد قال ابن منظور: وقيل لعلي (عليه السلام) وصي، لاتصال نسبه
____________
1- الحديث والمحدثون: 94، عن فتح الباري 1: 182 باب كتابة العلم.
2- صحيح البخاري 4: 3 كتاب الوصايا، باب الوصايا، 6: 18 كتاب النبي(ص) الى كسرى وقيصر، باب: مرض النبي(ص) ووفاته، صحيح مسلم 5: 75 طبعة دار الفكر ـ بيروت كتاب الوصية، مسند أحمد 6: 32.
3- البداية والنهاية 7: 224.
وقال الزبيدي: والوصي كغني، لقب علي(رضي الله عنه)(2).
فعلي بن أبي طالب كان يلقّب بالوصي إذاً، وقد بلغ من شهرة هذا اللقب أنه دخل في المعاجم اللغوية، ولا يعقل أن يحدث ذلك بفعل مقولة الشيعة أو عبدالله بن سبأ اليهودي، فلابدّ وأن يكون للمسألة جذور أعمق من ذلك، ويمكننا تبيّن ذلك من خلال مطالعة النصوص التي جاءت عن طريق الصحابة والتابعين، وأوردها المؤرخون والمحدّثون في مجاميعهم الكبيرة، رغم تنكرهم لها أحياناً، ومحاولة بعضهم تزييفها أحياناً اُخرى، وهذا ما سوف نكتشفه فيما يأتي:
الإشارة الاُولى للوصيّة
ذكرنا في فصل سابق أن الملاّ علي القاري أورد حديثاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) - مدعياً أنه موضوع- على أنه الحديث الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وأوضحنا وقتها أن ذلك خطأ - عن سهو أو عمد- من الملاّ علي القاري، لأن ذلك الحديث لا علاقة له بحادثة الغدير، وإنما هو حديث آخر، ولنبدأ أولا برواية ابن كثير الدمشقي لذلك الحديث وتحليله له، حيث ذكر في (باب أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بابلاغ الرسالة) الى الخاص والعام.
فأخرج عدة روايات في تفسير قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقربينَ)(3).
عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، في بيان سبب نزول الآية، ثم أورد
____________
1- لسان العرب 15: 394.
2- تاج العروس 10: 392.
3- الشعراء: 214.
قال: فدعاني فقال: "يا علي، إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبدالمطلب". ففعلت، فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلا يزيدون أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث، فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها حذية فشقّها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلوا باسم الله"، فأكل القوم حتى نهلوا منه، ما نرى إلاّ آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "اسقهم يا علي"، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكلمهم، بدره أبو لهب لعنه الله، فقال: لهدّ ما سحركم صاحبكم، فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله). فلما كان من الغد، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عُدّ لنا مثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب، فان هذا الرجل قد بدر الى ما سمعت قبل أن اُكلم القوم". ففعلت (ثلاث مرات)، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا بني عبدالمطلب: إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة"..
قال ابن كثير: وقد رواه أبو جعفر بن جرير... عن ابن عباس عن علي، فذكر مثله، وزاد بعد قوله: "وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا"! قال: أنا يا
ويحق لنا أن نسال ابن كثير: إذا كانت الرواية قد جاءت عن أبي مريم، وهو كذاب، فلماذا هذا الحرج من ذكر بعض ألفاظها واستبدالها بكذا وكذا؟
أما الحلبي فقد أورد الرواية وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): " يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني الى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، فمن يجيبني الى هذا الأمر ويؤازرني -أي يعاونني- على القيام به"؟ قال علي: أنا يا رسول الله، وأنا أحدثهم سنّاً، وسكت القوم.
قال الحلبي: زاد بعضهم في الرواية "يكن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي"! فلم يجبه أحد منهم، فقام علي وقال: أنا يا رسول الله، قال: "اجلس". ثم أعاد القول على القوم ثانياً فصمتوا، فقام علي وقال: أنا يا رسول الله. فقال: "اجلس"، ثم أعاد القول على القوم ثالثاً، فلم يجبه أحد منهم، فقام علي فقال: أنا يا رسول الله. فقال: "اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي"!
قال الحلبي: قال الإمام أبو العباس ابن تيمية - أي في الزيادة المذكورة- إنها كذب وحديث موضوع، من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك.
وقد رواه - أي الحديث- مع زيادته المذكورة: ابن جرير، والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه(2).
____________
1- البداية والنهاية 3: 38.
2- السيرة الحلبية 1: 286، والرواية في تاريخ الطبري 2: 320، وفي معالم التنزيل للبغوي 4: 278،
=>
فلفظة الوصي كانت من بين الألفاظ، أو هي اللفظة التي أفزعت ابن كثير الدمشقي، ومن قبله الطبري الذي أورد صيغة الحديث كاملة في موسوعته التاريخية، لكنه عاد فحذفها في تفسيره وأبدل ألفاظها بكذا وكذا! كما أورد الطبري أبياتاً للفضل بن العباس منها:
ألا أن خير الناس بعد محمد | وصيّ النبي المصطفى عند ذي الذكر(3) |
كما وأورد الطبري خطبة الحسين بن علي بن أبي طالب يوم عاشوراء، ومنها قوله: أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله) وابن
____________
<=
والكامل في التاريخ 2: 62 حوادث السنة الثالثة للبعثة.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 244.
3- تاريخ الطبري 4: 426.