الصفحة 681
لفظة الولي، كما سبق وعرضنا في الكلام على حديث الغدير، كما تأوّلوا لفظة الخليفة بأنها تعني الخلافة على الأهل.

الولاية مرة اُخرى

إن مسألة التأويل للنصوص التي يصعب دفعها كانت إحدى الوسائل التي لجأ إليها الجمهور، للتخلص من التساؤلات التي تثيرها بعض الروايات الصحيحة التي لا يمكن الطعن في أسانيدها، إلاّ أن الاُسلوب الذي لجأ إليه الوضّاعون في مقابلة النصوص بنصوص اُخرى تصرف الذهن عن المعاني الحقيقة لها، كانت هي الوسيلة الأقوى والأنجع لمعالجة هذا الإشكال ودفعه، وقد وجد بعض الحفّاظ والمحدّثين في الركون الى هذه النصوص الموضوعة خير وسيلة للتخلص من الحرج.

ومن الأمثلة التي نوردها على هذه المسألة، ما ذكره المفسّرون والحفّاظ والمحدثون في سبب نزول قوله تعالى: (يا أَيُّها الرَّسولُ بَلِّغْ ما اُنزِلِ إليكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالتهُ واللهُ يَعصِمكَ مِنَ النّاسِ)(1)، فقد تضاربت الأقوال فيها، بشكل يبعث على العجب عندما يُعرف السبب، فقد ربط ابن كثير سبب نزول هذه الآية، بآية الانذار المتقدم ذكرها، ولا أدري ما المناسبة في ربطهما؟! فان آية الانذار نزلت في السنة الثالثة من البعثة، بينما آية التبليغ هذه هي من سورة المائدة، والتي تذهب معظم الأقوال الى أنها آخر، أو من أواخر ما نزل من القرآن، في حجة الوداع أو بعدها. إلاّ أن ابن كثير - وبعد أن يروي- عن جابر بن عبدالله، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خرج، بعث معه

____________

1- المائدة: 67.


الصفحة 682
أبو طالب من يكلؤه، حتى نزلت (والله يعصمك من الناس) فذهب ليبعث معه، فقال: "يا عم، إن الله قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث". قال ابن كثير: وهذا حديث غريب، وفيه نكارة، فان هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية... (ثم يروي عن عكرمة عن ابن عباس)، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُحرس، فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه، حتى نزلت عليه هذه الآية: (يا أيها الرسول بلّغ...)، قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: "إن الله قد عصمني من الجن والانس..."، وهذا أيضاً حديث غريب، والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم(1)..

ثم يورد ابن كثير عدداً آخر من الروايات، عن كعب القرظي، وجابر بن عبدالله، وأبي هريرة، وجعدة، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، ولكنه يعرض عن روايات اُخرى أخرجها الحفاظ والمفسّرون في سبب نزولها.

أما الفخر الرازي، فيقول: ذكر المفسّرون في سبب نزول الآية وجوهاً:

الأوّل: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص، على ما تقدّم في قصة اليهود.

الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين، والنبي سكت عنه، فنزلت هذه الآية.

والثالث: لما نزلت آية التخيير، وهو قوله: (يا أَيُّها النَّبيُّ قُلْ لأَزواجِكَ)(2). فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا، فنزلت.

الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. قالت عائشة(رض): من

____________

1- تفسير القرآن العظيم 2: 81.

2- الأحزاب: 28.


الصفحة 683
زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتم شيئاً من الوحي، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: (يا أيها الرسول بلّغ). ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي، لكتم قوله: (وَتَخفي في نفسكَ ما اللهُ مُبديهِ)(1).

الخامس: نزلت في الجهاد، فان المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحياناً عن حثّهم على الجهاد.

السادس: لما نزل قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الذينَ يَدعونَ مِنْ دونِ اللهِ فَيسبُّوا اللهَ عَدْواً بِغيرِ عِلم)(2)، سكت الرسول عن عيب آلهتهم، فنزلت الآية وقال: (بلّغ)، يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، والله يعصمك منهم.

السابع: نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع -لما بيّن الشرائع والمناسك- "هل بلّغت"؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم فاشهد"!

الثامن: روي أنه (صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة في بعض أسفاره، وعلّق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم، فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمّد، من يمنعك مني؟ فقال: "الله"، فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله هذه الآية، وبيّن أنه يعصمه من الناس.

التاسع: كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية!

العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام)! ولما نزلت هذه الآية، أخذ بيده وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه"،

____________

1- الأحزاب: 37.

2- الأنعام: 108.


الصفحة 684
فلقيه عمر(رضي الله عنه) فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس، والبراء بن عازب، ومحمد بن علي!

واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت، إلاّ أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره باظهار التبليغ من غير مبالاة بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير، وما بعدها بكثير، لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها!(1).

إن إعراض ابن كثير عن بعض الروايات، وإيراده الروايات التي قوبل بها النص الحقيقي في سبب نزول الآية أمر مفهوم، أما ترجيح الفخر الرازي للاحتمال الذي ذكره في سبب نزولها، فهو أمر يبعث على الاستغراب حقاً، فان الآية قد نزلت في العام الحادي عشر للهجرة، أي بعد أن قضى النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً وعشرين سنة في التبليغ والجهاد باللسان والسّنان، لا يخاف في الله لومة لائم، يعود بعد كل ذلك فينتابه القلق والخوف، وممن؟ من اليهود والنصارى، وبعد أن قضى على رجالهم وغنم أموالهم وطردهم من بلادهم، وقضى على شوكتهم نهائياً بعد خيبر، فهل يعقل أن يخشاهم النبي بعد كل ذلك؟! كما وأن هناك روايات تقول بأن النبي قد مات مسموماً من شاة قدّمتها له إمرأة يهودية، فأين العصمة من اليهود إذاً، إن صحّ ادعاء الرازي؟!.

السبب الحقيقي لنزول الآية

لا يخفى على الباحث المنصف، أن ذكر هذه الأسباب الكثيرة لنزول الآية، ماهو إلاّ عملية تمويه من أجل إخفاء السبب الحقيقي لذلك، وقد ذكره

____________

1- التفسير الكبير 12: 49.


الصفحة 685
الأئمة الحفّاظ والمفسّرون في كتبهم، فقد قال الواحدي: قوله تعالى (يا أيُّها الرّسولُ بلّغ...) الآية.

عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك) يوم غدير خُم، في علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)!(1).

وعن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا أيُّها الرَّسولُ بلّغ ما اُنزلَ إليكَ مِنْ رَبّكَ - أن علياً ولي المؤمنين- وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغتَ رِسالتهُ واللهُ يَعصمكَ مِنَ النّاسِ)(2).

وقد كشفت الرواية التي أوردها الحاكم الحسكاني في تفسيره عن وجه المسألة، ودور بني اُمية في إخفاء السبب الحقيقي لنزول الآية، إذ روى عن زياد بن المنذر، قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي، وهو يحدّث الناس، إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعشى - كان يروي عن الحسن البصري- فقال له: يابن رسول الله، جعلني الله فداك، إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل: (ياأيُّها الرَّسولُ بلّغ...)الآية. فقال: لو أراد أن يخبر به لأخبر به، ولكنه يخاف! إن جبرئيل هبط على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: إن الله يأمرك أن تدل اُمتك على صلاتهم، فدلّهم عليها، ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل اُمتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم، ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله: "يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل إلاّ وقد وتره وليّهم وإني أخاف. فأنزل الله تعالى: (يا أيُّها الرسول بلّغ ما اُنزلَ إليّكَ من رَبّكَ

____________

1- أسباب نزول القرآن: 204، الدر المنثور 3: 117، تاريخ دمشق 42: 237، عمدة القاري 18: 206، فتح القدير للشوكاني 2: 60.

2- الدر المنثور 3: 117، فتح القدير 2: 60 كلاهما عن ابن مردويه.


الصفحة 686
وَإنْ لمْ تَفعلْ فما بلّغتَ رسالته -يريد فما بلغتها تامة- واللهُ يَعصمكَ منَ الناسِ) فلما ضمن الله له بالعصمة وخوّفه، أخذ بيد علي بن أبي طالب، ثم قال: "يا أيها الناس، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه".

كما وأورد الحسكاني روايات اُخرى عن أبي هريرة وابن عباس وعبدالله بن أبي أوفى في نفس المعنى(1).

إن هذه النصوص، ونصوص اُخرى تدل على أن الاُمور قد سارت على غير الشاكلة التي تعودنا على مطالعتها منذ نعومة أظفارنا، فالقول بعدم وجود نص قد فقد مصداقيته تماماً، ولكن تبقى مسألة التأويل هي المشكلة، فالاعتراف بدلالة هذه النصوص أمر لا يقبله الجمهور، لأن في ذلك قلباً لكل الأحداث التي وقعت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واعترافاً بعدم شرعية كل ما درج الجمهور على تقديسه في شأن الخلافة، واتهاماً للصحابة بمخالفة النص النبوي، وفوق هذا وذاك، فكيف نفسّر الروايات التي يوردها الجمهور على لسان علي بن أبي طالب في تفضيل الشيخين عليه، وتهديده باقامة حدّ الافتراء على من يفضله عليهما! إن هذا يستدعي عودة الى الوراء قليلا...

____________

1- شواهد التنزيل 1: 187.


الصفحة 687


الفصل الخامس عشر

السقيفة





الصفحة 688

الصفحة 689

السقيفة


كانت أحداث سقيفة بني ساعدة وما جرى بعدها، أول مواجهة بين المسلمين والواقع الجديد الذي فرضه غياب النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث كان وجوده بينهم بمثابة صمام الأمان للمشاكل التي كان يمكن أن تظهر لسبب أو لآخر، إلاّ أن غيابه المفاجئ قد جعلهم وجهاً لوجه أمام قضية هي أخطر وأهم القضايا التي واجهتها الاُمة منذ وفاته (صلى الله عليه وآله) والى يومنا هذا، ألا وهي مسألة الخلافة والإمامة، وهي المسألة التي ظلت مدار الجدل بين المتكلّمين من المسلمين على مرّ العصور، وكل فريق يدلي بحججه ومستنداته لدعم نظريته فيها، لذا كثر اللغط حول هذه القضية، وتضاربت الأخبار والروايات فيها، ومال الجمهور الى اعتماد الروايات التي تدعم نظريته، والتي توحي بأن شيئاً لم يقع سوى خلاف بسيط بين المهاجرين والأنصار، وأن الأنصار سرعان ما انصاعوا للمهاجرين بعد أن قرعهم المهاجرون بالحجة، وأما علي بن أبي طالب وبنو هاشم وعدد آخر من علية الصحابة، فقد بايعوا جميعاً دون تردد -حسب بعض تلك الروايات- أو بعد تردد بسيط حسب روايات اُخرى، وانتهت المشكلة، وسارت الاُمور على خير ما يرام، حيث يشير الى ما في معنى ذلك، القاضي ابن العربي الذي يلخص الأحداث بقوله: واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي (صلى الله عليه وآله) قاصمة الظهر، ومصيبة العمر،

الصفحة 690
فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر وقال: ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فليقطعن أيدي ناس وأرجلهم.

وتعلق بال العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال العباس لعلي: إني أرى الموت في وجوه بني عبدالمطلب، فتعال حتى نسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فان كان الأمر فينا علمناه!

وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) من فدك وبني النضير وخيبر.

واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع اُسامة بن زيد بالجرف. فتدارك الله الإسلام والأنام -وانجابت الغمة انجياب الغمام، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله، وإقامة دينه على التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام- بأبي بكر الصدّيق(رضي الله عنه)، فكشف عن وجهه، وأكب عليه يقبله وقال: بأبي أنت واُمي يا رسول الله، طبت حياً وميتاً، والله لا يجمع الله عليك الموتتين.

واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون، ولا يدرون ما يفعلون، وبلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر: بل نمشي إليهم، فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال بعض الأنصار: منا أمير ومنكم أمير.. فقال أبو بكر كلاماً كثيراً مصيباً، يكثر ويصيب، منه: نحن الاُمراء وأنتم الوزراء. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "الأئمة من قريش"، وقال "اُوصيكم بالأنصار خيراً، أن تقبلوا من

الصفحة 691
محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم". إن الله سمّانا (الصادقين)، وسمّاكم (المفلحين)، وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال: (يا أُيّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكونُوا مَعَ الصادِقينَ)، إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك، وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصدّيق(1)(رضي الله عنه).

فالمسألة -حسب رأي ابن العربي- أن علياً قد اختفى في بيته مع فاطمة زوجته، ويبدو أن ابن العربي يعلل الأمر بأنه بدافع الحزن أو الصدمة لوقع المصيبة ليس إلاّ، ومع ذلك فعلي يبادر مع عمه العباس للاطمئنان على ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كأن ليس هناك أمر آخر يشغل بالهما، وأما الأنصار فتراجعوا جميعاً عن موقفهم بعد احتجاج أبي بكر عليهم، فليست هناك مشكلة حقيقية ولله الحمد.

أما ابن كثير، فيبدو أكثر عقلانية وموضوعية من ابن العربي، حيث يختار مجموعة من الروايات عن المحدثين في الغالب لدعم وجهة نظره التي يبينها فيما بعد، حيث أورد عن أبي سعيد الخدري، قال: قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر. قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنّا أنصار رسول الله، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره. قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم على غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار. قال: فصعد أبو بكر المنبر، فنظر في وجوه القوم ولم ير الزبير، قال: فدعا بالزبير فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحواريه،

____________

1- العواصم من القواصم: 54.


الصفحة 692
أردت أن تشق عصا المسلمين! قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين! قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبايعه. هذا أو معناه.

وقال أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه، وهذا حديث يسوى بدنة، بل يسوى بدرة! وقد رواه البيهقي، عن الحاكم وأبي محمد بن حامد المقري، كلاهما، عن أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن جعفر بن محمّد بن شاكر بن عفان بن سلم، عن وهيب به، ولكن ذكر أن الصدّيق هو القائل لخطيب الأنصار بدل عمر، وفيه: أن زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر على المنبر، نظر في وجوه القوم فلم ير علياً. فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد علي. فالله أعلم.

وقد رواه علي بن عاصم عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، فذكر نحو ما تقدم، وهذا إسناد صحيح محفوظ... وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب إمّا في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة. وهذا حق، فان علي بن أبي طالب لم يفارق الصدّيق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.... ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصدّيق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم تعلم بما أخبرها به الصدّيق(رضي الله عنه) أنه قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح... فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك، لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو

الصفحة 693
الصادق البار الراشد التابع للحق(رضي الله عنه)، فحصل لها - وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة- عتب وتغضّب، ولم تكلّم الصدّيق حتى ماتت! واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله)، رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر(رضي الله عنه) كما سنذكره من الصحيحين وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، مما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ويزيد ذلك صحة، قول موسى بن عقبة في مغازيه، عن سعد بن إبراهيم، حدّثني أبي أن أباه عبدالرحمان بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر الى الناس وقال: ما كنت حريصاً على الامارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سرّ ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلاّ لأنا اُخّرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، وإنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصلي بالناس وهو حي! إسناد جيد ولله الحمد والمنّة. ومن تأمل ما ذكرناه، ظهر له إجماع الصحابة -المهاجرين منهم والأنصار- على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله (عليه السلام): "يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر"، وظهر له أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس، لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنّة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذي لب وعقل الى الصدّيق كما قدّمنا...!(1)

____________

1- البداية والنهاية 5: 245 وما بعدها.


الصفحة 694

رواية الطبري عن سيف

تكاد الروايات التي استعرضها ابن كثير حول موضوع الخلافة، تتطابق مع ما أخرجه الطبري عن سيف بن عمر الذي بدا أكثر حماساً لهذا الاتجاه، فقد أخرج عنه، قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم. قال: فمتى بويع ابو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة! قال: فخالف عليه أحد؟ قال: لا، إلاّ مرتد، أو من قد كاد أن يرتد، لولا أن الله عزّوجل ينقذهم من الأنصار. قال: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته من غير أن يدعوهم.

وأخرج عنه أيضاً، قال: كان عليٌّ في بيته، إذ اُتي فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلا كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث الى ثوبه فأتاه فتجلله، ولزم مجلسه!(1).

ولكنهم قالوا: "لما أكثر في تخلف علي عن بيعة أبي بكر واشتد أبو بكر وعمر عليه في ذلك، خرجت اُم مسطح بن اُثاثة، فوقفت عند القبر وقالت:


قد كان بعدك أنباء وهنبثةلو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلهاواختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب(2)

فما هي هذه الاُمور وهذه الهنبثة التي ذكرتها اُم مسطح وهي تشكو إلى القبر الشريف؟

____________

1- تاريخ الطبري 3: 207 حوادث سنة 11.

2- شرح نهج البلاغة 2: 50 عن الجوهري عن عمر بن شبة بسنده.


الصفحة 695

الآراء المضادة

لقد كانت الآراء التي استعرضناها -والتي تناولها ابن كثير بشيء من التفصيل- تمثل وجهة نظر قسم من الجمهور في أمر السقيفة وما جرى فيها، وبقي لنا أن نتعرض للآراء الاُخرى التي تمثل وجهة نظر مخالفي عامة الجمهور، وإن كانت في الحقيقة اُمور يعترف بها الكثيرون ممن هم على مذهب الجمهور أيضاً.

لقد جمع ابن أبي الحديد الكثير من هذه الروايات واستقاها من مصادرها الرئيسة كتاريخ الطبري وكتاب السقيفة للجوهري إضافة لكتب المحدّثين الذين أوردوا مختلف الروايات فيها، حيث قال:

اختلفت الروايات في قصة السقيفة، فالذي تقوله الشيعة - وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه- أن علياً (عليه السلام) امتنع من البيعة حتى أخرج كرهاً، وأن الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال: لا أُبايع إلاّ علياً (عليه السلام)، وكذلك أبو سفيان بن حرب، وخالد بن سعيد بن العاص بن اُمية بن عبد شمس، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وجميع بني هاشم. وقالوا: إن الزبير شهر سيفه، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم، قال في جملة ما قال: خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر، ويقال إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجراً فكسره، وساقهم كلهم بين يديه الى أبي بكر، فحملهم على بيعته، ولم يتخلف إلاّ علي (عليه السلام) وحده، فانه اعتصم ببيت فاطمة (عليها السلام)، فتحاموا إخراجه منه قسراً، وقامت فاطمة (عليها السلام) الى باب البيت، فأسمعت من جاء بطلبه، فتفرقوا عنه، وعلموا أنه بمفرده لا يضر شيئاً،

الصفحة 696
فتركوه وقيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج وحمل الى أبي بكر فبايعه، وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيراً من هذا.

فأما حديث التحريق وما جرى من الاُمور الفظيعة، وقول من قال إنهم أخذوا علياً (عليه السلام) يُقاد بعمامته والناس حوله، فأمر بعيد، والشيعة تنفرد به، على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه...!(1)

فيتبين من كلام المعتزلي، أن إسراع علي الى البيعة - كما ادعت بعض الروايات التي ذكرناها- تقابلها روايات اُخرى تقول بأنه ومعه عدد آخر من الناس قد امتنعوا عن البيعة، واعترف ابن أبي الحديد بأن المحدّثين قد أخرجوا ذلك أيضاً، ويبقى ادعاؤه حول الروايات الاُخرى في إخراج علي بن أبي طالب قسراً وإحراق بيت فاطمة - التي قال المعتزلي بتفرد الشيعة بروايتها أولا- لكنه يعود فيعترف بأن المحدّثين قد أخرجوا بعضاً منها، وسنحاول التعرض لها على الترتيب محاولين استشفاف الأحداث من مواقف أصحاب الشأن أنفسهم.

رواية عمر بن الخطاب

تعدّ رواية عمر بن الخطاب لبعض أحداث السقيفة من أهم الوثائق التي اُرّخت لهذه القضية، وقد أخرجها المؤرخون وأيدها المحدّثون، ولا يخلو مصدر مهم منها، وسوف أوردها بلفظ البخاري عن ابن عباس، قال: كنتُ أُقرئ رجالا من المهاجرين، منهم عبدالرحمان بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر جمعة حجّها، إذ رجع إليَّ

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 21.


الصفحة 697
عبدالرحمان فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتةً فتمّت! فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم اُمورهم. قال عبدالرحمان: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيّرها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فانها دار الهجرة والسُّنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل الى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف! فأنكر عليَّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقله قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فاني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا اُحلّ لأحد أن يكذب عليَّ، إن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في

الصفحة 698
كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو أن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لا تُطروني كما اُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبدالله ورسوله"، ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعتُ فلاناً، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتةً وتمّت، ألا إنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها، وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليٌّ والزبير ومن معهما! واجتمع المهاجرون الى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فاذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافّة من قومكم، فاذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنتُ زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن اقدّمها بين يدي ابي بكر، وكنت اُواري منه بعض الحد. فلما أردت أن

الصفحة 699
أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن اُغضبه، فتكلّم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن اُقدّم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكَّك، وعُذيقها المرجَّب، منّا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش، فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقتُ من الاختلاف، فقلت: اُبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرةً أن يُقتلا(1).

وهذه الوثيقة التاريخية المهمة تحتاج الى تفصيل بعض فقراتها.

____________

1- صحيح البخاري 8: 208 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، مسند أحمد 1: 55، تاريخ الطبري 3: 203، البداية والنهاية 5: 245، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 51، تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين صفحة 6 وقال: متفق على صحته، سيرة ابن هشام 4: 261، أنساب الاشراف للبلاذري 1: 583، تاريخ اليعقوبى 2: 123، البدء والتاريخ للمقدسي 5: 64، نهاية الأرب للنويري 19: 29، عيون التواريخ للكتبي 1: 485، مناقب عمر لابن الجوزي: 51، الكامل في التاريخ 2: 124 حوادث سنة 11 هـ. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 22.


الصفحة 700

المعارضون للبيعة

وجدنا في الرواية اعترافاً من عمر بن الخطاب بأن علياً والزبير ونفراً آخرين لم يسمِّهم قد تخلفوا عن بيعة أبي بكر وأحداث السقيفة في بيت فاطمة. وقد نقل ابن أبي الحديد عن أبي بكر أحمد بن عبدالعزير الجوهري- بعد أن وصفه بأنه من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين(1)، وأن ما أورده متفق مع ما ذكره المحدّثون وأرباب السيرة- قال:

وكثر الناس على أبي بكر، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم، واجتمعت بنو هاشم الى بيت علي بن أبي طالب ومعهم الزبير -وكان يعدّ نفسه رجلا من بني هاشم، كان علي يقول: ما زال الزبير منّا أهل البيت، حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا-، واجتمعت بنو أُمية الى عثمان بن عفان، واجتمعت بنو زهرة الى سعد وعبدالرحمان، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة فقال: مالي أراكم متثاقلين؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبدالرحمان ومن معهما، فبايعوا أبا بكر.

وذهب عمر ومعه عصابة الى بيت فاطمة، منهم أُسيد بن حضير، وسلمة بن أسلم، فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه، وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب! فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار(2).

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 60.

2- في تاريخ الطبري 3: 202 قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجن إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.


الصفحة 701
ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبدالله وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى انتهوا به الى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا اُبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع. فقال له علي: احلب يا عمر حلباً لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غداً! ألا والله لا أقبل قولك ولا اُبايعه! فقال له أبو بكر: فان لم تبايعني لم اُكرهك. فقال له أبو عبيدة: يا أبا الحسن، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالا له، واضطلاعاً به، فسلّم له هذا الأمر وارض به، فانك إن تعش ويُطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق، في فضلك وقرابتك، وسابقتك وجهادك.

فقال علي: يا معشر المهاجرين، الله الله! لا تُخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان منّا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنّة، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى، فتزدادوا من الحق بعداً!

فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا.


الصفحة 702
وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع(1).

فادعاء ابن كثير بمبادرة علي الى بيعة أبي بكر، تناقضه هذه الأخبار، وأخبار اُخرى بروايات عن المحدّثين، فقد أخرج جمع من المحدّثين والمؤرخين أن علياً لم يبايع أبا بكر حتى توفيت فاطمة، قالوا -واللفظ للبخاري ضمن رواية سنوا فيك بتمامها فيما بعد-: وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر... الخ(2).

عليّ قبل البيعة وبعدها

إن السؤال المتبادر الى الذهن هو: ماذا كان يفعل علي بن أبي طالب طيلة هذه الأشهر التي سبقت البيعة؟ هل كان جالساً في بيته ساكتاً على ما يجري دون أن يحرك ساكناً، هل اقتنع بأنه قد دُفع عن الخلافة فغسل يده منها وكفّ عن المطالبة بها؟

قال ابن أبي الحديد نقلا عن الجوهري: إن علياً حمل فاطمة على حمار، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به. فقال علي: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا اُجهزه، وأخرج الى الناس اُنازعهم في سلطانه!

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 11، الإمامة والسياسة 1: 28.

2- صحيح البخاري 5: 178 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 3: 1380 كتاب الجهاد والسير، تاريخ الطبري 3: 207 - 208 وفيه: قال معمر: فقال رجل للزهري: أفلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي. البداية والنهاية 5: 201 باب بيان أنه (ع) قال: لا نورث.


الصفحة 703
وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلاّ ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه(1).

وقد تهكّم معاوية على علي بن أبي طالب في هذا الأمر، وقال له في كتاب بعثه إليه: وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر الصدّيق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم الى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله، فلم يجبك منهم إلاّ أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقاً لأجابوك، ولكنك ادعيت باطلا، وقلت ما لا تعرف، ورمت ما لايدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك: لو وجدتُ أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع(2). وكتاب معاوية هذا يثير قضية اُخرى، ويعطي لمحات لما جرى بعد السقيفة.

مواقف بعض الصحابة من السقيفة

قلنا إن كتاب معاوية لعلي قد أثار قضية; ألا وهي: موقف أبي سفيان من بيعة أبي بكر وعلي، وردّ علي عليه، ولقد أشار علي بن أبي طالب في جوابه على كتاب معاوية الى هذا الأمر فمما فيه:

وقد أتاني أبوك حين ولّى الناس أبا بكر، فقال: أنت أحق بمقام محمد، وأولى الناس بهذا الأمر، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف، أبسط يدك اُبايعك، فلم أفعل، وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنتُ أنا الذي

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 13، الامامة والسياسة 1: 29 - 30.

2- شرح نهج البلاغة 6: 47.


الصفحة 704
أبيتُ، لقرب عهد الناس بالكفر، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام، فأبوك كان أعرف بحقي منك، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك، والسلام(1).

وقد أخرج الطبري عن هشام بسنده قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم! يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من اُموركم! أين المستضعفان، أين الأذلاّن علي والعباس؟ وقال: أبا حسن، أبسط يدك حتى اُبايعك، فأبى علي عليه، فجعل يتمثل بشعر المتلمّس:


ولن يُقيم على خسف يُراد بهإلاّ الأذلاّن عَيرُ الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمتهوذا يُشجّ فلا يبكي له أحد

قال: فزجره علي وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك(2).

وأخرج عن محمد بن عثمان الثقفي بسنده قال: لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان: مالنا ولأبي فصيل! إنما هي بنو عبد مناف! قال: فقيل له: إنه قد ولّى إبنك، قال: وصلته رحم!(3).

وأخرج أيضاً عن محمد بن عثمان بسند فيه مالك بن مغول، قال: قال أبو سفيان لعلي: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا. قال: فقال علي: يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 78.

2- تاريخ الطبري 3: 209 حوادث 11 هـ.

3- المصدر السابق.