ومما يشهد بصحة ذلك، قوله تعالى: (إنَّ الذينَ يُبايعونَكَ إنَّما يُبايعونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيديهِمْ فَمنْ نَكثَ فَإنَّما يَنكثُ عَلى نَفسهِ وَمَنْ أَوفى بِما عاهَدَ عَلَيْه اللهَ فَسْيؤتيهِ أَجراً عَظيماً)(2).
قال إبن كثير: أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث..(3)
فالله سبحانه وتعالى قد ذكر إحتمال نكث اُولئك المبايعين بيعتهم وتوعدهم على ذلك ومن ناحية اُخرى فان إطلاق الرضوان غير ممكن بالأخذ بظواهر الآيات، وإلاّ فما نقول في قوله تعالى: (يا بَني إسرائيلَ اذكُروا نِعمتيَ التي أَنعَمتُ عَلَيكُمْ وَأَنّي فَضَّلتُكمْ عَلى العالمينَ)(4). فلو أطلق اللفظ فيها لاستلزم تفضيل بني إسرائيل على العالمين أبد الدهر، وهو أمر لا يقرّه مسلم، وإنما يدعيه اليهود، وذلك يستلزم تفضلهم حتى على الصحابة! إن الجمهور بتبنّيه نظرية عدالة الصحابة قد اصطدم بتكذيب الواقع لها، ومن الغريب أن الصحابة أنفسهم لم يكونوا يرون لأنفسهم هذه القدسية، ولا ادعوا بأنهم جميعاً من أهل الجنة، بل كان معظمهم خائفين مرتقبين، وقد اعترفوا بأنهم قد خالفوا النبي (صلى الله عليه وآله)، فعن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيتُ البراء بن عازب(رضي الله عنه)فقلت: طوبى لك، صحبت النبي (صلى الله عليه وآله) وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده!(5).
وعن أبي البختري، قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبدالله البجلي
____________
1- التفسير الكبير 28: 109.
2- سورة الفتح: 10.
3- تفسير القرآن العظيم 4: 199.
4- البقرة: 47.
5- صحيح البخاري 5: 159.
وعن ابن عباس قال: يقول أحدهم: أبي صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولنعلٌ خَلق خير من أبيه!!(2).
فسلمان الفارسي على صحبته وفضله، حتى كرّمه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: "سلمان منّا أهل البيت"، لا يعتقد بقدسية صحبته للنبي ولا يراها كافية للنجاة، أما ابن عباس فيكفي أن يصف أحد الصحابة بأنه لا يساوي نعلا قديماً ممزقاً!
والأحاديث النبوية الواردة في فضل الصحابة، تقابلها أحاديث كثيرة متواترة عن مآل جمع كبير من الصحابة الذين يحدثون بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، كما مر بنا في الكلام على حديث الحوض، وقد شهد النبي (صلى الله عليه وآله) للصحابة الذين مضوا في حياته ولم يحدثوا، فعن معمر قال: أخبرني من سمع الحسن يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله) للشهداء يوم اُحد: "إنّ هؤلاء قد مضوا، وقد شهدتُ عليهم، ولم يأكلوا من اُجورهم شيئاً، ولكنكم تأكلون من اُجوركم، ولا أدري ما تحدثون بعدي"(3).
وفي رواية: فقال أبو بكر: ألسنا إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟! قال: "بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من اُجورهم شيئاً، ولا أدري ما
____________
1- حلية الأولياء 1: 201، تهذيب تاريخ دمشق 6: 209.
2- مجمع الزوائد 1: 113 وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
3- مصنف عبد الرزاق 3: 541، 5: 273 باب الصلاة على الشهيد وغسله.
وسأل أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك! قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"(2).
وقد أخبرني النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة من أصحابه بأن آخرهم موتاً في النار، وكان سمرة بن جندب ذلك الثالث، وقد اخترعوا لموته قصة، فقالوا بأنه سقط في قدر مملوءة ماءً حاراً، فكان ذلك تصديقاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله).
قال ابن حجر: وقد جاء في سبب موته غير ما ذُكر!(3).
والحقيقة فان هذا الموقف المتشدد في تعديل الصحابة لم يكن مألوفاً في البداية ولا أقرّه الصحابة، "وقد كان التجريح بالصحابة شيئاً مألوفاً في العصر الأول للهجرة، وقبل أن يتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، وكان فضل هذا الخليفة الصالح أنه منع التجريح بالصحابة، وفرض على أئمة المساجد الدعاء لهم على المنابر، فظهر اجماع على القول بعدالة جميع الصحابة وطهارتهم مستندين إلى آيات القرآن التي مرّ ذكرها، وبالاستناد الى هذه الآيات، أسبغ العلماء والفقهاء على الصحابة طابعاً من القدسية، وصاروا لا يذكرونهم إلاّ بالدعاء لهم والرضوان عليهم من الله تعالى، وظهر منذ بداية القرن الثاني للهجرة رجال دين من أصحاب النوايا الحسنة صاروا يثقون بفضل الصحابة عامة، ويكفرون من يذمهم أو يقدح بأحد منهم... وقد ساهم هذا النفر من أصحاب النوايا الحسنة بوضع الأحاديث الكاذبة عن رسول الله، لتدعيم
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 38.
2- مسند أحمد 4: 106، سنن الدارمي 2: 308، المعجم الكبير للطبراني 4: 22، الاستيعاب 1: 8.
3- تهذيب التهذيب 4: 207 ترجمة سمرة بن جندب، والصحابيان الآخران هما: أبو هريرة وأبو محذورة، وانظر الاصابة 2: 78، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 78، الاستيعاب 2: 213.
وهكذا بدأت تفشو المقالة بعدالة الصحابة، لكن الجمهور كان يصطدم بالحقائق التي تثبت عكس ذلك من سيرة الصحابة، وكان ذلك متداولا على الألسن، فقرر أن يتخذ موقفاً صارماً لمنع الخوض في سيرة الصحابة مما لا يرضاه الجمهور ويفنّد نظريته، فصارت أصابع الاتهام بالزندقة والالحاد والكفر والرفض وما إلى ذلك تشير إلى كل من يكشف عن تلك الأسرار، "يقول أبو زرعة: إذا رأيت رجلا ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله، فاعلم أنه زنديق، ولم يقل أبو زرعة هذا القول في اُولئك الذين ظلوا أربعين سنة يشتمون علي بن أبي طالب على المنابر، وبينهم عدد من الصحابة أمثال المغيرة بن شعبة"!(2).
والعجيب أن هذا الموقف من عدالة الصحابة يبدو أكثر تشدّداً تجاه الصحابة الذين سنّوا سبّ الصحابة على المنابر، ففي ترجمة إبراهيم بن الحكم ابن زهير الكوفي: قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية، فمزقنا ما كتبنا عنه!(3).
إلاّ أن الجمهور لم يعدم رجالا يعرفون الحقيقة ويقولونها، ومن بينهم عدد من المحدّثين الكبار، ففي ترجمة ابن أبي دارم المتوفى سنة (352 هـ): كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة، إلاّ أنه يترفض، قد ألّف في الحط على بعض الصحابة(4).
____________
1- إبراهيم فوزي. تدوين السنة: 95.
2- المصدر السابق: 209، والصحيح أن الشتم استمر ستين سنة!
3- ميزان الاعتدال 1: 27.
4- سير اعلام النبلاء 15: 576.
وقال أحمد (بن حنبل): كان أبو عوانة وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول الله، وفيه بلايا! فجاء سلاّم بن أبي مطيع، فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذلك الكتاب، فأعطاه، فأخذه سلاّم فأحرقه!(2).
وروى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمان بن مهدي قال: فنظرت في كتاب أبي عوانة وأنا استغفر الله!(3).
وفي ترجمة عبد الرحمان بن يوسف بن خراش: سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى بندار جزأين صنّفهما في مثالب الشيخين (يعني أبو بكر وعمر)، فأجازه بألفي درهم، فأما الحديث، فأرجو أنه لا يتعمد الكذب(4).
وفي ترجمة عبد الرزاق بن همّام الصنعاني -صاحب المصنف- قال ابن عدي: لعبد الرزاق بن همام أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلاّ أنهم نسبوه الى التشيّع، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم مما لم أذكره في كتابي هذا! وأما في باب الصدق، فأرجو أنه لا بأس به، إلاّ أنه
____________
1- ميزان الاعتدال 1: 139.
2- كتاب العلل والرجال 1: 60.
3- المصدر السابق 3: 92.
4- الكامل في ضعفاء الرجال: 519.
وفي ترجمة الحسين بن الحسن الاشقر: أن أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممن يكذب. فقيل له: إنه يحدّث في أبي بكر وعمر، وأنه صنّف باباً في معايبهما! فقال: ليس هذا بأهل أن يُحدِّث عنه!(2).
لماذا عدالة الصحابة
بعد أن استعرضنا الآراء حول موضوع الوصية، وأوردنا الأدلة النقلية على ثبوتها، وتبيّن منها وجود نص جلي من النبي (صلى الله عليه وآله) على علي بن أبي طالب، ومحاولة الجمهور ردّ هذه الأدلة لكونها تناقض عقيدة الجمهور في مسألة الخلافة، وهو معذور في ردّها إذ أن تصديقها يستلزم إعادة النظر في كل المتبنيات التي قامت عليها نظرية الجمهور.
لقد أثبت النبي (صلى الله عليه وآله) الولاية لأهل بيته وعميدهم علي بن أبي طالب على المسلمين، وأكد أن طريق الاُمة الذي يتكفل بعصمتها من الضلال هو التمسك بالثقلين، وهما: كتاب الله وعترته أهل بيته، وأكّد على استحالة تفرّقهما حتى يوم الورود على الحوض، وبما أن الكتاب هو المصدر الأول للتشريع -وهو الثقل الأكبر كما في بعض ألفاظ الحديث- والسنّة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني لها، وهي الموضّحة والمبيّنة له، كما في قوله تعالى: (وَأَنزلنَا إليكَ الذّكرَ لتبيّنَ للناسِ ما نزلَ إليهِمْ)(3)، فإن ربط النبي (صلى الله عليه وآله) بين الكتاب وأهل بيته، يعني بالضرورة ربط سنّته بأهل بيته، فهم القيّمون عليها، والحافظون لها في كل
____________
1- المصدر السابق 6: 545.
2- تهذيب التهذيب 2: 291.
3- النحل: 44.
يقول الشيخ أبو زهرة: كان عمل الصحابة على قسمين: احدهما، ما يتفقون عليه... وهذا يكون إجماعاً، وهو حجة في ذاته، وبهذا قال جمهور الفقهاء... وإذا لم يجتمعوا، فإن التابعين كانوا لا يخرجون عن أقوال الصحابة، وإن كان كل تابعي يختار رأي شيخه غالباً، أو يختار رأي غيره من الصحابة نادراً... وأن التابعين كانوا يأخذون رأي الصحابي - سواء كان مجمعاً عليه أم كان غير مجمع عليه- على أنه سنّة، لا على أنه مجرد رأي، فأقوال الصحابة سنّة عندهم يجب اتباعها ولو كان أساسها الظاهري الاستنباط المجرد، وكذلك جاء من بعدهم الفقهاء المجتهدون، فاعتبر أكثرهم رأي الصحابي حجة يجب الأخذ بها..(1)
إن الخطأ الذي وقع فيه التابعون ومن بعدهم الفقهاء المذهبيون هو اعتبار
____________
1- تاريخ المذاهب الإسلامية: 262.
ولكن الجمهور وجد نفسه مضطراً إلى القول بعدالة الصحابة جميعاً، لأنهم أصبحوا المصدر الذي يستقي منه الجمهور عقيدته، فإذا وقع الشك في عدالتهم، فعند ذلك يصبح المصدر الذي يأخذ منه الجمهور عقيدته وشريعته في محل اتهام، وبذلك يمكن التشكيك في صحة اعتقادات الجمهور، وقد اعترف علماء الجمهور بذلك، فقال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة(2).
ولكن أبا زرعة قد فاته أن مصدر أخذ الكتاب والسنّة هم الثقل الثاني المتمثل بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، كما أخبر بذلك النبي في حديث الثقلين المتواتر.
والخلاف بين الصحابة في الفتوى كثير جداً، فأبو هريرة هو أكثر الصحابة المحدّثين عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد صحب رسول الله نحواً من ثلاث سنين، وأكثر الرواية عنه وعُمّر بعده نحواً من خمسين سنة، فلما أتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه السابقين الأولين، اتهموه وأنكروا عليه
____________
1- تاريخ حصر الاجتهاد: 90، 92، الخطط 2: 332.
2- مقدمة كتاب الاصابة لابن حجر: 10.
وأفتى ابن مسعود رجلا في الكوفة بجواز أن يتزوج اُم زوجته التي طلقها قبل الدخول، ففعل ذلك، وبعد أن ولدت له اُم زوجته ثلاثة أولاد، وأتى ابن مسعود الى المدينة وسأل عن هذه المسألة، فأخبروه بعدم جواز ذلك، فعاد الى الكوفة وأمر الرجل بفراق تلك المرأة!(2).
كما أن ابن مسعود لم يكن يدري أن صرف الفضة بالفضة لا يصلح إلاّ مثلا بمثل(3).
ولم يعرف ابن عمر كيفية تطليق زوجته، إذ طلقها وهي حائض، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فسأله، فأمره النبي أن يراجعها ثم يطلقها فتستقبل عدتها(4).
وأفتى ابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة، وتابعهم سعيد بن المسيب بأن ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة(5).
ولما وقع الطاعون بالشام، خطب عمرو بن العاص فقال: إن هذا الطاعون رجس فتفرّقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة، فغضب، فجاء وهو يجرّ ثوبه معلّق نعله بيده فقال: صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعمرو أضل من حمار أهله...(6)
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وبذلك يتبين أن الصحابة لم
____________
1- تأويل مختلف الحديث: 41.
2- مصنف عبد الرزاق 6: 273، البيهقي 7: 159.
3- مصنف عبد الرزاق 8: 123، البيهقي 5: 282، مجمع الزوائد 4: 116.
4- صحيح البخاري كتاب العدّة: مراجعة الحائض، صحيح مسلم، مسند أحمد 2: 51، 61، 64، 74، 80، 128، 145، فتح الباري 7: 54.
5- تحفة الاحوذي 1: 231، نيل الاوطار 1: 20، المحلى لابن حزم 1: 221.
6- مسند أحمد 4: 195 - 196.
الصحابة والنص
لقد كان الصحابة متفاوتين - ليس في ملكاتهم وعلومهم فحسب- بل وفي درجة قربهم من النبي (صلى الله عليه وآله)، نعم لقد كان بعض الصحابة قريبين من النبي ولكنهم لم يكونوا مقرّبين إليه، ولا كانوا ممن يُفضي إليهم بأسرار النبوة والقضايا الخطيرة، وقد ذهب الجمهور إلى عكس الواقع، يقول ابن تيمية: فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي (صلى الله عليه وآله) فوق اختصاص غيرهما وأبو بكر كان أكثر اختصاصاً، فإنه كان يسمر عنده عامة الليل ويحدّثه في العلم والدين ومصالح المسلمين..(1)
لكننا عندما نستعرض سيرة الصحابة وموقف النبي من كل منهم، نجد أن كلام ابن تيمية لا صحة له، لقد كان أبو بكر وعمر قريبين من النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكنهما لم يكونا مقرّبين إلى درجة أهليتهما لحمل أسرار علم النبي، وقد ذكرنا بعض الشواهد على قصور علم عمر، ولو طال الزمن بأبي بكر في خلافته، لتبين لنا كثرة أخطائه، ولكن الفترة القصيرة التي تولى فيها الخلافة، قد كشفت هي الاُخرى عن قصوره في العلم، فهو لم يعرف مثلا قضية ميراث الجدة حتى أرشده بعض الصحابة إليها، وغير ذلك من المسائل.
لقد أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) اشارات واضحة يهتدي بها المسلمون من بعده، فيعرفون الموارد التي ينهلون منها، فحمّل حذيفة بن اليمان أسراراً خاصة،
____________
1- مجموعة فتاوى إبن تيمية 4: 391.
فكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبره بأنباء الفتن والملاحم التي تقع بعده، كما أطلعه على أسماء المنافقين، وعلمنا من خلاله أسماء بعض المشتركين في التآمر على اغتيال النبي يوم العقبة، وأعطى النبي اشارات واضحة يفهمها اللبيب، فقال: "أمرني الله بحب أربعة: علي وأبي ذر وسلمان والمقداد"(2).
فأثبت النبي المحبة لهؤلاء من أجل أن يعلم أصحابه ذلك، فيميزوا بين أحباء النبي وغيرهم. كما وأرشد اُمته الى عمار بن ياسر وقت الاختلاف بين الفئة المحقة والفئة الباغية، وأخبر بأن عماراً ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما. وقال أبو ذر الغفاري: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كل شيء، حتى سألته عن مسّ الحصى، فقال: "واحدةً أو دَعْ"(3).
وسئل علي بن أبي طالب عن أبي ذر فقال: وعى علماً عُجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال فيُعطى ويُمنع، اما أن قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ(4).
وقال ابن عبد البر في ترجمته: روى عنه جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرّزين في الزهد والورع والقول بالحق، سُئل علي عن أبي ذر فقال: ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس، ثم أوكأ فيه فلم
____________
1- الاستيعاب 1: 394، الاصابة 2: 262، طبقات ابن سعد 6: 15، 7: 317، حلية الأولياء 1: 207، تاريخ دمشق 4: 145، تهذيب التهذيب 2: 219، شذرات الذهب 1: 32، 44، تهذيب تاريخ دمشق 4: 96.
2- مسند أحمد 5: 351، الجامع الكبير للسيوطي ح 1373، الترمذي 5: 594 ح 3718، سنن ابن ماجة ح 149، المستدرك 3: 130 وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
3- مسند أحمد 5: 163، حلية الأولياء 1: 156 وقال: كان أبو ذر(رض) للرسول(ص) ملازماً وأنيساً، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصاً.
4- الطبقات الكبرى 5: 170.
وكان سلمان الفارسي من اُولئك المقرّبين أيضاً، فعن علي أنه سُئل عن سلمان فقال: علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزف...
قال ابن عبد البر: وروينا عن عائشة اُم المؤمنين (رض) قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).
وكان علي بن أبي طالب هو المقدّم على الجميع دون شك، سُئل قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) دونكم؟! قال: لأنه كان أولنا به لحوقاً، وأشدّنا به لزوقاً(3).
وعن اُم سلمة (رض) أن النبي (صلى الله عليه وآله) إذا غضب لم يجترئ أحد منّا يكلمه غير علي بن أبي طالب(4)(رضي الله عنه).
وقد لخّص علي بن أبي طالب، حين سأله بعضهم عن بعض الصحابة، قال: أيُّهم؟ قالوا: عبد الله بن مسعود، قال: علمَ السنّة، وقرأ القرآن، وكفى به علماً ثم ختم به عنده... قالوا: فحذيفة؟ قال: علم أسماء المنافقين، وسأل عن المعضلات حتى عقل عنها، فإن سألتموه عنها تجدوه بها عالماً، قالوا: فأبو ذر؟ قال: وعى علماً، وكان شحيحاً حريصاً على دينه حريصاً على العلم، وكان يُكثر السؤال فيعطى ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ، قالوا:
____________
1- الاستيعاب 1: 321 أسد الغابة 5: 186، شرح الجامع الصغير للمناوي 5: 423، الاصابة4: 63 وقال:أخرجه أبو داود بسند جيد.
2- الاستيعاب 2: 196، الاصابة (3369)، أسد الغابة (2150)، الطبقات الكبرى 4: 54، حلية الأولياء 1: 715، تاريخ بغداد 1: 163، تهذيب الكمال (523)، تهذيب التهذيب 4: 137، تاريخ دمشق 6: 190، 211.
3- المستدرك 3: 125 وصححه ووافقه الذهبي، كنز العمال 13: 143 ح 36447.
4- المستدرك 3: 130.
وعن علي بن أبي طالب قال: كانت لي منزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن لأحد من الخلائق، فكنت آتيه كلّ سحر فأقول: السلام عليك يا نبي الله، فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلاّ دخلت عليه(2).
وكان اُبي بن كعب من المقربين أيضاً، وهو الذي قال لعمر: والله يا عمر، إنك لتعلم إني كنت أحضر وتغيبون، واُدنى وتُحجبون، ويصنع بي ويصنع...(3)
فهؤلاء الصحابة كانوا هم المقرّبين حقاً الى النبي (صلى الله عليه وآله) والمطلعين على أسراره، وعندما نستعرض سيرة اولئك الصحابة، نجدهم هم الذين كانوا متمسكين بولاية علي بن أبي طالب والداعين له، وقد اعتصم بعضهم - ممن كان حاضراً- في داره عندما أراد عمر أن يحرقها عليهم!.
____________
1- كنز العمال 13: 159 ح 36492.
2- سنن النسائي 3: 12 باب: التنحنح في الصلاة.
3- كنز العمال 13: 264 ح 36774 عن أبي داود في المصاحف وابن عساكر.
المستمسكون بالنص
بعد أن استعرضنا مسألة وجود نص نبوي جلي في قضية الخلافة على علي ابن أبي طالب، وسقنا الشواهد الدامغة على وجوده، وبعد أن تعرضنا لمحاولات التزييف التي تعرض لها هذا النص بسبب مخالفته لعقيدة الجمهور في مسألة الخلافة التي كانت من أهم مصادر الخلاف بين المسلمين على مرّ الزمن، وتحققنا من أن عدداً من الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين وعدداً من الأنصار كانوا يثبتون مسألة النص على علي بن أبي طالب، وهم الذين نقلوا ذلك إلى غيرهم، فظهر جيل من التابعين القائلين بوجود النص والمؤمنين به، واُولئك هم الذين التفّوا حول علي بن أبي طالب بعد توليه الخلافة، وتحملوا أعباء الدفاع عن الشرعية ضد الطامعين في سحبها مرة اُخرى من تحت أصحابها المستحقين لها، إلاّ أن دولة الباطل عادت لتنتزع الحق من أصحابه مرة اُخرى بعد أن لجأت الى كل ما في استطاعتها من أساليب المكر والخداع وشراء الذمم بالأموال، فعاد النص مرة اُخرى الى الظل، وبدأت أبواق الإعلام المضاد تروّج للخط الذي تولى قيادة المجتمع الاسلامي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وهو يعلم علم اليقين بأنه يناهض الشرعية بباطله، ولكن كان له ما يعتذر به عن ذلك، بأنه لم يكن أول من تجرأ على ذلك، فقد سبقه آخرون إليه، ويتضح ذلك من جواب معاوية على كتاب محمد بن أبي بكر الذي ذكرنا مقطعاً منه في باب الاستشهاد على وجود الوصية، وتتلخص سياسة هذا الخط في جواب معاوية الذي قال في بعض أجزائه مخاطباً محمد ابن أبي بكر:
وفي مقابل هذا التيار الجارف، ظهر تيار معارض متمسك بالوصية، يراها واجبة لعلي وأبنائه من بعده، فصار هذا التيار هو المعارض للسلطة التي يقتدي بها الجمهور، بعد أن انخدع بوسائل إعلامها، وكانت حجة المتمسكين بالنص، ما جاءهم من أحاديث نبوية متكاثرة تلهج بها ألسن مئات الصحابة الذين سمعوها ورووها، ولأن هذه الأحاديث كانت متواترة لا يمكن دفعها، فقد ادعى الجمهور بأنه متمسك بها، ولكن بعد تأويلها، ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن حجر المكي، فبعد أن أورد الروايات التي تحث على التمسك بأهل البيت باعتبارها الثقل الثاني بعد القرآن، وأنهم سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وأن مثلهم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 189، وقعة صفين: 135.
يقول ابن حجر هذا في صواعقه التي يذيّلها بكتاب يسميه (تطهير الجنان واللسان)، يقول في أول صفحة منه: فهذه ورقات ألّفتها في فضل سيّدنا أبي عبد الرحمان أمير المؤمنين معاوية بن صخر أبي سفيان...!
إن ادعاء ابن حجر بأن الجمهور هو المتمسك بأهل البيت، يكذبه قول ابن خلدون -بكل صراحة-: وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها اُصول واهية، وشذّ بمثل ذلك الخوارج، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الانكار والقدح، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلاّ في مواطنهم، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة...(2)
هذه هي حقيقة مذهب الجمهور، وليس كما يدعي ابن حجر، فأهل البيت في رأيهم ليسوا إلاّ شذاذاً مبتدعين، ولا يختلفون عن الخوارج، ولعمري ما الخطأ في تمسك الشيعة بأقوال أئمتهم من أهل البيت إلى درجة رفع الخلاف عن أقوالهم والقول بعصمتهم، وقد أثبت النبي (صلى الله عليه وآله) لهم ذلك، حين قرنهم بالقرآن الكريم الذي هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وأنهم لا يفترقون عن هذا الكتاب المعصوم الى يوم الورود على
____________
1- الصواعق المحرقة: 351.
2- المقدمة ; الفصل السابع: في علم الفقه: ص 339.
ولكن موقف مالك هذا لا ينطبق على جميع الصحابة، "فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون علياً فيما سنّه، كما يتبعون عمر وعثمان فيما سنّاه، وآخرون من العلماء -كمالك وغيره- لا يتبعون علياً فيما سنه! وكلهم متفقون على أتباع عمر وعثمان فيما سنّاه"(2).
إن علينا أن ننوّه الى مسألة مهمة هي أن علي بن أبي طالب لم تكن له سنّة متفردة كبقية الخلفاء، بل كان يتبع سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يقتصر الاجتهاد بالرأي في مقابل النصوص النبويّة على الصحابة وحدهم، بل تعداه الى التابعين أيضاً، وفي ذلك يقول أبو زهرة في معرض حديثه عن فقهاء المدينة: ويلاحظ أن هؤلاء الفقهاء السبعة كان أكثرهم ممن يجمع بين دقة الرواية وصدقها، والتخريج والافتاء بالرأي... وكذلك كان يكثر التخريج والافتاء بالرأي: القاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسليمان بن يسار، وخارجة... ولقد نقل علم هؤلاء وغيرهم اثنان هما: ابن شهاب الزهري - الذي كان يعدّ من صغار التابعين- وربيعة الرأي، وكلاهما تتلمذ له الامام مالك...(3).
وكانت نتيجة هذا الاتباع، تكوّن هذه المذاهب والخلاف بينها، حتى
____________
1- أبو زهرة: مالك: ص 290.
2- منهاج السنة لابن تيمية 3: 205.
3- تاريخ المذاهب الاسلامية: 462.
فالشيعة إذاً هم المستمسكون بالخط الأصيل الذي رسمه النبي (صلى الله عليه وآله)، ولذلك يمكننا أن نعرف السبب الذي دفع الزنادقة كسيف بن عمر الى نسبة الشيعة لعبد الله بن سبأ، ولماذا تتكاتف جهود الاُمويين والزنادقة والمستشرقين الحاقدين على الإسلام على تشويه صورة الشيعة في أذهان الناس لكي تبقى حقيقة الإسلام خافية على المسلمين إلى الأبد، وتبقى أسباب
____________
1- المصدر السابق: 333.
وهذا ما سوف نتناوله في كتابنا القادم "حقيقة التشيع" إن شاء الله تعالى.
(وَأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيماً فَا تَّبعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1).
____________
1- الأنعام: 153.