[آل عمران آية 144]
تقديم
كنت قد أعلنت عن هذا الكتاب منذ عدة سنوات تحت عنوان: (صفين). رؤية جديدة لحركة التاريخ. وكانت خطة الكتاب تقتضي بحث الصراع الذي دار بين الإمام علي ومعاوية ونتائج هذا الصراع وانعكاساته على واقعنا..
إلا أنني عندما خضت في الوقائع والأحداث التاريخية تبين لي أن وقعة صفين لم تكن سوى واجهة لأحداث أكبر انبنت على أساسها وتولدت منها.
من هنا فقد عدت إلى الوراء لأبحث في أمر عثمان. والبحث في أمر عثمان دفعني إلى البحث في أمر عمر. والبحث في أمر عمر دفعني إلى البحث في أمر أبي بكر حتى وصلت إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأكتشف أن الانحراف بدأ مع احتضاره وأن صفين بدأت من هنا..
ومنذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدأت السياسة يساندها السيف تلعب لعبتها لتبرز لنا الخط القبلي الذي أرسى دعائمه أبو بكر وعمر والذي قام على أساسه الخط الأموي فيما بعد..
لم تكن صفين سوى نهاية الطريق بالنسبة لمسيرة الإسلام القبلي الذي ساد بعد وفاة لرسول (صلى الله عليه وسلم). وأن فقه صفين يتوقف على فقه مرحلة احتضار الرسول..
لقد برز بعد وفاة الرسول خطان:
خط سار في طريق القبلية نتج من سقيفة بني ساعدة..
وخط سار في طريق آل البيت وتحالف مع الإمام علي..
الخط الأول مثل الإسلام القبلي..
والخط الثاني مثل الإسلام النبوي..
وإن الصراع قد احتدم بين الإسلام القبلي والإسلام النبوي فور وفاة وإن كان الإسلام القبلي قد تحققت له السيادة فقد بقي الإسلام النبوي في ساحة المواجهة..
تارة يصارع السيف..
وتارة يصارع السياسة..
إن الهدف من هذه الدراسة هو بعث الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته من جديد فمن الواضح أن هذا التاريخ قد صبغته السياسة وطغى فيه الرجال على النصوص وتغلبت فيه النزعات على القيم الإسلامية..
ولقد استمر المسلمون منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم يرصدون حركة التاريخ بعين واحدة. هي عين القداسة دون أن ينظروا إليها بعين النقد..
ومنبع هذه النظرة يكمن في تلك الأغلال السلفية التي طوق بها المسلمون والتي تحول دون رؤيتهم لحركة التاريخ بصورة متكاملة بمعزل عن القداسة التي أضفيت على رموز وشخصيات معينة لعبت دور بارزا في دائرة هذه الحركة. ونحن لا نهدف من خلال هذه الدراسة إلى التجريح أو الطعن والتشويه وهدم رموز معينة هي محل قداسة المسلمين ولكن الهدف هو وضع النصوص فوق الرجال ثم وزن هؤلاء الرجال على ضوء هذه النصوص..
ما نهدف إليه هو أن نرسي قاعدة تعيننا على قراءة التاريخ قراءة متبصرة من خلال النصوص لا من خلال الرجال..
إن البحث في وقائع التاريخ يجب أن تكون له دلالاته الواقعية. وما طرحناه في هذه الدراسة إنما له انعكاساته على واقعنا وما نعايشه من خلال واقع الإسلاميين والفكر الإسلامي بصورة عامة..
وما يجب أن يدركه الذين يتصدون لأمر الدعوة والتوجيه في الميدان الإسلامي أن فقه حركة التاريخ مقدمة ضرورية لفقه الإسلام..
وإن فقه الماضي مقدمة لفقه الحاضر.
ومن الماضي إلى الحاضر كانت رحلة هذا الكتاب الذي أرجو أن يكون خطوة على طريق تحرير العقل المسلم من أغلال الماضي..
صالح الورداني
القاهرة يناير 1996 م
المحطة الأولى
وفاة الرسول
وأطلت الفتنة برأسها والرسول
لا زال على فراش المرض..
كانت زعامات قريش التي أطاح بها الإسلام في مرحلة الفتح ترقب من بعيد البيت النبوي وتطورات مرض الرسول..
وكانت قطاعات المهاجرين في المدينة تتداول الأمر فيما بينها على ضوء وصية الرسول في حجة الوداع وما تنزل من القرآن في أواخر حياته. وذلك بهدف وضع ملامح المرحلة القادمة. مرحلة ما بعد الرسول. وتحديد دورهم فيها..
وكانت الأنصار ترقب الأحداث في توجس خوفا من فقد مكانتها ووضعها الاستراتيجي بوفاة الرسول..
وكان المنافقون يعدون العدة لإنهاء مرحلة السرية والتخفي وتجهيز أنفسهم للتكيف مع المرحلة الجديدة..
وكانت هناك فئة قليلة من المؤمنين منشغلة بالرسول ومستقبل الدعوة وردود الأفعال التي سوف تحدث بعد وفاته على مستوى المدينة وخارجها..
ويلاحظ من خلال استقراء الروايات التي تشخص لنا واقع المدينة أثناء مرض الرسول أن هناك ضغوطا كان يواجهها الرسول من فئات مختلفة لها توجهاتها المختلفة. ويبدو أن هذه الضغوط كانت تتركز جميعها حول مسألة الخلافة والحكم ومثل هذه الضغوط لا تكون إلا إذا كان الرسول قد أشار أو حدد الأمر في شخص أو جهة معينة كانت محل التنازع. فلو لم يكن الرسول قد أشار إلى أحد لما كان هناك مبرر للاختلاف والتنازع أمامه. فالواجب الصبر حتى يقضي الله أمره.
فإن عوفي كان بها. وإن توفاه الله اختاروا من بينهم من يقوم بالأمر..
إلا أن الروايات لا تقودنا إلى مثل هذه الاستنتاجات. وإنما تؤكد أن الرسول
والرسول كقائد يودع أمته يدرك أن هناك مجموعة من الأخطار تتهددها على مستوى الداخل والخارج لا بد له من أن يضع خطة لمواجهتها..
لا بد له من أن يتخذ بعض الخطوات على مستوى الخارج حيث الروم والفرس يتربصون بالإسلام والمسلمين..
ولا بد له من اتخاذ خطوات على مستوى الداخل حيث يوجد المنافقون واليهود..
وعلى مستوى الخارج كان تجهيز جيش أسامة..
وعلى مستوى الداخل كان كتابة الوصية وخطبة الوداع..
خطبة الوداع
هل يمكن أن تخلو خطبة رسول يودع أمته ولا نبي بعده. من خطوط عريضة تسير عليها الأمة من بعده..؟
إن الإجابة على هذا السؤال تدعونا إلى التأمل في نصوص خطبة الوداع الواردة في كتب السنن كما تدعونا إلى التأمل في الآيات القرآنية التي ارتبطت بتلك الفترة..
وعلى رأس النصوص القرآنية التي ارتبطت بحجة الوداع قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس (1).
____________
(1) سورة المائدة
يروي البخاري عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (2).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تقول عائشة هذا الكلام..؟
لا شك أن هناك مناسبة ما اضطرتها إلى قولها هذا..
ويبدو أن هناك من أكثر القول حول هذه الآية وأن هناك شيئا ما له أهميته نزلت به الآية..
ولا يعقل بل لا يجوز أن يوجه الاتهام إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بكتمان ما أنزل الله.
فإن هذا الكتمان بكافة أحواله هو في صالح المنافقين والقبليين وأصحاب المصالح والأهواء. فما الذي يضطرهم إلى تكذيب الرسول واتهامه بالكتمان وهم يعلمون أن القرآن يتنزل على الرسول فاضحا لهم وكاشفا لنواياهم..
إذن الرسول لم يكتم شيئا وأبلغ الأمة ما أنزل إليه. لكن الكتمان جاء من أطراف أخرى. وهو ليس كتمانا لنصوص قرآنية بلا شك وإنما هو كتما لقول الرسول حول هذه النصوص ويبدو أن هناك اتجاه كان يؤمن بأن هذه الآية كانت تتعلق بوصية الرسول فيمن يخلفه من بعده. ولعل هذا يبرر قول عائشة الذي يشير إلى أن الآية لو كانت تشير إلى هذه القضية لبين الرسول ذلك وما كتمه.. وهو ما يبرر رواية عائشة الأخرى في البخاري التي تقول منكرة وصية الرسول لعلي: متى أوصى إليه..؟ فلقد أنخنث في حجري وما شعرت أنه مات. فمتى أوصى إليه..؟ (3).
وإذا ما استعرضنا النصف الآخر للآية الذي يقول: وإن لم تفعل ما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) تبين لنا أن هناك أمر جلل بلغ للأمة أوجب
____________
(2) البخاري. كتاب العلم.
(3) البخاري كتاب الوصايا ومسلم كتاب الوصية..
والرسول تتنزل عليه الآيات بكثير من الأحكام يبلغها للناس منذ سنوات فلماذا ارتبط تبليغ هذا الأمر الأخير بالعصمة من الناس..؟
وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم. وأتممت عليكم نعمتي. ورضيت لكم الإسلام دينا) (4). من الآيات التي نزلت في حجة الوداع كما روى الجمهور عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا الناس إلى علي في يوم غدير خم.
وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقام فدعا عليا. فأخذ بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله وعلي. ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية.. ثم قال (صلى الله عليه وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.. (5).
يروي البخاري أن رسول الله خطب في الناس فقال: ألا تدرون أي يوم هذا؟
قالوا الله ورسوله أعلم. قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس بيوم النحر؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: أي بلد هذا..؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. في بلدكم هذا. ألا هل بلغت. قلنا نعم.
قال اللهم فاشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ يبلغه من هو أوعى له فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. (6).
وفي رواية: لا ترتدوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. (7).
____________
(4) سورة المائدة..
(5) أنظر كتب التفسير وأسباب النزول. والحديث رواه أحمد في مسنده ح 1 / 118 وإسناده صحيح.
(6) البخاري. كتاب الفتن.
(7) المرجع السابق..
وروى مسلم: أيها الناس: اسمعوا قولي. فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس. أن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وإن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله..
أيها الناس. إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذاك فقد رضى به ما تحقرون من أعمالكم. فاحذوره على دينكم. أيها الناس: إن النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاثة متواليات. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
اتقوا الله في النساء. فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهم بكلمة الله.
إن لكم عليهن حقا. ولهن عليكم حقا. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه.
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدا إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله..
يا أيها الناس: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله.
____________
(8) المرجع السابق..
وروى ابن سعد: أرقاءكم. أرقاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون. وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم.. (1).
وروى ابن إسحاق في سيرته نفس هذه الرواية كما رواها ابن سعد في طبقاته.
تروي كتب السنن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما.. (11).
وفي رواية: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.. (12).
وفي رواية مسلم: أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه. وشال: أهل بيتي.
أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي (13)..
وفي رواية أن الإمام علي نشد الناس في الرحبة قائلا: من سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
____________
(9) مسلم س 4 / 37..
(10) الطبقات ح 1 /
(11) مسلم باب فضائل الإمام علي. ورواه الطبراني في الأوسط وجمع الجوامع للسيوطي والترمذي باب مناقب آل البيت والهيثمي في مجمع الزوائد ح / 9 163..
(12) الحاكم في المستدرك ح 3 / 146. وانظر مسلم..
(13) مسلم باب فضائل الإمام علي. وانظر الترمذي والنسائي والدارمي ومسند أحمد.
فقام من قبل سعيد ستة. ومن قبل زيد ستة. فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول لعلي يوم غدير خم: أليس الله أولى من المؤمنين. قالوا: بلى. قال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.. (14).
وعن البراء بن عازب قال: أقبلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السنة التي حج فنزل في بعض الطريق. فأمر الصلاة جامعة. فأخذ بيد علي فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلى. قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا:
بلى: قال: فهذا - أي علي - ولي من أنا مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عادا.. (15).
ويقول ابن تيمية عن أهل السنة: ويحبون أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي.. (16).
مناقشة الروايات
من خلال عرض الروايات السابقة نلخص إلى ما يلي:
- أن رواية البخاري قد حددت أمامنا عدة أمور مستقبلية:
الأول يتعلق بحفظ الدماء بين المسلمين..
والثاني يتعلق بعدم الالتزام بالأول..
والثالث يتعلق بشهادة الرسول..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يركز الرسول في خطبة يودع فيها أمته على الدماء والردة. ثم هو يبلغ ذلك ويشهد عليه ليعلن براءته أمام الله كرسول ناصح لأمته..؟.
____________
(14) مسند أحمد..
(15) المرجع السابق..
(16) العقيدة الواسطية. ط القاهرة
ولعل هذا هو المعلم الوحيد الذي تبرزه رواية البخاري فيما يتعلق بمستقبل الدعوة وحال الأمة بعد وفاة الرسول..
ولا يوجد ما يبرر الصراع والتطاحن وشهر السيوف وضرب الأعناق بعد الرسول إلا الحكم والسعي نحو الفوز به..
ولقد كانت ولاية أبي بكر سببا مباشرا في قيام صراع مسلح بين المسلمين حسمته السيوف بقسوة فيما سمي بقتال مانعي الزكاة...؟؟
وما ذكره البخاري هو جزء من خطبة الوداع أما بقيتها فقد شتتها كعادته بين الأبواب التي ترتبط بموضوعاتها. فالجزء الخاص منها بالربا وضعه في باب الربا والجزء الخاص بالنساء وضعه في باب يلائمه وهكذا.. وهذا من شأنه أن يضيع المفهوم العام لخطبة الوداع ويبدد أغراضها..
أما رواية مسلم فهي رواية متكاملة حددت عدة معالم واضحة:
الأول: حفظ الدماء..
الثاني: نبذ الجاهلية..
الثالث: وضع الربا..
الرابع: احترام النساء..
الخامس: الاعتصام بالكتاب والسنة.
السادس: طاعة الحكام..
السابع: حفظ الحقوق بين المسلمين..
الثامن: البلاغ والشهادة..
وكون أن الرسول يوصي أمته بحفظ الدماء ونبذ الجاهلية واحترام النساء وحفظ
فكان من الأولى أن يحض على الكتاب وحده فلم تكن السنة قد جمعت ولم تكن معروفة كمصدر للتشريع. حتى الكتاب - حسب رواياتهم - لم يكن قد جمع ولم يكن يحفظه إلا القلة القليلة من الصحابة. ويبدو أن إضافة السنة هنا هي من اختراع الرواة حيث أن هناك رواية أخرى لمسلم ذكر فيها الكتاب وحده ولم يذكر السنة..
أما طاعة الحكام فمن الواضح أنها من اختراع السياسة كي تمهد للأنظمة الحاكمة التي سوف تقوم بعد وفاة الرسول. وهي قضية مهدت لها عشرات الأحاديث الأخرى التي تلزم الأمة بطاعة الحكام وإن كانوا فجارا ينتهكون حرمات الناس.. (17).
وما رواه مسلم والبخاري وغيرهما إنما يتعلق بالشق الأول من خطبة الوداع.
لكن هناك شق آخر للخطبة تفوق أهميته أهمية الشق الأول. خطبه الرسول في مكان آخر أثناء عودته من الحج مكان يدعى غدير خم بالقرب من المدينة..
وهذا الشق لم يروه البخاري إنما رواه مسلم وكتب السنن الأخرى. وهو محل جدل بين السنة والشيعة. حيث إن السنة تشكك فيه وإن اعترفت به فهي تشكك في أبعاده والمراد منه. بينما الشيعة تعده من أقوى التصريحات النبوية على وصية الرسول للإمام علي والتي تؤكد أن الرسول وضع خطوطا عريضة للأمة تهتدي بها بعد وفاته فيما يتعلق بالحكم والإمامة وسائر أمور الدين..
وكون أن الرسول يوصي في حجة الوداع بكتاب الله وآل بيته فإن المسألة يكون لها مدلول آخر. وكونه يمسك بيد علي ويعلن أنه وليه ويدعو لمن والاه ويدعو على من عاداه فإن المسألة هنا تزداد وضوحا..
____________
(17) أنظر البخاري ومسلم وكتب السنن وهي تكتظ بعشرات الأحاديث التي توجب طاعة الحكام وأن جلدوا ظهور الناس وسلبوا أموالهم وعدم منابذتهم والخروج عليهم وأن الخروج يوجب الحكم بالإعدام ويخرج المسلم من دائرة الإسلام. وانظر لنا عقائد السنة وعقائد الشيعة باب الإمامة..
ويبدو أن هناك تحالف بين جبهة القبليين وجبهة المنافقين تم في مواجهة جبهة علي وشيعته من الصحابة انتهت بهزيمة جبهة علي..
ويروى أن عليا شكى الناس لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقام الرسول خطيبا فقال: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله.. (18).
والناس هنا بالطبع هم قطاع من الصحابة كان يتقول على علي ويحسده على مكانته من الرسول وعلو شأنه في الإسلام..
وقد حسم رسول الله هذا الأمر بالحكم على مبغضي الإمام علي وكارهيه بالنفاق فيما يروى على لسان علي: عهد إلي النبي الأمي: أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق..) (19).
ويروى: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله بأمرين: صلاة العتمة وبغض عليا.. ومثل هذه الروايات إنما تشير إلى أن الجبهة المعادية لعلي كان لها وجودها في حياة الرسول. كما أن الجبهة المناصرة له كان لها وجودها أيضا..
وابن تيمية وهو خصم للشيعة ولكل الخارجين على خط بني أمية أقر بأن الرسول أوصى في غدير بأهل البيت وذكر قوله (أذكركم الله في أهل بيتي) في عقيدته الواسطية دون ذكر بقية كلام الرسول في علي..
وبالطبع فإن ابن تيمية لا يرى ولا يفهم من كلام الرسول هذا ما يفهمه أصحاب العقول من أنه دلالة على أحقيتهم بالإمامة والاتباع من بعده. وهذا الفهم لدور آل البيت هو الذي ساد بعد وفاة الرسول وانتصر له ابن تيمية وتلقفته الحكومات
____________
(18) مسند أحمد ج 3 / 86.
(19) سنن ابن ماجة باب فضائل أصحاب رسول الله. ومثله في الترمذي ومسلم وأحمد.
جيش أسامة
كثرت الروايات التي تتحدث عن جيش أسامة في كتب السنن وكتب التاريخ.
إلا أن هذه الروايات على كثرتها لم تكشف لنا السر وراء إصرار الرسول (صلى الله عليه وسلم) على بعث هذا الجيش إلى الخارج في مثل تلك الظروف التي كان يعيشها المجتمع المدني آنذاك وهو يترقب وفاة الرسول ما بين ساعة وأخرى..
لقد كان الرسول كثيرا ما يردد وهو على فراش المرض: أنفذوا بعث أسامة.
أنفذوا بعث أسامة.. (21).
إن إصرار الرسول على ضرورة تحقيق هذا الأمر يكشف لنا عدة حقائق:
الأولى: أن هناك قوى تقف في طريق تحرك هذا الجيش..
الثانية: أن تحرك هذا الجيش له أهميته القصوى بالنسبة لحركة الدعوة..
الثالثة: أن الرسول كان يتعجل خروجه..
الرابعة: ما هي حكمة تولية فتى صغير على كبار الصحابة في بعثه عسكرية هامة كهذه؟
يروي البخاري: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه.. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وأنه أحب الناس إلي..
لماذا يقول الصحابة في أسامة. وماذا يقولون فيه..؟
هذا ما لم تخبرنا الرواية. إلا أن هناك رواية أخرى أكثر تفصيلا..
عن ابن عمر قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن
____________
(20) أنظر لنا العقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف. وأيضا فقهاء النفط ويذكر أن فتاوى ابن تيمية الكبرى (37) جزءا طبعت على نفقة خادم الحرمين وتوزع مجانا.
(21) أنظر طبقات ابن سعد ح 4 / 3.
والرواية الثانية تجلى لنا الموقف بصورة أكثر وضوحا وهو أن هناك طعنا في أسامة ورفضا لإمارته. وإن هذا الموقف كان قد اتخذ مسبقا من إمارة أبيه في غزوة مؤتة التي استشهد فيها..
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: أليس الطعن في إمارة أسامة يعد طعنا في أمر الرسول الذي عينه..؟
وهل هذا الموقف كان يتركز في أسامة بشخصه أم في أهداف البعثة؟ إن الأمر على ما يبدو يتجاوز المسألة الشخصية ويشير إلى أن هناك قضية أخرى أكبر من أسامة ومن بعثته..
وكعادة الروايات التي تروى في كتب السنن خاصة الصحيحين وتتعلق بمواقف الصحابة وتجاوزاتهم. فإنها تكون مبتورة المعنى أو لا تسمي الشخص أو لا تفصل الحدث..
والهدف من وراء ذلك هو محاولة التمويه على الحقيقة وعدم إثارة الشبهات حول شخصيات معينة حتى لا تهتز في أعين المسلمين.. وهو أمر يعود أولا وأخيرا إلى أمانة الراوي.
أنظر حديث عائشة: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه وهو مستند على رجلين أحدهما العباس ورجل آخر. وكان الرجل الآخر الذي لم تسمه عائشة هو علي.. (23).
وانظر حديث أبو هريرة: حفظت وعاءين عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعاء بثثته. أما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم.. (24).
____________
(22) البخاري باب بعث أسامة.
(23) البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي ووفاته. وانظر مسلم..
(24) البخاري. كتاب العلم..
فالبخاري هنا لم يخبرنا من الذي قال عن الرسول: ما شأنه أهجر. وهي طعن في الرسول واتهامه بالتخريف والهلوسة.. ثم أنه لم يخبرنا عن الثالثة هل سكت عنها ابن عباس أم سكت عنها هو، وهو على ما يبدو من الرواية متأرجح بين أن يكون ابن عباس سكت عنها أو نسيها هو. كما فاته أن يذكر أن الذي طعن في الرسول وهو على فراش المرض هو عمر بن الخطاب..
ومثل هذا الأمر ينطبق على الروايات المتعلقة بجيش أسامة فقد ذكرت رواية البخاري: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه..
وفي الرواية الثانية فطعن الناس في إمارته..
ولم يخبرنا البخاري من الذين قالوا في أسامة ومن الذين طعنوا في إمارته من الصحابة..؟ إن مثل هذا الأمر يطابق النهي عن الخوض في خلافات الصحابة واعتبار ذلك من المحرمات ومن أصول العقيدة كما تنص على ذلك كتب العقائد.. (25).
فكلا الأمرين الهدف منهما التغطية على أحداث التاريخ التي تتعلق بالصحابة حتى لا تهتز صورتهم في أعين المسلمين وتفقد الثقة فيهم وتكون النتيجة هي خروج المسلمين عن خط أهل السنة وخط الحكام على ما سوف نبين.
ومن المعروف أن جيش أسامة كان فيه كبار الصحابة وعلى رأسهم أبي بكر وعمر عدا الإمام علي الذي أبقاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى جواره..
____________
(25) أنظر العقيدة الطحاوية والواسطية والعواصم من القواصم وانظر لنا عقائد السنة وعقايد الشيعة باب الرجال:.
ماذا كان يهدف الرسول من وراء تأمير فتى كأسامة على أبي بكر وعمر وكبار الصحابة ثم يصر على ضرورة خروجهم من المدينة في أسرع وقت. وهو الذي على فراش الموت. ومن الممكن أن يتوفاه الله في أية لحظة فلا يكون إلى جواره في المدينة أحد من الصحابة لعل هذا الأمر أثار الريب في نفوس الصحابة وجعلهم يتلكأون في الخروج محتجين بصغر سن أسامة.
ولعل جواب الرسول (صلى الله عليه وسلم): أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل يشير إلى شكه في موقفهم مذكرا لهم أن هذا الموقف اتخذتموه من قبل من أبيه زيد ولم يكن زيد صغير السن..؟
إذن هؤلاء القوم كانوا يضمرون في نفوسهم أمرا ويتحججون بحجج واهية كي لا يخرجوا من المدينة. ولكن لماذا يريدون البقاء في المدينة..؟
إن الجواب على هذا السؤال تكشفه لنا الرواية التي ذكرناها آنفا وهي رواية يوم الخميس حين طلب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده. فهاجوا وماجوا وطعن بعضهم في الرسول حتى يفوتوا عليه كتابة هذا الكتاب. فهذا الحدث قد كشف لهذه الطائفة التي يتزعمها عمر على ما يبدو وعلى ما سوف نبين أن الرسول يضمر شيئا يتعلق بالأمر من بعده. فمن ثم هم لا يريدون أن يفوتهم هذا الأمر.
ومما يؤكد هذا الظن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد كرر هذا الموقف في غزوة تبوك مع الإمام علي وصرح أمام الصحابة بمقالة فيه أثارت الريب في نفوسهم..
يروي البخاري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف عليا. فقال:
أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه ليس نبي بعدي.. (26)
____________
(26) البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب علي.
إن بعث أسامة يكشف أمامنا قضية هامة وهي قضية التفضيل. تفضيل الصحابة على بعضهم. وتفضيل أبي بكر وعمر على الصحابة بل على الأمة. فإن هذا التفضيل لو كان حقيقة ما جعل رسول الله أسامة أميرا على أبي بكر وعمر وما استبقى عليا.. كما يكشف لنا من جهة أخرى أنه لو كان الرسول قد نص على استخلاف أبي بكر كما يقال ما وضعه على مقدمة الجيش بينما هو على فراش المرض الذي توفي فيه (*).
يقول ابن حجر: كان تجهيز أسامة قبل موت الرسول بيومين فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر. ودعا أسامة فقال؟ سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش.. فعقد الرسول لأسامة لواء بيده. وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ثم اشتد على الرسول وجعه: فقال انفذوا بعث أسامة. فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي. فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف.. (27).
وقد أنكر ابن تيمية أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة. لكن ابن حجر رد عليه وأورد عدد من الروايات التي تبطل قوله.. (28).
وهنا يطرح أمامنا السؤال التالي: لماذا يحاول ابن تيمية نفي وجود أبو بكر وعمر في بعث أسامة..؟.
أليس وجودهما يعد امتثالا لأمر الرسول وهو شرف لهما..؟.
____________
(*) ليست هذه المرة الأولى التي وضع فيها أبو بكر وعمر في هذا الموضع فقد سبق أن وضعهما الرسول صلى الله عليه وسلم تحت إمرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل. أنظر البخاري. باب مناقب أبو بكر وشرح الرواية فن فتح الباري ج 7.
(27) فتح الباري ح 8 / 152 كتاب المغازي باب 87.
(28) المرجع السابق.
إن ابن تيمية قد اتخذ هذا الموقف في معرض رده على العلامة الحلي أبرز علماء الشيعة المعاصرين له. وقد اضطر في مواجهته إلى التشكيك في حديث الثقلين المروي في صحيح مسلم وهو ما دأب ابن تيمية على فعله في مواجهة خصومه من العلماء داخل أهل السنة وخارجها خاصة من الشيعة.. (29).
والطريف في هذا الأمر هو تجهيز أبو بكر للجيش بعد وفاة الرسول وبعثه إلى الروم.. يقول ابن حجر: ولما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله - أي أسامة - أن يأذن لعمر بالإقامة - في المدينة - فأذن.. تأمل.. (30).
لماذا عمل أبو بكر على استثناء عمر من جيش أسامة..؟
لقد جهز أبو بكر الجيش امتثالا لأمر الرسول حيث أنه قد رفع شعارا مفاده إنما أنا متبع وليست بمبتدع.. وعمد إلى تقليد الرسول في كل مواقفه وممارساته.. فإذا كان هو كذلك فلماذا عمل على استثناء عمر. أليس ذلك مخالفة لسنة الرسول وأمره. وهو قد استثنى نفسه بحكم تسلمه الخلافة فبأي حجة استثنى عمر..؟
هل يمكن أن نتهم أبو بكر بالسطحية في فهم النصوص إذ أن الغرض من بعث أسامة قد انتفى بوفاة الرسول واستخلافه. بينما هو يصر على خروجه ويستثني منه عمر. أم أن أبا بكر يحاول أن يموه على الهدف الحقيقي من بعثة أسامة؟
ولنترك القوم مع جيش أسامة على أبواب المدينة ينتظرون ويراقبون من بعد تطورات مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهم بموقفهم هذا قد تحايلوا على أمر الرسول: فلا هم نفذوا أمره ولا هم ظاهرون أمامه. وبدا وكأنهم يوهمون الرسول أنهم خرجوا..
هل مثل هذا السلوك يصح من أناس تخرجوا من مدرسة الرسول..؟
____________
(29) أنظر منهاج السنة وهو رد على كتاب العلامة الحلي منهاج الكرامة في إثبات الولاية لآل البيت.. ط بيروت.
(30) فتح الباري ح 8 / باب 87 كتاب المغازي..
بين المرض والوفاة
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس.. وما يوم الخميس؟
اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجعه: فقال: إئتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع: فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه. فذهبوا يردون عليه. فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وأوصاهم بثلاث.
قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.
وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها..
وفي رواية: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي البيت رجال: فقال النبي هلموا أكتب لم كتابا لا تضلوا بعده. فقال بعضهم أن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا. فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف. قال رسول الله: قوموا.
قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.. (31).
وفي رواية ثالثة عن ابن عباس: لما اشتد بالنبي وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.
فاختلفوا وكثر اللغط. قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.. (32).
قال القرطبي وغيره ائتوني أمر وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال. لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس على الوجوب وأنه من باب الارشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقوله: (تبيانا لكل شئ)..
____________
(31) البخاري كتاب العلم وانظر كتاب المرضى. وانظر مسلم كتاب الوصية ومسند أحمد ح 1 / 355.
(32) المراجع السابقة.
وقال ابن الجوزي.. وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب..
ويقول ابن حجر معلقا على قول ابن عباس: إن الرزية كل الزرية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.. وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر. بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث. وجزم ابن تيمية في الرد على الرافضي - الحلي - بما قلته.، إنما تعين حمله على غبر الظاهر لأن عبيد الله بن عباس راوي الحديث تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي بمدة طويلة ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى.. (33).
وروت عائشة أن الرسول في حال احتضاره كان يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (34).
ويروى أن الناس قد ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا. فقالت: متى أوصى إليه فقد كانت مسندته إلى صدري (أو قالت حجري) فدعا بالطست.. فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات. فمتى أوصى إليه..؟ (35).
وروي عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده. فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي عنه..
وقد أذن له في أن يمرض في بيت عائشة من قبل نسائه لما يعلمن محبته لها وارتياحه إليها.. (36)
____________
(33) أنظر فتح الباري ج 13 / 336 و ح 8 / 132 وما بعدها وقول ابن حجر هذا يفتح باب الشك في طرق الرواية عند أهل السنة.
(34) البخاري ومسلم.
(35) البخاري ومسلم.
(36) البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي ووفاته.. وانظر مسلم.
ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن إخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر. وإني فرط لكم. وأنا شهيد عليكم. وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن. وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض. وإني والله ما أخاف أن تشركوا من بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها.. (37).
ويروى عن عائشة قالت: قال لي رسول الله في مرضه أدعي لي أبا بكر أباك وأخاك. حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.. (38).
ولما حال المرض بين رسول الله وبين الخروج قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة: يا رسول الله: إن أبا بكر رجل أسيف (رقيق) وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس. فقال: أنكم صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.. (39).
ويروى عن عائشة أنها قالت: ورأساه: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك لو كان وأنا حي وأستغفر لك وأدعو لك. فقال عائشة، واثكلتاه والله إني لأظنك تحب موتى ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك..
فقال النبي: بل أنا وارأساه. لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون. ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون.. (40).
وإذا ما قمنا بمناقشة هذه النصوص المتعلقة بمرض الرسول ووفاته فسوف تتكشف
____________
(37) البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي. وكتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
(38) مسلم. كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر. وانظر البخاري كتاب الأحكام باب الاستخلاف..
(39) مسلم كتاب الصلاة. باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر..
(40) البخاري. كتاب الأحكام. باب الاستخلاف..
وقد نقل ابن حجر أن المقصود بالكتاب في حديث ابن عباس هو تعيين الخليفة (42).
وقال عياض: معنى كلمة هجر التي ذكرها عمرة أفحش. يقال هجر الرجل إذا هذى. وأهجر إذا أفحش.. (43).
إذا كان معنى كلمة هجر بهذه الصورة فهل يحق لصحابي أن يقولها لنبيه..؟
يقول ابن حجر: وقوع ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى..) (44).
فهل كان عمر يجهل أن الرسول معصوما..؟
وليت أهل السنة يسيرون في تأويل مواقف الصحابة على أساس القرآن كما فعل ابن حجر في مواجهة موقف عمر من الرسول.. لو فعلوا ذلك لكانوا قد
____________
(41) أنظر لنا العقل المسلم. وانظر العواصم من القواصم..
(42) فتح الباري ح 13 / 206.
(43) المرجع السابق..