الصفحة 128
ويروي ابن عبد البر: وتواترت الآثار عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال تقتل عمار الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من أصح الأحاديث.. (15).

ويروي ابن حجر: وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم.. (16).

ويروي مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الباغية.. (17).

وعلى الرغم من اعتراف الفقهاء بأن الحق كان في جانب علي إلا أن اعترافهم هذا لا يعني الحكم بأن معاوية كان على باطل عندهم. فهم يعتبرون معاوية مجتهدا مأجورا على ما فعل لكونه قاتل عليا بقصد الخير لا بقصد الشر.. (18).

يقول النووي: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن عليا كان محقا مصيبا والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك.. (19).

ومثل هذا النهج التبريري يتبناه القوم على الدوام في مواجهة النصوص التي تدعم الإمام علي وخط آل البيت وشيعتهم وتشكك في الجانب الآخر جانب الخصوم والمخالفين والمنحرفين عن هذا الخط. خاصة عثمان وعائشة ومعاوية.. (20).

ويروي المؤرخون أن عليا بارز في أيام صفين وقتل خلقا كثيرا. وكان أحد فرسان معاوية قد قتل أربعة من رجال الإمام ثم صاح هل من مبارز؟

فبرز إليه الإمام فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قتل ثلاثة بعده ثم تلا قوله تعالى: (والحرمات قصاص).. ثم نادى الإمام: ويحك معاوية أبرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك.

____________

(15) أنظر الإستيعاب ترجمة عمار بن ياسر..

(16) أنظر الإصابة ح‍ 2 / 502 (17) أنظر مسلم وابن كثير والإستيعاب والحاكم..

(18) أنظر العواصم من القواصم. والبداية والنهاية وفتاوى ابن تيمية. والفصل في الملك والنحل لابن حزم..

(19) مسلم هامش ترجمة عمار. كتاب فضائل الصحابة..

(20) أنظر منهاج السنة لابن تيمية. والعواصم. والفصل في الملك والنحل

الصفحة 129
فقال عمرو بن العاص لمعاوية: اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة فقال معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط. وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي. اذهب إليك. فليس مثلي يخدع.. (21).

وأغار الإمام علي جيش معاوية وحمل علي عمرو بن العاص وضربه بالرمح فألقاه على الأرض فبدت سوءته فرجع عنه ولم يقتله..

فقال له أصحابه: ما لك يا أمير المؤمنين رجعته..؟

فقال الإمام: أتدرون ما هو؟

قالوا: لا..

قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحمن فرجعت عنه (22).

وأمام الضربات القاتلة التي كان يوجهها الإمام وجنده لقوات معاوية التي أخذت في التقهقر والانهزام أشار ابن العاص على معاوية بحيلة خبيثة لا تنم عن دين أو تقوى له إنما تنم عن ضلال وكفر وخديعة. وقد تمثلت هذه الحيلة في تمزيق المصحف ورفع أوراقه على أسنة الرماح أمام جنود الإمام والمطالبة بتحكيمه في الصراع الدائر بينهما..

يقول ابن العاص: فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم. وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.. (23).

أن مثل هذا العمل إنما يدل على مدى استخفاف معاوية وابن العاص بكتاب الله فهما لم يفعلا ذلك بهدف تحكيم كتاب الله وإنما بهدف التقاط الأنفاس والوقيعة بين جند الإمام..

ولقد تصدى الإمام بقوة لهذه الخدعة وأصر على استمرار القتال إلا أن أصحاب الهوى وضعاف العقول من جنده طالبوه بالتحكيم ووقف القتال وقبل الإمام هذا الأمر على كراهية وغضب. وقام معاوية بتنصيب ابن العاص حكما من جهته بينما أوفد جند علي أبو موسى الأشعري بدلا من عبد الله بن عباس الذي كان قد اختاره الإمام (24).

____________

(21) أنظر البخاري ومسلم. باب فضائل علي. ومسند أحمد ج‍ 2 (22) الفارس الذي قتله علي هو عمرو بن الود.

(23) أنظر طبقات ابن سعد ج‍ 3.

(24) أنظر مسند أحمد 1.

الصفحة 130
ودار بين ابن العاص وأبي موسى الأشعري الحوار التالي:

قال عمرو: كيف ترى الأصوب في هذا الأمر..؟

قال الأشعري: أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا.

قال عمرو: والرأي ما رأيت..

ثم خرجا على الناس وهم خليط من طرف علي ومن طرف معاوية..

فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق..

قال الأشعري: إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها من أمر قد أجمع عليه وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا..

قال ابن العاص: أن هذا قد قال ما سمعتموه وأنا أخلع صاحبه (يعني عليا) كما خلعه وأثبت صاحبي (معاوية) فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه..

فصاح الأشعري في غضب: ملك لا وفقك الله غدرت وفجرت.. (25).

وقد وجد هذا الفعل المنكر من قبل ابن العاص تبريرا في فقه القوم إذ يقول ابن كثير: وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة والاجتهاد يخطي ويصيب (26).

وهذا التبرير الساذج إنما يكشف لنا مدى تفاعل فقهاء القوم مع خط بني أمية واستسلامهم لأطروحتهم والعمل على ترقيعها والدفاع عنها..

____________

(25) البداية والنهاية ج‍ 7 / 283.

(26) أنظر الطبري ج‍ 4 / 57..

الصفحة 131
وفي مواجهة هذه الخدعة قال الإمام: ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع واحد منهما هواه بغير هدى من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية واختلفا في حكمها وكلاهما لم يرشدا.. (27).

جرائم معاوية

لم يكن معاوية يتحلى بشئ من خلق الإسلام أو يتأدب بأدبه كما لم ينهل شيئا من العلم كذلك كان حال من تحالف معه وكان من جنده..

وكانت رايته راية دنيا وهوى ولم يكن للدين فيها أدنى نصيب..

من هنا فإنه يمكن القول أن معاوية ربما يكون أول من ابتدع قاعدة الغاية تبرر الوسيلة وعلى أساسها حطم القيم والمبادئ وانتهك الحرمات وأراق الدماء ونقض العهود وغدر بالمسلمين وبدل أحكام الدين..

ولقد استعان معاوية بشرار الخلق من أجل تصفية المعارضين والقضاء على شيعة الإمام علي ومحو ذكره..

وعلى رأس الذين استعان بهم معاوية في تصفية المسلمين الملتزمين بالإسلام النبوي من أنصار الإمام بسر بن أرطأة. تلك الشخصية الدموية التي لم ترحم شيخا ولا امرأة ولا طفلا وارتكبت من الفظائع والمنكرات ما تقشعر له الأبدان..

تروي كتب التاريخ أن معاوية أرسل بسر بن أبي أرطأة ليستخلص الحجاز واليمن من الإمام علي. ولما دخل المدينة صعد منبرها وقال: أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس (يعني عثمان) ثم قال يا أهل المدينة عليكم ببيعة معاوية وأرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله وكان من شيعة الإمام ثم قام بهدم دورا بالمدينة. وانطلق إلى مكة ففر منه أبو موسى الأشعري فقيل ذلك لبسر. فقال ما كنت لأقتله وقد خلع عليا.

وأتى إلى اليمن فقتل عاملها وابنه ثم قتل ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس

____________

(27) أنظر البداية والنهاية لابن كثير ج‍ 7..

الصفحة 132
الذي كان قد فر من وجهه إلى الكوفة. وقد صاحت في وجه بسر امرأة من بني كنانة قائلة في غضب: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام. والله يا ابن أبي أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ. الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء.. (28).

ولم تقف جرائم بسر عند هذا الحد بل تجاوزه.. إلى ارتكاب جريمة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإسلام وهي سبي نساء المسلمين..

يروي ابن عبد البر: أغار بسر بن أرطأة على همدان. وكانت في يد علي - وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام. وقتل أحياء من بني سعد.. (29).

ويروى أن بسر بن أرطأة كان من الأبطال الطغاة وبارز عليا يوم صفين فطعنه علي فصرعه فانكشف له - أي كشف عورته له - فكف عنه كما عرض له مع عمرو بن العاص.. (30).

ويروى بخصوص بسر وعمرو: إنما كان انصراف علي عنهما وعن أمثالها من مصروع أو منهزم لأنه كان لا يرى في قتلا الباغين عليه من المسلمين أن يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير وتلك كانت سيرته في حروبه في الإسلام.. (31).

وبسر هذا الذي ارتكب هذه الفظائع من أجل معاوية يعده القوم من الصحابة لأنه ولد في حياة الرسول ورآه وعلى هذا يدخل بسر في دائرة العدالة حسب قاعدة عدالة الصحابة وبالتالي تتحول جرائمه إلى اجتهادات فعلها متأولا ويثاب عليها. وجميع من تحالف مع معاوية هو من نموذج ابن أرطأة من الصحابة المختلقين الذين تحص بهم معاوية وجاء أهل السنة فأضفوا عليهم المشروعية..

____________

(28) أنظر الإستيعاب ترجمة بسر بن أرطأة وكذلك الإصابة وأسد الغابة. والمراجع السابقة..

(29) أنظر الإستيعاب..

(30) المرجع السابق..

(31) المرجع السابق

الصفحة 133
ومن هنا فقد روى بسر عدة أحاديث في كتب السنن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سنن أبي داود روى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقطع الأيدي - للسارق - في السفر.

وعند ابن حبان روى عن الرسول قوله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

وقال فيه ابن حبان: كان يلي لمعاوية الأعمال وكان إذا دعا ربما استجيب له وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها.. (32).

وكان معاوية أول من ابتدأ بقطع الرؤوس في الإسلام. وكان قد قطع رأس عمار بن ياسر ورأس عمرو بن الحمق وهو أحد الذين قادوا الثورة ضد عثمان.

كذلك فعل مع محمد بن أبي بكر في مصر حين دخلها عمرو بن العاص ووضعوا جثته في حمار ميت وأحرقوها.

وقد أصبحت سنة قطع الرؤوس التي سنها معاوية من السنن التي التزم بها الحكام من بعده.. (33).

ومن جرائم معاوية أمره بسب الإمام علي ولعنه على المنابر ومثل هذه الجريمة لا تعد موقفا شخصيا عدائيا من الإمام إنما هي تعبر عن عدائية معاوية للإسلام النبوي الذي يمثله وخوفه من أن تتسرب مفاهيم هذا الإسلام للمسلمين فيكتشفوا زيفه وضلاله.

ولقد تصدى شيعة الإمام لهذه الحملة الإعلامية الشيطانية التي قادها معاوية ضد الإمام علي بعد مصرعه ومصرع الحسن وسيطرته على الحكم..

وعلى رأس الذين تصدوا لحملة معاوية هذه الصحابي الجليل حجر بن عدي وعدد من أنصار الإمام في ولاية زياد بن أبيه بالعراق. فكان أن قبض عليه زياد وعدد من رفاقه وأرسلهم إلى معاوية في الشام بكتاب يحرضه فيه عليهم متهما حجرا وأصحابه بالدفاع عن علي والبراءة من عدوه وأهل حربه. وقد طلب من حجر وأصحابه البراءة من علي ولعنه فأبوا.

____________

(32) أنظر الإصابة ح‍ 1. ترجمة بسر بن أرطاة.. وتأمل تعريف الصحابي في مقدمة الإصابة..

(33) أنظر كتب التاريخ والتراجم.

الصفحة 134
وقال حجر: لا أقول ما يسخط الرب. فأمر معاوية بقتله وعدد من أصحابه في مرج عذراء عام 51 ه‍.. (34).

ومن جرائم معاوية تآمره على قتل الإمام الحسن بالسم وتوليه ولده يزيد خليفة له فكان أن شرع للملكية في الإسلام لتذوق الأمة على يد ولده وملوك بني مروان من بعده ألوان العذاب والظلم والاستبداد..

يقول الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة. انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب الطنابير. وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجرا وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر.. (35).

وعلى يد يزيد بن معاوية وقعت جريمتان بشعتان: الأولى قتل الحسين وأهل بيته في كربلاء.

والثانية استحلاله مدينة رسول الله وذبح أهلها وهتك أعراض نساءها..

تروي كتب التاريخ أن أهل المدينة عصوا يزيد وشقوا عصا الطاعة بعد مصرع الحسين فكان أن سير إليهم جيشا استباح المدينة ثلاثة أيام وقتل آلاف الأنفس من الأشراف وغيرهم وهتك أعراض النساء حتى قيل أنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج.. (36).

وعلى الرغم من هاتين الجريمتين بالإضافة إلى منكرات يزيد الأخرى فإن فقهاء

____________

(34) أنظر الطبري ح‍ 4 / 190 وما بعدها. وانظر الإصابة ح‍ 1 / 333 حرف الحاء القسم الأول والإستيعاب بهامشه ح‍ 1 / 381 / 382..

(35) أنظر الكامل ح‍ 3 / 242. والبداية والنهاية ح‍ 8 / 130..

(36) أنظر الطبري ح‍ 4 / 372 وما بعدها. والكامل ح‍ 3 / 310 وما بعدها. والبداية والنهاية ح‍ 8 / 372 وما بعدها

الصفحة 135
القوم قد انقسموا على أنفسهم تجاهه. فمنهم من أجاز لعنه وهم قلة. بينما توقف أكثرهم فيه بحجة أن ذلك سوف يفتح الباب للعن والده أو غيره من الصحابة.. (37).

يقول الحسن البصري عن أهل الشام: قبحهم الله وبرحهم أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتلون أهله ثلاثا قد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا ينتهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين حجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار.. (38).

ويلاحظ أن الحسن البصري يلعن أهل الشام بالعموم دون تحديد وهو بهذا يسير على نهج القوم من عدم جواز لعن المعين. كما أن هذا الموقف كان في العصر العباسي.

أما ابن تيمية فقد دافع من يزيد ونفى عنه كل الشبهات بقوله: كان من شبان المسلمين ولا كان كافرا ولا زنديقا وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم. وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله.. لكن أمر بمنع الحسين وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله.. (39)

____________

(37) أنظر البداية والنهاية ح‍ 8 / 223. واستدل أحمد على جواز لعن يزيد بقوله تعالى: فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله سورة محمد.. ثم قال: وأي فساد وقطع رحم أكبر مما ارتكب بزيد..

(38) أنظر الكامل ح‍ 4 / 170..

(39) فتاوى ابن تيمية ح‍ 3 / 410. وما بعدها.. وابن تيمية معذور في موقفه هذا إذ أن كبير فقهاء الصحابة في نظر أهل السنة عبد الله بن عمر قد بايع يزيد وهدد أهل المدينة الذين خلعوا يزيد بقوله إني لا أعلم عذرا أعظم من أن يبايع رجل - يزيد - على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه - أي يزيد - إلا كان الفيصل بين وبينه. ولما جاء جيش يزيد واقتحم المدينة وفعل بها ما فعل بعد مصرع الحسين أمن ابن عمر وحزبه ولم يمسهم بسوء. وما حدث لأهل المدينة على يد جنود يزيد لا يعد جريمة ولا فاحشة في نظر ابن تيمية. أنظر البخاري كتاب الفتن. وانظر تبريرات فقهاء السنة لهذا الحدث الأليم في البداية والنهاية لابن كثير وغيره من كتب التأريخ..

الصفحة 136
إن مثل هذه الجرائم من معاوية وولده إنما تؤكد أن الصراع بينهما وبين آل البيت هو صراع مصيري بين عقيدتين متناقضتين ومتباعدتين ليس بينهما لقاء بأي صورة من الصور. مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تنسب إلى أناس ينتمون إلى الإسلام..

والذين يصفون هذا الصراع بأنه صراع في دائرة الإسلام ويضفون على معاوية صفة المجتهد ويحاولون تبرئة ولده إنما يرتكبون جريمة كبرى في حق الإسلام والمسلمين من أخطر نتائجها تلميع الإسلام الزائف الذي فرضه معاوية على الأمة..

الخوارج

عاد الإمام إلى الكوفة بعد التحكيم وأخذ يعد العدة لقتال معاوية إلا أن الخوارج الذين خرجوا عليه بعد التحكيم أصبحوا يعيقون مسيرته ويهددون شيعته بعد أن فشلت الجهود السلمية في إعادتهم إلى الصف وإقناعهم بالتنازل عن أفكارهم..

ولما كثرت اعتداءاتهم على المسلمين دخل الإمام معهم في مواجهة عسكرية فاصلة انتهت لصالح الإمام وقتل فيها عدد كبير منهم فيما سمي بواقعة النهروان.. (40).

والإمام علي في قتاله هؤلاء الخوارج إنما كان على علم وبصيرة بهم وبأحوالهم وجرائمهم كما قاتل عائشة ومعاوية من قبل على علم وبصيرة..

لقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالخوارج كما تنبأ بدور الإمام علي في مواجهتهم..

يروي مسلم أن الإمام علي بعث من اليمن بذهب إلى الرسول في المدينة فقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة. فغضبت قريش.. فقال الرسول: إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين نائي الجبين محلوق الرأس فقال اتق الله يا محمد. فقال الرسول فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمننوني.. ثم أدبر الرجل.. فقال الرسول إن من ضئضى هذا

____________

(40) كانت وقعة النهروان في التاسع عشر من صفر عام 38 ه‍ بعد صفين. أنظر كتب التأريخ..

الصفحة 137
قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.. (41).

ويقول الإمام علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة.. (42) ويقول: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ. ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ ولا صيامكم إلى صيامهم بشئ.

يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لا تكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله.. (43).

ويروى أن الخوارج لما خرجوا على الإمام قالوا: لا حكم إلا لله. فقال الإمام:

كلمة حق أريد بها باطل. أن رسول الله وصف: ناسا أني لأعرف صفتهم في هؤلاء.. (44).

إن مثل هذه الروايات إنما تكشف لنا مدى خطورة خط الخوارج على الإسلام والمسلمين وهي خطورة لا تقل عن خطورة الخط الأموي. وارتباط الإمام بمواجهة

____________

(41) أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتلهم..

(42) أنظر مسند أحمد ح‍ 1. وأبو داود الطيالسي. وانظر مسلم والبخاري..

(43) أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج والتحريض على قتلهم..

(44) المرجع السابق..

الصفحة 138
هذين الخطين يعني أن هذين الخطين إنما يمثلان توجها واحدا ويحققان نتيجة واحدة.

ارتباط الإمام بمواجهة هذين الخطين يعني استمرارهما في مواجهة الإسلام النبوي على مر الزمان. فالإمام علي هو ممثل الإسلام النبوي ورمز الحق على مر الزمان..

والخط الأموي وخط الخوارج يمثلان الإسلام الزائف ويرمزان للباطل على مر الزمان.. ومنهج الخوارج سوف يظل باقيا وإن كان قد ضرب عسكريا وتقوقع فكريا - في مواجهة الإسلام النبوي خط آل البيت. ولن يتمكن المسلمون من تجنبه واعتزاله إلا بفقه حركة الإمام علي وخط آل البيت. فمن حاد عن هذا الخط وقع فريسة للخوارج. ومن استبصر هذا الخط أمكن له أن يحصن نفسه في مواجهته..

ولقد كان الإمام علي يواجه كل هذه الأحداث وهو مستبصر بها عالم بنتائجها ودلالاتها حتى أنه كان يعلم طريقة موته كما أخبره بها الرسول صلى الله عليه وسلم.. (45).

من هنا فإن نتائج صراع الإمام مع هذه الجبهات الثلاث يمكن أن يمنحنا المعالم التي ترشدنا إلى فقه حقيقة الإسلام. وفقه حقيقة الرجال الذين موهوا على هذا الإسلام وزيفوا نصوصه ومفاهيمه بما اخترعوه من روايات واجتهادات أضلت الناس عن سبيل الله..

إن ارتباط الإمام بمواجهة عائشة ومعاوية والخوارج ليس محض صدفة إنما هو عمل تشريعي للأمة تهتدي به على الدوام..

اختيار الإمام لهذا الدور اختيار إلهي فلم يكن من بين الصحابة من هو مؤهل للقيام به. وقد دفعت الأمة ثمنا باهظا لتقاعسها عن نصرة الإمام والالتزام بخطه..

دفعته فرقة وشتاتا..

____________

(45) أنظر مسند أحمد وتأريخ بغداد والبداية والنهاية ح‍ 7 / 325. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم وأن قاتل الإمام هو أشقى الآخرين. وروى الإمام: عهد إلي الرسول أن لا موت حتى أؤمر ثم تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه يعني هامته..

الصفحة 139
ودفعته دما ورجالا..

ودفعته فقها وعلما..

معاوية والحسن

بعد أن قضى الإمام علي على شوكة الخوارج تجهز لقتال أهل الشأم إلا أن أهل العراق افترقوا وتنازعوا أمرهم بينهم مما أدى إلى تعطيل الحملة العسكرية المتجهة لقتال معاوية..

ولقد عانى الإمام من أهل العراق كثيرا فقد تسببوا بتقاعسهم وتخاذلهم في عرقلة مسيرته وإضعاف شوكته أمام معاوية وأمام الخوارج..

يقول الإمام في أهل العراق: أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها. أما والله ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقا.

ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب. قاتلكم الله فعلى من الكذب؟ أعلي؟

فأنا أول من أمن به. أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه. كلا والله. ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها. ويل أمه كيلا بغير ثمن. لو كان له وعاء.

(ولتعلمن نبأه بعد حين).. (46).

ومثلما خذل أهل العراق الإمام علي خذلوا أيضا الإمام الحسن من بعده ودفعوه دفعا إلى معاوية ثم نقموا عليه واستباحوه.. (47).

يروي ابن حجر نقلا عن الطبري: جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عباده وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت. فقتل علي فبايعوا الحسن بن على بالخلافة. وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن.. (48)

____________

(46) أنظر نهج البلاغة ح‍ 1 / خطبة رقم 69..

(47) أنظر كتب التأريخ.. والإصابة ح‍ 1 حرف الحاء. القسم الأول..

(48) أنظر فتح الباري ح‍ 13 / 63.

الصفحة 140
ويروي ابن حجر: سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه. ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب.

وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة. وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل..

وانصرف إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلى دمشق.. (49).

ويروي البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين.. (50).

ويحاول المؤرخون أن يؤكدوا على أن معاوية هو الذي رغب في الصلح مع الحسن وسعى إليه وأنه عرض عليه المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الاصلاح به فقبل الحسن العرض وصالح معاوية.. (51).

ويؤكد الكثير من المؤرخين أن الحسن اشترط على معاوية أن يجعل له الأمر من بعده وقبل معاوية هذا الشرط.. (52).

ومن الواضح أن هذه الروايات تفوح منها رائحة السياسة والهدف منها هو التمويه على حركة الإمام الحسن وطمس معالمها وتشويه أهدافها..

____________

(49) المرجع السابق..

(50) البخاري كتاب الفتن. ومناسبة هذه الرواية كما جاءت في أن الحسن لما سار بالكتائب إلى معاوية. قال ابن العاص لمعاوية: أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها. فقال معاوية: من لذراري المسلمين؟ فقال أي ابن العاص - أنا. فقال عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة نلقاه فنقول له الصلح. فقبل الحسن الصلح متذرعا بهذه. الرواية. أنظر منسد أحمد ح‍ 5. والبخاري كتاب الاصلاح بين الناس. والترمذي كتاب المناقب.

(51) أنظر فتح الباري ح‍ 13 / 61. والإصابة ح‍ 1 حرف الحاء. والإستيعاب باب الأفراد في الحاء (52) يروي ابن حجر: لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشأم فالتقوا فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده. وانظر فتح الباري والإصابة. =

الصفحة 141
ويبدو من رواية الطبري أن الإمام الحسن لم يكن يرغب في السير على نهج الإمام علي ومواصلة القتال ضد معاوية وهو بمجرد أن بويع بالخلافة قرر الاستلام لمعاوية وتصفية المعارضين لنهج الصلح معه. وكيف لإمام يقود أربعين ألف مقاتل بايعوا على الموت أن يميل إلى السلم بهذه البساطة؟ كيف له أن يضحي بمبادئه وعقيدته وجنده في مقابل أن يشترط لنفسه؟ إن مثل هذه الرواية تعد طعنا في الإمام علي ونهجه كما تعد طعنا في الإمام الحسن. فكأنها تشير إلى أن الإمام فشل في القيام بدوره وخلف من بعده شخصا ضعيفا لم يتعلم منه شيئا وهواه مع الدنيا ونفسه وليس مع الآخرة والإسلام..

وتأتي رواية ابن حجر لتؤكد رواية الطبري وتسير على منوالها في تشويه الإمام الحسن والتمويه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين معاوية. فهي تشير إلى أن الإمام الحسن بايع معاوية وأدخله الكوفة وقبض منه ثمن ذلك ثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل وفي هذا تشويه ما بعده تشويه للإمام الحسن وتعتيم ما بعده تعتيم على حقيقة الصراع..

أما رواية البخاري فهي رواية واهية لا يستقيم معناها وطبيعة الحدث وقد غاب عن مخترعيها الحقائق التالية:

____________

- ويروي ابن عبد البر في الإستيعاب: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياته لا غير ثم تكون له من بعد. وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد في ذلك ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء في طلبها وإن كان عند نفسه أحق بها..

ويروي أيضا: سم الحسن بن علي. سمته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقال طائفة: كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك..

ويروي أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه يا أخي إن أباك لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه. فصرفه الله عنها ووليها أبو بكر. فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضا فصرفت عنه إلى عمر. فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم فلم شك أنها لا تعدوه.

فصرفت عنه إلى عثمان. فلما هلك عثمان بويع ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها فما صفا له شئ منها.

وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة فلا أعرفن ما استخفك سفهاء الكوفة فأخرجوك..

ومن الواضح أن هذه الرواية تهدف إلى التشكيك في الإمام علي والإمام الحسن والحسين ثلاثتهم فهي تصورهم طلاب للملك وهذا من شأنه أن يطمس أطروحتهم وخطهم ويبرر من جهة أخرى سلوك ومواقف الطرف الآخر..


الصفحة 142
- أن الروايات الأخرى تشير إلى أن الإمام الحسن تنازل لمعاوية لا اصطلح معه..

- أن المصلح إنما يكون عادة من خارج دائرة الصراع لا أن يكون أحد طرفي الصراع..

- أن الرواية لا تفيد الجزم بوقوع الاصلاح..

- أن قوله بين فئتين من المسلمين يعني أن دعواهما واحدة بينما فئة الإمام الحسن وفئة معاوية ليست دعواهما واحده..

- أن الإمام الحسن مات مقتولا بالسم بينما جعل معاوية ولده يزيد خليفة له وفي هذا إشارة إلى أن الصراع لم ينته بين الحسن ومعاوية حتى مقتله..

أن تولية معاوية ولده يزيد هو غدر بالأمة بأكملها لا بالإمام الحسن وحده وهو برهان ساطع على عدم وجود صلح من الأصل. إذ لو كان هناك صلحا ما كان هناك غدرا من قبل معاوية.

فالغدر لا يكون إلا إذا كان معاوية مغبونا بهذا الصلح إن كان واقعا..

وما حدث بين الحسن ومعاوية إنما هو أمر أشبه بأمر التحكيم لم يرضخ له الإمام الحسن كما لم يرضخ الإمام علي لنتيجته مما اضطر معاوية إلى التآمر والغدر للخلاص من الحسن..

وتركيز الفقهاء والمؤرخون على رواية صلح الحسن هذه إنما يهدف إلى تبرير سلوك معاوية بنص منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم لا يتطرق إليه الشك من قبل المسلمين.

وهم بهذا قد وقعوا في الفخ الذي نصبه مخترعو الرواية..

يقول ابن حجر: وفيه - أي في حديث الصلح - فضيلة الاصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين. ودلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب. وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان. وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدينوية بالمال

الصفحة 143
وجواز أخذ المال على ذلك. واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي.. (53).

لقد بنى الفقهاء أحكاما على رواية الصلح هذه كما هو واضح من كلام ابن حجر الذي بالغ في الاستنباط إلى درجة جواز النزول عن الوظائف الدينية مقابل المال. وهذا الأمر أن دل على شئ فإنما يدل على أن فقه القوم ينظر إلى الوظائف الدينية نظرة استخفاف. وهذه النظرة هي التي بررت سلوك الفقهاء مع الحكام وتعايشهم معا..

فما دام الحسن قد تقاضا مالا على الصلح مع معاوية..

وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم أن الطائفتين من المسلمين..

وما دام سعد أو سعيد كلاهما أفضل من الحسن..

فإذا ذلك كله يبرر التنازل عن العقائد والمبادئ من أجل المال..

ويبرر القعود عن نصرة الحق ما دامت الطائفتين من المسلمين..

ويبرر أن يحكم المسلمين المفضول مع وجود الأفضل..

وعلى أساس هذه التبريرات قامت عقائد وتأسست مفاهيم في فقه القوم انعكست على فكرة الدولة والحكم وعلاقة الحاكم بالرعية. وعلاقة الفقيه بالحاكم..

كربلاء..

كانت وقعة كربلاء آخر صورة من صور الصدام المسلح بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي استتر بعدها الإسلام النبوي بينما أخذ الإسلام الأموي امتداده وانتشاره وسيادته..

منذ ذلك الحين حلت لغة البيان والقلم مكان لغة السيف في خط المواجهة بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي..

____________

(53) أنظر فتح الباري ح‍ 13 / 66 / 67..

الصفحة 144
حمل أئمة آل البيت وشيعتهم لواء البيان والقلم لتبصير الأمة بحقيقة الإسلام النبوي ودعوتها للالتزام به..

وتبنى حكام بني أمية خطة الدفاع عن الإسلام الأموي وتشويه الإسلام النبوي..

لقد سطر الإمام الحسين بدمائه نهج الثورة والمواجهة للإسلام الأموي وكل صور الإسلام الزائفة التي نبعت منه. ووضع الخطوط العريضة للأمة لتبنى على أساسها التصدي ومواجهة الصور الزائفة للإسلام..

إن ثورة الإمام الحسين هزت واقع الأمة وشهادته زلزلتها. ووجهت ضربة قوية إلى معاوية ونهجه أيقظت الأمة من ثباتها وبعثت فيها روح التحدي والمواجهة..

إن هذه الثورة هي نتاج طبيعي لمرحلة الإمام الحسن ورد مباشر على غدر بني أمية ومؤامراتهم وهي تؤكد للأمة أن الصراع لا زال مستمر ولن ينتهي بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي وتبطل من جهة أخرى كل محاولات التشكيك والتعتيم التي أحاطت بحركة الإمام الحسن..

وكما حاول الفقهاء والمؤرخون تشويه هوية الصراع بين الإمام علي ومعاوية وبين الإمام الحسن ومعاوية حاولوا أيضا تشويه الصراع الذي دار بين الإمام الحسين وبين يزيد بن معاوية والتعتيم عليه وطمس معالمه وتبييض وجه يزيد أو وجه الإسلام الأموي الذي يمثلونه.

يروي ابن عبد البر: لما مات معاوية وأفضت الخلافة إلى يزيد وذلك في سنة ستين وردت بيعته على الوليد بن عقبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها أرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير ليلا. فأتي بهما فقال: بايعا. فقالا: مثلنا لا يبايع سرا. ولكننا نبايع على رؤس الناس إذا أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلى مكة.

وأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وخرج يريد الكوفة فكان

الصفحة 145
سبب هلاكه يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بموضع من أرض الكوفة يدعى كربلاء قرب الطف.. (54).

ويتضح من خلال هذه الرواية ما يلي:

- أن الإمام الحسين كذب على الوليد بن عتبة وخشى أن يواجهه بالحقيقة..

- أن الإمام الحسين فر من المدينة ليلا خوفا من بطش الوليد..

- أن ثورة الحسين كانت حركة عشوائية كان نتيجتها هلاكه..

ويروي ابن حجر عن ابن عمر أنه قال عندما رأى الحسين مقبلا: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلى أن خرج مع أبيه إلى الكوفة فشهد معه الجمل ثم صفين ثم قتال الخوارج وبقي معه إلى أن قتل ثم مع أخيه إلى أن سلم الأمر إلى معاوية فتحول مع أخيه إلى المدينة واستمر بها إلى أن مات معاوية فخرج إلى مكة ثم أتته كتب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فأخذ بيعتهم وأرسل إليه فتوجه وكان من قصة قتله ما كان.. (55).

وهذه الرواية إنما تعضد سابقتها إلا أنها تحاول إثبات أن الإمام الحسين أسهم في تسليم الأمر إلى معاوية مع الإمام الحسن. وهذا الموقف من شأنه أن يثير الشكوك حول حركته. فما دام قد شارك في تسليم الأمر إلى معاوية وتقاضى الأموال مقابل ذلك فإن حركته ضد يزيد من الممكن أن تشوبها أغراض دنيوية.

ويروى أن الحسين لما بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل هم بالرجوع. فقال البعض: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل فساروا. وكان عبيد الله بن زياد قد جهز الجيش لملاقاته فوافوه بكربلاء منزلها ومعه خمسة وأربعون نفسا من الفرسان ونحو مائة راجل فلقيه الحسين وأميرهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وكان عبيد الله ولاه بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين. فلما التقيا قال له الحسين:

اختر مني إحدى ثلاث: إما أن ألحق بثغر من الثغور. وإما أن أرجع إلى المدينة.

____________

(54) أنظر الإستيعاب باب الأفراد في الحاء..

(55) أنظر الإصابة ج‍ 1 / حرف الحاد القسم الأول.

الصفحة 146
وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية. فقبل بذلك عمر منه وكتب إلى عبيد الله فكتب إليه لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي. فامتنع الحسين فقاتلوه فقتل معه أصحابه وفيهم سبعة عشر شابا من أهل بيته ثم كان آخر ذلك أن قتل وأتى برأسه إلى عبيد الله بن زياد فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد ومنهم علي بن الحسين وكان مريضا ومنهم عمته زينب فلما قدموا على يزيد أدخلهم على عياله ثم جهزهم إلى المدينة.. (56).

وهذه الرواية تعد من أسوأ الروايات التي رويت حول الصراع بين الإمام الحسين ويزيد فهي تضع الإمام الحسين في موضع غاية في المهانة بينما تبيض وجه يزيد..

وأول ما تحاول إثباته هذه الرواية هو أن الإمام الحسين أصيب بالإحباط فور علمه بنبأ مقتل مسلم بن عقيل وقرر العودة وفي هذا إشارة إلى أن خروجه لم يكن بهدف الثورة كما لم يكن يقوم على أساس خطة منظمة..

وما تحاول الرواية إثباته ثانيا هو أن أصحاب الحسين قد خالفوه وأصروا على مواصلة المسير طلبا للثأر. أي أن موقفهم هذا كان مجرد رد فعل لمقتل مسلم ولم يكن نابغا من إيمانهم بالإسلام النبوي الذي يقاتلون تحت لواءه وبالإمام الحسين قائدهم..

ولقد وجهت هذه الرواية طعنة شديدة للإمام الحسين ولأبيه وأخيه وخط آل البيت والإسلام النبوي الذي يمثله حين طرحت على لسانه هذا الطرح الانهزامي الخانع الذي يعكس شخصية منهارة قدمت التنازلات فور حدوث المواجهة ومن قبل وقوع الصدام. وبدا وكأن الإمام الحسين لم يكن يحسب حدوث مواجهة ولم يكن يتوقع أي صدام مع بني أمية..

فحين يطلب منحه الفرصة للذهاب للقتال في ثغر من الثغور فكأنه بهذا يطلب تجنيده في جيوش في أمية ليقاتل تحت رايتهم. وما دام هو يحمل هذا التصور الذي لا يعكس أية صورة من صور العداء لبني أمية فلماذا خرج من الأساس..؟

____________

(56) المرجع السابق..

الصفحة 147
وحين يطلب الرجوع إلى المدينة كأنه بهذا يضحي بكل القيم والمبادئ التي آمن بها وتبعة الناس عنى أساسها من أجل النجاة بنفسه..

وحين يطلب أن يضع يده في يد يزيد فكأنه بهذا يضحي بالإسلام النبوي وجهاد أبيه وأخيه وينفي وجود أية بوادر عداء وصراع بين الحق الذي يمثله والباطل الذي يمثله يزيد وبني أمية..

وكيف للإمام الحسين يطلب وضع يده في يد يزيد ويقدم مثل هذه التنازلات ثم في النهاية يرفض أن يضع يده في يد عبيد الله بن زياد ويقاتل على ذلك..؟

أن الذي يقدم مثل هذه التنازلات لا تعجزه مثل هذه الخطوة ولا تشكل له حرجا. وهو قد قدم هذه التنازلات حتى يتقي شر القتال فكيف يوقع نفسه فيه بهذا السبب..؟

أن مثل هذه الروايات وغيرها إنما هي من صنع السياسة واخترعت خصيصا لخدمة الخط الأموي ونصرته وضرب خط آل البيت وتشويهه..

تروي كتب التأريخ أن عبيد الله بن زياد صعد منبر المسجد الجامع في الكوفة وخطب في الناس بعد مجزرة كربلاء قائلا: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.. (57).

ويحاول مؤرخو وفقهاء البلاط الأموي أن يدافعوا عن يزيد وتبرأته من تهمة سفك دم الحسين مستغفلين عقل الأمة بروايات واهية لا يستريح لها عقل ولا تطمئن لها نفس..

يروى أن يزيد حين رأى رؤوس الحسين ورفاقه بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه.. (58)

____________

(57) أنظر الطبري والكامل والبداية والنهاية..

(58) أنظر الطبري ج‍ 4 / 352. والكامل ج‍ 2 / 298.

الصفحة 148
ورغم ذلك لم تثبت لنا الروايات التي جاءت عن طريق مؤرخي البلاط أن يزيد أنزل أية صورة من صور العقاب بابن سمية (ابن زياد) بل لم يعاتبه على هذا الفعل من الأصل..

وهذا الأمر إن دل على شئ فإنما يدل على تواطئ يزيد وموافقته بل وتحريضه على قتل الحسين وأهل بيته. وهذا هو السلوك الذي تلائم معه ومع شخصيته.

وهذا هو الموقف الذي يتبناه حكام بني أمية في مواجهة آل البيت..

ولقد قالها عبد الملك بن مروان حين ارتقى منبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة عام 57 ه‍: أني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.. (59)

____________

(59) أنظر الكامل ح‍ 4. والمراجع التأريخية الأخرى..

الصفحة 149

ركائز الإسلام النبوي




- القـرآن..
- آل البيت..




الصفحة 150

الصفحة 151
أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم مرتكزات الإسلام النبوي في كثير من وصاياه وتوجيهاته للأمة غير أن سيادة الإسلام القبلي بعد وفاته ثم الإسلام الأموي بعد ذلك قد أديا إلى التعتم على هذه المرتكزات وتضليل المسلمين عنها كوسيلة لضرب الإسلام النبوي ومحوه من واقعهم..

فهذه الروايات التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، في الإمام علي إنما تؤكد للأمة أن الإمام علي هو مرتكز الإسلام من بعده..

وهذه الروايات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في شيعة على من صحابته إنما تؤكد أن هؤلاء الصحابة هم ركيزة الإمام وركيزة هذا الإسلام وأنصاره..

كذلك الروايات الواردة في القرآن الذي ورثه الرسول للأمة إنما تؤكد أن هذا القرآن هو الركيزة الأساسية لهذا الإسلام..

ولقد عمد أنصار الخط الأموي إلى تشويه القرآن والإمام علي وآل البيت وشيعتهم من الصحابة والتابعين واختراع بدائل تحل محلهم..

فبدلا من القرآن الذي ورثه الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمدوا مصحف عثمان..

وبدلا من الإمام وآل البيت اعتمدوا عائشة ومعاوية وابن عمر وأبو هريرة وابن العاص وغيرهم.

وفي مواجهة الروايات الواردة في الإمام وآل البيت وشيعتهم اخترعوا روايات مناقضة لها تبارك خطهم وتضفي المناقب عليهم..

إن الإسلام النبوي يرتكز على ركيزتين أساسيتين هما:

- القرآن..

- آل البيت..

القرآن

لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بالقرآن وحث عليه في روايات ومواضع كثيرة كانت آخرها حجة الوداع حيث أوصى الأمة بضرورة التمسك بالكتاب والعترة آل البيت..