الصفحة 81
من عاداه " (97).

وهذه الحادثة ذكرها اليعقوبي في تاريخه، وبين أن النبي أوصى فيها لعلي بالخلافة) (98).

والصحابة الذين تولوا عليا ابن أبي طالب يذكرون هذه الحادثة - أي بيعة غدير خم - ويحتجون بها. وسيأتي تفصيل ذلك في فصل الشيعة إن شاء الله تعالى. وعليه فالتشيع أصيل أصالة الإسلام. انبثق من أحاديث الرسول، ودعمته سيرة الإمام علي بجهاده المتميز في نشر الدعوة الجديدة وبناء صرح الدولة الإسلامية. وبادعائه كذلك الولاية، قولا وعملا. واشتهار خصوصيته العلمية وتفوقه، واحتياج الناس لعلمه واستغنائه عنهم. ومنهم الخلفاء الثلاثة، حيث إشتهر عن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني قوله: " لولا علي لهلك عمر " وكذا قوله: " لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ".

هذا من حيث النشأة والجذور إما اكتمال التشيع كمدرسة متميزة في الأصول والفروع فقد جاء ذلك متأخرا عن عصر الرسالة. مثله في ذلك مثل المدارس الإسلامية الأخرى الأصولية منها والفقهية.

مذهب الإمامية في الأصول:

أما مذهب الإمامية فهو كما ذكر الشيخ المفيد في أوائل المقالات من أنهم دانوا بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان مع وجوب النص الجلي والعصمة لكل إمام وهم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وتسعة أئمة من ولد الحسين.

____________

(97) مصادر الحديث متعددة، انظر: الصواعق المحرقة، ومسند الإمام أحمد ومستدرك الصحيحين للحاكم، وقد صرح الذهبي بصحته، انظر مزيد من التفصيل فصل " السلفية والشيعة الإمامية " من هذا الكتاب.

(98) تاريخ الإمامية، مرجع سابق، ص 39.

الصفحة 82
والإمامية الاثني عشرية يبرأون من المقالات التي جاءت على لسان بعض الفرق، ويعدونها كفرا وضلالا. وهم كما يقول الشيخ كاشف الغطاء أحد الفقهاء الإمامية المعاصرين: " ليس دينهم إلا التوحيد المحض وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق أو ملابسة لهم في صفة النقص والإمكان والتغير والحدوث وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس، وبطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم " (99)...

يقول الدكتور مصطفى الشكعة: " وتسمى هذه الفرقة بالجعفرية حينا والاثنا عشرية حينا آخر والإمامية حينا ثالثا. ولعلها من غير شك أبعد الفرق الإمامية عموما عن الاتصاف بالغلو وأقربهم إلى التعقل في أمور دينها، ومن أقرب فرق الشيعة عامة إلى جمهور أهل السنة. وإذا كانت سميت بالجعفرية من باب تسمية العام باسم الخاص، كما مر بنا قبل قليل، فإنها سميت بذلك لأمر أهم وهي أنها تستمد أمور دينها من الإمام جعفر الصادق. فلقد كان إماما لجميع المسلمين بالمعنى العام كأبي حنيفة والشافعي والأوزاعي ومالك وابن حنبل، وكان من ذوي الرأي الصائب والفتوى الصالحة في أمور الدين.

فضلا إنه كان إماما لدى الإمامية، له ما لبقية أئمتهم من الولاية والوصاية...

ويضيف الدكتور الشكعة قائلا: " وهم جمهور الشيعة الذين يعيشون بيننا هذه الأيام وتربطهم بنا نحن أهل السنة روابط التسامح والسعي إلى تقريب المذاهب. لأن جوهر الدين واحد ولبه أصيل لا يسمح بالتباعد.

والشيعة يمثلون كل سكان إيران تقريبا ونصف سكان العراق وعشرات الآلاف من سكان لبنان وبضعة ملايين في الهند " (100)...

____________

(99) إسلام بلا مذاهب، مصدر سابق ص 187.

(100) نفسه، ص 183 - 186. يشكل الشيعة قرابة نصف عدد سكان المسلمين في العالم إذ يبلغ تعدادهم 750 مليون نسمة أنظر " شورى الفقهاء ". أما ما ذكره المؤلف بخصوص الشيعة الإمامية في لبنان فليس دقيقا فهم ليس بالآلاف لأنهم يشكلون أغلبية سكان لبنان. فإذا كانت الأغلبية السكانية في لبنان للمسلمين فإن أغلبية المسلمين من الشيعة.

الصفحة 83
ويوجد الشيعة الإمامية في مناطق أخرى من العالم غير التي ذكرها الدكتور، في تركيا وسورية، أما في المملكة العربية السعودية فيشكلون نسبة 25 / من حجم السكان. ويتركزون في المنطقة الشرقية والمدينة المنورة. وفي الكويت نسبة كبيرة منهم، وفي البحرين يمثلون الأغلبية، وفي باقي دول الخليج العربي، بنسب متفاوتة بين الأغلبية والوسط، في الإمارات العربية وعمان وقطر واليمن. كما توجد أقليات شيعية إمامية، في كل من مصر والسودان وتنزانيا وجزر القمر ومد غشقر، والكثير من الدول الإفريقية الأخرى ومن بينها دول شمال إفريقيا والمغرب العربي.

كما يتواجد الإمامية في باكستان بنسبة كبيرة وفي أفغانستان. والكثير من دول جنوب آسيا المسلمة والصين، والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران انتشرت موجة اعتناق أو الانتقال للتشيع. فأقبلت قطاعات من المثقفين والعلماء من باقي الطوائف الإسلامية الأخرى على اعتناق عقائد التشيع ومذهبه الفقهي.

لقد حاولنا في هذا التعريف المقتضب " للشيعة الإمامية " أن نميز هذه الفرقة عن باقي الفرق، ممن سمي أو أطلق عليه لقب " الشيعة ". أولا لخصوصية هذه الفرقة الأم، ثانيا لبيان أن هناك اختلافات عقائدية مهمة بين هذه الفرق. يصل بعضها إلى إخراج الفرقة عن الإسلام بشكل عام. كادعاء ألوهية الإمام علي أو غير ذلك من الهرطقات والغلو.

وتمييز الإمامية الاثنا عشرية عن غيرها من الفرق هو المنهج العلمي الموضوعي، كي لا يصار إلى التداخل في الأفكار والمعتقدات. ونسب ذلك إلى فرقة هي من ذلك براء، كما هو حاصل الآن. حيث جرى خصوم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، على إلحاق عدد كبير من عقائد الفرق المنحرفة وإلصاقها بالإمامية. والادعاء كذبا وعن سوء نية، إن ذلك يشكل جزءا من عقائدهم. نرى ذلك واضحا في المملكة العربية السعودية حيث يكفر السلفية

الصفحة 84
الوهابية مواطنيهم من الشيعة الإمامية، رغم أنهم يمثلون كما قلنا سابقا نسبة 25 / من مجموع السكان. وإذا سألت علماء السلفية عن سبب هذا التكفير سيجيبونك بأن الشيعة الإمامية، يقولون ويعتقدون بأن جبريل قد أخطأ في تبليغ الرسالة، فبدل أن ينزل على علي ابن أبي طالب نزل على محمد بن عبد الله (ص). وأنهم يقولون بأن عليا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام.

والحقيقة أن من يقول مثل هذا القول لا يكون شيعيا فقط، وإنما سيكون غير عاقل بالمرة. لأن الشيعة والسنة على السواء يؤمنون بأن جبريل لما نزل بالرسالة على محمد بن عبد الله في مكة، لم يكن علي بن أبي طالب قد تجاوز سنه العاشرة في بعض الروايات، وأخرى تقول كان سنه تسع سنوات. فهل يمكن أن يرسل الله سبحانه وتعالى جبريل بالرسالة لطفل في العاشرة من عمره، ويطلب منه أن يبلغها. إنها الخرافات التي عشعشت في خيالات العوام، وروج لها بعض أدعياء العلم، ممن ينسب إلى الفضيلة والمعرفة.

الإمامية وتسميتهم بالروافض:

قد درج خصوم الشيعة الإمامية وخصوصا " السلفيين "، على نعتهم وإطلاق اسم الرافضة والروافض عليهم. وهذا الوصف كان يطلق في الماضي ويقصد به مجموع من يوصف بالتشيع ويدخل ضمنهم الإمامية. أما اليوم فإنه إذا أطلقه السلفيون يقصدون به " الشيعة الإمامية " فقط. وسنحاول في عجالة تتبع تاريخ هذا المصطلح ومدلولاته المعرفية والسياسية بالخصوص، لنعرف حده وخليفته السياسية والتاريخية.

الرفض بمعنى الترك، قال ابن منظور في اللسان: " الرفض ترك الشئ، تقول: رفضني فرفضته، رفضت الشئ أرفضه رفضا، تركته وفرقته والرفض:

الشئ المقترف والجمع أرفاض (101). وهذا هو المعنى اللغوي، أما حسب

____________

(101) لسان العرب ج 7 ص 157 مادة رفض.

الصفحة 85
الاصطلاح في الأعصار المتأخرة، فهو يطلق على مطلق محبي أهل البيت تارة، أو على شيعتهم جميعا أخرى. أو على طائفة خاصة منهم ثالثة.

وعلى كل تقدير فهذا الاصطلاح، اصطلاح سياسي أطلق على هذه الطائفة وهو موضوع لا كلام فيه. إنما الكلام في وجه التسمية ومبدأ نشوئها، فإننا نرى ابن منظور يقول في وجه التسمية ي‍: " الروافض، جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة. والنسبة إليهم رافضي، والروافض قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي، قال الأصمعي: كانوا قد بايعوا زيد بن علي ثم قالوا: إبرأ من الشيخين نقاتل معك فأبي وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما فرفضوه وأرفضوا عنه. فسموا رافضة. وقالوا الروافض ولم يقولوا: الرفاض لأنهم عنوا الجماعات.

غير أن ابن منظور، وإن أصاب الحق في صدر كلامه وجعل للفظ معنى وسيعا يطلق على المسلم والكافر، والمسلم شيعيه وسنيه، لكن استشهد على وجه تسمية قسم من شيعة علي عليه السلام بما يقول الأصمعي، وهو منحرف عن علي وشيعته فكيف يمكن الاعتماد على قوله، خصوصا إذا تضمن تنقيصا وازدراء بهم.

يقول الشيخ جعفر السبحاني لا أظن الأصمعي وهو خبير في اللغة يجهل بحقيقة الحال، ولكن عداءه قد جره إلى هذا التفسير. فإن الحق أن الرافضة كلمة سياسية كانت تستعمل قبل أن يولد زيد بن علي ومن بايعه من أهل الكوفة، فالكلمة تطلق على كل جماعة لم تقبل الحكومة القائمة، سواء أكانت حقا أو باطلا. هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان الذين لم يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب عليه السلام وسلطته بالرافضة. و يكتب في كتابه إلى عمرو بن العاص وهو في البيع في فلسطين: " أما بعد:

فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا (نزل إلينا) مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة

الصفحة 86
علي وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني، أقبل أذاكرك أمرا " (102).

إن معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة وهؤلاء كانوا أعداء علي ومخالفيه. وما هذا إلا لأن هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك. وعلى ذلك فتلك لفظة سياسية تطلق على القاعدين عن نصرة الحكومة والالتفات حولها... إن كلمة الرفض والرافضة ليستا من خصائص الشيعة، بل هي لغة عامة تستعمل في كل جماعة غير خاضعة للحكومة القائمة. وبما أن الشيعة منذ تكونها لم تخضع للحكومات القائمة بعد رسول الله (ص)، فكانت رافضة حسب الاصطلاح الذي عرضت، ولم يكن ذلك الاصطلاح موهوبا من طرف زيد بن علي لشيعة جده. كيف وقد ورد ذلك المصطلح على لسان أخيه محمد الباقر عليه السلام. الذي توفي قبل زيد بن علي وثورته بست سنوات.

روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: " أن رجلا يقول إن فلانا سمانا باسم قال وما ذاك الاسم ؟ قال: سمانا الرافضة. فقال أبو جعفر مشيرا بيده إلى صدره: وأنا من الرافضة وهو مني، قالها ثلاثا (103).

وروى أبو بصير فقال: قلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك، اسم سمينا به استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا. قال: وما هو ؟ قال:

الرافضة، فقال أبو جعفر عليه السلام: إن سبعين رجلا من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى عليه السلام فلم يكن في قوم موسى أحد أشد اجتهادا وأشد حبا لهارون منهم، فسماهم قوم موسى الرافضة " (104). وهذه التعابير عن أبي جعفر باقر العلوم عليه السلام أصدق شاهد على أن مصطلح الرفض ليس وليد فكرة زيد، وأجله عن هذه النسبة والفكرة، بل كان

____________

(102) نصر بن مزاحم المنقري، توفي سنة 212 ه‍، وقعة صفين، ص 29.

(103) بحار الأنوار، ج 65 ص 97 الحديث 2. نقلا عن المحاسن للبرقي، المتوفى سنة 274.

(104) نفسه، ج 65 ص 97، الحديث 3.

الصفحة 87
مصطلحا سائدا في أقوام، فكل من لم يخضع للحاكم القائم، والحكومة السائدة وصار يعيش بلا إمام ولا حاكم سمي رافضيا والجماعة رافضة أو رفضة (105).

إلا أن هذا المصطلح سيتطور عند الاستعمال ليشمل ليس فقط المعارضين للحكومات من الشيعة، ولكن سيلصق بكل من يعرف عنه حب أهل بيت النبي عليهم السلام. مثل الإمام الشافعي فقد اشتهر عنه أنه أنشد:

يا آل بيت رسول الله حبكموا * فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكموا من عظيم الذكر أنكموا * من لم يصل عليكم لا صلاة له

ويوضح الإمام الشافعي بواعث اتهامه بالرفض والتشيع فيقول:

قالوا ترفضت قلت كلا * ما الرفض ديني ولا إعتقادي
لكن توليت دون شك * خير إمام وخير هادي
إن كان حب الوصي رفضا * فإني أرفض العباد

والشافعي لما أظهر حب علي بن أبي طالب - والذي سماه " الوصي " وهذه الكلمة إشارة إلى النص - اتهم بالرفض، لكنه لم يبال بهذا الاتهام، واستمر على موالاته لأهل البيت عليهم السلام. يقول منشدا.

يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد فيها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي (106)

____________

(105) بحوث في الملل والنحل، م س، ج 1، صفحات 120 و 121 و 122 و 123 بتصرف.

(106) أنظر مناقب الشافعي للفخر الرازي، وكذا الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر المجلد الثاني ص 249. والغريب في الأمر أن كل من عرف بحب علي وأهل بيته كان يتهم بالتشيع والرفض. وقد ألسقت هذه التهمة بكل من يروي حديثا أو مجموعة روايات في فضائل علي بن أبي طالب أو أهل بيت النبوة، وقد أتهم بالتشيع رجال لم يكونوا في واقع الأمر شيعة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة مثل خيثمة بن سليمان العابد الذي ألف في فضائل الصحابة وذكر بعض فضائل الإمام علي. والحاكم النيسابوري صاحب =

الصفحة 88
وهذا الإمام أحمد بن حنبل وقد كان يغشاه عبد الرحمن بن صالح الشيعي، فاعترض عليه أصحابه بقولهم إنه رافضي فكان جواب أحمد بن حنبل أنه: " رجل أحب قوما من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، نقول له لا تحبهم، هو ثقة " (107).

وعليه فإن كان حب أهل البيت ومودتهم رفضا، فالحق أن جميع المسلمين رافضة، لأن حب أهل بيت النبي من الدين. أما إذا كان الرفض يعني المعارضة السياسية، فالحركات الإسلامية اليوم وأبناء الصحوة الإسلامية يصح أن يطلق عليهم روافض ورفضة، لأنهم جميعا في خانة من يعارضه الحكومات القائمة في بلدانهم. ولا يعترفون لها بأي شرعية دينية أو حتى قانونية ودستورية.

____________

= المستدرك حيث ذكر فيه فضائل الإمام علي. وعبد الرزاق بن همام الحافظ الكبير ومن رجال الصحاح قال الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": إنه صاحب تصانيف، وثقه غير واحد، وحديثه مخرج في الصحاح، وله ما ينفرد به، ونقموا عليه التشيع وما كان يغلو به بل كان يحب عليا ويبغض قاتله. وهذا الاعتراف من الذهبي وهو من هو عند أصحابه في الجرح والتعديل يبين مدى انحراف هؤلاء الذين نقموا على هذا الحافظ فهل ينقم مسلم على مسلم آخر لأنه يحب عليا وأهل بيت النبي وقد كان الرسول يحبهم ؟ !

ومنهم جعفر بن سليمان الضبعي ومحمد بن عثمان أبو الحسن النعالي وقاضي القضاة محيي الدين الأموي المتوفى سنة 668 ه‍، ومحمد بن جرير الطبري المؤرخ الشهير المتوفى سنة 310 ه‍. ومن أعجب الأمور كما يقول أسد حيدر إن ابن عبد البر قد أتهم بالتشيع على ما فيه من النصب والعداء لأهل البيت، فقد وصفه ابن كثير في تاريخه بأنه شيعي لرواية نقلها تمس كرامة الأمويين. بل إن أبا حنيفة قد اتهم هو كذلك بالتشيع لأنه كان يفضل الإمام علي على عثمان.

(107) تاريخ بغداد، ج 10 ص 261، بتوسط أسد حيدر، ج 2 ص 504.

الصفحة 89

خاتمة المطاف

إرتأيت في مقدمة بحثي أن أعرض لهذه المجموعة من التعاريف المقتضبة كي أسلط الضوء بموضوعية علمية على حقيقة كل فرقة من الفرق المذكورة.

وأن أفرد لها بحثا خاصا بها من المصادر المعتبرة قديما وحديثا، دون حيف أو إجحاف. لقد كتب تاريخ الفرق الإسلامية الدينية والسياسية، بمداد التزوير والتحريف، ووقفت السلطات السياسية المتعاقبة عبر أزمنة التاريخ الإسلامي مواقف مختلفة ومتناقضة من الفرق والمذاهب الإسلامية.

فالمعتزلة أهل التوحيد والعدل، وأكثر من وقف مدافعا عن الإسلام أمام خصومه من علماء وفلاسفة الملل الأخرى - حسب إدعاء بعضهم - واعتنق الكثير من علماء وفقهاء الإسلام أفكارهم وعقائدهم، في أوج وازدهار الحضارة الإسلامية على عهد العباسيين وبالخصوص الخليفة المأمون، سيصبحون كفرة مباحوا الدم مع وصول المتوكل العباسي للحكم، الذي نكل بهم - أي المعتزلة - وظاهر في مقابل ذلك فريقا مخصوصا من أهل السنة (الحديث)، وهم فريق الحشوية الذين كانوا يحسبون من أهل السنة في ذلك العهد (108)، كما يقول عبد المتعال الصعيدي.

ومع هذا التحول السياسي بدأ تأريخ جديد لهذه الفرقة - المعتزلة - شوه معتقداتها، وطعن في روادها ونسب إليهم الكثير من الشذوذ الفكري والعقائدي. ومع ظهور مدرسة أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي الكلامية وتمثيلها لمذهب أهل السنة والجماعة في العقائد والأصول، وإجازتها

____________

(108) مجلة رسالة الإسلام، ج 3، عدد 1 السنة الثالثة، ص 60.

الصفحة 90
من طرف السلطات السياسية المتتالية، أعطيت لها بجانب اجتهادات الأئمة الأربعة في الفقه، الشرعية الكاملة. وهكذا انتشرت آراء مدرستي الأشعري والماتريدي في العقائد معضدة بالمذاهب الفقهية المشهورة. حيث أصبح إسلام الجمهور الأعم من المسلمين موسوما ومرتبطا بآراء هذه المدارس في الفقه والأصول، ولم تكن الظروف الموضوعية لتتيح نشر غيرها أو الدعوة إليه، بل اعتبر ذلك شذوذا وخروجا على عقائد الجمهور وديانتهم بل تعدى الانتصار لآراء هذه المدارس، إلى وصم من يخالفها بالكفر والخروج عن الإسلام ومحاربة المسلمين ونقض بيضة الإسلام، لذلك نجد المقريزي في خططه بعدما تعرض لانتشار المذهب الأشعري " أهل السنة " في العقائد واعتناق الأغلبية له.

يؤكد على أن من خالف ذلك أريق دمه.

كما اكتفى في الفقه بآراء واجتهاد الأئمة الأربعة ومن تبعهم من الفقهاء وحجب ما دون ذلك. وإن كان قد سمع بما سمي الاجتهاد الجزئي المحدود، أي الاجتهاد داخل المذهب. فالغزالي مجتهد لكنه ظل شافعيا في تقليده الفقهي العام. وكذلك غيره من مجتهدي المذاهب الأخرى.

المهم هو أن السلطات السياسية الحاكمة للمجتمع الإسلامي، خصوصا مع بداية القرن الرابع قد أضفت الشرعية المطلوبة على بعض المدارس الأصولية والفقهية. وتلقاها عامة الجمهور بالقبول وأضفوا عليها مع مرور الزمن القداسة والاحترام، حتى أضحت تمثل الإسلام في شكله ومضمونه، وعد الخارج عنها مارقا عن الإسلام، كافرا ضالا وفي أحسن الظروف مبتدعا، لذلك أحلوا دمه ماله.

في المقابل عاشت فرق ومذاهب أخرى في الظل، ليس فقط لشذوذها الفكري أو العقائدي، وركبوها الغلو الذي تنفر منه فطرة أغلبية الناس. ولكن لمعاداتها السلطات السياسية القائمة. وأفضل مثال على ذلك الفرق الشيعية بعامة والإمامية الاثنا عشرية بخاصة، فإذا كانت هذه الفرق لم تعترف

الصفحة 91
بشرعية أغلب السلطات السياسية التي قامت على طول التاريخ الإسلامي فإن رد فعل تلك السلطات كان مماثلا وزيادة بعض الشئ. فشوهت أفكار الفرق المعارضة وحرفت عقائدها وقتل دعاتها ورجالات دعوتها وأرباب مدارسها. ولم يسمح لها بنشر مذاهبها إلا بطرق سرية وخفية. لذلك لم تعرف حقيقة الكثير من المدارس الكلامية إلا بعد فترة طويلة من انتهاء هذا الصراع.

ولكن هذا النمو في الظل والخفاء لبعض الفرق، قد جعل قطاعات واسعة لا تعرف عنها شيئا، ولما كانت تظهر على الساحة بعض عقائدها وأفكارها بين الحين والآخر، كانت تلقى استهجانا ونفورا من الأغلبية، عامة وعلماء، وهكذا بدأ عصر النهضة العربية والإسلامية في العصور الحديثة بالتنقيب في التراث ومحاولة بعثه ودراسته وتحقيقه بطرق علمية موضوعية إلى حد ما، فتم اكتشاف كتب جل الفرق، خصوصا التي قاومت الزمن وسجل لها حضور في العصر الحاضر. وبذلك بدأت مرحلة التعرف الحقيقي على آراء القوم ومعتقداتهم من كتبهم الخاصة وتراثهم المتميز وأقوال علمائهم. وإذا اشتكى بعض الفرق اليوم من أن - الآخر - الخصم قد جنى عليه وشوه أفكاره، فإن فرقة الإمامية الاثنا عشرية من دون الفرق الشيعية الأخرى قد خصها - الآخر - الخصم بالنصيب الأكبر من التشويه والتحريف والتحامل، وليس السبب في ذلك سوى تاريخ هذه الفرقة التي عاشت بموازات السلطات السياسية المتعاقبة على الحكم الإسلامي.

فلم يسجل التاريخ انتصارا سياسيا لهذه الفرقة بالذات - إلا ما كان من تبني الدولة الصفوية للتشيع الإمامي (109) - انتصارا يجعل العالم الإسلامي

____________

(109) ناصرت بعض الحكومات في فترات متقطعة من التاريخ الإسلامي التشيع بشكل عام، مثل الدولة البويهية، والحمدانية، وقامت الدولة الفاطمية في مصر وشمال إفريقيا انطلاقا من الدعوة الشيعة الإسماعيلية، كما تعاقبت على حكم اليمن دول شيعية على =

الصفحة 92
يتعرف على حقيقة ما تدعو له من عقائد وأفكار. لذلك نجد الدراسات التحقيقية المتعددة والتي ظهرت في العالم العربي والإسلامي والخاصة بتاريخ الفرق الإسلامية قد أنصفت الكثير من الفرق، وعلى رأسهم المعتزلة حيث أعيد لها اعتبارها. ولم يقبل رأي خصومها فيها، فبدل تكفيرها وذمها نجد أحمد أمين وهو من المؤرخين المعاصرين مثلا يقول: كانت المعتزلة أكثر دفاعا عن الإسلام، وربط كثير من المفكرين والمثقفين المعاصرين بين العصر الذهبي للدولة الإسلامية، وبين انتشار عقائد وأفكار المذهب الاعتزالي، وعلى رأسها الدعوة إلى حرية الإنسان. كما قرنوا بداية التدهور الحضاري بانتصار المحدثين والحشوية منهم على الخصوص، وانتشار عقائد الجبر والتفويض.

أما عقائد الإمامية ومذاهب رجالها فقد ظلت كما هي عليه في كتب خصومها وأصحابها على السواء، محرومة من النشر والانتشار، إلا في حدود ضيقة، جعلت المؤرخ أحمد أمين عندما كتب حول الشيعة يستقي مادته مما كتبه خصومها. ولما زار العراق والتقي بعلماء الشيعة الإمامية وسألوه عن ذلك، إعتذر لهم بقلة المصادر.

وعليه فأغلب ما كتب عن الشيعة الإمامية ويكتب الآن إنما يستقى من الكتب والموسوعات التي أرخت للفرق الإسلامية، وأغلب أصحاب هذه الموسوعات كانوا ممن يعتنق مذاهب أهل السنة والجماعة. فكان عرضهم لعقائد وأفكار الفرق المخالفة لما عليه الأشعري، فيه الكثير من التساهل في النقل والرواية. بالإضافة إلى التحامل وعدم الموضوعية إلا ما ندر. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن التأريخ أو الكلام في تاريخ الفرق الكلامية والسياسية، يحتاج إلى الاطلاع الواسع والدقيق، حتى يتمكن الباحث من الكشف

____________

= المذهب الزيدي، أما اليوم فتنفرد دولة إيران الإسلامية بكون المذهب الإمامي الاثنا عشري هو مذهب الدولة الرسمي لأن أغلبية الشعب هناك من الشيعة الإمامية الاثنا عشرية.

الصفحة 93
الحقيقي عن عقائد القوم ومذاهبهم. فقلة البضاعة في هذا الباب تعني الخلط والخبط والتجني، وما يسببه ذلك من إرباك لدى القارئ المتوسط الاطلاع.

وقد وقفت يوما مندهشا وأنا أقرأ كتابا لأحدهم يتكلم عن فرقة إسلامية ويذكر لها كتبا ومحافل دولية، ولما راجعت عناوين تلك الكتب وأسماء تلك المحافل وجدتها لفرقة مسيحية - يهودية مشبوهة تدعى " شهود يهوه ". إن عدم الاطلاع المتكامل على موضوع البحث ونشدان الحق في كل ما يكتب، يؤدي إلى انتشار معلومات خاطئة لدى الناس عن بعضهم البعض مما يعمق الكراهية والأحقاد. ويكون سببا في الحروب المذهبية والطائفية.

لذلك حرصنا في بداية بحثنا على تحديد المفاهيم الموضوعية لمصطلحات " السلفية "، " أهل السنة والجماعة " " الشيعة الإمامية ". وبيان مدلولاتها ومصاديقها العقائدية والفكرية، في إيجاز نرجو أن لا يكون قد أخل بالمطلوب، لأن الإطناب في ذلك يخرجنا على خطة البحث، ولأننا سنناقش عقائد هذه الفرق وما تدعوا له في الفصول التالية.

والنتيجة التي توصلنا إليها وأردناها، هي تحديد مفهوم كل من " السلفية " أولا، وأنه تيار أو فرقة متميزة في التاريخ الإسلامي. كما بينا أن مصطلح " أهل السنة " قد عرف تطورا في مدلوله، فهو كان يقصد به أولا المشتغلين بجمع الحديث النبوي وروايته والاهتمام به. أما المدلول الاصطلاحي الجديد الذي سيعرفه وسينتهي عنده، فهو كونه أصبح شعارا لمدرسة كلامية في الأصول، ومنحصرة في ما توصل إليه كل من أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وأتباعهما من العلماء.

فإذا أطلق لفظ أو مصطلح " أهل السنة والجماعة " فإنه يعني تحديدا، هذه المدرسة وأتباعها. وبهذا التحديد ظهر الفرق بين هذه المدرسة وعقائدها والمدرسة " السلفية " وعقائدها، التي كشف البحث والتحقيق أنها - أي السلفية - ليست سوى مجمل آراء ابن تيمية خاصة وشروح تلميذه ابن قيم

الصفحة 94
الجوزية. وما أضافه الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي - عند التطبيق - على هذه العقائد. وما خصه بالعمل والدعوة دون غيره من عقائد أستاذيه.

كل ذلك مدعوما وفي إطار النهج العام للمذهب الحنبلي.

ومع تباين نتائج هاتين المدرستين وخصوصا في الأصول والعقائد، لم يعد هناك مجال لدمجهما أو الادعاء بأنهما تيارا واحدا منسجما، فإن هذه المحاولة التي يروج لها بعض " السلفية " تمويها على أبناء الصحوة الإسلامية، ليست صحيحة ولا تمت إلى الحقيقة العلمية بصلة. أما ما يوجد في الكتب المعاصرة خصوصا كتب التيار السلفي الوهابي من إدعاء بأن ما هم عليه هو مذهب " أهل السنة والجماعة ". أو قول بعض الأشاعرة المعاصرين من أن طريقة إمامهم هي ما كان عليه السلف الصالح. وبذلك تختلط المفاهيم، ويصبح أتباع المدرستين يتنازعان نفس الألقاب " السلفية وأهل السنة والجماعة ". أقول إن هذا الخلط لا يعني أن منهج المدرستين واحد أو أنهما جسد برأسين. ولكن الحقيقة التي لا يود بعضهم الإفصاح عنها - السلفية الوهابية -، هي أنهم عندما يطلقون على أنفسهم لقب " أهل السنة " فإنما يعنون أنهم المستحقون وحدهم دون غيرهم لهذا اللقب. ولا يقصدون إطلاقا بأنهم ينتمون أو يعتقدون بآراء وعقائد مدرستي الأشعري والماتريدي، التي تبين لنا عبر التحقيق أنهما أول من تسمى تاريخيا بهذا اللقب المتطور. واعتمدوه صفة دالة عليهم فيما بعد، ومميزا لهم عن غيرهم.

وكذلك إذا وجد من الأشاعرة من يقول بأنه سلفي أو على مذهب السلف، فإنما يعني إتباعه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمة. وأن لا خلاف بين مذهب إمامه الأشعري، وبين ما كان عليه هؤلاء الصفوة. وقد أشرنا إلى ذلك الصراع الذي احتدم بين الفريقين حول الاستفراد بهذا اللقب أو ذاك. والمهم هو أن المفهوم الاصطلاحي الخاص " للسلفية " و " لأهل السنة والجماعة " كما ظهر عند التحقيق، يعني مدرستين

الصفحة 95
مختلفتين في المنهج والنتائج. وأن الشقة متباعدة بينهما، وما زالت تتباعد.

خصوصا مع السلفية الوهابية المعاصرة، حيث تبادل القوم التكفير والتبديع ومخالفة السنة والسلف الصالح معا. والفصل الذي خصصناه للسلفية وأهل السنة يظهر بالتفصيل مدى الخلاف الواسع بين هذين المنهجين وبين أتباعهما.

ومن خلال تتبعنا للجذور التاريخية لمصطلح " السلفية " تبين واضحا أن أتباع هذه المدرسة اليوم، ليسوا سوى " خلف حشوية أهل الحديث " المتوسمين بالحنابلة. وأن مصطلح " السلفية " سيضيق مفهومه ليصبح علما متميزا لما توصل إليه ابن تيمية الحراني " شيخ الإسلام " من آراء في العقائد خصوصا، بعدما تصدى للكم الهائل من أحاديث التشبيه والتجسيم ورام الدفاع عنها، وسلك منهجا وطريقة في إثباتها وجعلها أساسا لعقائد السلف.

والسلفية أو الوهابية اليوم هي دعوة متميزة لبعث هذه العقائد، مدعومة بمخزون أهل الحشو من أحاديث وروايات. لذلك كثرت الطبعات والتحقيقات لكتب مثل " السنة " لعبد الله بن الإمام أحمد، و " التوحيد " لابن خزيمة، وغيرهما من المصادر المعتمدة لدى الحشوية الأوائل.

وإذا كان أهل السنة الأوائل ممثلين ب‍ " مدرسة ابن كلاب وأتباعها " قد خاضوا صراعا مريرا مع أوائل الحشوية وعلى رأسهم ابن خزيمة (110)، فإن خلف كلا المدرستين سيرثان هذا الصراع والتناقض، الذي سيبلغ ذروته مع ابن تيمية في القرن السابع، والذي أحيى عقائد " الحشوية " بعدما كادت تندرس - لانتشار عقائد أهل السنة من الأشاعرة خصوصا في أغلب المدارس التعليمية الإسلامية - وهاجم خصومها. وقامت بين القوم معارك ضارية أريقت فيها دماء غزيرة، وراح ضحيتها مئات القتلى من الطرفين.

كما استطعنا بإيجاز كذلك أن نبين للقارئ بأن مصطلح " التشيع " قد

____________

(110) الذي أفتى بتكفير بعضهم وحمل العامة على التعرض لهم والنيل منهم.

الصفحة 96
استوعب كثيرا من الفرق ذات العقائد والآراء المختلفة والمتناقضة، وأن الفرقة الأم وهي " الإمامية الاثنا عشرية " تختلف عن باقي الفرق الأخرى نهجا وسلوكا. وأنها مدرسة متكاملة في الأصول والفروع، تقابل جميع الفرق الأخرى سواء " أهل السنة والجماعة " أو " السلفية ". وكذا باقي الفرق الأخرى المحسوبة على " التشيع "، وإن الخلط وعدم التمييز لدى الكتاب المعاصرين - والخصوم منهم على الخصوص - بين هذه الفرقة الأم وغيرها، قد أتاح الفرصة لنشر الكثير من المغالطات والخرافات والانحرافات الدينية، ونسبها لهذه الفرقة - الإمامية الاثني عشرية -. والفصل الأخير الذي عقدناه في هذا البحث بعنوان " السلفية والشيعة الإمامية " يلقي الضوء واضحا على هذه الفرقة من حيث عقائدها وفقهها وتاريخ أئمتها وأتباعهم، ومدى اقترابها أو ابتعادها عن باقي الفرق الإسلامية الأخرى بعامة، وموضعها الحقيقي في تاريخ الإسلام ومدى قرب أو بعد عقائدها عن القرآن وما جمع من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

***

الصفحة 97

الفصل الثاني
المذهب الحنبلي " رحم الحشوية "




" وكان أهل الحق يلقبونهم بألقاب تكشفهم لمن لا يعرفهم: بالمشبهة لتشبيههم الحق تبارك وتعالى بخلقه في وصفه بما هو من خواص الخلق.

وبالمجسمة لقولهم في الله تعالى بالاتصاف بما هو من لوازم الجسم لزوما بينا.. وبالحشوية نسبة إلى الحشو بسكون الشين، وهو اللغو الذي لا اعتبار له، فضلا عن أن يكون منسوبا إلى الله وإلى رسوله، أو مذهبا يدان الله تعالى به... "

[ الشيخ محمد زاهد الكوثري ]





الصفحة 98

الصفحة 99

تمهيد

إن البحث في المذاهب الفقهية والأصولية التي ظهرت في تاريخ الإسلام والمسلمين، يحتاج إلى دراسات تاريخية معمقة وعلمية، بعيدا عن كل تعصب أو انحياز مسبق لجهة ما. على اعتبار أنها الحق، أو أنها الميزان الذي يوزن به غيرها. وإذا كان البحث الموضوعي هو حب الوصول للحقيقة، فلا بد أن يكون بصدق وموضوعية بعيدا عن التأثر بعوامل أخرى، وبذلك يكون الباحث فقد نال شرف خدمة الحق واتباعه..

ولا بد لنا أن نلمس خطورة البحث وأهميته. لهذا يلزمنا أن نتجرد عما يخالف الحقيقة، بل يجب أن نخوضه بروح هادفة، ونية خالصة لمعالجة هذا الموضوع الذي له دخل بواقع المسلمين الحاضر والماضي. فالحوادث المؤلمة التي توالت على مسرح حياتنا في جميع الأدوار وما أدت إليه من نتائج سيئة في المجتمع الإسلامي، وإن كانت نتيجة عوامل كثيرة متداخلة، إنما يعود إلى التعصب المذهبي. فهو المؤثر الأكبر والعامل القوي في تفرق المسلمين شيعا وأحزابا، وقد انقسموا على أنفسهم انقساما شائنا. فكل يتهم الآخر بالانحراف عن الدين، وكل طائفة اعتزلت الأخرى (1).

والحقيقة التي يجمع عليها جل المؤرخين، والمحققين منهم بالخصوص، هي أن ظهور هذه المذاهب لم تكن بمعزل عن الصراعات السياسية، وقيام الأسر الحاكمة، وانهيار الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم طوال التاريخ

____________

(1) أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، م 3 ص 11.

الصفحة 100
الإسلامي. كما أن أول قضية اختلف حولها المسلمون الأوائل من الصحابة كانت مسألة الخلافة أو الإمارة. وإذا كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها كما أعلن الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب "، فإن خلافة عثمان قد جلبت الفتن للمجتمع الإسلامي. فانتثر عقد الوحدة الإسلامية الذي لم يستطع الإمام علي بن أبي طالب أن يعيده إلى ما كان عليه، فاستشهد عليه السلام وقلبه تملأه الحسرة والألم. ومع موته تولى زمن ما سمي ب‍ " الخلافة الراشدة " إلى غير رجعة. ونط القردة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وامتلكوا مقدرات الأمة الفتية بعدما سالت أنهار من الدماء. وراحوا يوجهون الأمة الإسلامية عكس ما أراد لها الرسول وأصحابه الذين تحملوا في سبيل الدين الجديد المحن والشدائد العظيمة.

ولقد صدق ذلك الصحابي أو التابعي عندما قال: - في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، والي الأمويين على العراق - وهو يقرأ قوله تعالى: * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا...) * قال: كان ذلك على زمن رسول الله، أما الآن فإنهم يخرجون منه أفواجا.

لقد بدأ عصر الانحراف الكبير مع وصول الأمويين إلى سدة الحكم. وإذا كان بعض المتدينين والعلماء قد شكك في شرعية حكمهم - أي الأمويين -.

فإنهم قد حاولوا تجاوز هذا التشكيك بتحريف وتزوير كل النصوص والأحاديث التي تقدح في حكمهم، أو تنفي الشرعية عنهم. وبذلك أخفيت نصوص وأحاديث تؤيد هذا الاتجاه. وأعلن الأمويون البراءة ممن يحدث بها، وأن دمه وماله حلال إن هو تكلم بها أو رواها.

في المقابل تقدم عدد من الأعراب وأعطوا المال الجزيل للرواية عن الرسول ووضع الأحاديث على لسانه، دعما لرغبات ملوك بني أمية وأهوائهم. وشارك في ذلك عدد ممن عرفوا بصحبتهم للرسول، حيث باعوا دينهم بأبخس الأثمان. فانتشرت حركة الوضع، وكثر الرواة الكذبة، ودخل الحديث النبوي

الصفحة 101
سوق المزايدة، فهذا حديث يروى بألف درهم، وآخر يروى مقابل مائة ألف درهم. لذلك ذهب المحققون من علماء الحديث إلى أن أغلب ما روي في فضائل الصحابة وخصوصا الخلفاء الثلاثة وبني أمية، إنما صنع واختلق في تلك الحقبة. وأن أغلبه له يصح ولا يثبت أمام الجرح والتعديل، لأن مضامينه مختلفة ومتناقضة. كما أن صبغة المبالغة والتطرف في الخيال بارزة في عدد كبير من هذه الأحاديث والروايات.

لكن - ومع كامل الأسف والحسرة - فإن حركة الوضع لم تقتصر على القضايا السياسية وما يرتبط بها، بل ستتعداها لتشمل جل القضايا الدينية، الفرعية منها والأصولية. وكثرت بذلك الروايات المختلفة والمتناقضة عن الرسول في المسألة الواحدة. فبعضهم يروي بأنه (ص) مسح على رجليه عند الوضوء، والآخر يختلف معه ويأتي برواية تفيد بأن الرسول (ص) قد غسل رجليه. والبعض الآخر يقول كان الرسول يصلي واضعا يده اليمنى على اليسرى، وغيره ينفي ذلك ويقول إنما شوهد عليه الصلاة والسلام مسبلا يديه في الصلاة.

اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة بمكة فقال الأوزاعي ما بالكم ترفعون أيديكم عند الركوع والرفع منه ؟ فقال أبو حنيفة لم يصح عن رسول الله في ذلك شئ. فقال الأوزاعي كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ولا يعود لشئ من ذلك فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول حدثني حماد عن إبراهيم ؟ فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري وكان إبراهيم أفقه من سالم وعلقمة ليس بدون ابن عمر إن كان لابن عمر صحبة أو له فضل صحبة، فالأسود له فضل كثير

الصفحة 102
وعبد الله هو عبد الله، فسكت الأوزاعي (2).

وغير ذلك من الاختلافات التي تبدأ من تفاصيل الوضوء الجزئية وتنتهي إلى أعقد المسائل العقائدية الخاصة بصفات الله ومشكلات القدر وخلق العالم وغيرها من القضايا المهمة. فليس هناك مسألة إلا وفيها مئات الأحاديث المتضاربة والمتناقضة. طبعا قد يعزو البعض هذه النتيجة إلى اجتهاد الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب " الذي نهى عن كتابة وتدوين الحديث على عهده.

وإن كان ذلك صحيحا إلى حد ما، فإن الأمويين سيستغلون النتائج السلبية لهذا الاجتهاد أفضع استغلال. وبذلك تكون لبنات التحريف في الإسلام قد وضعت، وقام بنيانها في هذا العهد بالذات. ومع أن جملة من العلماء وخيار المسلمين ومن أخذتهم الغيرة على دين التوحيد الجديد، قاموا في وجه هذا التيار ونددوا به وحاولوا إيقافه، إلا أن الخرق قد اتسع على الراقع. فحركة الوضع أصبحت ظاهرة خطيرة لا يمكن التحكم فيها أو مواجهتها، خصوصا وهؤلاء الرواة يلقون الدعم المالي والمعنوي من السلطة الحاكمة. لذلك كانت النتائج وخيمة جدا على الإسلام والمسلمين. فعندما سيلقى القبض بعد ذلك على ابن أبي العوجاء الراوي الكبير وأحد الوضاعين المشهورين، سيعترف قبل قتله بأنه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل فيها الحرام.

وانظر ما يقوله ابن لهيعة: قالت سمعت شيخا من الخوارج تاب فجعل يقول إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا (3).

وهكذا كان الحال عند أغلب الفرق. حتى قال بعض المتصوفة والزهاد لما عيب عليهم نسبهم بعض الأحاديث في الرقائق إلى الرسول (ص)، فكان

____________

(2) محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ج 1 ص 321 (3) الفكر السامي، ص 307.

الصفحة 103
ردهم نحن نكذب له لا عليه، وإنما نأتي بهذه الأحاديث ترغيبا للعامة في الزهد والتدين ليس إلا.

لقد أثمرت جهود بعض العلماء والفقهاء بعد انطلاق حركة تدوين الحديث في إيجاد مناهج ووسائل شبه علمية لكشف صحيح الحديث من سقيمه، وبيان مراتبه من الضعف والصحة. لكن نتائج هذه المناهج قد بولغ في إيجابياتها كثيرا، لأنها لم تستطع أن تكشف كل ما وضع عن الرسول (ص) ولم يقله. وبقيت أغلب المسانيد وكتب الحديث تحتوي على الضعيف والموضوع. وإن قال أصحابها أنهم لم يجمعوا في بعضها إلا ما صح لديهم. إلا أن هذه المشكلة ستظل قائمة. وقد خبر علماء هذا الميدان حجم المشاكل التي تعترضهم في هذا التحقيق.

فقد يستطيع المحدث والعالم بالجرح والتعديل أن يثبت صحة الحديث من عدمه، وذلك عندما يقطع بصحة سنده، وأن الحديث لا شك مروي عن الرسول، سمعه منه الثقات وحمله الثقات إلى أن وصل إلينا لكن الفقيه أو المفكر، وخصوصا المختص في العقائد قد لا يأخذ بمتن ومحتوى هذا الحديث.

بل يضرب به عرض الحائط ويجزم بأنه مكذوب على الرسول لا محالة لأن مضمونه مخالف لأبسط المبادئ العقلية الثابتة، أو مخالف لنواميس الطبيعة بشكل واضح وصريح. ولو كان من عند الرسول فهو من عند الله طبعا.

وما يقوله الله سبحانه وتعالى لا يخالف بالضرورة نواميس الطبيعة وما اتفق العقلاء على أنه حق. مثلا أحاديث التجسيم والتشبيه الصريح فقد يدعي بعض المحدثين صحة سندها. لكن مضمونها يخالف آية محكمة من كتاب الله تعالى. وعليه يحكم على الحديث بالوضع، لأن لا اختلاف في الوحي فالقرآن وحي والسنة وحي وكل من عند الله سبحانه وتعالى إن هذا المبحث عميق ومشكل وقد ألفت فيه المؤلفات الكثيرة، وتناوله العلماء بالأخذ والرد. ولسنا الآن بصدد مناقشة تفاصيله، وإنما عرجنا عليه

الصفحة 104
لإعطاء فكرة بسيطة عما خلفته حركة الوضع والكذب على الرسول (ص)، والتي انطلقت مبكرة وعرفت أوج ازدهارها في العصر الأموي بالذات. وإنما ذكرنا ذلك لأن هذه الحركة التحريفية الكبرى ستكون بمثابة الخلفية الأولى لظهور المذاهب الفقهية والأصولية، والمبرر الأهم لاختلاف هذه المذاهب في الأصول والفروع.

وإذا كانت للسلطة اليد الطولى في خلق مادة الاختلاف وجعله ضرورة لا محيد عنها، فإن هذه السلطة سيكون لها دور آخر أشد خطورة من الأول.

إنه التشجيع على صنع المذاهب والمدارس ودعم دعاتها والقائمين عليها ودعوة الجماهير المسلمة العامة إلى الانخراط فيها والالتفاف حول أصحابها، شريطة أن تحافظ السلطة على خيوط قوية ومتينة تربطها برؤساء هذه المذاهب أو المدارس الأصولية والفقهية.

وإذا قال قائل لماذا تتحمل السلطة كل هذا العناء، فإن التاريخ الإسلامي سيجيبه بأن جل الحكومات التي تعاقبت على الخلافة الإسلامية لم تكن تمتلك الشرعية الكافية. فلم يكن الأميون ولا العباسيون يمتلكون الشرعية الدينية. وكانت المعارضة لهما في الغالب دينية أصيلة، ممثلة في أئمة أهل البيت الذين عاشوا بين ظهراني الحكومتين، ولم يستطع ملوك بني أمية أو بني العباس أن يزحزحوهم عن مطالبتهم بحقهم قيد أنملة رغم القتل والتهجير.

ومعارضة أخرى مزيفة ومسلحة ينشد أصحابها الملك حينا، والعدالة الاجتماعية حينا آخر. وكلا من المعارضتين يحمل إلى جانب السيف سلاح الدين ونصوصه المقدسة، سواء ما صح منها أو ما وضع لهذا الغرض بالذات.

لذلك كانت الحرب التي خاضها الأمويون والعباسيون حربا ذات شقين أو واجهتين: الحرب العسكرية التي تلتقي فيها الجيوش وتنتهي بمنتصر ومنهزم.

والحرب كانت سجالا بين جميع الأطراف. وحرب أخرى لا تقل خطورة عن الأولى وهي الحرب الايديولوجية أو النظرية. فمن أثبت بنص المنقول عن

الصفحة 105
النبي (ص): أن " اقتلوا معاوية إذا رأيتموه على منبري " سيعتبر محاربة معاوية جهادا في سبيل الله وطاعة لرسوله.

ومن وجد أن معاوية هو أمير المؤمنين ومن أهل بيت النبي وطاعته واجبة، كما كان يعتقد أهل الشام، فإنه سيدافع عن حكم معاوية بدمه ويستشهد بين يديه، لأنه إنما ينتصر للحق ويدافع عنه. وقد شهد عدد من كبراء أهل الشام عندما انتصر العباسيون على الأمويين، أنهم لم يكونوا - وأقسموا على ذلك - يعلمون للنبي من ابن عم أو أهل سوى معاوية وأهل بيته.

إن الصراع على عقول الأغلبية، أو محاولة تجييش الجماهير لدعم السلطات القائمة كان من أكبر الهموم والمهمات التي أولتها الحكومات العربية الأهمية الكبرى. كما اجتهدت المعارضة في كسب الناس إليها بدعوى كونها على حق، وأن خصومها على الباطل. وإذا انتخبت المعارضة قوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (4). وأن لا بد من إعلان الجهاد في وجه الكافر. فإن السلطة القائمة قد اختارت من القرآن قوله تعالى: * (أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم...) * (5).

أما الاستشهاد بالحديث النبوي فحدث ولا حرج. وهذا الأسلوب في الصراع التاريخي بين الحكومة والمعارضة الدينية بالخصوص، سيبقى هو هو، لم ولن يتغير في عالمنا الإسلامي المعاصر، ونحن نشرف على نهاية القرن العشرين.

لذلك لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن الحكومات الإسلامية قد اصطنعت لها مذاهب فقهية وأصولية، كما أن المعارضة أنتجت لها مذاهب فقهية وأصولية كذلك. فللحكومة مذهبها الإسلامي الذي يدعمها ويؤمن لها الشرعية في الماضي والحاضر، وللمعارضة كذلك عقائدها التي تنطلق منها وتبرر تصرفها.

____________

(4) سورة المائدة، الآية: 44.

(5) سورة النساء، الآية: 59.