إن دفاع الدكتور عن الشيخ الحراني، لا يرجح كفته ولا يضعه في مرتبة ابن عربي، وذلك لعدة اعتبارات ذكرنا بعضها سابقا وهي أن أتباع ابن عربي وغيرهم يشككون في نسبة الكثير مما ورد مخالفا لعقيدة الإسلام في كتب الشيخ الصوفي، ويرجحون أنه من وضع الزنادقة بالإضافة إلى احتمائهم بالتأويل، أي صرف ظواهر كلام الشيخ الصوفي عن لازمها اللغوي القريب لجعلها تتقارب مفهوما مع ما أتفق عليه من عقائد الإسلام.
وهناك ملاحظة مهمة يمكن أن تكون فيصلا بين موقف الشيخين. وتتمثل في أن ابن عربي لم يكن داعيا لما يكتب أو يقول، كما أنه لم يقل إن ما رآه أو كشف له عنه في تجربته الروحية هو ما يجب أن يعتقده المسلمون عامة وخاصة، وأن من لم يرى ذلك فهو ضال مبتدع كافر ! بخلاف الشيخ ابن تيمية الذي جزم وفصل وادعى أن ما يراه وما يقوله هو الحق الذي لا يحيد عنه إلا منحرف، وأن على العوام معرفة ذلك واعتقاده. وقد فعل الشيخ ذلك من على منبر الجامع بدمشق كما حرر عدة مجلدات أثناء سجنه دفاعا عن
____________
(78) السلفية، أنظر الهامش ص 205.
لقد كتب رجالات الصوفية ومحققوهم عدة ردود في الماضي والحاضر على ادعاءات ابن تيمية وانتصروا لعقائدهم وطرائق سلوكهم بما استنبطوه من الكتاب والسنة وسيرة السلف من الصحابة والتابعين. والرأي عندهم أن الشيخ ابن تيمية: " تكلم في علم لا يعلمه. ولا يعلم أصوله ولا فروعه مخالفا قوله تعالى * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * واتبعه آخرون فيما أخطأ فيه ولا يقف الأمر عند هذا الحد أي جهل الشيخ بموضوع حشر نفسه فيه (80)، وأصدر فيه أحكاما جازمة أثارت الكثير من المشاكل والفتن بين فرق المسلمين وما زالت، ولكن بعض من الباحثين المعاصرين يتهم الشيخ السلفي بالكذب على الصوفية وبالخصوص على ابن عربي، حيث حرف نصوصه وكلامه عند النقل والاستشهاد وكذلك أتباعه اليوم يفعلون.
ابن تيمية يكذب على ابن عربي:
يدعي الباحث محمود الغراب بأن " شيخ الإسلام " لم يكن أمينا على أقوال ابن عربي، ونصوصه التي نقلها جاءت محرفة. كما يشير إلى أحكامه المتناقضة بخصوص شخصيات صوفية مشهورة. ينقل محمود غراب نصا لابن تيمية اقتطفه من فتاويه ويرد عليه ويبرز من خلال ذلك كذب الشيخ
____________
(79) الحقائق الجلية، م س، ص 17، وهذا التطرف في نسب المخالفين إلى الكفر والضلال يعتبر سمة من سمات الحنابلة على طول التاريخ، أنظر لقول أحدهم: قال بنان بن أحمد:
كنا عند القعبني رحمه الله فسمع رجلا من الجهمية يقول * (الرحمان على العرش استوى " فقال القعبني، من لا يوقن أن الرحمان على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي " والجهمي عند القوم الكفار لا شك في كفره. أنظر مجموعة التوحيد، ص 121.
(80) محمود محمود الغراب، الرد على ابن تيمية من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، مطبعة بن ثابت، دمشق، 1981 م، ص 9.
يقول ابن تيمية: " لما كانت أحوال هؤلاء شيطانية " كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى عليهم كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم وينتقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه ؟... (81) يقول محمود الغراب: أما أن ابن عربي قد ذم الجنيد والتستري فإنه في فتوحاته عندما يتكلم عنه أو يستشهد بأقواله يقول " رحم الله سيد هذه الطائفة أبا القاسم الجنيد ". وهو عندما يتعرض لذكر العلماء الذين حفظوا على الأمة أحوال نبيها (ص) يتدرج بذكر الصحابة ثم التابعين إلى أن يقول " ومن نزل عنهم بالزمان كشيبان الراعي وفرج الأسود والمعمر والفضيل بن عياض وذي النون المصري ومن نزل عنهم كالجنيد والتستري ومن جرى مجرى هؤلاء من السادة في حفظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي... إلى أن يقول " حتى يعمل أنا ما خرجنا فيما نذهب إليه من الاعتبار كما أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا لأن سيد هذه الطائفة أبا القاسم الجنيد يقول علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة (82).
ولا ندري هل قول الشيخ ابن عربي " سيد الطائفة " مدح أم ذم في الجنيد !
ومن أين جاء ابن تيمية بقوله إن ابن عربي ذمه وفي أي موضع جاء هذا الذم !
ربما كما يقول محمود غراب، أن ابن تيمية نظر في مناقشة ابن عربي للجنيد حول المحدث والقديم، فظن أن الشيخ يرد عليه لما يعتقده هو - حسب ابن تيمية - من عدم التفريق. ومع ذلك ليس هناك أي ذم إنما هو نقاش فكري بين
____________
(81) المرجع السابق، ص 13.
(82) المرجع السابق، ص 15.
وهل يرضى ابن تيمية بعقيدة الشيخ الجنيد الذي يمدحه. أعتقد أنه لو اطلع على كل ما قال به الجنيد لوصمه بما وصم به ابن عربي وغيره، فهو القائل " لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق.
أما سهل بن عبد الله التستري فإن الشيخ الأكبر إذا ذكره يقول عالمنا وإمامنا ويصفه بالحبر عند مناقشته مسألة التفريق بين مقام المعرفة، ومقام العلم الإلهي. والشيخ الأكبر كثير الذكر للشيخ التستري ومدحه والاعتراف بولايته وما وصل إليه من مقام فهو عنده " عليم أواه " و " للسيادة أهل ". أما الحلاج فإن ابن عربي لم يمدحه بل قال عنه إنه سكران وليس من أهل الاحتجاج (83).
مع أن كثيرا من المتصوفة دافعوا عن الحلاج وأولوا كلامه وشطحاته وقد دافع عنه بعض فقاء الحنابلة كذلك.
وابن تيمية حسب محمود غراب لم يقدم أي دليل من كلام الشيخ ابن عربي يمدح فيه الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، كما لم يستدل على دعواه بانتقاص الشيخ الأنبياء مثل نوح وإبراهيم وموسى، والخلاصة أن كلام الشيخ الحنبلي " دعوى بلا بينة وفتوى بلا برهان " (84).
____________
(83) الفتوحات المكية، ج 2 ص 546، ج 4 ص 328. أنظر محمود غراب، م س، ص 40، إذا كان الشيخ الأكبر قد وصف الحلاج بأنه سكران فإن ابن تيمية سيدعي إن الذي قال " ما في الجبة إلا الله " وهو الحلاج. كان في مقام الفناء الذي يقع فيه السكر المسقط للتمييز.
وأعتقد إن الرأيين لا يختلفان بل مقصودهما واحد ولست أدري هل هذا مدح أو ذم في الحلاج ولكن ابن تيمية مع قوله هذا يدعي إن ابن عربي يمدح الحلاج المذموم عند المسلمين وهذا من التناقض الكثير في أقوال شيخ الإسلام.
(84) المرجع السابق، ص 21.
" فواجب على المذكر إقامة حرمة الأنبياء عليهم السلام والحياء من الله أن لا يقلد اليهود فيما قالوا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المثالب ونقلة المفسرين خذلهم الله (85).
والحقيقة أنني أقف حائرا في تحقيق كلام رجل يسميه أصحابه " شيخ الإسلام " يفتري على رجل كلامه كله مدح في الأنبياء والدعوة لاتخاذهم أسوة، وتنزيههم عن النواقص. وكتبه تطفح بهذه المعاني السامية في حقهم عليهم السلام. " وابن تيمية يدعي على الصوفية وابن عربي خاصة أنهم يفضلون خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء: يقول: ومنهم - أي الصوفية - من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب (الفتوحات المكية) وكتاب (الفصوص)، فخالف الشرع والعقل مع مخالفته جميع أنبياء الله وأوليائه " (86).
أما ابن عربي فإنه يقول: إن شرط أهل الطريق - يعني مشايخ الصوفية - في ما يخبرون عنه من المقامات والأحوال أن يكون عن ذوق ولا ذوق لنا ولا لغيرنا ولا لمن ليس بنبي صاحب شريعة في نبوة التشريع ولا في الرسالة، فكيف نتكلم في مقام لم نصل إليه أو على حال لم نذقه لا أنا ولا غيري ممن ليس بنبي ذي شريعة من الله، ولا رسول ؟ ! حرام علينا الكلام فيه.
وقال أيضا: حضرت في مجلس فيه جماعة من العارفين، فسأل بعضهم بعضا: من أي مقام سأل موسى الرؤية ؟. فقال الآخر: من مقام الشوق.
فقلت له: لا تفعل، أصل الطريق نهايات الأولياء بدايات الأنبياء فلا ذوق
____________
(85) المرجع السابق، ص 22.
(86) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص 80.
فهل رأيت الشيخ كما يقول صائب عبد الحميد، أنصف في شئ مما ذكره، أم تراه عمد إلى أقوال ابن عربي فقلبها إلى العكس ليتخذها ذريعة إلى طعنه ورميه بالكفر والضلال (88).
وهكذا هو الحال تقريبا في كل ما حكاه عن ابن عربي فهو لم ينقل عن الشيخ حرفا واحدا بأمانة حين وجده مطابقا للعقيدة الحقة. وربما يقال إنه لم يقرأ كتب ابن عربي ولكنه سمع من بعض من يثق به من خصوم ابن عربي، فقال ما قال ولعل هذا أحسن الأعذار (89).
إن ابن عربي لم ينتقص أبدا نبيا من أنبياء الله تعالى، وحاشاه أن يفعل ذلك، ولكنه انتقص بعض الفقهاء وذم طريقة بعض المحدثين والرواة الذين ينقلون عن اليهود الأكاذيب في حق الأنبياء والرسل. كما أن ابن عربي كغيره من المتصوفة خاض بعض الصراع مع الفقهاء الذين رفضوا طريقة المتصوفة الباطنية وحاروا في فهم كلامهم وحل رموزه وإشاراته، فكانوا يتهجمون عليهم وينسبونهم إلى الانحراف والضلال.
لذلك يقول الشيخ الأكبر: وأكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقا وشربا فأنكروا مثل هذا من العارفين حسدا من عند أنفسهم.. وأكثر العامة تابعون للفقهاء في هذا الإنكار تقليدا لهم لا بل بحمد الله أقل العامة وأما الملوك فالغالب عليهم عدم الوصول إلى مشاهدة هذه الحقائق لشغلهم بما دفعوا إليه فساعدوا علماء الرسوم فيما ذهبوا إليه إلا القليل منهم فإنهم اتهموا
____________
(87) الفتوحات المكية، 2 / 51، أنظر ابن تيمية لصائب عبد الحميد، ص 160 - 161 - 162.
(88) ابن تيمية، م س، ص 166.
(89) المرجع السابق، ص 168.
أما قول ابن تيمية " لما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل " فإن كلام الشيخ الأكبر في فتوحاته ينسخه بل يمحوه ويعلو عليه يقول:
* (الداعي إلى الله لا يزيد على ما جاء به رسول الله (ص) من الأخبار بالأمور المغيبة إلا أن أطلعه الله على شئ من الغيب مما علمه الله فله أن يدعو به مما لا يكون مزيلا لما قرره الشرع بالتواتر عندنا (91) وبذلك يثبت الشيخ الأكبر تهافت آراء ابن تيمية وسطحيتها بل مخالفتها ومناقضتها لواقع النصوص كما هي موجودة في كتب أصحابها. والغريب في الأمر أن أتباع ابن تيمية اليوم " سلفية الوهابية " ينهجون نهج إمامهم في تزوير الحقائق وتحريف النصوص، مثال ذلك ما كتبه محمد حامد الفقي على هامش تحقيقه لكتاب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية في النسخة المطبوعة في دار الكتاب العربي بيروت عام 1972، يقول في هامش الصفحة رقم (60) من الجزء الأول ما يلي: قال ابن عربي شيخ الصوفية الناطق بلسانهم:
وهذان البيتان موجودان في أربعة كتب من كتب الشيخ الأكبر ابن العربي
____________
(90) محمود غراب، م س، ص 37، نقلا عن الفتوحات المكية.
(91) المرجع السابق، ص 27، نقلا عن الفتوحات.
وآخر يؤلف كتابا تحت اسم " التصوف بين الحق والخلق " يقدم نفسه بألقاب الباحث الحر والناقد المجرد، ويبني تحقيقه على عبارتين زورهما على الشيخ الأكبر، فيقول في الصفحة رقم (87) من كتابه المذكور، يقول ابن عربي: " بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني الإلهي ولا أين يحصرها.. الخ "، ونجد هذه العبارة في الجزء الأول من الفتوحات المكية طبعة الميمنية، في الصفحة رقم (118):
" بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية ولا أين يحصرها لعدم التحيز.. الخ ".
وأما العبارة الثانية فيقول عنها في الصفحة نفسها من كتابه أن الشيخ الأكبر يقول: " وأقرب الناس إليه - يعني إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - علي بن أبي طالب رضي الله عنه إمام العالم وسر الأنبياء أجمعين "، ولكنا نجد النص في الصفحة (119) من الجزء الأول من الفتوحات " وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وأسرار الأنبياء أجمعين ".
ورغم أني - يقول محمد غراب - اطلعت المؤلف شخصيا على التحريف
____________
(92) يتداول الصوفية صيغ أخرى لهذين البيتين منها:
يقول الشيخ أحمد التيجاني: معناه إن الحق سبحانه وتعالى خلق العبد وأفاض عليه، فيض الوجود وأمده بأسرار صفاته السبع النفسية " أنظر إفادة التيجاني لمصطفى بن محمد بن علوي، ص 23. وهذا يدعم كلام محمود غراب فليس هناك من الصوفية من يقول بأن العبد رب والرب عبد. بل إن ابن عربي يقول : " يستحيل تبدل الحقائق، فالعبد عبد والرب رب، والحق حق، والخلق خلق ".
أنظر الفتوحات ج 3 ص 371.
أمثال هذين كثير، يتبعهم كل مغرور وناعق (93).
نقول هنيئا إذن لشيخ الإسلام ولأتباعه من السلفية الوهابية اليوم بما توصلوا إليه من حقائق وعقائد وآراء مبنية على فهم سطحي لنصوص القرآن والسنة وأقوال العلماء والأئمة وأرباب المدارس والفرق الكلامية والفقهية. ولم يكفهم ذلك بل راموا تحريف وتزوير أقوال القوم - خصومهم - وبهتهم بغير ما يدعون إليه.
لقد اتهم علماء أهل السنة والجماعة ابن تيمية من قبل بالكذب، وها هي شهادة محققي الصوفية بالكذب عليهم تضاف هي الأخرى في سجل الرجل، ووساما على صدره وعلامة مميزة في منهج أتباعه عندما يتناولون الخصم بالدراسة والبحث. ولا أخالهم إلا أنهم يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة.
فما دام الحق بين أيديهم وعنه يصدرون، إذن لا مانع من الاستنجاد بالكذب والتزوير لنصرته والدفاع عنه، والويل للحقيقة من هؤلاء، ويا حسرة على تشرذم وضياع أبناء الصحوة الإسلامية اليوم، الذين لا يجدون إلا كتب القوم يغرفون منها ويشبعون البطون، وقد غزت الأسواق والمكتبات بفضل أموال الذهب الأسود. مع تراجع مذهل لكتابات أهل السنة والجماعة ليس فقط في العقائد ولكن في شتى المواضيع المعرفية المتعلقة بالإسلام.
نرجع لنقول إن موضوع التصوف والمتصوفة قد أثار جدالات كثيرة وعميقة تابعت تاريخه منطلقا وتطورا، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم من
____________
(93) محمود غراب، م س، ص 9 - 10.
شرط ألا تكون هذه الموافقة للكتاب والسنة هو ما فهمه ابن تيمية وأتباعه وحدهم من الكتاب والسنة، وإنما يتم الاحتكام إلى الحق من خلال القرآن والسنة بشكل عام بعيدا عن الخلفيات المذهبية والفرق ومذاهب الرجال التي أنشأها السلطان الجائر وغذتها الأموال المغصوبة والدسائس والمكر الذي تنهد منه الجبال.
____________
(94) موقف أئمة الحركة السلفية، م س، ص 229.
ابن تيمية ليس سلفيا
كنا قد انتهينا في الباب الأول عند تعريف " السلفية " إلى أنهم ليسوا سوى حشوية الحنابلة التابعين لما استجد مع ابن تيمية من آراء وأفكار في العقائد بالخصوص، وقلنا إن ذلك يضيق لينحصر في أتباع الشيخ بالذات وهم " السلفية الوهابية "، وخلاصة رأيهم في أنفسهم أنهم أتباع السلف الصالح من هذه الأمة، أي من عاش في القرون الثلاثة الأولى من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية ورجال الحديث، الذين شهد لهم الحديث النبوي بالخيرية.
ونحن عندما وضعنا ابن تيمية في نفس الميزان الذي كان يضع فيه خصومه وينتهي إلى أنهم مبتدعة ضالون منحرفون عن السلف عقيدة وسلوكا، لم نجد له مكان بين هؤلاء السلف الذين ما فتئ يذكرهم ويدعي انتسابه إليهم. فهو وانطلاقا من مفهومه حول السلف ومذهبهم، ليس سلفيا بالمرة، وقد انتبه إلى ذلك مجموعة من الباحثين والكتاب الذين تناولوا حياته بالدراسة والتأليف وعلى رأسهم معاصريه الذين ردوا عليه.
إثارة الشبهات في أذهان العامة:
فابن جهبل الفقيه الشافعي الذي ألف رسالة في الرد على الفتوى الحموية يقول: لم ينقل عن سيد البشر (ص) ولا عن أحد الصحابة رضي الله عنهم إنه جمع الناس في مجمع عام (كما فعل ابن تيمية) ثم أمرهم أن يعتقدوا في الله كذا وكذا... إن سيد الرسل لم يقل أيها الناس، اعتقدوا إن الله تعالى في جهة
ومن فحص وفتش وبحث وجد أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصدر الأول لم يكن دأبهم غير الإمساك عن الخوض في هذه الأمور وترك ذكرها في المشاهد، ولم يكونوا يدسونها إلى العوام، ولا يتكلمون بها على المنابر، ولا يوقعون في قلوب الناس منها هواجس كالحريق المشتعل، وهذا معلوم بالضرورة من سيرهم، وعلى ذلك بنينا عقيدتنا وأسسنا نحلتنا، وسيظهر لك إن شاء الله تعالى موافقتنا للسلف ومخالفة المخالف (أي ابن تيمية) طريقتهم وإن ادعى الاتباع، فما سلك غير الابتداع (96).
ويستطرد ابن جهبل موردا أقوال الصحابة وعلماء التابعين وسيرتهم في معالجة قضايا التوحيد الدقيقة، وأنهم كانوا يضنون بها على العوام وعلى غير أهلها، ولا يخوضون في تفاصيل ذلك إلا اضطرارا، قمعا للبدع كما وقع للأئمة كمالك والشافعي وابن حنبل وغيرهم وإذن فابن تيمية عندما أشرك العوام في معالجة دقائق التوحيد وجزئياته لم يكن سلفيا، وإنما كان مبتدعا منحرفا عن طريق من يعتبرهم هو نفسه رجالات السلف، مع أن الذين خاضوا في قضايا التوحيد والعدل ونشروا جزئياتها بين الناس وأثاروا الشبهات والاختلافات العقائدية لم يكونوا - وحسب ابن تيمية كذلك - من السلف الواجبي الاتباع بل من مبتدعة الأمم وبالخصوص متأسلمة اليهود والنصارى وبعض رجالات الملل والنحل المخالفة
____________
(95) الحقائق الجلية، م س، ص 34.
(96) المرجع السابق، ص 41، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر الهيثمي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنتظم حيث قال: ".. إن ابن تيمية تجاوز الجناب الأقدس وفرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ".
ويقول الشيخ محمد البرلسي في " إتحاف أهل العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان. عن ابن تيمية ": وأظهر هذا الأمر على المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر ". أنظر كشف الارتياب، م س، ص 130 - 131.
ابن تيمية يشتغل بالفلسفة وعلم الكلام:
لقد هاجم ابن تيمية علماء الكلام والمشتغلين به، وكذا الفلاسفة ووصف نهجهم بأنه خلاف طريقة السلف وأن القرآن قد جاء بأفضل الطرائق لتوضيح عقائد التوحيد والدفاع عنها، فلسنا في حاجة إلى هذا العلم ولا إلى مصطلحاته، لذلك حمل على أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لانشغالهم بهذا العلم ونسبهم إلى الانحراف.
وهذا الموقف في اعتداله، وكذا الدعوة إلى عدم إعتماد أو مزج المنطق والفلسفة اليونانية بالفكر الإسلامي العقائدي، فيه الكثير من الحقيقة والصواب، وتدعمه النتائج التي توصل إليها من قاموا بهذه العملية الخطيرة، والتي أسفرت عن تلفيق وتشويق لعقائد الإسلام البسيطة والواضحة.
وقد دعا بعض علماء أهل السنة وغيرهم إلى إبعاد اليوناني ذو الجذور الوثنية عن عقائد الإسلام بشكل عام، كما اتفقوا على إلجام العوام عن علم الكلام، أي إبعادهم عن الخوض في مسائل التوحيد احترازا عليهم من الانحراف. ولكن الخلاف بين ابن تيمية وعلماء أهل السنة سينحصر في الاشتغال بعلم الكلام ذاته، ومشروعيته وجدواه. فابن تيمية ومعه الحنابلة جملة يذمون تعلم هذا العلم والاشتغال به، أما أهل السنة فإنهم يدافعون عن هذا الاشتغال. وقد ألف شيخهم الأشعري من قبل رسالة في مشروعية تعلم هذا العلم والاشتغال به، ويبرون عملهم هذا انطلاقا من تعريفهم لهذا العلم الذي " يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة " (97).
(97) مقدمة ابن خلدون، ص 225، عن السلفية، ص 153.
وإن كان الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب الفقهية لم يعرف عنهم الاشتغال بهذا العلم فإنما ذلك راجع للحاجة والضرورة. فالسلف لم يكونوا في حاجة إلى تعلم هذا العلم، أما الخلف فهم مضطرون لأن لا سبيل للدفاع عن عقائد الإسلام أمام شبهات الخصوم إلا به. فالخصم يعتمد الأساليب المنطقية ويستخدم اصطلاحات مستحدثة وبذلك يكثر التشويش ويتعرض عامة المسلمين وخاصتهم للاضطراب.
وابن تيمية لما أنحى بالأئمة على الغزالي بسبب خوضه في تلك المصطلحات والمقاييس (98)، أو بسبب اعتماده المنطق وجعله باب العلوم ومقدمتها، كان متناقضا في رأيه وسلوكه، فهو في فتاويه يصرح بأن " مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة.. فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة. كان ذلك هو الحق " (99).
وهذا كما يقول الدكتور البوطي هو ما اتفق عليه سائر المشتغلين بعلم الكلام قديما وحديثا من أهل السنة والجماعة. فإن أحدهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة اليونانين، ولكنهم لم يجدوا مناصا من استعمال اصطلاحاتهم ومقاييسهم اللفظية في عصر انتشرت فيه هذه الاصطلاحات والمقايس (100).
____________
(98) السلفية، ص 160.
(99) مجموع الفتاوى، ج 3 ص 307، عن السلفية، م س.
(100) السلفية، ص 159.
ولعمري إن أحدا ممن يعتبرهم الشيخ سلفا لم يفعل ذلك ولا عرف عنه حتى معرفته بعناوين كتب القوم، وليس الدراسة والهضم من ثم الرد والمناقشة، والخوض في الدقائق عبارات اليونسية والفلاسفة كما يقوله عنه الحافظ الذهبي معاصره مخاطبا: " يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات، وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم، وتكمن والله في الجسد (101). وفعلا فقد كمن بعضها في جسد الشيخ، فتجرد للدفاع عنه ونشره ليس باعتباره من عقائد الفلاسفة وإنما من عقائد السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية. الذين يتبرأون مما نسب إليهم ادعاء وزورا.
لقد عاب ابن تيمية على أهل السنة " اشتغالهم بعلم الكلام ونسبهم إلى مخالفة السلف في ذلك لكنه تزود منه بما يكفيه وزيادة، فكان يحرم على غيره ما أباح لنفسه، وبعض السذج ممن يطلقون على أنفسهم " سلفية "، قد يرد على ذلك بأن شيخ الإسلام اطلع على ذلك ليعرف الصواب من الخطأ ولما حصل له العلم بذلك أفتى بما وصل إليه من الحقيقة فيجب إذا اتباعه في ذلك لأنه هو الحق.
ونرد على هذا الحشو الفكري بأن ابن تيمية كان مبتدعا في دراسته
____________
(101) بحوث في الملل والنحل، ج 4، ص 39.
يقول الدكتور البوطي: لقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية، على أذهان كثير ممن يقرأون له، بسطحية ودون صبر أو استيعاب. فقد أخذوا يروون عنه مستدلين ومحتجين أنه أنكر الاشتغال بعلم الكلام وحذر منه، وسفه المشتغلين به والمؤلفين فيه، مع أنه قرر نقيض ذلك تماما بل أنه خاض في المباحث الكلامية، طبقا للمقاييس الفلسفية في الجزء الثالث من مجموع فتاواه، خوضا سبق به أساطين علم الكلام الذين ينهال عليهم (السلفيون) كل يوم بالهجوم المقذع والنسبة إلى الابتداع. فقد تحدث عن العلاقة بين الوجود والموجود، وعن القدرة الصلوحية والتنجيزية، في العبد، وهو توجد القدرة عند مباشرة الفعل أم قبلها، وعن الجبر والاختيار، وعن القدم بالنوع والحدوث في الجزئيات.. وأوغل في ذلك أيما إيغال. وهو مما ينأى عنه - بدون ريب - منهج القرآن وطريقته في بيان عقائد الإسلام، على حد ما يقوله ابن تيمية، ويقرره في أكثر من مناسبة (102).
وعليه فابن تيمية لم يكن سلفيا عندما اشتغل بعلم الكلام والفلسفة.
وعندما أفتى بضلال من يشتغل بهما فإنما كان ذلك منه غرور علمي ليس إلا، وممارسة الأستاذية على الناس وطلبة العلم. وهذه الأستاذية التي إن قبل بها أتباعه من حشوية العوام، فإن باقي علماء الفرق والمذاهب رفضوها ولم يعتبروها إلا ادعاءا جديدا يضاف إلى ادعاءاته الكثيرة، وقد أوردنا سابقا بعضا من آراء علماء أهل السنة فيه وفي علمه واجتهاده.
____________
(102) المذاهب الإسلامية، م س، ص 222 - 223.
وإذن هل يطمأن إلى آرائه واستنتاجاته. بل إن الأمر يزداد تعقيدا وصعوبة عندما نتفحص كتابات الشيخ فنجد له في القضية الواحدة رأيين متناقضين تماما، أو مجموعة آراء مختلفة وغامضة. فأيهم نتبع حتى نكون بذلك سلفيين غير مبتدعين ولا ضالين ؟ !.
ابن تيمية يقول بقدم النوع الأساسي:
لقد كان بعض الحنابلة يشكوا من أن أصحابه قد انقطعوا إلى الرد على الملحدين انقطاعا أداهم إلى الإلحاد (103)، وقد وقع ابن تيمية بدوره في شراك الفلاسفة ومتاهاتهم وظهرت أعراض الإدمان على أفكارهم كما ذكر الحافظ الذهبي، في بعض المعتقدات الشاذة للشيخ الحنبلي. ذكر البوطي منها مسألتين: الأولى عندما كتب تعليقه على كتاب (مراتب الإجماع) فقد ذكر ابن حزم أنهم اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له، خالق كل شئ غيره. وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شئ غيره معه. ثم خلق الأشياء كلها كما شاء. علق ابن تيمية (رحمه الله) على كلام ابن حزم بقوله: " قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شئ فهذا حق.
____________
(103) أنظر رسالة الذهبي لابن تيمية، وقوله إن ابتلاع سموم الفلسفة يدمن عليه الجسد، وأنظر رد البوطي على ابن تيمية بخصوص تسلسل الحوادث وقدم النوع الأساسي.
لقد أنكر ابن تيمية الإجماع الذي ذكره ابن حزم والقاضي بتكفير من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شئ غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء وبعدما أورد كلام علماء الكلام والفلاسفة في هذه المسألة. انتهى إلى ما قرره الفلاسفة من أن الأشياء حادثة بالعين والجزئيات ولكنها قديمة بالنوع وسلسلة التوالدات، وأكد ذلك بقوله: " ولكن فرق بين حدوث الشئ المعين، وحدوث الحوادث شيئا بعد شئ " أي فالأول هو الحادث بعد أن لم يكن، أما سلسلة الحوادث المتوالدة شيئا بعد شئ - على حد تعبيره - فهي قديمة مستمرة (105).
فابن تيمية الذي يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد يخالفهم فيها، يرى أنه لا يوجد إجماع من السلف وأهل السنة والجماعة على كفر من زعم أن الله وحده ليس خالق كل شئ. ودليله على عدم وجود هذا الإجماع أن القدرية يعتقدون - على حد قول ابن تيمية - أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله...
فلئن كان القدرية أو أي فئة أخرى غيرهم. يعتقدون أن ثمة خالقا سوى الله تعالى أوجد شيئا ما من العدم بقدرة مستقلة غير مستمدة من الله عز وجل، فهو كافر بدون أي خلاف ولا ريب. غير أني - يقول البوطي - ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم إن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم
____________
(104) السلفية، ص 164.
(105) السلفية، ص 166.
وينتهي الدكتور البوطي في نقاشه لابن تيمية إلى أن الشيخ الحنبلي قد دافع عن إحدى أهم أفكار الفلاسفة، وهي القول بقدم النوع الأساسي وحدوث الأعيان الجزئية، فلنا أن نقرر مع ابن تيمية بأن المادة الأولى للمكونات كانت قديمة ولم تستحدث وأنها تشترك مع الله اشتراكا ذاتيا في صفة القدم (107).
وهذه إحدى العقائد الثلاثة التي كفر الغزالي بها الفلاسفة. وهناك نقطة جديرة بالاهتمام وهي تعليق الدكتور على الأدلة التي ساقها الشيخ الحراني من السنة لإثبات ما يذهب إليه. لأنه بذل جهدا شاقا متكلفا لينتقي من الروايات الثلاث الصحيحة التي وردت عن النبي في هذا الموضوع ما هو أقرب إلى التناسب مع رأيه هذا، فيرجحها على الروايتين الآخرتين ويشطب عليهما بالوهب والبطلان (108)، ودون أي مسوغ لهذا الترجيح. فقد ورد في
____________
(106) السلفية، ص 167.
(107) السلفية، ص 168.
(108) الحقيقة أن هذه العملية هي أصل الاختلاف بين ابن تيمية وباقي خصومه، خصوصا من أهل السنة والصوفية. فهو كان ينتصر لجميع آرائه التي اختلف فيها معهم بترجيحه أو فهمه الخاص لحديث ومن ثم يروم تضعيف الأحاديث التي يستند إليها مخالفوه ويعتمدونها فالحديث الصحيح الذي يمكن أن يتخذه القوم عمدتهم في الاستدلال لا يجد الشيخ الحراني حرجا في الطعن فيه سندا أو متنا. بينما يعتمد هو على أحاديث قد لا يعتد بها الجمع الكبير من العلماء ورجال الحديث فهو القائل: " كم من حديث صحيح، ومعناه فيه نزاع كثير " ولكنه كان يفصل في هذا النزاع ويدلي برأيه فيه والويل لمن خالف ما يجئ به الشيخ فإنه لا محالة ضال مبتدع أو كافر منحرف عن ملة الإسلام والسلف الصالح.
لذلك كان الحافظ الذهبي يشكو منه ذلك " إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح والله بها أحاديث الصحيحين ؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك. بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوي ؟ " أنظر تكملة السيف الصقيل للكوثري المعاصر، ص 190 - 192.
ولما كانت الروايتان الأوليتان أصرح في الرد على الفلاسفة الذين أثبتوا حوادث لا أول لها، أي أثبتوا ما يسمونه القدم بالنوع، فقد اختار ابن تيمية أن يشطب عليهما ويرجح عليهما رواية "... ولم يكن قبله شئ " (109).
وقد أشار إلى ذلك ابن حجر في فتح الباري وعلق عليه بأن لا مسوغ للترجيح ما دام " الجمع يقدم على الترجيح " (110).
والنتيجة أن " شيخ الإسلام " تطوح في هذه المسألة وتخبط وتقاذفته أمواج الفلسفة فرمت به بعيدا عن السلف اعتقادا وسلوكا. وإن كان الدكتور البوطي لم يجنح إلى تكفيره صراحة كما صرح الغزالي بكفر الفلاسفة الذين يعتقدون بقدم العالم، فإن شيخ الإسلام قد كفاه تعمد ذلك عندما قال في إحدى رسائله حول معنى الاستواء وبعض آيات الصفات: " ثم يقال لهؤلاء:
إن كنتم تقولون بقدم السماوات والأرض ودوامها، فهذا كفر، وهو قول بقدم العالم (111).
ونرجع مرة أخرى إلى التناقض في كلام الشيخ وكتاباته ليتبين لنا أن الحقيقة السلفية أو مذهب السلف عند الشيخ، كائن برأسين كل منهما ينطق بخلاف الآخر. ونرجو من أتباعه اليوم أن يحيلونا على الصواب في هذا الاختلاف والتباين علنا نستحق أو نظفر بالانتساب إلى مذهب السلف، هذا المذهب الذي لا يحيد عنه إلا زائع مبتدع ضال.
____________
(109) السلفية، ص 170.
(110) فتح الباري، ج 13 ص 318 - 319، أنظر، م س.
(111) السلفية، ص 172.
الإعتقاد بالعلة الأرسطية خلافا لأهل السنة:
أما المسألة الخلافة الثانية التي ذكرها البوطي، فهي اعتقاده. خلافا لأهل السنة من الأشاعرة بالتحديد (112)، بالعلة الأرسطو طاليسية، فهو يحمل على الأشعري ومن تبعه من المالكية والشوافع والحنابلة وغيرهم الذين أنكروا الأسباب وقالوا بأن الله يفعل عند الشئ لا به. فالماء ليس سببا في إنبات الزرع، وإنما هو فعل الله عندما يلتقي الماء بالزرع. وهذه من المسائل التي اختلف فيها علماء الإسلام ومفكروه. وابن تيمية يقف هنا في صف فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن رشد القائلين بوجود أسباب كامنة في الأشياء كقوى أودعها الله فيها. فهي بمثابة الأسباب والعلل لمسبباتها (113).
وإذا كان ابن تيمية قد آمن بالأسباب والعلل وذلك انطلاقا من عداوته لأهل السنة والجماعة كما يدعي الدكتور سامي النشار، فإن الشيخ الحنبلي سيعتبر إنكار هذه الأسباب مخالفة صريحة لما جاء به القرآن " والسنة وإجماع
____________
(112) للمعتزلة والشيعة الإمامية رأي آخر في هذه المسألة. وهو الذي يرجحه ابن تيمية وينتصر له. يقول الإمامية في هذا الباب: " مما يجب الاعتقاد به هو توحيد الله في أفعاله ومعنى التوحيد الأفعالي إن جميع الأفعال صادرة منه تعالى ولا مؤثر في الوجود غيره، بل التأثير بالاستقلال له لا لغيره. إلا أن جعل التأثير لله ليس معناه سلب التأثير عن العلل الأخرى التي جعل الله لها التأثير. أن تأثير العلل الأخرى ليس بالاستقلال بل يستند إلى الله تعالى، وبعبارة علمية أن تأثيرها ليس في عرض تأثير الله بل في طوله.
بمعنى أن الله أجرى النظام على هذه الكيفية، وكما ورد في الحديث عنهم عليهم السلام " أي أئمة أهل البيت ": " أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسبابها ". ولكن هذه الأسباب تستمد سببيتها منه تعالى ولذا ورد: " اللهم يا سبب من لا سبب له يا سبب كل ذي سبب يا سبب الأسباب من غير سبب ". فالأسباب والعلل لها تأثير لا كما يزعم الأشاعرة أنه لا تأثير لها، لأن ذلك خلاف ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تنص على أن لهذه العلل تأثير في معلولاتها، إلا أن تأثيرها ليس من لدن نفسها بل مستمدة من الله ". أنظر توحيد الصدوق وصفات الله عند المسلمين، للشيخ حسين العايش، ص 77.
(113) السلفية، ص 173.
طبعا نحن هنا لا ننتصر لرأي الدكتور البوطي على إطلاقه وإنما أوردنا هذه المسألة الشائكة، والتي أدلى الشيخ الحراني بدلوه فيها، فقط لتأكيد ما ذهبنا إليه من أن الشيخ قد خاض غمار الفلسفة وعلم الكلام وأنه أبحر بعيدا جدا عن شاطئ السلف. على الأقل كما يفهم هو من مصطلح السلف.
وأصحابه اليوم عاجزون تماما عن إيجاد مستند تاريخي يثبت أن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية، قد اشتغلوا بهذه المواضيع الفلسفية والكلامية الدقيقة، فضلا عن الدراسة والتحليل وترجيح الآراء والانتصار لبعضها دون الآخر، كما فعله الشيخ الحنبلي ! والحقيقة أننا لا نعيب عليه ذلك فطلب العلم ونشدان الحقيقة فرض عقلي وشرعي.
وإنما المذموم هو أن نحرم على الناس ما أبحناه لأنفسنا. وأن نمنعهم من تذوق لذة المعرفة والبحث، كما أن احتكار الحقيقة فيه من الغرور والتطاول على الحقيقة ما فيه. ولا شك أن التعدد في الآراء والاستنتاجات يغذي ميدان المعرفة وينعشه، وإنما الحكمة ضالة المؤمن. ولا يمكن لأحد أن يصد باب المعرفة والبحث بحجة أن بعضا من الصحابة لم يفعلوا ذلك أو أن النتائج التي نتوصل إليها لم يعرفها هؤلاء أو غيرهم من السلف.
لقد أجمع الباحثون على أن " شيخ الإسلام " قد توصل في معالجته لكثير من قضايا العقائد إلى ما لم يرد عن السلف. أو عرف عنهم، وكتب التاريخ
____________
(114) الرد على المناطقة لابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 9 ص 287، أنظر، المرجع السابق ص 174.
(115) السلفية، ص 175.
" العجب ممن ينتمي إلى أهل السنة ويتعرض للاقتداء بالسلف الصالح منهم ويعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة كيف يخالف قوله قولهم وينتهي إلى ما لم يرد عن السادة المقتدى بهم، من الخوض في كيفية الكلام فيزيد فيه - بحرف وصوت - ولم يرد ذلك في كتاب ولا سنة، ويستدل على إثبات المقطوع به بالمظنون من الأحاديث المتضادة المتون " (116).
أما إذا رجعنا إلى القضايا الأخرى التي اختلف حولها الشيخ الحراني مع خصومه من أهل السنة والصوفية، مثل تحريمه شد الرحال لزيارة قبر الرسول أو التوسل بذاته (ص)، أو مفهومه الخاص بالشرك والتوحيد، ودعاء الأنبياء والصالحين وزيارة قبورهم والاعتكاف عندها للعبادة وغير ذلك من القضايا.
فإن الباحثين يقولون بأن أحدا قبل الشيخ لم يوليها الاهتمام الذي أولاه لها الشيخ، وقد درج السلف والخلف قبل ابن تيمية على شد الرحال لزيارة قبر الرسول وقبور الأولياء والصالحين، والتوسل بذاته (ص) وبناء الأضرحة على قبور الصالحين والعبادة عندها، كما أنهم فهموا قضايا التوحيد والشرك بخلاف ما ذهب إليه الشيخ. وتراث الصحابة والتابعين والأئمة كان وما زال معتمد الجمهور فيما يعتقدونه ويسلكونه، طيلة سبعة قرون خلت. إلى أن بزغ نجم الشيخ الحنبلي فخالفهم وأنكر سلفيتهم.
وإنما مبلغ علم الشيخ أنه انتقى لنفسه أحاديث وروايات، ورجحها على كثير غيرها، وأضاف إليها فهمه الخاص، معضدا بأقوال منقولة عن بعض الأئمة والفقهاء، حيث شكى الكثير من الباحثين قديما وحديثا عدم أمانة الشيخ في نقله كلامهم. بل صرح بعضهم بكذب الشيخ وافترائه، مثل الشيخ
____________
(116) الأسماء والصفات للبيهقي، تعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري، ص 202.