وروي أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) أنه قال: من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.
وأما فعله، فقد روي عن طلحة بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله يريد قبور الشهداء إلى أن قال: فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا (81).
أما الإجماع فإطباق السلف والخلف، لأن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (ص)، وأن منهم من يفعل ذلك قبل الحج، قال السبكي: هكذا شاهدناه، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة، وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين إن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مر السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل، ومن تأخر فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير من تأسفه عليه، وود لو تيسر له، ومن ادعى إن هذا الجمع العظيم مجمع على الخطأ فهو المخطئ (82).
وأقوال علماء أهل السنة في استحباب الزيارة لقبر الرسول كثيرة جدا وقد تتبع بعضها المحقق الأميني وجمعها في موسوعته القيمة منها:
قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الفقيه البغدادي الحنبلي المتوفى (سنة 510 ه) في مناسكه: إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه الشروع، لم يبق بعد ذلك إلا إتيان مسجد رسول الله للسلام على النبي والدعاء عنده، والسلام على صاحبيه، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين.
____________
(81) أخرجه أبو داود في سننه، ج 1، ص 311.
(82) بحوث في الملل والنحل، م س، ص 142 - 143.
وقال القاضي شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفى (سنة 1062 ه) في شرح الشفا (3 / 566) واعلم أن هذا الحديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد " هو الذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفا مستقلا وهي منعه من زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه، وهو كما قيل:
فتوهم أن حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها.
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل (ص 156):
ولم يخف ابن تيمية من الله في رواية عد السفر لزيارة النبي (ص) سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي - وحاشاه عن ذلك - راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى والتوسل به، كما هو مذهب الحنابلة، ثم ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبي (ص) وكيفية زيارته (83).
إلى ذلك من الأقوال والأدلة التي تنقض ما يذهب إليه السلفيون الآن، ويلبسون به على غالبية أبناء الصحوة الذين لا يعرفون عن تراث أهل السنة والإمامية شيئا يذكر في هذه المباحث والقضايا، فيتصورون إن الحق هو ما يكتبه دعاة السلف، خصوصا وكتبهم تمتلئ بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات السلفية الموهومة واتفاق أهل العلم الذين لا يعرف من هم
____________
(83) الغدير، ج 5، ص 109 - 125، وقد نقل أربعين كلمة عن أعلام المذاهب الأربعة. وما نقلناه نحن فعن السبحاني، المرجع السابق، ج 4، ص 145 - 148.
إن الخلاف حول هذه الأمور العقائدية متشعب ومتفرع، فليس ما ذكرناه هو كل ما اختلف حوله. بل هناك قضايا أخرى متفرعة عما ذكرناه لا يسعنا أن نأتي بها هنا لأنها قتلت بحتا وتمحيصا، وألف فيها الكثير من الكتب، ذكرنا مجملها عند حديثنا عن الردود الفكرية على الوهابية في الفصل الرابع، فمن أراد أن يتوسع في هذه المباحث فليراجع أحد تلك المصادر كي يشفي غليله.
وما ذكرناه كان الغرض من ورائه تقديم بعض الأمثلة حول هذه القضايا المختلف حولها وأن لأهل السنة أدلة قوية وراجحة في كل ما يعتقدونه أو يفعلونه في هذه المباحث بالذات، لا يقوم ولا يثبت الاختيار " السلفي " أمامها، بل ينهدم بنيانه وينقض صرحه. ونحن نجزم بأن غالبية أبناء الصحوة الإسلامية اليوم إذا ما تقبلوا عقائد السلفيين فإنما خوفا من الشرك وهروبا من مظاهره التي يرون غالبية العوام من أهل السنة متلبسين بها. بالإضافة إلى قلة الاطلاع والمعرفة الحقيقية بهذه المواضيع.
من هذه القضايا، البناء على القبور، والنذر لأصحابها، والعبادة عند القبور والأضرحة، والقسم بغير الله. وغير ذلك من المسائل العقائدية التي وضعها السلفيون في خانة الشرك. وقد فصل أهل السنة القول فيها وانتصروا بحجج
____________
(84) يقول سليمان أخو محمد بن عبد الوهاب زعيم السلفية: " ابتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه. وإذا طلبت منه أن تعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ومن خالفه فهو عنده كافر. هذا وهو - يقصد أخوه محمد - لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال الاجتهاد، لا والله عشر واحدة ومع ذلك راج كلامه على كثير من الجهال " أنظر صفحات من تاريخ الجزيرة العربية الحديث. ص 156.
بالإضافة إلى قضايا أخرى اعتبرها السلفيون بدع محدثة لم تكن على عهد السلف الصالح. مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. بل إن هؤلاء قد توسعوا في مفهوم البدعة ليشمل الكثير من المستجدات في المأكل والمشرب وسائر الوسائل المادية المستخدمة في الحياة العامة. ولم يفرقوا بين الابتداع المحرم في الدين والمنهي عنه، والذي يجعل الفعل أو العمل مطلوبا بل واجبا دينيا، وبين الفعل المباح سواء أكان له أصل في الشريعة أم لا. فكثير من الأعمال والأفعال التي يصفها الوهابيون بالبدعة، لها أصل في الشريعة، وهي إما مندوبة أو مباحة. وكما قلنا سابقا فهذه المباحث قد قيل فيها الكثير فلا داعي للإطالة بذكرها أو إعادة بحثها (85).
____________
(85) نحيل القارئ إلى بعض الكتب المهمة والجامعة التي تنتصر لعقائد أهل السنة والإمامية في هذه المباحث. مثل: وفاء الوفاء في أخبار دار المصطفى للسمهودي، وشفاء السقام في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي. وتكملة السيف الصقيل للمحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري. والتبرك لعلي الأحمدي.
اللامذهبية
السلفية والنهي عن تقليد المذاهب الفقهية:
ليست اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية كما يقول الدكتور البوطي فحسب، ولكنها تهدد وحدة المجتمعات الإسلامية وتماسك الفئات الفكرية والدينية فيها، وترسم للصحوة الإسلامية صورة مظلمة مخيبة للآمال وباعثة على اليأس لأي تغيير مهم يمكن أن يعرفه الوطن الإسلامي. كيف ذلك ؟ !.
لا بد وقبل الدخول في مناقشة هذه القضية، أو عرض آراء علماء أهل السنة والإمامية فيها. من تحرير محل النزاع كما يقول الفقهاء. ومحل النزاع هذا يبدأ بالفتوى أو التقرير الذي يروج له دعاة السلفية بين أبناء الصحوة ومضمون ذلك.
قولهم " لا يجوز للمسلم التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة من فعل هذا فقد كفر، وضل عن صراط الإسلام. وإن عليه يأخذ من الكتاب والسنة مباشرة " (86).
ويضيفون: " إن المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، فهي ضلالة بدون شك " (87). كما أن اتباع الكتاب والسنة هو اتباع لمعصوم. أما تقليد المذاهب واتباعها فهو اتباع غير المعصوم.
وبناء على ذلك فقد ذهب محمد سلطان الخجندي المدرس السلفي
____________
(86) اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص 26.
(87) المرجع السابق، ص 32.
المذاهب الفقهية صنعتها السياسة:
لقد اتضحت صورة الخلاف أمام القارئ، فالسلفيون يرفضون المذاهب الفقهية الثلاثة ولا نقول الأربعة لأنهم يناصرون جل ما يذهب إليه المذهب الحنبلي في الفروع مع إضافات قليلة، زادها ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية. مع العلم أنهم لا يأخذون بما قاله ابن تيمية بخصوص فتوى الطلاق الثلاث. لأنه خالف السلف - أي عمر بن الخطاب - فيها. كما يرفضون المذهب الفقهي الإمامي جملة وتفصيلا. والسبب في هذا الرفض ليس فقط لأن هذه المذاهب قد أنشأتها السياسة، لأنه ما من مذهب من هذه المذاهب المعروفة إلا وللسياسة فيه اليد الطولى.
فمذهب " الحشوية " آباء السلفية المعاصرين لم يكن لينهض على رجليه ويقف يصارع خصومه وينتصر عليهم، لولا دعم الخليفة المتوكل لأصحابه والانتصار لهم وقتل خصومهم. وهذا مسطر في كتب التاريخ، ولا يحتاج إلى دليل. أما المذهب السلفي المعاصر فإنه نشأ وترعرع في أحضان الدولة السعودية، ولولا كونه أحد دعائم الحكم في هذه المملكة اليوم لما استطاع أن
____________
(88) المرجع السابق، ص 28.
(89) المرجع السابق، ص 33 نقلا عن كراس وزعه السلفيون، كتبه السلفي المذكور قبل قليل.
وإذن ففكرة رفض هذه المذاهب لكونها من صنع السياسة منتقض على نفسه لأن المذهب السلفي أشد التصاقا بالمصالح السياسية للدولة السعودية.
المذاهب الفقهية بدعة:
أما كون هذه المذاهب حدثت بعد القرون الثلاثة وهي بذلك مبتدعة، فهذا لا يصح، ويعبر عن جهل بالتاريخ الإسلامي. يقول الدكتور إبراهيم حسن: "... إن العصر العباسي الأول كان عصر أئمة مذاهب السنة الأربعة وهي مذهب أبي حنيفة. ومذهب مالك. ومذهب الشافعي، ومذهب ابن حنبل. وقد ظهر في العصر العباسي الثاني بعض أعلام الفقهاء الذين كونوا لهم مذاهب في الفقه، ولكن لم يقدر لها الاستقرار والذيوع أمام المذاهب الأربعة (90).
ويكفي أن نعرف أن الإمام أحمد بن حنبل وهو آخر الأئمة الأربعة توفي (سنة 241 ه) أي قبل أن ينتصف القرن الثالث. أما مالك فتوفي (سنة 179 ه). إذن فقد عاش هؤلاء الأئمة ضمن القرون الثالث التي وصفها الحديث المعتمد لدى السلفية، بالخيرية. وقد انتشرت خلال هذه القرون وعرفت لها أتباعا ومقلدين. ويكفي أن يعلم أن قاضي القضاة في عهد هارون الرشيد كان أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وناشر مذهبه. ولن نستمر في صرد المعلومات التاريخية التي قد يعرفها طالب المرحلة الثانوية إن لم نقل قبل، فما بال علماء السلفية يجهلون أو يتجاهلون هذه الحقائق (91).
____________
(90) تاريخ الإسلام، دار إحياء التراث العربي، ج 3 ص 347.
(91) إن قولهم في المذاهب الفقهية بأنها بدعة ظهرت بعد القرون الثلاثة الأولى ينطبق فعلا على المذهب الحنبلي الذي يصدرون عنه فقد " نقل عن الإمام الغزالي إن الاعتراف بفقه الحنابلة كان حوالي سنة (500 ه) "، أنظر بحوث مع أهل السنة والسلفية، ص 201.
على العوام أن يستنبطوا الأحكام الفقهية:
ولنعود إلى صلب الموضوع، وهو أن دعاة السلفية يرفضون تقليد المذاهب الأربعة ويأمرون الناس جميع الناس بأن يأخذوا أحكامهم مباشرة من الكتاب والسنة، ويقولون إن ذلك أمر يسير سهل لا يحتاج أكثر من الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود وجامع الترمذي والنسائي، وهذه الكتب مشهورة يمكن تحصيلها في أقرب وقت، فعليك بمعرفة ذلك، يقول الخجندي السلفي: وإذا لم تعرف أنت ذلك وسبقك إليه بعض إخوانك وفهمك باللسان الذي أنت تعرفه، لم يبق لك بعد هذه عذر.. أما إذا تعددت الرواية عن رسول الله (ص) في بعض الأمور ولم تعلم المتقدم والمتأخر ولم يتبين التاريخ، فعليك أن تأتي بكلها، تارة بذا، وتارة بذلك (92).
وعليه فإن العامة بعد ما يرفضون تقليد المذاهب الأربعة لأنها بدعة وضلال وكفر، عليهم أن يشتروا موسوعات الحديث ويعتكفوا على استنباط الأحكام منها مباشرة، في الصلاة والزكاة وسائر المعاملات. وإذا ما وجدوا تعددا في الروايات فعليهم أن يأخذوا بها كلها، " تارة بذا، وتارة بذلك " كيف يكون ذلك ؟ ! وهل يمكن أن يقوم العامة بهذا العمل ؟ !.
قد يقول هذا السلفي إن المقصود ليس العامة لأن غالبيتهم جهال أميون.
وإذن يقصد طلبة العلم ؟ أي علم ؟ هل طلبة العلم الشرعي ؟ أم كل من يقرأ ويستطيع أن يفهم الأحاديث والروايات ؟ !.
إن هذا الكلام متهافت، ومن الصعوبة على العاقل أن يناقش الحمق أو يجادل من لا يفقهون حديثا. وقد فهم أبناء الصحوة الإسلامية من هذا الكلام أن يرفضوا كل ما هم عليه من تقليد المذاهب الفقهية، وراح أغلبهم يقرأ ويفتش في صحيح البخاري ومسلم عن الأحاديث ليعمل بمضمونها، خصوصا في الصلاة وبعض القضايا المتفرقة.
____________
(92) اللامذهبية، م س، ص 15، نقلا عن الخجندي.
وهكذا لن تجد داخل الجماعة الواحدة من يتفق مع " أخيه في الله " في قضية أو مسألة فقهية أو أصولية. وقد تعدى الأمر إلى تفسير القرآن وشرح آياته.
وإذا كان كل واحد غير مستعد للتنازل عن رأيه أو فكرته ونقله. فإن النتيجة الواقعية والمشاهدة هي انتشار الاختلافات الفقهية والأصولية على نطاق واسع جدا. يستحيل معه بعد ذلك جمع هذه الآراء أو الاجتهادات المتناقضة ضمن إطار واحد أو أطر متعددة لكن واضحة المعالم. فلقد أصبح كل طفل أو مراهق أو شيخ طاعن في السن مجتهدا في الدين الإسلامي برمته. يقرأ كتب الحديث ويطالع التفاسير ويأخذ منها ما شاء له أن يأخذ، ويترك ما شاء له أن يترك، دون قيد أو شرط أو حتى حسيب أو مرجع يمكن أن يعرض عليه اجتهاده لتصويبه أو تقييمه. ويزداد الطين بلة عندما نعرف أن أغلب من يقوموا بهذا العمل - أي الاجتهاد على الطريقة السلفية - لا يحسنون تلفظ جملة بالعربية دون خطأ، فحضهم من قواعد العربية هزيل جدا، أما اطلاعهم على لغة العرب وأساليبها ومعاني مفرداتها، فأهزل وأضعف.
لكنهم يستطيعون القراءة وقد يفهمون مجمل الكلام الوارد في الآية أو الحديث. ومع ذلك فقد تحول الواحد منهم بين عشية وضحاها إلى مجتهد كامل الاجتهاد بل مفتيا، يفتي في الأموال والأعراض والأرواح بجرأة وحرية لم يشتهر بها الأئمة الأربعة الذين قال أحدهم " لا أدري نصف العلم ".
وكانوا يتهربون من الفتوى هروبهم من الأسد كما قيل. وكانوا إذا ما سئلوا
لكن الأدهى والأمر، ليس قيام بعض الطلبة وأنصاف المتعلمين بالاجتهاد والإفتاء فقط. ولكن دخول العوام من الفعلة والحرفيين والتجار في هذا الباب.
فما دام قد أصبحوا سلفيين: أطلقوا لحاهم وقصروا ثيابهم وكحلوا عيونهم، فإن شروط الاجتهاد قد كملت فيهم. وليس أصعب على العالم من نقاش هذه الطبقة الجديدة من المجتهدين. يقول الدكتور البوطي:
إن هؤلاء الذي نحب أن نرشدهم إلى الجادة والسبيل القويم، ليس فيهم من يقبل تقليد أي إمام من الأئمة الأربعة وأنما الكل يزعم الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة، وطالما رأينا أشباه الأميين من هؤلاء الناس وأن أحدهم لا يقبل على أي حال فتوى إمام من الأئمة الأربعة حتى نكشف له عن دليل هذا الإمام والحديث الذي اعتمده، ثم نشرح له بعد ذلك قوة الدليل وصحته وسند الحديث ومستوى رجاله، كأنه خبير حقا بعلم السند والأدلة والرجال، فإما صحح مذهب هذا الإمام بعد ذلك أو شطب عليه بالتخطئة والتسفيه ! (93).
مذاهب فقهية بالآلاف:
وعليه فإننا اليوم أمام مذاهب فقهية تعد بالآلاف، فكل سلفي، عالم بالشريعة أو أمي هو مشروع مذهب فقهي وأصولي متكامل. وليس ذلك مبالغة منا لأن الواقع يشهد بصحة ما نقول وزيادة.
وهناك ملاحظة أود أن أشير إليها وهي أن الصحوة الإسلامية قبل أن
____________
(93) اللامذهبية، أنظر الهامش، ص 15.
لكن الانتكاسة التي عرفها هذا الفكر المتنور والضربة المؤلمة التي وجهها له غزو الفكر السلفي للساحة الإسلامية، قد حولت اتجاه أبناء الصحوة، فبدل الالتحاق بالمعاهد والكليات العلمية، ثم التوجه والانكباب على كليات الدراسات الإسلامية خاصة. بل أصبح متعارفا لدى أبناء السلفية الابتعاد عن دراسة العلوم العصرية واللغات الأجنبية لأن ذلك لا يقرب إلى الله (94).
ونحن عندما نشير إلى هذه الحقائق بالذات، فإنما للإشارة إلى أن الكثير من أبناء الصحوة الإسلامية الذين تأثروا بالفكر السلفي وكانوا يتابعون دراساتهم في المدارس أو الجامعات وينتسبون للمعاهد والكليات العلمية. فحضهم من علوم العربية بسيط، ومعرفتهم بالشريعة وتاريخ الإسلام هزيلة. لكنهم وبفضل الفكر السلفي أصبحوا مجتهدين، يتصفح الواحد منهم كتب الحديث ويأخذ منها ما يشاء من أفكار وأحكام، ثم يبدأ في الدعوة والتبليغ وممارسة ما قرأه وما اعتقده. وهذه الفئة صعبة المراس في النقاش، وغير مستعدة للتنازل عما تؤمن به. أما إذا ذكرت لهم سند الحديث وفقه متنه، أو أن اختيار العلماء
____________
(94) يقول صاحب كتاب العقيدة الوسطية، وهو سلفي معاصر معلقا على قول عمر بن الخطاب " ما تعلم رجل الفارسية إلا وخب، وما خب رجل إلا ونقضت مروءته "، يقول هذا السلفي: " بلغ يا أخي هذا الكلام للذين يتعلمون اللغة الإنجليزية ؟ !.
إن رفض السلفية لتقليد المذاهب الفقهية، وإعلانهم فتح باب الاجتهاد لكل قارئ غير مختص يمكنه أن يطلع على كتب الحديث والتفسير، تجعل من هذا القارئ مجتهدا. صاحب رأي وفكرة لا يمكنه أن يتنازل عنها بسهولة، خصوصا إذا علمنا أن غالبية أبناء الصحوة في سن الشباب، حيث تكثر الأمراض الثقافية، والتسابق على الريادة المعرفية، فالشاب منهم غير مستعد للتنازل عن فكرته أو رأيه ليعتنق فكرة صديقه الذي لا يكبره سنا، بل قد يكون أصغر منه ؟. وهكذا تضيع الحقيقة، وتنتشر الخلافات والجدالات كقطع الليل المظلم، تلف الساحة الإسلامية مجتمعا ودينا.
فتح باب الاجتهاد:
إن الشبهة التي قد تكون معتمد السلفية، والحجة البالغة التي تستند إليها دعوتهم " اللامذهبية " هي في إعلان فتح باب الاجتهاد الذي أغلقته السياسة، وهذا المشروع كان قد أعلنه كثير من علماء أهل السنة ومثقفيهم، وما زالت الدعوة طرية، تدور حولها النقاشات وتعقد لها المؤتمرات، والكل متفق على أن فتح باب الاجتهاد شرط ضروري لتحقيق الإقلاع الحضاري العام للأمة الإسلامية، أضف إلى ذلك ضرورة الاجتهاد في الدين والحياة.
وبالفعل فقد أثمرت هذه الدعوات، الكثير من النتائج وعلى جميع الأصعدة. وإن لم تكن كافية، لكن التجربة قد انطلقت منذ مدة ليست قصيرة، والزمن كفيل بتحويل كمها إلى كيف جديد وواعد.
كما أن دعوات التعصب للمذاهب الفقهية، والالتزام الحرفي بكل ما جاءت به أو احتضنته كتب أصحابها، لم تعد تجد آذانا صاغية. فقد أجمع أئمة هذه المذاهب على أنه " إذا صح الحديث فهو مذهبي ". وعليه فتشبث أي
وهذه الفئة المتعصبة في تقليد المذاهب ليست ذات شأن اليوم، وسيجرف التغيير والتطور بقاياها الأخيرة. لأن الاجتهاد أصبح ضرورة للإحياء الديني والحضاري العام.
طبعا وجد من يتعصب لهذه المذاهب، بل يدعي كفر من لم يقلدها، أو خرج عنها، بحجة كذا أو كذا. لكن زلزال الاجتهادات سيحطم كل تلك البناءات الزائفة. والمهم أن علماء أهل السنة مقتنعون بالجملة على فتح باب الاجتهاد وممارسته. للإجابة أولا على كل المستجدات، وبيان رأي الإسلام فيها. ثم لترتيب وضع المذاهب من الداخل، فما هو مخالف للحق والواقع يتجاوز أو يشطب عليه. أما غير ذلك فيستفاد منه كثروة اجتهادية فقهية وقانونية لا تمتلكها أمة أخرى غير أمة الإسلام.
ونحن عندما نقول فتح باب الاجتهاد، نخص أهل السنة بالذكر، لأن باب الاجتهاد لم يغلق عند الشيعة الإمامية في يوم من الأيام، ولا يزال مفتوحا.
والفقه الشيعي الإمامي مشهود له في الأوساط العلمية والأكاديمية بمواكبة المستجدات العامة على الساحة الإسلامية.
وإذا كان أهل السنة يدعون لفتح باب الاجتهاد ويمارسونه، فأين يكمن المشكل مع السلفية الذين يدعون بدورهم إلى الاجتهاد، والذي سيؤدي بالضرورة إلى رفض الكثير من فتاوى وآراء المذاهب الفقهية القديمة. إن الخلاف بينهما في شروط الاجتهاد ومواصفات المجتهد.
فالذين ناصروا في الماضي فكرة إغلاق باب الاجتهاد، تحججوا بقلة العلماء وسيطرة أنصاف المتعلمين على الواقع الديني آنذاك. ولو سمح لمثل هؤلاء بالاجتهاد لانهدمت أركان الدين، ونسفت أصول الشريعة، لذلك كان
وأهل السنة اليوم ينادون بفتح باب الاجتهاد، لا يقصدون أن يكون ذلك في متناول أطفال المدارس وشباب الصحوة الإسلامية. من المراهقين وأنصاف المتعلمين. وإنما يؤمنون بأكثر الشروط التي وضعها القدماء للاجتهاد.
بخلاف السلفية الذين عامة الناس للاجتهاد وتحصيل الأحكام الدينية من مصادرها الأصلية (الكتاب والسنة).
شروط الاجتهاد:
يقول محمد نوري " إن الاجتهاد أمر مشروع بإجماع من يعتد بأقوالهم من علماء المسلمين، وثبت بالسنة المطهرة، ولكن لأهله.. " (95).
قال الأسنوي: شرط الاجتهاد كون المكلف متمكنا من استنباط الأحكام الشرعية. ولا يحصل هذا التمكن إلا بمعرفة أمور:
(أحدها) كتاب الله تعالى، ولا يشترط معرفة جميعه، كما جزم به الإمام الرازي وغيره، بل يشترط أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام، وهو خمسمائة آية كما قاله الإمام. قال: ولا يشترط حفظه عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عارفا بموقعه حتى يرجع إليه في وقت الحاجة.
(الثاني) سنة رسول الله (ص)، ولا يشترط أيضا فيها الحفظ ولا معرفة الجميع.
(الثالث) الإجماع فينبغي أن يعرف المسائل المجمع عليها حتى لا يفتي خلاف الإجماع.
(الرابع) القياس. فلا بد أن يعرفه ويعرف شرائطه المعتبرة، لأنه قاعدة الاجتهاد، والموصل إلى تفاصيل الأحكام التي لا حصر لها.
____________
(95) ردود على شبهات السلفية، ص 343.
(السادس) علم العربية من اللغة والنحو والتصريف، لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة، فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب إفرادا وتركيبا، ومن هذه الجهة يعرف العموم والخصوص، والحقيقية والمجاز (96)، والإطلاق والتقييد، وغيره.
(السابع) معرفة الناسخ والمنسوخ، لئلا يحكم بالمنسوخ المتروك.
(الثامن) معرفة حال الرواة، إلا أن أحوالهم في زماننا تعرف من الكتب المؤلفة في ذلك.. " (97).
هذه هي شروط الاجتهاد عند أهل السنة والتي لا يعرف عنها مجتهدوا السلفية من العوام وأنصاف المتعلمين شيئا. وهي شروط علمية لا بد من تحصيلها ليتمكن المجتهد من استنباط الأحكام والقول في دين الله بعلم وهدى.
أما الشيعة الإمامية فيرون أنه يجب على أن يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته ولو في المستحبات والمباحات أن يكون إما مقلدا أو محتاطا بشرط أن يعرف موارد
____________
(96) يقول محمد نوري الديرثوي: " بلغنا أن عبد العزيز بن باز الضرير، رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، كان يدرس في الحرم النبوي على ساكنه الصلاة والسلام، وتطرق يوما لموضوع الحقيقة والمجاز، وادعى استحالة وقوع المجاز في الكتاب والسنة، بحجة أنه لا يقصد منه معناه الحقيقي، فهو إذن كذب، والكذب محال الوقوع في الكتاب والسنة، فقام أحد المسلمين السوريين الموجودين هناك وقال: ما رأي الأستاذ في قوله تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو من الآخرة أعمى وأضل سبيلا) *، يعني أنه إذا فسرنا الأعمى بفاقد البصر على الحقيقة، ولم نقل: أن المراد به من كان قلبه أعمى عن إدراك الحق، على المعنى المجازي فماذا يكون مصيرك يوم القيامة وأنت فاقد البصر في الدنيا ؟ قال: فبهت وسكت " أنظر المرجع السابق، ص 347، الهامش.
(97) المرجع السابق، ص 346 - 347. عن نهاية السؤل، للأسنوي: 3 / 200 - 201.
ويقول الشيخ السبحاني: " للاجتهاد مؤهلات وشرائط محررة في محلها، أعظمها وجود ملكة قدسية يقتدر معها الإنسان على استخراج الفروع عن الأصول، وأما الإفتاء بالحكم على ضوء النص الصريح الوارد فيه فليس إلا مرتبة ضعيفة من الاجتهاد. والاجتهاد المطلق يستدعي ذهنا وقادا مشققا للفروع ومستخرجا إياها من الأصول إلى غير ذلك مما يقوم به أئمة الفقه " (99).
وبما أن باب الاجتهاد لم يقفل عند الإمامية، فإن عامة الشيعة ومتعلميهم وطلبة العلوم الشرعية يقلدون الفقهاء المجتهدين. فكل فقيه وصل درجة الاجتهاد بعد تحصيل شروطه، يحق له أن يكتب فتاويه ويصدرها على شكل مسائل مرتبة ومبوبة تشمل جميع القضايا الدينية والحياتية، من الوضوء والطهارات، إلى أدق المسائل والمشكلات التي تواجه المسلم الشيعي في حياته اليومية.
لذلك من النادر جدا أن يخلو البيت الشيعي من هذه الكتب الخاصة بالمسائل والفتاوي. وعليه فالخلافات والاختلافات في الفروع الفقهية تكاد تنعدم في المجتمع الشيعي الإمامي، لأن غالبية الناس تقلد الفقهاء المجتهدين، وهم بكثرة في الحوزات (المدارس) العلمية. ولن تجد قارئا أو مفكرا أو عالما مهما بلغ علمه وثقافته يفتي الناس في الأمور الفقهية إن لم يكن فقيها مجتهدا مشهودا له بالفقاهة والعلم. فتجد الرجل منهم متبحرا في علوم العربية وله ثقافة إسلامية واسعة، لكنه يقلد أحد المراجع - الفقهاء المجتهدون
____________
(98) تحرير الوسيلة، آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني، ج 1، فروع التقليد، ص 5.
(99) السبحاني، م س، ج 1 ص 313.
هناك بالطبع اختلافات بين المقلدين الذين تتقاسمهم مرجعيات متعددة، لكن المجتمع الإمامي يعيش انسجاما على مستوى التعبد والالتزام بالواجبات الإسلامية. كما كان عليه أهل السنة سابقا، هذا الفريق يقلد الإمام مالك، وهذا الفريق يقلد الشافعي، وآخر يقلد مجتهدا ثالثا.
هناك مذاهب اجتهادية محددة وواضحة المعالم، يقف وراءها فقهاء ومجتهدون حرفتهم الفقه، وشغلهم الاجتهاد والاستنباط، ودراسة العلوم الإسلامية للتبحر فيها واستيعاب قضاياها.
فالإمامي إما أن يكون مقلدا مهما كانت درجة أعلميته وثقافته. وإما مجتهدا يستطيع استنباط الأحكام لنفسه أو لغيره من المقلدين. أما ما هو موجود الآن في مساجد ومنتديات غير الشيعة، من الاختلافات الكثيرة حول الوضوء والصلاة واللباس والأكل وغير ذلك. فلا وجود له بتاتا لدى الإمامية.
إن الدعوة إلى نبذ التقليد، ومطالبة الناس بأخذ الأحكام الدينية مباشرة من الكتاب والسنة، دعوة فيها الكثير من المغالطات، لكن يراد بها أن تحقق بعض الأهداف، وهي فعلا سائرة نحو تحقيق ذلك.
وهي بدعة منكرة لم يعرفها السلف الصالح الذين وضعوا أسس الاجتهاد والتقليد. ولم يسمع من أحدهم أنه طلب من كافة الناس أن يقرأوا الأحاديث والتفاسير، وأن يعملوا بما يصلون إليه. ولكن علم أن الجاهل منهم كان يرجع للعالم، كانت الناس ترجع للصحابة بعد رسول الله (ص) يسألونهم الحكم ورأي الإسلام في كل قضية، وكذا من التابعين، وليس التقليد سوى ذلك، رجوع الجاهل للعالم، ولما ظهر الأئمة والفقهاء المختصون قعدوا القواعد، و أصبح الاجتهاد علما دقيقا ومتفرعا، غير متيسر لأي كان أن يبلغ درجته.
وهذه معلومات تاريخية تملأ بطون الكتب ولا يمكن التنكر لها.
ويكفي أن نذكر السلفية بما قاله زعيمهم وإمام مذهبهم أحمد بن حنبل
قال: لا، قيل له: مائتا ألف ؟ قال: لا، قيل: ثلاثمائة ألف ؟ قال لا، قيل:
أربعمائة ألف ؟ قال: لا، قيل: خمسمائة ألف ؟ قال: أرجو " (100).
فهذا إمام السلفية يرجو لمن كتب نصف مليون حديث أن يتمكن من الإفتاء. ودعاة السلفية يطلبون من العامة وأنصاف المتعلمين ممن لم يقرأ في حياته أربعين حديثا نبويا، أن يجتهد ويأخذ الأحكام بنفسه من المصادر.
إن سيرة ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وما كتباه بخصوص التقليد والاجتهاد، لا يمكن أن يستدل بهما على ما تدعو السلفية إليه اليوم. لأن ابن تيمية إذا كان قد رفض تقليد الأئمة الأربعة فلأنه رأى في نفسه القدرة على الاجتهاد، وقد كان واسع الاطلاع على كتب الحديث والفقه، مشتغلا بتحصيل هذين العلمين وغيرهما. ومهما قيل عن اجتهاداته فإنه لم يكن عاميا وكذا تلميذه، وهما معا متفقان على أن الجاهل يرجع للعالم، وأن العامي لا بد له من الرجوع إلى الفقيه العالم إذا أراد معرفة مسألة معينة، لأنه قاصر على الوصول إليها وحده !.
إن النقاش في هذه القضية مستفيض وشائك، لكن يمكن اختصاره في جملة واحدة وهي قوله تعالى * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
وأبناء الصحوة الإسلامية إذا لم يكن الواحد منهم مختصا، فقيها مجتهدا، فهو لا يعلم، وعليه الرجوع إلى أهل الذكر. إلى العلماء والفقهاء. ولا يكفي فهمه للحديث إن كان قارئا، فقد يكون الحديث ضعيفا. قد يكون هناك حديث أو أحاديث أخرى في نفس القضية تنسخ هذا الحديث وتلغي مضمونه، وقد يحتاج الحديث إلى معرفة سبب وروده لكي يعرف مضمونه
____________
(100) طبقات الحنابلة، م ص 100 - 101.
والذي يطلع على واقع الصحوة الإسلامية في هذا الميدان بالذات، لا يسعه إلا أن يدعو لتقليد المذاهب، بل يتعصب في الدعوة لها. وذلك لأن الخرق قد اتسع على الراقع في أمور جزئية كان قد انتهى منها. فكما قال ذلك الفقيه المالكي إن القبض في الصلاة ووضع اليد على الأخرى له سبعة عشر صورة فأيهم نأخذ بها ؟ ! وعندما تدخل مسجدا من المساجد تكاد لا تجد شخصا يتفق مع غيره في وضع اليد، التي تبدأ أوضاعها من تحت الصرة وإلى العنق ؟ !.
أما فهم أحكام الإسلام ومقاصد الشريعة فإن المراهقين يتصدرون المجالس لبيان حكم الإسلام في أدق القضايا المرتبطة بمصير الأمة الإسلامية، وفي جرأة لم يعرف التاريخ لها مثيل، يفصلون ويحكمون، دون الرجوع إلى مصدر عليم.
وتحضرني قصة رواها لي أحد الأصدقاء عن داعية سلفي شاب، استطاع أن يقنع فرنسيا بالإسلام وفعلا اطلع هذا الفرنسي على بعض الكتب وانشرح صدره لاعتناق الإسلام. وبعد أيام من اعتناق هذا الرجل للإسلام، جاءه هذا السلفي وأخبره - وقد كان الفرنسي يعمل مصورا ويعشق مهنته - بأن عليه أن يترك مهنة التصوير، لأن هذه المهنة محرمة في الإسلام. ناقش الفرنسي هذا الداعية السلفي في حكم الإسلام، وهل حقيقة أن يحرم ولا يجوز الاشتغال بمهنة التصوير الفوتغرافي، فكان رد السلفي حاسما قاطعا، إن دخولك في الإسلام يعني إلغاء مهنتك. فما كان من الفرنسي إلا أن تراجع عن اعتناقه للإسلام لأنه يحب مهنته ولا يرى أي تعارض بينها وبين الإيمان بالله أو اعتناق الإسلام.
إن فقه السنة ومعرفة مقاصد الشريعة، والاطلاع على تاريخ التشريع.
وقد سئل أمير أهل الذكر على بن أبي طالب يوما عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود " فقال عليه السلام: إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدين قل، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار.. " (101).
أنظر فقه الحديث، عندما يسأل الناس علماء هذه الأمة وعارفيها. ولو قرأ هذا الحديث سلفي من نجد، لطفق يكفر كل من يتشبه باليهود في مظهرهم.
أما عندما يقرأ السلفيون بعض الأحاديث الواردة في المرأة والتي نعتقد أن الكثير منها لا يحكي رأي الإسلام، وإنما وجهة نظر الأعراب الذين اختلقوا هذه الأحاديث ونسبوها للرسول (ص). فإن الدهشة والعجب تمتلكنا، فهم يمنعونها من سياقة السيارة ومن العمل إلا في النادر، بل منهم من لا يؤمن بتعليمها أو تحصيلها العلم، وذلك لوجود أحاديث في ذلك خوفا عليها من الفتنة. وغير ذلك مما يعرفه الجميع.
إن الدعوة إلى تجاوز المذاهب الفقهية، قد أحدثت بلبلة كبيرة في الساحة الإسلامية وفتحت الأبواب للأهواء المختلفة والمتضاربة لكي تصبح دينا يتعبد به، وحكما شرعيا في الأرواح والأموال والأعراض.
ففي الجزائر ومصر اليوم شباب مراهق يصدر فتاوى القتل بسهولة ويسر.
والفضل للمنهج السلفي الذي جعل منهم فقهاء مجتهدين دون عناء يذكر، والفضل كذلك وفي الأساس يرجع لابن تيمية الحراني قدوة هؤلاء الشباب ومثالهم المحتدى. لذلك لم يعد الحقيقة ذلك الكاتب المصري الذي قال إن ابن تيمية هو الذي قتل أنور السادات ! !.
____________
(101) شرح نهج البلاغة، للشيخ محمد عبده، منشورات الأعلمي، ج 4 ص 5.
أما الشيعة الإمامية فإن السلفيين لم ولن يستطيعوا أن يخترقوا سدهم المنيع، مهما طبعوا من كتب وروجوا من أكاذيب حول كفرهم ويهوديتهم وعدائهم للإسلام والمسلمين.
إنما الخوف على مذاهب أهل السنة التي بدأت فعلا تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لكن السلفيين لن يتركوا الساحة السنية تنعم بهذه الفوضى الفقهية طويلا، لأن الغرض من هدم المذاهب القديمة لتحل محلها المذاهب الجديدة،، مذاهب تصنع في نجد والرياض، وتوزع على باقي أنحاء العالم الإسلامي. ومن يخالف أو يجادل أو يرفض ويعترض فإن ألف وسيلة ووسيلة قد وجدت وتوجد لإسكاته وإزاحته من الطريق، ومن بينها بلا شك جنود معاوية الغارقة في العسل.
وأخيرا نقول لضحايا المكر السلفي: " إن البسطاء الذين تركوا تقليد الأئمة المجتهدين لم يخرجوا من ربقة التقليد، وإنما هم قلدوا أناسا منحرفين، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وجعلوا تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام عن أخد الدين والعلم من أمثال هؤلاء المنحرفين، وراءهم ظهريا.
روى مسلم عن ابن سيرين مقطوعا " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " [ صحيح مسلم، 1 / 14 ]. وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس: أن النبي (ص) قال: " إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة " (102).
____________
(102) أنظر المسند، ج 4، ص 123 و 204، ردود على السلفية، م س، ص 345.
الفصل الثاني
مع الشيعة الإمامية
" لو كنا نعلم أنهم يقتنعون بالحجة البالغة،
ويخضعون للأدلة القاطعة، لملأنا الطوامير من الحجج
الباهرة التي تترك الحق أضحى من ذكاء، وأجلى من
صفحة السماء. ولكن سلطان نجد له حجتان
قاطعتان عليهما يعتمد، وإليهما يستند، ولا فائدة
إلا بمقابلتهما أو أقوى منهما، وهما الحسام البتار
والدرهم والدينا.. ".
|
[ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ]
جذور الصراع
محنة الشيعة والتشيع:
تشهد الساحة الإسلامية حاليا صراعا عقائديا مريرا بين السلفية الوهابية والشيعة الإمامية. عمق الكراهية والنفور بين فئات عريضة من المجتمع الإسلامي، وينذر بعواقب وخيمة، إن سمح له بالتطور والانتشار. وهذا الصراع الفكري والعقائدي ليس وليد اليوم أو الساعة، بل له جذور عميقة في التاريخ الإسلامي، تاريخ الخلافة، ونشوء المذاهب وتصارعها للاستحواذ والسيطرة على عقول ووجدان الجماهير الغفيرة، التي عاشت تحت مظلة الحضارة الإسلامية.
لقد بدأت محنة الشيعة الإمامية مباشرة بعد وفاة الرسول، وانتصار الخلافة على الإمامة. حيث وقف علي بن أبي طالب فارس الإسلام وسيفه الذي قطع دابر المشركين، موقفا مناهضا للحكم الجديد، معلنا معارضته ورفضه الدخول فيما دخلت فيه قريش. معلنا أن الرسول (ص) قد نص على إمامته وأنه الخليفة الشرعي للإسلام والمسلمين، وأن الذين أخذوا لنفسهم البيعة من المسلمين، يعلمون ذلك جيدا.
لم يكن علي بن أبي طالب وحده في هذه المعارضة، بل وقفت إلى جانبه زوجه فاطمة بنت رسول الله (ص)، وأعلنت في الملأ لأن زوجها هو الخليفة الشرعي للمسلمين، ولم تكتف بذلك بل قامت بحملة واسعة، تزور بيوت " الأنصار " وتذكرهم بما ورد في حق زوجها أبي الحسن من أحاديث وأقوال أبيها (ص). لكن دعوتها ذهبت أدراج الرياح لأن القوم كانوا يردون عليها
قالت إن القوم أخذوا البيعة لأنفسهم في الوقت الذي كان علي بن أبي طالب يجهز الرسول ويغسله، أفهل يصح أن يترك جسد نبي الله مسجى في بيته ويذهب يطلب ملكه وخلافته ؟ ! قبل دفنه وتجهيز جنازته ؟ !.
فدك المغتصبة:
إن ابنة محمد بن عبد الله (ص) وريحانته لم تستطع أن تحصل على " فدك " (1) وهي نحلة كان نحلها إياها رسول الله، فامتلكتها في حياته واستفادت من ريعها وهو عليه الصلاة والسلام حي يرزق. وقد علم بذلك الخاص والعام، لكن الخلافة الجديدة انتزعتها منها بحجة أنها إرث لرسول الله، والأنبياء لا تورث. فكيف وقد فشلت بإقناع القوم بخصوص ما تمتلكه،
____________
(1) فدك: قرية في الحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية في مطلع
تاريخها المأثور. كانت ملكا لرسول الله (ص) لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب
ثم قدمها لابنته الزهراء، وبقيت عندها حتى توفي أبوها (ص). فانتزعها الخليفة الأول منها
وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يومذاك، حتى تولى عمر الخلافة
فدفع فدكا إلى ورثة رسول الله (ص)، وبقيت فدك عند آل محمد (ص) إلى أن تولى
الخلافة عثمان فأقطعها مروان بن الحكم. ثم توالى على ملكيتها بنو أمية إلى أن تولى عمر
بن عبد العزيز الخلافة فرد فدك إلى ولد فاطمة. ثم انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك، وبقية
لدى بني أمية إلى أن انقرض ملكهم. وبعد قيام دولة العباسيين قال أبو العباس السفاح
بردها إلى أبناء فاطمة. وبقيت فدك، خليفة يقبضها وخليفة يرجعها إلى ورثتها إلى
سنة (210 ه) حيث أمر المأمون العباسي بردها لأولاد فاطمة لأنها حقهم الشرعي. ولما
ولي المتوكل الخلافة انتزعها منهم من جديد.. أنظر لمزيد من التفصيل محمد باقر الصدر
" فدك في التاريخ ". والغريب في الأمر أن الخلفاء الذين أرجعوها لبني فاطمة وعلى
رأسهم عمر بن عبد العزيز قد ضربوا بالحديث الذي رواه أبو بكر الصديق واعتمده في
أخد فدك من فاطمة، عرض الحائط وهو قوله (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه
صدقة)، فلو صح لديهم لما كان لهم أن يرجعوها إلى أبناء فاطمة ولبقيت ضمن أموال
بيت المال ؟ !.