مقدمة الناشر
رحلة الزمن التي بدأت منذ الخلق الأول لأبينا آدم (ع) مرت بالعديد من الانعطافات التاريخية التي كان لها الأثر الأكبر في صياغة الإنسان الراشد، حتى توصله بالنهاية إلى دخول جنان الله عز وجل.
وكان أبطال هذه الرحلة المضنية هم الأنبياء والأولياء والصالحون والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. الذين حملوا لواء الهداية والتحرير.. هداية الإنسان إلى خالقه ومن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو السماء.. وتحرير الإنسان من الصنم بشكليه المادي والاصطناعي، وتحريره من الثقافة الجامدة التي تربط عقل الإنسان بأغلال المجتمع وضغوط الذات وقوة السلطان وبريق المال والثروة، حتى يصاغ بعد ذلك بصياغة الإيمان، وينطبع بطابع العبودية التي يقول عنها عز وجل:
(ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون).
إذا من هنا بدأت الرحلة.. وإلى هنا انتهت.
ولكن السؤال: كيف نقرأ المضامين الشاملة لهذه الرحلة؟
إن قراءتنا لهذه المضامين الحقيقية خلال هذه الرحلة الطويلة، بالطبع قراءتنا لتاريخ البشرية الماضي الذي يشكل دعائم لهذه المضامين.. لا بد أن تكون قراءة باحث يبحث عن الحقيقة، هدفه الأسمى رؤية باصرة ونظرة ثاقبة لما جرى خلال
ولهذا الأمر دعا القرآن ونادى العقل بضرورة قراءة التاريخ، لأن الدراسة الواعية للتاريخ تكشف السياق الزمني الذي يسير على ضوئه الحاضر (الغائب) عن الأبصار، وعلى أساسها أيضا تتشكل المحددات الأولى لصياغة المستقبل.
من هنا كان لزاما على المنصفين أن يفهموا التاريخ بملاحظة هذه المعاني، لأن قراءته من دون هذه المعاني تعني أن تكون هذه الدراسة مطية للأهواء المذمومة، ومطبعة للأفكار المسمومة، وسوقا يتشابه على المشتري فيه الصالح والفاسد.
وحينها تقع الكارثة.. حيث ينقطع الإنسان عن تاريخه، والمنقطع عن التاريخ كمن لا أصل له.. ولا يخفى أن الأصل يمده بالتجربة ويصحح له المسيرة ويوحي إليه بصحة المعتقد.
ولا تسأل عزيزي القارئ ماذا يحصل بعدئذ لهذا الإنسان؟.
إن دواعي المصلحة تعمي عينيه، فيقرأ التاريخ قراءة مغلوطة، يخطئ الصحيح، ويصحح الخطأ، ويسود على طبق ذلك آلاف الأوراق ليثبت مدعاه، لا سيما وأن المال يدعمه، وصقل الأوراق يجمله، وحسن الأغلفة يبرزه، فيغتر بذلك كل من يقرأ تاريخه اعتباطا بلا تحليل وبلا مقارنة، حتى يقع بشعور أو لا شعور في الجمع بين أحداث متناقضة تاريخيا لا يجتمع أحدها بالآخر على الاطلاق.
إن أفضل ما يمكن أن نطبق عليه ما تقدم هو تاريخ التجربة الإسلامية الأولى في مجال الدولة وبناء المجتمع وتحديدا العقيدة، إذ ينبغي أن لا يكون للعصبية مجال في الحكم على ذلك، وإنما القول الفصل ندعه للحقيقة التي يسطع بها التاريخ منسجمة مع السياق الإسلامي العام الذي جاء ذكره في آيات الذكر الحكيم وفي روايات النبي والأئمة المعصومين (ع).
وهذا ما حاول كاتب هذه الدراسة الوصول إليه. وأحسبه وفق كثيرا إلى
وأخيرا لا بد أن نشير إلى أن الكاتب الذي ينتمي في النسب إلى سلالة أهل البيت عاش واقعا فيه عوامل البعد عن الدين حيث رأى سيطرة الأجنبي الواضحة في كل شئ، حتى في لباس المسلمين ولسانهم.. الخ.. لكنه مع ذلك بقوة عزمه ونفاذ بصيرته انتمى إلى مؤسسة دينية ومعهد علمي كان له أثر واضح على صعيد وطننا الإسلامي الكبير، فتربى في كنفها.. أخذ من العقيدة ما يبصره ويغنيه، ومن الفهم الديني المتجدد ما يجعله ينظر إلى ما يجري بروح عصرية لا تتجاوز الثوابت، ومن الثقافة الشرعية والدينية ما يجعله ينطلق في رحاب الواقع.
إن هذا كله جعل هذا الكتاب الذي بين يديك رحلة سافر عبرها كاتبها من التاريخ والواقع إلى مذهب أهل البيت (ع).. وهذا هو الذي يدعونا إلى أن تجد مثل هذه الكتابات آذانا صاغية وقلوبا واعية تبحث عن الحقيقة ولا شئ غير الحقيقة.
الاهداء
أهدي كتابي هذا إلى والدتي العزيزة، الوحيدة، في هذا العالم الجهنمي، القادرة على سكب الحنان علي.. في عالم لن يدع لي (الحق) فيه، قلبا عطوفا!.
وإلى كل ضمير يتسع بعقل وحنان، لصرخة حائر في دروب الحقائق المضنية، يبحث عن (حبل) نور يتعلق به...
إنها زفرة باحث عن الحقيقة، في زمن الحضارة إنها الرحلة والمنعطف في ذلك الرحاب الوسيع، رحاب التصور والمعتقد!
المقدمة
من المخاطب، ومن المخاطب؟
أود أن أشير في بادئ ذي بدء إلى حقيقة، أريد ألا تغيب عن القارئ، وهو يذهب لقراءة هذا الكتاب. هي إنني لست مذهبيا في المسلك، وإن قناعاتي مهما كانت، فإنها لا تجازف بي بعيدا.
أنا مسلم. وانطلق من صميم الحب للدين، وليس من صميم الحقد والتآمر.
إنني لم ولن أشأ أن أجعله برميل بارود، لتفجير المعرفة التأريخية من جديد.
كما لا أريد به تعميق الفجوة المذهبية بين المذاهب، ولكن ما أردته فقط الدفاع عن الحقيقة المرة والضائعة: بسبب التراخي في كشف الحق والمزايدة عليه.
إنني لم أطلب الانتقام من سنوات التجهيل، الذي مارسه في حقنا علماؤنا من العامة. إنني أود فقط أن أمد يد المساعدة لمن أراد أن يتحرر من سلطة الفكر الجاهز، من الأسر الموروث، أريد أن أسجل تجربتي حتى لا يبقى بعدي مغفل.
ليكن ما يكون. ولكن لا يبقى مغفل!.
إنني أسمى نفسا من أن أنتقم من أشخاص معينين، ولكنني لا أجد حرجا في التعرض لأفكارهم.
فيها أفكار قد تؤذي البعض، وأخرى تستهوي آخرين. ولكن هدفي، ليس هؤلاء ولا أولئك. ولكنها (الحقيقة)!.
أكتب تجربتي هذه، لأسجل حلقة من الانتصار الشيعي في دائرة الفكر والاعتقاد. كما لا أريد لهذه التجربة أن تكون نسخة لما سطره السابقون. لا أريد الحبك على نفس المنوال الذي لا يتعدى مجال السجال المحدود في زوايا ضيقة من الخلافات. أي، معارك (تقول وأقول)، أو على نمط الزمخشريات: إن قلت قلت. أريدها أن تكون إشارات واسعة، لقضايا متشعبة في التأريخ والعقيدة.
لا أريد أن أحجب القارئ عن هذه الحقيقة التي لا تقل أهمية عن القضية المصيرية للأمة. فيما يتصل بكيانها الحضاري ككل. أنا لست غبيا حتى أكفر أحدا من كان! وإن كان السني الوهابي، يكفر (1)، من جراء الأفق المعرفي الضيق والإفلاس العقائدي الكبير. سأحاول أن أكون متحررا. ليس تحرر (موضة).
وإنما تحرر ساكن في نفسي وروحي ضد زمان. منطلقي هو التحرر من كل سلطة في نقد الأفكار. لأن أجيالا من القمع، لم تنتج إلا أفكارا بائسة واتجاهات رثة.
شعاري (امنحني حرية، امنحك فكرا راقيا)! إذن، لنتحرر، ونحرر الكلمة!
سأقول للتاريخ، بأنني أهتم بالقضية الدينية التأريخية، بتفتح عقلي، هو ذات التفتح الذي قادني إلى ينابيع العقيدة نفسها والالتزام بتكاليفها حسب المستطاع. سأقول للتاريخ، حتى لا أتهم بالتقليد والرجعية، إنني كنت متحررا من كل وضع عقيدي في بيئتي. ولم تكن لدي أزمة في الحرية. إنني لم أرث شيئا من ذلك على الاطلاق.
____________
(1) - أقصد تكفير الوهابية للشيعة وبعض المسلمين.
أنا على كل حال، أحمد الله تعالى، إنني لم أنشأ في أسرة تضرب أبناءها إطلاقا، لأن المغاربة لا يعرفون كيف يضربون أبناءهم، هم اليوم أبعد الناس عن العقيدة الصحيحة. هذه الحرية العقدية في بيتي ساعدتني على أن أدخل في معترك الاختيارات الفكرية دون مسبقات.
أريد أن أؤكد مرة ثانية على أن شخصيتي لا تحتاج إلى ترجمة دقيقة. لأنها لا تنسجم مع مقاصد الكتاب. ولكن كل ما يمكن قوله بهذا الصدد هو إنني إنسان مسلم، مهتم بالقضية الدينية، وباحث في الفكر الإنساني عموما، والفكر الإسلامي على وجه الخصوص، وهذا هو الطموح الذي ظل يراودني منذ الصبا، وتجاوزت كل العقبات من أجل تحقيقه. أصولي إسماعيلية، تنحدر من إسماعيل بن جعفر الصادق. لدينا قرابة مع الأدارسة. فهم أبناء عمنا، لأنهم (حسنيون) بينما نحن (حسينيون). حظيت بولادة ميمونة، بمدينة (مولاي إدريس) وهي مدينة صغيرة، تقع قرب (وليلي) مدينة رومانية قديمة. واسم المدينة على (إدريس) وهو بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، حيث جاءها لاجئا بعد انفلاته من قبضة العباسيين على أثر معركة (فخ)، ولم يكن المغاربة ليزهدوا في واحد يحمل شرف بيت النبوة، إذ سرعان ما تنازلوا له عن الحكم فصار حاكما للمغرب. وله الآن فيها ضريح مثل ما لابنه ضريح في مدينة (فاس).
تشد إليه الرحال، وينظم حوله (البربر) خلال كل سنة، موسما، ملأه الأهازيج والأفراح!.
ومنذ ذلك العهد، لم يكن المغرب يحمل نصبا لتراث آل البيت (ع).
نعم، كان المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للبلاد منذ فترة غير قصيرة ولا يزال، غير أن المذهب المالكي لم يتناقض رغم ذلك مع تقاليد المغاربة في ولائهم للبيت النبوي، ولم تدخل الوهابية المغرب إلا في عهود متأخرة جدا.
هذا كل ما يمكن قوله، حيث لا يظن البعض أنني مجهول، مدسوس!.
إنني على يقين من أن رفاقي من أهل السنة والجماعة أولئك الذين قضينا معهم فترة إيمانية مخلصون. ولكني مدرك أن (اللوثة) الوهابية تمكنت من بعضهم لما انتهى بها الحال إلى تهديدنا من خلال نشر التهم والإشاعات الهدامة.
وكأنهم لا يزالون في عقلية الظلام الأموي. حيث الاعتقاد بمذهب آل البيت (ع) سيتحول إلى جريمة، يعاقب عليها القانون. وكنت دائما أود لو أنبههم، بأن القانون لم يوجد في المجتمع المدني، والدولة الحديثة، ليعيق حركة الفكر، وحرية الاعتقاد. وإنني لا أظن أنني في مجتمع يوجهه (شريح) القاضي الذي أفتى بقتل الإمام الحسين (ع) ولا في مجتمع معاوية بن أبي سفيان الذي قال عن أصحاب آل البيت (ع) (اقتلوهم بالضنة والشبهة)!.
وأنا أعرف إنهم متجاهلون، وإن كانوا في أغلب الأحوال مغفلين، ولكن هذا سوف لا يمنعني من أن أقول كلمتي.
أن أكون من شيعة الإمام علي عليه السلام وأختار لنفسي طريق النبوة في مسلك آل البيت (ع)، ليس عيبا! إنما العيب كل العيب، في ألا أكون كذلك بعد أن حصل لي العلم بوجوب هذا.
ففي اللحظات التي ظهرت لي الأحداث على حقيقتها، قامت فورا حرب بين عقلي ونفسي، فالنفس عز عليها اقتلاع (ضرس) العقيدة السابقة، والعقل عز عليه أن يتغاضى عن الحقائق الواضحة القطعية، فإما أن أتبع طريقا موروثا، بعقلية الفولكلور، أو أن أسلك سبيل القناعة ونور العقل؟.
كان هذا أخطر قرار اتخذت في حياتي، لكي انتقل بعدها إلى رحاب
وهذا الكتاب، سيكون شمعة مهداة لكل من أراد اختراق الأنفاق المظلمة.
لقد تجنبت إغراقه بالمفاهيم التقنية المعقدة، توخيا للتبسيط. لأن هدفي هو أولئك (المغفلين) الذين يعانون ما عانيته يوما، من بؤس الجواب!.
لقد تجنبت قدر الامكان، كل هذا، حتى لا أكون نخبويا في هذا المقام.
لأنني توصلت إلى قناعتي هذه بطريق غير نخبوي. ولدي من النخبة، فرصة خاصة، في المستقبل إن شاء الباري.
والكتاب سيكون جولة سريعة في تجربة تلامس كل محطات الأمة الرئيسية.
والغاية منه يمكن حصرها في جملة من النقاط:
1 - إن المسؤولية تقتضي نصرة الحق مهما كلف الثمن وإن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
2 - لا بد من مبادرة شجاعة لكسر حاجب الانغلاق، لأن هذا الأخير غير مرغوب فيه دينيا، وإن الإسلام جاء ليفتح لنا آفاق السماوات والأرض، لا ليركسنا في زاوية الانغلاق.
3 - لكي لا يتوهم إخواننا من العامة، إنهم هم وحدهم الموجودون، ومن أجل معرفة الآخر، معرفة، تنسخ ما علق به من شبهات دعائية، ومن ثم الاعتراف به كواقع، له جذوره الراسخة في عمق التاريخ الإسلامي.
4 - إننا ونحن ننشد الوحدة، يجب أن نكشف الغطاء عن بعضنا البعض، حتى نتكافأ في معرفة بعضنا البعض، وحتى نتكافأ في السلب والإيجاب، وهذا يمنحنا دفعا عمليا للتوحد سياسيا وحضاريا، وهو المانع الوحيد ضد التآكل المذهبي.
وأخيرا وليس آخرا، لأنني عرفت كيف كنت وأي مسير اخترت، وأدركت مدى قيمة الحقيقة في حسبان الباحثين عنها، وأدركت مدى الجهد الذي بذلته، لخلع جبة التقليد عني، واختراق جدار سميك، سميك. من الضلالات
ولكي أذوق طعم تجربتي، يجب أن أقدم هذه المعونة الإنسانية لمن أراد أن يذكر.
إدريس الحسيني
لماذا الرجوع إلى التاريخ؟
ليس ثمة شئ في ديننا، إلا وله علاقة بالتاريخ، وما نملكه اليوم من عقائد وأحكام وثقافات إسلامية، كلها جاءتنا عن طريق الرواية، فحري بنا، أن يكون التاريخ عندنا، هو أحد المصادر العلمية المهمة.
بعضهم بلغ من الحكمة شأوا بعيدا، فيقول: (لا داعي للبحث عن هذه القضايا القديمة في التاريخ، لأنها باعثة على الفتنة).
لقد تحول البحث عن الحقيقة، فتنة في قاموس هذا الصنف من الناس، وكأنهم يرون البقاء على التمزق الباطني، حيث تتشوش الحقيقة، وتغيب، أفضل من الافصاح عن الحق الذي من أجله أنزل الوحي، وتحركت قافلة الرسل والأنبياء، وكأن مهمة الدين هو أن يأتي بالغموض، وكأن الله عز وجل أراد أن يبلبل الحقائق، ويقمعها بحكمة: (لا تبحث في التاريخ) مثلما بلبل لغة الإنسان في أسطورة بابل.
إنني أدركت منذ البداية أيضا أن الحقيقة أغلى، وأنفس، من الرجال دون استثناء، وأنه لا بد لي أن أوطن نفسي وأهيئها للطوارئ في معترك التنقيب عن الحقائق الضائعة، والفضائح الغابرة.
كنت واضعا نصب عيني، احتمال الفراق، مع مجموعة شخصيات كانوا يجرون مني مجرى الدم، وكنت واعيا منذ البداية، ومدركا لأهداف الرسالة
فماذا تكون قيمة أبي هريرة مثلا في ميزان الدين، حتى نعطل البحث بسبب التقديس عن الحقيقة التأريخية. وفي سبيل التغطية على فضائحها، نلجأ لتزوير الحقائق كلها، وهل (أبو هريرة) أصل من أصول العقيدة، حتى يحرم علي محاسبته تأريخيا، والاعتراف بأفعاله القباح! أوليس من الإفك أن نسكت من فضائحه، فتختلط بحقائق الدين، ليكون الإسلام ضحية كل تلك المفاسد.
إن أبا هريرة مثلا ليس شخصية قديمة نستغني عن كشف حقيقتها، لأنه حاضر فينا، وهو (كمبيوتر) معاوية الخاص بالرواية، مع أنه آخر من أسلم، ولم يعش مع الرسول صلى الله عليه وآله طويلا. فمن هو هذا الذي وضع نفسه أو وضعوه هم، راوية لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله في زمن الإمام علي (ع) وإن أمة تميل إلى أبي هريرة وتقوي مروياته، وتترك الإمام علي (ع) وتضعف أحاديثه، هي في حق التاريخ وحق الإنسانية، أقبح أمة يمكن الانتساب إليها! أليس هذا هو واقعنا، إننا لم نعد نجد الإمام علي (ع) إلا في الكتابات المسيحية (2) والاستشراقية، وقل أن تجد من الأمة من أنصف هذا العملاق المجهول. وعندنا كتب النسائي وهو أحد شيوخ الحديث المشهورين لدى السنة كتابا أسماه (خصائص الإمام علي) تلقى بذلك عقابا شديدا وأخضع للسياط، واتهمه بعد ذلك (ابن تيمية) بالتشيع، وصنفه هو وابن عبد البر في الذين تشيعوا بالحديث!!؟.
إن التعامل مع التاريخ، هو تعامل مع مشروع ماضوي منتظم في نظرية قائمة. والنظرية هذه ومع امتداد الزمن اكتسبت أنيابا حادة، تمارس بها تهويلا على الباحث. وبهذه الأنياب، بقي التأريخ لغزا إلى أن كسب قدسيته المطلقة.
____________
(2) أقصد ما كتبه نصري سلهب (في خطى علي 40) وجورج جورداق (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية).
مسؤولة حتى لا تزيغ في منعرجات الأحداث وتقف بعيدا عن الحقيقة! وجبارة، لأنها تحتاج إلى آليات الحفر والتفكير التأريخي ولكي نكسر أنياب النظرية التأريخية القائمة، نحتاج إلى معاول هدم علمية.
لقد تحول التاريخ الإسلامي في اللاشعور الفكري إلى (قطعة) معصومة من التاريخ. علما أن هذه النظرة مستحيلة في منطق التاريخ، ومنطق الدين نفسه.
والسياسة التي استطاعت أن توظف الثقافة القشرية للدين في سبيل التغطية الايديولوجية للأحداث التاريخية. ظلت مكشوفة تاريخيا بحكم أن المؤرخين لها، لم يملكوا قدرة مطلقة على تجيير حقائق التاريخ كلها لصالح السياسات المتواترة في تاريخ السلطة الإسلامية.
وكان لهذا التاريخ (المؤدلج) بمفاهيم التيار الأموي، قدرة على التحكم في مسار الفكر والثقافة الإسلامية أيضا. وتوظيف الأرقام الكبرى والأسماء المرموقة في الدين الإسلامي، كان تكتيكا أمويا، لستر التوجه (الهدام) للبلاط الأموي.
والذي يرى فيه بعض المؤرخين، إنه حكم وفق المنطق الأموي البحت. هذا التيار كان لا يجد بدا من أن يتصرف في الجهاز الديني لأغراض خاصة، وذلك انسجاما مع الواقع الإسلامي يومها، الذي كان الدين أحد مكوناته الاجتماعية والحضارية.
هذه بعض الخفايا التي يوصلنا إليها (التاريخ) وبدونها لا نستطيع معرفة سوى ما يقدم إلينا على طبق الايديولوجيا. إن طرح سؤال، من قبيل: لماذا نبحث في التاريخ؟، هو عين التخلف الفكري، لأنه لم يعد يوجد من يشك في أهمية التاريخ!، ومن القرآن تعلمت الأمة، قيمة النظر في التاريخ، وللتاريخ سننه وقوانينه التي تجري على كل البشر. (3)
____________
(3) - يقول السيد محمد تقي المدرسي: إن فهم التاريخ ضرورة لفهم الشريعة (التاريخ الإسلامي - دروس وعبر ص 13 - دار الجيل - بيروت).
____________
(4) سورة طه (الآية 99).
لماذا الحديث عن الشيعة والسنة؟
الحديث عن (الشيعة والسنة) (هو حديث عن الإسلام) في محرقة التاريخ، فالذين لم يفهموا الشيعة، وأغلقوا نوافذ الجهل على أنفسهم وأجيالهم، واكتفوا بمذاهبهم، لا يمكنهم إدراك قيمة (الحسم) الاعتقادي. وإن التغيب والتجهيل المستمرين، هما اللذان يولدان الفرقة! والوحدة لا يمكنها أن تأتي من دون فهم وإدراك، للآخر:
إن المسلك (المذهبي) الذي سيطر على وعي الأمة، هو الذي سلبها، قابلية التوحد والتعايش. وهو مسلك نرفضه إطلاقا، وكنت أظن أن الشيعة هم أيضا، يحجبون عامتهم عن أفكار واعتقادات أهل السنة والجماعة، ولكنني وجدت عكس ما كنت أتصور. وفي مكتبات الشيعة وحوزاتهم، كتب لأهل السنة والجماعة، ومراجعهم وكتب استدلالاتهم، بل حتى تلك الكتابات الدعائية السخيفة والتشهيرية الوهابية، في متناول أصغر طالب في حوزاتهم، ولكنني لم أعرف مؤسسة سنية، احتوت على كتاب من كتب الشيعة، وهذا مسلك غير متكافئ في التعاطي مع المذاهب الأخرى.
والصورة التي نقلها الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء النجفي في أصل الشيعة وأصولها) عن التشهيرات الغبية ضد الشيعة ليست باطلة. فأنا السني المنشأ، لم أكن أجد في بيئتنا ما يعرف بالشيعة، تعريفا حقيقا، وكل مذهب من
(أو علي يصلي)؟!.
وقد ذكر صاحب العقد الفريد في باب كتاب الياقوتة في العلم والأدب:
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: أخبرني رجل من رؤساء التجار قال:
كان معنا في السفينة شيخ شرس الأخلاق، طويل الاطراق، وكان إذا ذكر له الشيعة غضب وأربد وجهه وروى من حاجبيه، فقلت له يوما: يرحمك الله، ما الذي تكرهه من الشيعة، فإني رأيتك إذا ذكروا غضبت وقبضت؟ قال: ما أكره منهم إلا هذه الشين في أول اسمهم، فإني لم أجدها قط إلا في كل شر وشؤم وشيطان وشعب وشقاء وشنار وشرر وشين وشوك وشكوى وشهوة وشتم وشح.
قال أبو عثمان: فما ثبت لشيعي بعدها قائمة.
هكذا كان يفهم أعداء الشيعة الشيعة. وذلك لأنهم يجهلون حقيقتهم.
وقديما قال الإمام علي (ع) (الإنسان عدو ما جهل)!.
وإذا كرسنا واقع التجهيل والتغييب، فلربما لا سمح الله ورد من يرى في (السين) السنية: سوء، وسم، وسؤر، وسحاق، وسقم، وسخط، وسب، وسقط، وسخب، وسرقة، و... و.. وهذا التجهيل، أمتد اليوم، ليأخذ أشكالا مختلفة، كلها، تنظر إلى المسألة الشيعية بمنظار أسود!.
أقول إن الحديث عن (السنة والشيعة) ضرورة، لأن فيه تفويت للفرصة على تجار الفرقة والطائفية. ليعرف بعضنا بعضا، بكل وضوح وجلاء.
لقد رأيت بأم عيني، حركة التشهير والتجهيل، التي تبعد الناس عن الوعي
فأجاب: إنها خدمة الإسلام.
قلت له: شيخنا، ألا ترى إن هذا منكر؟!.
قال: أعوذ بالله، اتق الله، إنه تقي الدين الهلالي وما أدراك!.
كنت أعلم إن هذا الشيخ، أكثر (أمية) من جدتي، ولكنني حاولت إقناعه، بأن يجد له صناعة أخرى، غير الفتنة!.
نعم، إن تقي الهلالي، جاء فتانا، ولم يأت ليوحد الصفوف، وهو أكبر مروج للوهابية في المغرب. وكان واجهة سعودية في البلد، ومن انحاز إلى صفه من الشباب، أعطاه تزكية. وبعثه إلى (جدة)!.
في يوم من الأيام قبيل موته - رحت أزوره، وكان قد خرج من المستشفى للتو، وكان في مرضه الأخير، وبينما أنا واقف قدام الباب، إذا بصديق لي، يخرج من البيت، وبدت على وجهه حمرة. ولما سألته عن السبب، قال لي: لقد ندمت على هذه الزيارة، إن الشيخ، لا يزال مستمرا في تكفيره للعلماء المسلمين، لقد كفر مجموعة علماء وخطباء، وكان من بين أولئك الذين أصابتهم شرارة التكفير، الشيخ عبد الحميد كشك، لأنه يكثر من مناداة الرسول صلى الله عليه وآله في خطاباته، والرسول صلى الله عليه وآله ميت، وهذا شرك صريح (5)!.
____________
(5) - أعتقد أن الفهم الوهابي التوحيد، ليس إلا قصورا نجديا، بدويا. وبهذا التصور جعلوا من الإسلام دينا راكدا، جامدا، لا يتعدى المسواك، والمسك، واللحي، والتقصير و..
كان الحوار والمناظرة التي أجراها الشيخ تقي الدين الهلالي، مع بعض خطباء الشيعة من نوع خاص وإنني لم أعرف من هؤلاء الشيعة الذين ناظرهم، ولم أكن أدري ما السبب الذي جعل تقي الدين الهلالي يستنكف عن مناظرة رجال الشيعة الكبار، مثل السيد الحكيم، والسيد الخوئي، السيد الصدر، والسيد محمد الشيرازي، وعشرات العلماء والمراجع المعاصرين له في العراق ولبنان وقم... وعجبت كيف راح يبحث في القرى عن الأميين، وهؤلاء موجودون طوع البنان. وكيف لا يستحيي من الله ولا من التاريخ أن يقول إنهم من كبار علماء الشيعة، في زمن المراجع الكبار. أليس هذا هو التجهيل؟ إنهم يكتبون للأميين والمغفلين! لذلك تراهم لا يتورعون عن التلفيق!.
لقد أهدوني هذه المناظرة بين (عالم) يخدم آل سعود، وشيعيين مجهولين، لا يعرفهما أحد، وأهديتهم كتاب (المراجعات) الأضخم حجما، والأضبط مضمونا، وهو حوار موضوعي متكافئ وهادئ بين عالمين معروفين للجميع.
الأول، شيعي عاملي، خريج النجف الأشرف، والآخر شيخ للأزهر.
وشتان، شتان (*).
لهذا، كان الحديث عن (الشيعة والسنة) ضرورة، تقتضيها الفتنة والجهل.
لقد انجلت تلك الصورة التي ورثتها عن (الشيعة) وحل محلها المفهوم الموضوعي الذي يتأسس؟ على العمق العلمي المتوفر في الكتابات التأريخية، والذين لم يتحرروا من أصدقائي، من هذه النظرة، هم أولئك الذين اكتفوا بالموروث، وسحقا للموروث!.
بل وإنهم اليوم لهاربون من السؤال. ويتجاهلون الموضوع. حتى لا يتحملوا مسؤولية البحث، ونتائجه!.
____________
(*) - الأول هو السيد شرف الدين الموسوي العاملي والثاني هو الشيخ سليم البشري.
فبعد أحداث مكة المكرمة، التي راح ضحيتها مسلمون كثر، اهتز الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي. وتحول إلى موجة موحدة ذات إيقاع واحد، موضوعها الرئيسي (الشيعة والتشيع). ويومها كانت (الجدبة) في المغرب غير بسيطة.
قام المستر (مصطفى العلوي) بحملة مسعورة، ومدفوعة الثمن أيضا، واتهم الشيعة فيها بألوان من التهم التقليدية، لم أجد لها مصدقات في واقع التراث الشيعي. وكنت على علم راسخ، بأن مصطفى العلوي، هذا، لم يمسك كتابا واحدا من أمهات الكتب الشيعية. ولم تمض السنوات، حتى يعلن (العلوي المدغري) وزير الأوقاف، في الدروس الرمضانية، عن الحقيقة، ويكذب من اتهموا الشيعة بذلك. وخسئ (مصطفى العلوي).
وفي هذه الأثناء، جاء فخامة (أبو بكر الجزائري) زائرا للمغرب، يحمل في حقيبته أوراقا وهابية جديدة. كان كما بدا لنا مبعوثا رسميا من جهة هو ساكنها.
وتواجد في تلك الأثناء في أحد بيوت الأصدقاء. وكانت كلمته تتمة لما سبق من (هرج ومرج) حول (الشيعة والتشيع) ومحاولا رسم صورة كاذبة وتشهيرية، ضد الشيعة، مستغلا بذلك جهل الناس بحقيقة التأريخ ولكنه ضل الطريق هذه المرة.
فقام أحد الأصدقاء، وقال له: عفوا، هلا حدثتنا عن (الماسونية) ونشاطها في العالم الإسلامي؟ (6).
لهذا التجهيل، ولهذا التشهير، كان (الحديث عن الشيعة والسنة) ضرورة، لتفويت الفرصة على الصيادين في الماء العكرة. وبذلك يمكننا أن نمنح التقاعد لمثل تلك الشخصيات التي دأبت على طلب الرزق، بوظيفة التفريق والتشتيت!.
____________
(6) - وكان هذا الشاب للأسف من أهل السنة والجماعة مما أحرج أبا بكر الجزائري.
مدخل
من هم الشيعة، ومن هم السنة؟.
إن التسمية التي أطلقت على الفريقين، ليست وفية للحقيقة. وهي أسماء سموها من عند أنفسهم، نزاعة للتشويه والتضليل، أكثر من حرصها على الموضوعية. واستخدام الاسمين في الأبعاد التضليلية، كان من دأب التيار الأموي. فالنقطة الحساسة التي توحي بها المفارقة بن الاسمين، هو أن (سنة) الرسول صلى الله عليه وآله لها شمتها في عنوان (السنة والجماعة)، في الوقت الذي لا رائحة لها في عنوان (مذهب الشيعة). هذا يعني إن مذهب الشيعة يقف مقابلا لمذهب (السنة والجماعة) بما هي الممثل الوحيد لسنة الرسول صلى الله عليه وآله!.
وهذا التشويه، والتضليل، قد أوتي أكله على امتداد الأيام التي أردفت عصور المحنة. فلقد أصبح (الشيعة) يفتقدون للمسوغات النفسية والإعلامية في ذهن الجمهور.
والسؤال الصميمي هنا: من هم الشيعة، ومن هم السنة؟.
السنة في اللغة، تعني الطريقة، والمنهاج. وسنة الرسول صلى الله عليه وآله معناها طريقته. وفي لسان العرب لابن منظور، السنة، والتسنن تعني الطريقة المحمودة المستقيمة. ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، بمعنى، إنه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة، وهي مأخوذة من السنن وهو الطريقة، ويقال للخط الأسود
وهي اصطلاحا، تعني كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله من قول وفعل وتقرير. ويسمى السنة مذهبهم (أهل السنة والجماعة) ويقصدون بذلك إنهم أصحاب الطريقة المحمودة (7). واتباع الرسول صلى الله عليه وآله والجماعة، وغيرهم لا يسلك طريق النبي صلى الله عليه وآله وهي الجماعة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وآله (يد الله مع الجماعة).
الشيعة
والشيعة لغة، هم الأتباع والأنصار. وفي لسان العرب (هم القوم الذين يجتمعون على الأمر. وكل قوم اجتمعوا على أمر، فهم شيعة. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع.
وفي القرآن الكريم: (وإن من شيعته لإبراهيم).
وشايع تأتي بمعنى والاه، من التولي..
يقول الكميت:
و (الشيعة) اصطلاحا يراد بهم أتباع وأنصار آل البيت (ع) وهم الذين ناصروهم في كل محنهم، وسلكوا سبيلهم. ووالوهم!.
يقول ابن خلدون (8): (إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه (رضي الله عنهم).
____________
(7) هذا المعنى في الواقع جديد على هذا العنوان. لأنه تاريخيا كان له هدف معين ومعنى آخر، كما سنوضح!.
(8) تاريخ ابن خلدون، الفصل السابع والعشرون: في مذهب الشيعة في حكم الإمامة (ص 348).
بيد أن الملابسات السياسية والإيديولوجية التي رافقت حركت الفرقتين أضفت على القضية، مجموعة من الشبهات لا تحصى ولا تعد. وبالتالي يكون من الضروري التعرض إلى المصطلحين. بشكل أعمق، يستمد مرتكزاته من عمق التأريخ الإسلامي ذاته.
وذلك لأن أعداء الشيعة طالما تحاملوا على الشيعة، ملتمسين كل سلبية غريبة وإلصاقها بهم. وفي ذلك يقول طه حسين (9):
(وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة).
____________
(9) - إسلاميات - طه حسين.
ثم ماذا؟
إنني ما زلت أتتبع تاريخ المذاهب الإسلامية، حتى انتهيت إلى أن مذهب آل البيت (ع) هو أول مذهب في الإسلام. وهذا لا يعني إنهم انفردوا عن غيرهم بطريقة ابتدعوها، ولكنهم احتفظوا بموقعهم الأصيل الذي عرفوا به، هذا في الوقت الذي شردت فيه جميع الملل والنحل، وتفرقت تبتغي الحق عند غير أهله.
يقول السيد محسن الأمين في الأعيان (10): (فما يظهر من فهرست ابن النديم من أن تسمية أتباع علي (ع) باسم الشيعة كان ابتداؤه من يوم الجمل ليس بصواب، بل تسميتهم بذلك من زمن الرسول صلى الله عليه وآله قال ابن النديم في الفهرست ما لفظه: ذكر السبب في تسمية الشيعة بهذا الاسم. قال محمد بن إسحاق لما خالف طلحة والزبير على علي وأبيا إلا الطلب بدم عثمان بن عفان وقصدهما علي (ع) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل أسمه، فسمى من اتبعه على ذلك الشيعة فكان يقول شيعتي).
فالتشيع ليس بدعة في تاريخ الإسلام. ولطالما حاول البعض إلصاقه بالعهود المتأخرة. بل لقد بلغت القسوة ببعضهم فربطه (بالفرس).
وكان لهذه الدعايات أثر علي في البداية، مع أنني لم أستسلم لها بسهولة، فلم
____________
(10) أعيان الشيعة، المجلد الأول: (ص 19) السيد محسن الأمين.
واستقرت قناعتي في النهاية بعد أن تأكدت من تلك الحبكات الخرافية. ففي (فجر الإسلام) لأحمد أمين، وهو من أكبر المناصبين للشيعة، يقول: (كانت البذرة الأولى للشيعة، الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه) (11).
وفي دحض فكرة (فارسية) التشيع، قال: (والذي أرى - كما يدلنا التاريخ - إن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس في الإسلام، ولكن بمعنى ساذج، وهو أن عليا أولى من غيره من وجهتين، كفايته الشخصية وقرابته للنبي) (12).
فالذين لا يعلمون - من إخواننا السنة - يجب أن يدركوا، كما أدركت - منذ فتحت قلبي للحقيقة - أن أغلب علمائهم من (فارس).
إنني ما زلت أقتفي آثار علماء السنة الكبار، في البلاغة والنحو والفقه والحديث والتصوف.. فأجد الأغلبية الغالبة منهم، فرسا. ومنهم: البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة القزويني والإمام الرازي والقاضي البيضاوي وأبو زرعمه الرازي، والفيروزآبادي (صاحب القاموس المحيط) والزمخشري والإمام فخر الدين الرازي، والكازروني وأبو القاسم البلخي والقفال المروزي والتفتازاني والراغب الأصفهاني والبيهقي والتبريزي الخطيب، والجرجاني وأبو حامد الغزالي.. وغيرهم مما يعجز عن عدهم اللسان ويضيق عنهم المقام. فأعلام (السنة والجماعة) الفطاحل، وعلماؤهم النحارير ومحدثوهم النقاريس، كانوا من بلاد (فارس).
والتشيع أدخل إلى فارس، من بلاد العرب، وساهم في نشر التشيع في بلاد فارس علماء من العراق، وجبل عامل والأحساء، والمدينة المنورة.
____________
(11) - فجر الإسلام - أحمد أمين - (ص 366).
(12) - نفس المصدر (ص 277).
إن الشيعة لم يكونوا يوما مبتدعة، بل إن مذهبهم قائم في الأساس على (النص). وإذا أتيت إن الإسلام الحقيقي بعد الرسول صلى الله عليه وآله تمثل في علي (ع) فإن التشيع لعلي (ع) هو التعبير المرحلي عن التشيع لمحمد صلى الله عليه وآله بالثبات على تعاليمه وتوصياته في حق علي (ع) والذي هو الإسلام)!.
فإسم (السنة) أتى، كأستراق للفرصة، لمحاصرة (الشيعة) اصطلاحيا، لأن التيار السائد يومها لم يكن له من الحجة سوى اللعب على وتر المفاهيم القشرية. وكان اليوم الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك عضود، هو عام الجماعة، ومنها جاء (السنة والجماعة)!.
كان همي أن أبحث عن الإسلام الحق، فأنا لم أكن أبحث عن التمذهب.
وما أن دخلت في لجج التأريخ، حتى تبين لي أن الباحث عن اللامذهبية، كالباحث عن السراب. إن الإسلام، تفرق أهله إلى فرق لا تحصى، وما بقي من إسلام حق، بدا للمتمذهبين، مذهبا. فأي المذاهب، إذا، تمثل الإسلام الصحيح. أو حتى ما يقارب 95 في المائة من الإسلام الصحيح؟
ومن يضمن لي يومها إن هذه الفرقة أو تلك، هي الأقرب إلى (الحقيقة) وأنا في خضم المعترك أبحث عن خشبة نجاة؟ ولكنني لم أشك في القرآن الكريم.
ففيه عثرت على مقومات البحث عن الحقيقة. تعلمت أن من شروط البحث عن الحقيقة، عدم الاستماع إلى القول الواحد، وإلى الفرقة الواحدة. ولكن (والذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه). كما رأيت إن الله، يمدح القلة ويذم الكثرة، حسب معايير الحق والباطل.. حيث يقول (وقليل من عبادي الشكور) كما يقول ذاما الكثرة الجاهلة (بل أكثرهم لا يعقلون).
إن قلبي بدأ ينفتح، شيئا فشيئا على التأريخ، والشيعة الآن أصبحوا جزءا من الإسلام، وهذا ما توصلت إليه حتى تلك اللحظات. لقد كان
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله فأقبل علي (ع) فقال النبي صلى الله عليه وآله: (والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ونزلت (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية). (13).
وأخرج ابن مردويه عن علي (ع) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله ألم تسمع قول الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية)؟، هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين) (14).
وروى ابن حجر في الصواعق المحرقة، وهو من أكبر الناقمين على الشيعة عن ابن عباس أنه قال، لما أنزل الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي (ع): (هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين.
قال: من عدوي؟ قال: من تبرأ منك ولعنك.
وروى الحمويني الشافعي في فرائد السمطين إن الآية الكريمة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)، نزلت في علي (ع) فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله إذا أقبل علي (ع) قالوا قد جاء خير البرية.
وروى ابن المغازلي المالكي في مناقبه عن ابن عباس، قال: سألت رسول
____________
(13) - الدر المنثور - السيوطي -.
(14) - نفس المصدر السابق.
قال لي جبريل: ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله لكرامته).
ولما كانت الأحاديث التي ربطت الآية بعلي (ع) وشيعته، وبعد أن تواترت واستعصى تكذيبها، لما كان رواتها من فطاحل أهل السنة والجماعة، حاول ابن حجر - في صواعقه المحرقة - أن يفلسفها ويخنقها بترهاته المعهودة، قائلا: عن علي (ع) فقال، قال (ع): إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله قال يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابا مقمعين، ثم جمع علي يديه إلى عنقه يريهم الاقحام قال - بن حجر - وشيعته هم أهل السنة ولا تتوهم الرافضة، والشيعة قبحهم الله).
ولا أحد يشك؟ في هذا التهافت الباطل. إذ كيف يستقيم كلام هذا - المخرف -، وهل يظن أنه يكتب للأرانب. إذا كان شيعة علي (ع) هم أهل السنة، فأعداؤه من؟؟ هل هم شيعته الذين قاتلوا إلى جنبه الطاغوت الأموي؟. ونحن إلى الآن، لن نجد تراث بني أمية سوى عند أهل السنة، ولم نجده عند الشيعة قط.
ومن المؤسف بالنسبة لي، أن بدأت أخسر بعض أصدقائي المقربين. الذين ما ألفنا منهم سوى العمق في الدراسة والتحليل. إنه عزيز علي أن أرى صاحب (التأريخ الإسلامي) محمود شاكر، يقول: (بل لم تكن كلمة الشيعة تحمل أكثر من معنى التأييد والمناصرة. ولكنها غدت مع الزمن فكرا خاصا وعقيدة خاصة، ونسب إلى الأوائل أقوال لم يقولوها وأخبار لم يعرفوها، وأفكار لم تخطر على بالهم أبدا) (15).
وكان على أستاذنا الجليل أن يبحث أكثر من ذلك. فمع أنه لم ينكر إن
____________
(15) - محمود شاكر - التاريخ الإسلامي - الخلفاء الراشدون والعهد الأموي. الطبعة الرابعة
(1405 ه - 1985 م) المكتب الإسلامي.