الصفحة 168
الواقع إن عمر ابن الخطاب كان يطوف يوما في السوق، وإذا به يلقى أبا لؤلؤة فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا.

قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيش صناعتك؟ قال:

نجار، نقاش حداد. قال: فما أرى خراجك كثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال:

نعم. قال، فاعمل لي رحى قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالشرق والمغرب!.

ثم انصرف عنه، فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن) (89) هذا الوجه الأول للمشهد التآمري أما الوجه الثاني، قال ابن الأثير: (ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، أعهد فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال أجده في كتاب التوراة قال عمر (الله! إنك) لتجد عمر ابن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك. قال، وعمر لا يحس وجعا! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان فلما كان الغد جاء كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوى كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس. الخ) (90).

إن الذي ورث غباء الأولين والآخرين، لا يمكن أن تجتاز عليه هذه الحيلة.

فهل هذا يجري بالاتفاق! كيف يقول أبو لؤلؤة ذلك، فيجد كعب الأحبار ينتظر عمر ليقول له ما قال!! لماذا لم يأته قبل ذلك بأشهر أو عشرة أيام أو خمس حتى يقول له قد بقي لك كذا وكذا، إذا كانت أوصاف عمر كما رآها في التوراة ثابتة وقديمة، كما قرأها قبل البعثة وبعدها. الظاهر أن كعبا هذا كان يرقص على الحبال، لذلك أراد أن يثبت نفسه في المجتمع، بأنه من أهل الأسرار، وصاحب الكشوف.

____________

(89) - ابن الأثير - الكامل - (ص 49 ج 2).

(90) - نفس المصدر (ص 50).

الصفحة 169
ليلتف حوله المسلمون. وإلا فأين يوجد عمر ابن الخطاب في التوراة، وفي أي سفر من أسفاره، تقرأه الآن. وكيف يتسنى للتوراة التي أنزلها له أن تحوي أخبارا عن عمر. والقرآن المهيمن على الكتب والناس والدهور، لم يفهم منه كبار الصحابة إن عمر سيقتل بعد ثلاث أيام؟ إنها اللعبة! ولما طعن عمر ابن الخطاب، دخل عليه كعب الأحبار فلما رآه عمر قال:.

توعدني كعب ثلاثا أعدها * ولا شك أن القول ما قال لي كعب (91)
وما بي حذار الموت إني لميت * ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب

كان ذلك الاتفاق والصدفة كما فهم عمر ابن الخطاب. لأنه تولى منصبا لا تسنده فيه حنكة ولا عصمة. ولم يكن مثل علي (ع) الذي كان يعلم بموته كما ورد في الأثير من دون أن يحتاج إلى راهب من أهل الكتاب يعلمه بذلك (92). وكذلك اقتضت سنة التاريخ أن يكون عمر ابن الخطاب، ضحية خفته، وتسمنه حقا ليس له. إذ لم يعرف من يصلح للأمة ومن لم يصلح لها. ثم مات بالقوة التي مهد لها بجهله بخفايا الأمور. إنه لا يعلم حتى، إن الرسول صلى الله عليه وآله قد مات؟!

فكيف يعرف عن مسائل السماء، كما أدرك ذلك يعسوب المؤمنين! ولو راجعنا الملفات التاريخية طرا، لاستطعنا إدراك مدى الحرص الذي بداه زعماء الانتهازية الذين مهدوا لحكم عثمان. وكانوا معروفين لدى الملأ.

لقد كان عمرو بن العاص أحد دواهي العرب من المساهمين في المؤامرة ن وكذلك المغيرة بن شعبة كما سبق ذكره. وتورطهم في العملية كانت له أسبابه الخفية، والتي اكتشفت فيما بعد، وهو التخطيط الأموي، لقلب معادلة الخلافة. واستمالتها إليهم. ذكر أبو علي مسكويه في (تجارب الأمم) (93) وقد كان

____________

(91) - ابن الأثير - الكامل -.

(92) - ولست أدري لماذا لم يخبر كعب الإمام علي (ع) عن موته ويكشف له عن الغيب اللهم إلا أنه يعلم أن عليا (ع) أعلم بالستورات منه!.

(93) - تجارب الأمم أبو علي مسكويه الرازي (320 - 421) (ج 1 ص 264) دار سروش للطباعة والنشر) طهران (1322 ش - 1987 م).

الصفحة 170
جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون (أي بخصوص الخلافة بعد مقتل عمر) فجلسا بالباب، فحصبهما (94) سعد وأقامهما.

فتحصبهما، لم يكن اعتباطيا، وفلتة تلقائية. فالرجلان من أدهى العرب كما تقدم، ومن عملاء الأمويين. ثم أن رمي (سعد) لهما بالحصباء دليل على أن أمرهما ليس عاديا.

وهكذا كانت قصة التبييت لمقتل عمر ابن الخطاب، الذي بالغ في مودته للفئات الأموية وصفات الإيمان (95) رغم ما كانوا يلقونه منه من قسوة عابرة. حيث كان عماله من أمثال، سمرة بن جندب، وعاصم بن قيس، والحجاج بن عتيك ونافع بن الحرث، وأبو هريرة، ومعاوية، وابن العاص، والمغيرة بن شعبة، ويزيد بن أبي سفيان. وكان قد توصل إلى أنهم نهبوا الأموال، وكدسوها بعد أن كانوا فقراء، مثل أبي هريرة، لما قال له عمر علمت أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف وستمائة دينار (96) ومع ذلك لم يقم عليه الحكم الشرعي، بل اكتفى بمقاسمتهم الأموال. وكان من الواجب أن يحاكمهم على هذا الاختلاس، ويعزلهم، ولكنه لم يفعل ذلك، والتاريخ يروي عكس هذا. ظل أمثال أبي هريرة ومعاوية وابن العاص وغيرهم من الطلقاء، أمراء إلى آخر أعمارهم.

ولعل هذا هو السر. فعمر ابن الخطاب سواء أكان سطحيا في اختياراته أو ذكيا فيها. فإنه كان قاصدا في الابقاء عليهم في هذه الإجارات. وذكر بن أبي الحديد في شرح النهج، أنه قيل لعمر: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان، وسعد بن العاص، وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء.

وتركت أن تستعمل عليا والعباس والزبير وطلحة؟! فقال: أما علي فانبه من

____________

(94) - حصبهما: رماهما بالحصباء.

(95) - رأيي إن الأمويين كانوا أذكياء ومخططين بارعين. لقد أدركوا مدى ضعف عمر بن الخطاب، لما لجأ على مودتهم وتأليفهم دون الآخرين!.

(96) - أقول، لعله ربح في (اللوطو) ما يكفيه غناء في حياته بعد الفقر والحاجة!!.

الصفحة 171
ذلك، وأما هؤلاء النفر من قريش فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد). والواقع هو أن عمر ابن الخطاب كان حريصا على أن يراهم على مقربة منه، وحتى لا يذيع أمرهم في الأصقاع الأخرى، وإلا كيف يجعلهم ضمن الستة المرشحين للخلافة بعده أليس ممكن أن يؤدي ذلك إلى فساد عريض؟!.

لقد وفق التيار الأموي في تحقيق جزء من مخططه الهدام. ونجح في توقعاته، لما أثبت عثمان خليفة. وكان (المغيرة بن شعبة) قد قام خطيبا لما انصرف عثمان إلى بيت فاطمة بنت قيس. فقال: (يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفقك، ما كان لنا غير عثمان. وعلي جالس) (97).

فملخص القضية إن عمر راح ضحية قشريته السياسية، إذ ركز على علي (ع) وشيعته، وأرخى اللجام للزمرة الأموية. ومكن لها فكان أن تطور نفوذهم بحيث اقتضى أن يعزل عمر عن الخلافة، لصالح مرشحهم (عثمان) وتدبير العملية. كان بواسطة مجموعة عناصر مشبوهة، منهم (المغيرة بن شعبة) قاتل سعد بن عبادة، وهو بذلك اكتسب خبرة في التصفية الجسدية للسياسيين المعارضين، إذ يعتبر أول منفذ لعملية الاغتيال السياسي تلك. وعمر ابن الخطاب قتل بخنجر (أبي لؤلؤة) (مولى) (المغيرة بن شعبة).

وملف (المغيرة) هذا فيه بعض الفواصل المشبوهة. بدأت وانتهت كالتالي:.

1 - عزله عمر عن البصرة بعد أن شهد عليه بالزنا.

2 - كان على علاقة وثيقة بالأمويين.

3 - أبو لؤلؤة، مولاه!.

4 - هو قاتل (سعد بن عبادة) حسب بعض الروايات.

5 - هو الذي أتى يتلصص على المرشحين بعد مقتل عمر كما تقدم.

____________

(97) - أبو علي مسكويه (تجارب الأمم (ج 1 ص 288).

الصفحة 172
6 - هو صاحب الخطبة أعلاها.

7 - تولى الإمارة في زمن معاوية وكان عميلا له على الكوفة.

8 - رجل زان بشهادة عمر، ومسرف يحب المال فقد كان أول من رشى في الإسلام، ومن إسرافه أن تزوج أكثر من ألف امرأة - مع التطليق حسب صاحب (أسد الغابة).

9 - إنه أحد دهاة العرب الأربعة!.

ثم ماذا بعد؟.

إن عبيد الله بن عمر، راح ينتقم لأبيه. وقتل أبا لؤلؤة وقتل معه أناسا براء، مثل جفينة - رجل نصراني - كان من أهل الحيرة وظهيرا لسعد بن مالك. ثم قتل الهرمزان، فضربه بالسيف. وقال الهرمزان: لا إله إلا الله. ثم أخذه سعد بن أبي وقاص، وحبسه في بيته وأخذ سيفه، ثم أحضره عند عثمان (98) فاستشار عثمان من كان حوله وقال: (أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق!

فقال علي: أرى أن تقتله. وقال عمرو بن العاص إن الله قد أعفاك، أن يكون هذا الحدث، ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليه وقد جعلتها دية وأحتملها في مالي (99).

والملاحظ إن عثمان كان في أجواء الحدث. ورأى أن يطوي هذا الملف، لاغيا كل الأحكام الإسلامية. وهو يعلم أن أقضى الناس وأعلمهم بشرع الله علي (ع) قد قضى بقتله. ولقد أراد الإمام علي (ع) أن يقيم عليه الحد أثناء خلافته. ففر عبيد الله بن عمر إلى معاوية بالشام. وذلك دليلا على أن عثمان كان متجاوزا لحكم شرعي خطر، تجاه عبيد الله.

____________

(98) - التاريخ الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 75).

(99) - ذكر اليعقوبي أن عبيد الله قتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته. وروى بعضهم عنه أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم. وذكر أن عثمان قال له: يا عدو الله قتلت رجلا مسلما، وصبية طفاة، وامرأة لا ذنب لها! قتلني الله إن لم أقتلك، فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص.

الصفحة 173
وبذلك تتوضح الرؤية أكثر، من خلال حضور عمرو بن العاص، كشفيع لعبيد الله، وإقناع عثمان بالعفو عنه. بعد أن تبين الحكم الحقيقي فيه في قضاء الإمام علي (ع).

فالتدبير لقتل عمر بن الخطاب، لم يكن بذلك البساطة التي رواها التاريخ المطرز. وإنما هي نتيجة لمخطط مدروس، يمكن رمقه من خلال التحولات التي جرت فيما بعد ذلك.

2 - القمع الاجتماعي: -

من العوامل التي سهلت على التيار الأموي القيام بعملية الاغتيال هذه، هو العزلة الشعورية التي كانت تفصله عن عامة المجتمع الذي كان يبحث عن المواقع التي تبعده عن عمر بن الخطاب، ذلك أن ما قام بن عمر كان يختلف كثيرا، كثيرا عما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وآله والطبع العمري كان مرفوضا من كل فئات المجتمع. لقد كان المجتمع العربي ذا خصوصيات في الطبع والمزاج وإن الطبيعة القاسية والغاضبة التي صنعتها إياه بيئة الصحراء جعلته منه مجتمعا عصبيا متمردا. ولهذا قال الله سبحانه، لنبيه محمد صلى الله عليه وآله في القرآن (ولو كنت فظا غليظ القلب، لانفضوا من حولك) وبهذا المنهاج، سار النبي صلى الله عليه وآله في خط الدعوة والإرشاد بيد أن عمر بن الخطاب، لم يسر كذلك ولعل مرجع هذا، لفراغه من الاستحقاق الذي يشد إليه الرعية، ولخلوه من الخصائص التي نحمدها عليه العرب، فلجأ إلى القمع، كتعويض عن ذلك الاستحقاق المفقود!

ولعل مرده أيضا، إلى طبيعته التي جبل عليها، إذ أن صورته الجسدية، تحتوي على كل سمات الغلظة والفضاضة.

في شخصية عمر، علامات يمكن إرجاعها إلى عاملين أساسين يمكننا من خلالها رسم الحالة النفسية لعمر بن الخطاب بالشكل الذي قد لا يتفق مع ما ذهب إليه العقاد في عبقريته؟.

الأول: - العامل الجسدي.

الثاني: - عامل (العقدة) النفسية.


الصفحة 174

أولا: - المظهر الجسدي.

للصفات الجسدية دور في معرفة السلوك النفسي للأشخاص وعمر بن الخطاب. له ميزاته الجسدية التي تنسجم مع سلوكه الاجتماعي لقد كان عمر طويلا. جسيما، أصلع، أشعر شديد الحمرة كثير السبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة. وكان رجلا أعسر، أصلع آدم قد فرع الناس كأنه دابة حسب يعقوب بن سفيان في تاريخه (100).

وكان إذا مشى تدانت عقباه. نضيف إلى ذلك إلى أنه كان جهوري الصوت ومدمنا على الخمرة في الجاهلية وحتى قبيل التحريم. ويروى أنه آخر من بقي متعلقا بها ويقول (اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر) (102) إن عمر بن الخطاب قد دخل الإسلام بعاطفة تلقائية كما ورد في السيرة. وهو وإن كان أصله كذلك، فإن الإسلام لا يؤاخذ من حسن إسلامه على ظروفه السابقة (فلا تزر وازرة وزرة أخرى) غير أن رواسب التربية، وعوالق الطفولة، تستمر مع الأنساب حتى الشيخوخة، ويبقى محتفظا بقسط كبير منها.

إن المظهر الجسدي الذي كان يتميز به عمر لم يكن بعكس النفسية المتوازية.

وخصوصا، فإن الإنسان الأعسر، هو في حد ذاته إنسان مضطرب، وعصابي ولكم حاول العقاد أن يتحايل لصنع سورة خيالية عن عمر في العبقرية ولكنه رحمه الله - لم يكن سوى مغالط، إذ أن الشكل الفيزيائي لعمر لم يكن شكل العباقرة، في كل مدارس السلوك والأشخاص من سر (الأسرار) لأرسطو طالس إلى آخر مدارس السلوك في أوربا ورغم أن الخمر كان من عادة العرب، إلا أن التواريخ والسير، تثبت إن من بين العرب من كان يتورع عنها. ويؤكد التاريخ أيضا إن عمر بن الخطاب كان من المدمنين الكبار، وإنه لم ينقطع عن الخمر إلا بعد أن حرمت تحريما شديدا، وبعد أن أعيي الرسول صلى الله عليه وآله بالسؤال الشافي!

____________

(100) - الإصابة في تميز الصحابة (لابن حجر العسقلاني) (ص 518 ج 2) دار صادر.

(102) - ابن كثير التغير.

الصفحة 175
ويعرف المدمن على المسكرات عادة بعدم القدرة على السيطرة على نزواته وأعصابه. فهو معروف بفجاجة الشخصية، خصوصا إذ انقطع عن تناول الخمر الذي أمسى من ضرورياته الجسدية وعادة ما كان العربي يندفع إلى الادمان بأحد السببين إما أن يلتمس من خلاله النشوة والطرب.. وذلك كان من دأب سادات العرب وكبراءها وإما بدافع الانسحاق طلبا للهروب والتعويض بالخيال.

هذه العوامل اجتمعت كاملة، لتصنع من عمر بن الخطاب، الرجل المهاب الذي يخشى من قسوته وخشونته.

ثانيا: عامل العقدة!.

لكي نتمكن من الحفر النفسي في شخصية عمر بن الخطاب يجب أن ندرك بعض المسائل الضرورية. وهي إن عمر إنسان. وهو بذلك يكسب الطبيعة المشتركة مع باقي البشر، ضمن النماذج الطبيعية التي يتقاسمها البشر.

وكونه إنسانا معناه أنه خاضع للمؤثرات البيئية والتربوية، وبالتالي تجرى عليه سنن الحياة ومحدداتها النفسية والاجتماعية. وعمر بن الخطاب الذي قضى أغلبية عمره في أحط بيئة جاهلية، لا يمكننا تصور تحرره الكامل من رواسبها خصوصا، أنه حافظ على مجموعة من هذه السمات في ظل إسلامه، والتي منها، حدة الطبع والفضاضة وعدم احترام كرام القوم! ما يقوم به عمر في فترة خلافته من ضرب الناس دون مبررات، وقمعهم دون هوادة، ليس إلا حالة من التعويض النفسي، يحاول من خلالها الدفاع عن حالة نفسية كامنة، تعتريه، وهي دون شك جعلته، يتطلع بذلك الشكل العنيف إلى (الخلافة) حتى وهو يعلم أنها ليست حقا له.

وحالة من التعويض النفسي لصغار يجده في نفسه منذ زمان، هذا الصغار الذي كون عنده مركبا للنقص، يوجه سلوكه باستمرار، وهو لا يجد توازنه النفسي إلا بالانتقام من الآخرين أو زجرهم بالعنف حتى لا يظهروا عليه. ولذلك نجده يبدأ دائما بقمع الناس، وإذلالهم، حتى إذا ذلوا نجده يرجع ويقوم بعملية معاكسة - بعد تحقيق رغبة الانتقام -، وبروز عقدة الأثمية لذا يبرر من خلالها

الصفحة 176
تواضعه. وما كان عمر بن الخطاب يبدأ في معاملاته بالتواضع. وذلك لأنه وقع بين مجموعة قوى نفسية تتجاذب طبعه باستمرار.

عمر بن الخطاب، لم يكن رجلا مذكورا، عند العرب. ولم يكن له وزن قبلي يثبته ولا سند له من الأنساب يسنده لذلك كان يحاول الانتقام من خلال الخلافة. ليس من أجل كسب ما ضاع منه، وإنما من أجل الانتقام من الأمراء، وأصحاب الرفعة والشرف.

وكان هذا من بين الأسباب التي جعلت المجموعة الأموية تنقم عليه. فلما علم أن عمرو بن العاص - أحد عماله على مصر - قد جمع في حوزته مالا كثيرا، بعث إليه بمحمد بن مسلمة، ليأخذ قسما من أمواله. فلما رأى عمرو بن العاص، ذلك منه قال، لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عبادة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه.

وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج) (103).

(كما أن سعد بن عبادة لما حدثت له المناوشة مع عمر بن الخطاب في السقيفة، نال منه، واستحضر ماضيه وذكره، بأصله، لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع).

وإذا ما استنطقنا (الأنساب) الذي يعتبر أرقى فن أهتم به العرب، سنجد عمر بن الخطاب محدود النسب وضيعا. مما ترك في نفسه عقدة، لا يدركها إلا من أدرك مقدار وقيمة النسب في جزيرة العرب. يروي (محمد بن السائب الكلبي النسابة وأبو مخنف لوط بن يحيي الأزدي النسابة في كتاب الصلابة في معرفة الصحابة وكتاب التنقيح في النسب الصريح بإسنادهم إلى ابن سيابة عبد الله في نسب عمر بن الخطاب قال: (104).

____________

(103) - ابن أبي الحديد في الشرح (ص 175).

(104) - الكشكول (الشيخ يوسف البراني) (المجلد الثالث ص 212 - 213) دار مكتبة الهلال - بيروت.

الصفحة 177
(كان عمر بن الخطاب متولدا من نجيبين متضادين نفيل وهو من نجباء الحبشة. ثم قال ذاكرا نسبه إليهما بعد أن قال: إن نكاح الشبهة من أبواب الحلال وإن المتولد منه ومن الزنا يكون أنجب من الولد للفراش (إلى أن قال) ثم قال: وأما تفصيل نسبه وبيانه وهو أن نفيل كان عبدا لكلب بن لؤي بن غالب القرشي فمات عنه ثم وليه عبد المطلب، وكانت صهاك قد بعثت لعبد المطلب من الحبشة، فكان نفيل يرعى جمال عبد المطلب وصهاك ترعى غنمه وكان يفرق بينهما في المرعى فاتفق يوما اجتماعهما في مراح واحد فهواها وعشقها نفيل، وكان قد ألبسها عبد المطلب سروالا من الأديم وجعل عليه قفلا وجعل مفتاحه معه لمنزلتها منه، فلما راودها قالت: ما لي إلى ما تقول سبيل وقد ألبست هذا الأديم ووضع عليه قفل فقال: أنا أحتال عليه، فأخذ سمنا من مخيض الغنم ودهن به الأديم وما حوله من بدنها حتى استله إلى فخذيها وواقعها فحملت منه بالخطاب، فلما ولدته ألقته على بعض المزابل بالليل خيفة من عبد المطلب فالتقطت الخطاب امرأة يهودية جنازة وربته، فلما كبر كان يقطع الحطب فسمي الخطب لذلك بالحاء المهملة فصحف بالمعجمة، وكانت صهاك ترتاده في الخفية فرآها ذات يوم وقد تطأطأت عجيزتها، ولم يدر من هي فوقع عليها فحملت منه بحنتمة، فلما وضعتها ألقتها على مزابل مكة خارجها فالتقطها هشام بن المغيرة بن وليد ورباها فنسبت إليه، فلما كبرت وكان الخطاب يتردد على هشام فرأى حنتمة فأعجبته فخطبها إلى هشام فزوجه إياها فولدت عمر، وكان الخطاب والد عمر لأنه أولد حنتمة إياه ثم تزوجها وحده. لأنه سافح صهاك قبل فأولدها حنتمة والخطاب من أم واحدة وهي صهاك. هذا ملخص كلام الكلبي.

وبقيت (حنتمة) مجهولة النسب، إذ اختلف في أمرها نسابة العرب. فمنهم من حاول أن ينسبها إلى هشام بن مغيرة على أساس إنها ابنته.

بينما هي متبنات واختلفوا فيها إذا كانت هي بنت هاشم بن مغيرة أم هشام بن مغيرة. ولو كان كما قالوا، لما امتعض العرب من خلافته، ولاحترم مقاماتهم كما هو منهج النبوة (105). كان وضع عمر في طفولته ينوء بالبؤس والمعاناة. فهو

الصفحة 178
الصغير الذي وجد نفسه مقطوع النسب، لا يجد ما يفاخر به أبناء جيله، و (النسب) عند العرب يشكل عقدة للكبار، فكيف بالصغار! والواقع هو أن الحالة النفسية عند عمر تشكلت ضمن هذه العوامل الاجتماعية، مما كون عنده عقدة النقص، وما تولد عنها من روح عدوانية، ونزعة تعويضية هازلة.

هكذا، وخلافا لما وصفه به العقاد وغيره، يمكننا اكتشاف الأسباب التي جعلت عمر بن الخطاب يكون على ذلك الطبع من الفظاظة والحدة. فلم ينجح أحد من درته أصلا. وأول ما ضرب عمر بدرته أم فروة بنت أبي قحافة لما توفي أبو بكر، وبكت على أخيها ومعها مجموعة نساء، فأخرج عمر درته، وعلا بها أم فروة، فهربت الأخريات، وقيل: درة عمر أهيب من سيف الحجاج (106) يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: (وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة (ويروى أن عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة، وارتد إلى نصرانيته، وذلك بسبب لطمة لطمها، ويروى أنه قال بعد أن ندم على ارتداده:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال عمر

هذه الفظاظة والعنجهية، والقمع الاجتماعي الذي ميز خلافة عمر، أثار عليه جبهتين:

الأولى: - قوم شرفاء ساءهم أن يكون عمر أميرا عليهم مسفها لهم. لا يوقر كبيرا ولا صغيرا (107).

____________

(105) - أسد الغابة: أقول والكلبي هو واحد من النسابين الكبار، حيث لا يرقى إليه من انتحلها من المؤرخين والمحدثين. وهو من أقواهم فيما لو راجعنا بن خليكان في وفيات الأعيان.

(106) - ابن أبي الحديد - شرح النهج.

(107) - (يروى أنه رأى شيخا يسير الهوينا فقال من هذا قالوا رجل متنسك،، فضربه بالدرة قائلا:

(لا تمت علينا ديننا أماتك الله. هل ضرب هكذا رجل ظلما حقا في نظر منهج النبوة)؟!.

الصفحة 179
الثانية: - قوم أرادوا تجميع الأموال كابن العاص، وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ومعاوية و.. فساءهم استفزاز عمر لهم. وإن كان محتفظا بإمارتهم.

3 - الشذوذ الفقهي.

يؤخذ على عمر بن الخطاب، أنه خلافا لما يدعي مؤرخو البلاط، رجل عديم الملكة الفقهية. وليس هذا فحسب بل متجرئ على الفتوى فكان يأتي بالنوادر، متجاوزا كل النصوص. يقول ابن أبي الحديد: (وكان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه، ويفتي بضده وخلافه، قضى في الجد مع الأخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد رأيه (شرح النهج ج 3 ص 181).

واعترف غير مرة بقصوره الفقهي أمام جمهور المسلمين، وشاع عنه قوله (كل الناس أفقه من عمر).

وفي إحدى المناسبات قال: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة، ما جعل الله ذلك أنه تعالى قال:

(وآتيتم إحداهن قنطارا، فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (سورة النساء آية 30) فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال).

ويمكننا تلخيص بعض ما ورد عن شذوذه الفقهي الذي رفضه الصحابة، ورأوه مخالفة للقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وآله ما يلي:

1 - حكم عمر بالقضاء على مجنونة قد زنت (الحاكم والبيهقي وأبو داوود).

2 - حكم عمر على المضطرة بالحد (البيهقي ابن الجوزية).

3 - حكم عمر بحرمة المتعتين (الحج والزواج)، (الصحاح).

4 - حكم عمر بإلغاء (حي على خير العمل) في الأذان بعد إن كانت مشروعة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله.


الصفحة 180
5 - عمر يزيد في الآذان (الصلاة خير من النوم).

لقد كان عمر مندفعا إلى العمل بالرأي، حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وكثيرا ما أثار متاعب للنبي صلى الله عليه وآله ولقد خالف الرسول صلى الله عليه وآله في كثير من المواطن فكيف به إذا استتب له الأمر، ولم يجد له سلطانا رادعا.

وهكذا كانت سيرة عمر، وتلك هي بعض ما أخذ عليه. أما قمة الرزية، فهي عندما قتل، ولعب مرة أخرى بالخلافة ومنعها عن الإمام علي (ع).


الصفحة 181

الخلافة بعد وفاة عمر

دخلت (الخلافة) في المشهد الثالث من لعبتها، لتفضي، ويفضي معها الاختيار الأرعن إلى أسوأ وضع عرفته الأمة وإلى أول اهتزاز سياسي شهده المجتمع الإسلامي.

لقد طعن عمر في يوم الأربعاء، ومات يوم الخميس حسب صاحب أسد الغابة وبعد ذلك ترك الخلافة في ستة أشخاص. إنني ما زلت أرى أن عمر بن الخطاب أبدا لا يزهد في الخلافة. وعديم الدهاء إلا في استخلافه (الستة) وإذا ما أمعنا النظر في ملابسات الخلافة بعد مقتل عمر. سوف يتبين لنا أمرها كالشمس في رائعة النهار. والحكاية كالتالي:

(لما قتل بن الخطاب، قيل له على أثر طعنه: (108). (استخلف) فقال:

(عليكم هؤلاء الرهط الذين توفي رسول الله، وهو عنهم راض: علي وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن وسعد خال رسول الله والزبير بن العوام بن عمته، وطلحة. فليختاروا رجلا منهم ويشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الثالث إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شئ له من الأمر. وطلحة شريككم في الأمر. فإن قدم في الأيام الثلاثة فاحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم. ثم قال

____________

(108) - الطبري وآخرون بألفاظ شبه مختلفة، كابن قتيبة، وبن أبي الحديد في الشرح وأخرين.

الصفحة 182
لأبي طلحة الأنصاري، (إن الله تعالى طالما أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا).

وقال لصهيب (صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا، وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شئ له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا منهم وأبى واحد فاشرخ رأسه واضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا واحدا وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة منهم رجلا واحدا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس).

لقد جرى الجمهور على تقبل هذا الحديث دون إكمال العقل والنظر فيه.

وكأن عمر ينطق بالوحي، لذلك سوف نتبين ونحن نتأمل بثاقب النظر، ونافذ الرأي، إن العملية محسوبة سلفا، ودقة الترتيب تفيد أن الأمر كان مخططا في ذهن عمر منذ زمان، والمسألة تبدو حسابية، ولم نعهد على العرب هذه البديهية في الحساب، غير أن بديهية الإمام علي (ع) كانت أسرع، ففهم مقاصد اللعبة، فقال للعباس فور انتهاء عمر من كلامه: (عدلت عنا) قال له العباس: وما علمك قال الإمام علي (ع): (قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون: فيوليها عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إني لا أرجو إلا أحدهما).

فخلع عبد الرحمن نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين. وفي اليوم الرابع، صعد عبد الرحمن المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: (أيها الناس، إني قد سألتكم سرا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرجلين: إما علي وإما عثمان. فقم إلي يا علي! (109) فوقف

الصفحة 183
تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده، فقال:

(هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر؟) (110).

قال: (اللهم لا، ولكن على كتاب الله وسنة نبيه، وعلى جهدي وطاقتي) قال: فأرسل يده، ثم نادى (قم يا عثمان!).

فأحد بيده وهو في موقف علي الذي كان فيه فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر؟) قال (اللهم نعم) فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: (اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، إني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان).

فجعل الناس يبايعون، وتلكأ علي (ع) فقال: عبد الرحمن: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله فسنؤتيه أجرا عظيما). فرجع علي يشق الناس حتى بايع عثمان وهو يقول:

(خدعة وأيما خدعة) (111).

وروى القطب الراوندي، إن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلي (ع) ذهب الأمر منا.

ماذا سنستفيد يا ترى، من هذه اللعبة التاريخية المتقونة، وكيف نقف على حقيقتها. ولكن قبل أن نشق خضمها، يجب أن نوجه إليها في البدء، مجموعة من الأسئلة:

1 - أولا، من أين، ولم، وكيف، جاءت هذه النظرية السياسية، ذات التركيب السداسي؟.

2 - لماذا الستة بالضبط؟.

____________

(109) - ابن الأثير - الكامل في التاريخ -.

(110) - وعند ابن الأثير وغيره: وسيرة الشيخين.

(111) - ابن مسكويه في تجاربه (ج 1 ص 265).

الصفحة 184
3 - وكيف يكون ابن عمر شاهدا ومبشرا في اللحظة الحرجة، ولماذا صهيب يصلي بالناس، وأبو طلحة يتولى قطع الرقاب؟؟.

إن هذه الأسئلة، وعشرات أخرى مثلها، جدير بنا طرحها على هذا النص، لنقف على علاته، وهناته.

يبدأ عمر بفرض رؤيته للخلافة من بعده، وطرحها على أساس أن تقبل ولا تحور. فهي نص منصوص لا رأي بعده. وكيف بالتاريخ يغفل هذا الموقف، ولا يعيد طرح السؤال. فعمر بن الخطاب، هو الذي حال دون الرسول صلى الله عليه وآله وكتابة الكتاب الذي لا يضل الناس بعده، هو الذي رأى أن الأمر متروك للمسلمين ينظرون فيه. كيف يقول في وفاة الرسول صلى الله عليه وآله (إن الرسول يهجر، حسبنا كتاب الله)؟.

ولم يترك للناس حرية النظر في شؤون الأمة، وحسبهم كتاب الله أيضا، ثم لماذا يلزم المرشحين الستة. بمخططه، ويقضي بقتل من خالف.

ثم لماذا لا يكون القتل بالسوية، حتى في الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. ولماذا يقضي بالقتل على ستة، توفي الرسول، وهو عنهم راض، كما شهد بذلك، ثم من أعطاه الحق في ذلك، وما مبرر ذلك من النص.

ولست أدري، هل استلهم عمر فكرته هذه من شريعة حمورابي أو من حلم رآه. أي نص قرآني، وأي سنة نبوية، اعتمدها في هذا المخطط الذي جعل فيه الدم، وإزهاق الأرواح واردا، كان عمر يهدف من خلال مخططه إلى مجموعة أغراض.

أولا: كان يهدف إلى إذلال كبراء المسلمين من جهة، والإمام علي (ع) من جهة خاصة. فمن جهة الآخرين، جعل عليهم عبدا يصلي بهم خلال الفترة الانتقالية.

وهو صهيب. ثم جعل السلطة التنفيذية في يده وأبي طلحة: كي ينفذا عقوبة القتل لكل متمرد من المرشحين الستة، مع احتمال وقوع القتل على الإمام

الصفحة 185
علي (ع) وكذلك إذلالهم، من خلال سلبهم حق المشاركة في الاختيار السياسي.

أما من جهة الإمام علي (ع) فإنه وضعه في مصاف من هم دونه بلا شك، حتى يجرده من امتيازه. ويربي العامة على عدم تعظيم قدره (ع) والملاحظ في ذلك، أن طلحة والزبير، ظلا يريا الخلافة لعلي (ع) منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وواجها أبا بكر وعمر. وتمردا على البيعة. وكانا ضمن المعتصمين في بيت فاطمة (ع) وحدثت لهما مناوشة. وصدام مع عمر بن الخطاب، إلا أن سياسة عمر بن الخطاب في إنزالهما منزل علي (ع) في الخلافة، جعلهما يطمعان ولا يريان في علي ميزة عنهما بعد هذا الانحطاط الذي منيت به العصبة الهاشمية، ولذلك راحا ينازعان الإمام علي (ع) يوم الجمل.

إن عمر بن الخطاب، لم يكن وحده صاحب المخطط، وإذا كان هو صاحبه فلأنه فكر فيه مليا. ولم يكن مخططا تلقائيا كما سطرته كتب التاريخ، لأنه عنصري الدقة والترتيب الحاضرين فيه يستبعدان صدوره عن تلقائية، فمنذ البداية كان عمر بن الخطاب يمهد، لخلافة عثمان، ولكن الحرص على إحضار الستة له أسبابه التكتيكية. لقد حاول عمر من خلال هذا الترتيب أن يظهر للناس من بعده، أن عليا (ع) على الرغم من حضوره، فإنه لم يستطع الفوز بها لعدم جدارته، ورفض الناس له، وبهذا سيسلب منه ورقة الخلافة، ويسقطه سياسيا، كما أنه أراد أن يسقط معه، مناوئيه القدامى وهما طلحة، والزبير، وما وجود سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف سوى لتحقيق التوازن في المخطط، ليفضي الأمر في نهاية الجولة إلى عثمان بن عفان.

يجب أولا أن نمحص هذه الشخصيات الست، لنرى خلفية اختيارهم، ليس هؤلاء الستة كما زعم، هم الوحيدين الذين توفي الرسول صلى الله عليه وآله وهو راض عنهم، فهناك عمار، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد. هم من أهل الإيمان والعلم والقضاء، ولهم سابقية لا يرقى إليها الكثير ممن اختارهم عمر، ولهم من العلم ما لا يوازيه علمهم، بل وأنه اختار من بينهم من ليس فيه ما ادعاه عمر، لقد أقبل

الصفحة 186
على طلحة، وهو له من المبغضين منذ رفض استخلاف أبو بكر إياه. فقال له:

أقول أم أسكت؟ قال: قل، فإنك لا تقول من الخير شيئا، قال: أما إني أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أحد والبأو الذي حدث لك، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب (112).

رتب عمر الأمر على هذه المعطيات التالي:

- عبد الرحمن بن عوف (صهر) عثمان، زوج أخته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

- سعد ابن عم عبد الرحمن وكلاهما من زهرة.

- طلحة تيمي، ابن عم أبي بكر، صاحب ضغن تجاه بني هاشم.

الزبير بن عمة علي (ع) (صفية) بنت عبد المطلب.

- عثمان من بني أبي معيط.

- علي (ع) من بني هاشم.

إن التركيز على الانتماء القبلي ضرورة لفهم ديناميكية الخلافة والاستخلاف، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله واستضعاف النص!.

هناك أربعة من هؤلاء، يعلم عمر، ويعلمون هم أيضا، إنهم غير مرغوب فيهم من قبل المسلمين، وأن الأمر سيبقى بين اثنين لا ثالث لهما: علي (ع) وعثمان.

أما الباقون، فإنهم سيسلمونها تلقائيا لعثمان، باستثناء الزبير، وطلحة مع

____________

(112) - قال أبو عثمان الجاحظ في (السفيانية) إن الكلمة المذكورة هي أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب: قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ما الذي يغنيه حجابهن اليوم! وسيموت غدا فننكحهن. فقال أبو عثمان: لو قال لعمر قائل: أنت قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو راض عن الستة، فكيف الآن لطلحة إنه مات عليه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها! لكان قد رحاه بمشاقصه ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا، فكيف هذا.

الصفحة 187
بعض الشكوك. ولعل الإمام علي (ع) قد فطن لتلك اللعبة لما قال للعباس كما سبق:

(فلو كان الآخران معي (يقصد طلحة والزبير:

لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما).

وفعلا، فإن طلحة لم يسلمها للإمام علي (ع) وما بقي معه (ع) سوى الزبير. فعبد الرحمن بن عوف سيسلمها لصهره عثمان، فإذا فعل فإن سعدا ابن عمه لن يخالفه، وطلحة من المفترض أن يمنعها عن علي (ع) لتلك الضغينة التي ذكرها المؤرخون بين تيم وبني هاشم. وهو ابن عم أبي بكر، ولكن كان من المحتمل أن يخالف بها رأي عمر وعثمان، لكراهيته لهما، وأما الزبير فلقد رأى أن يسلمها إلى لابن عمه علي (ع) بعد أن رآها لن تتم له، وبعد أن تحركت فيه الحمية تجاه قريبه، لما رأى الآخرين مالوا إلى أبناء عشيرتهم كما لأن الزبير وقتئذ من شيعة علي (ع).

ثم كان عمر بن الخطاب قد ضيق الأنفاس على الستة، ورسم لهم مخططا، يعكس مدى حرصه على تفويت الخلافة على علي (ع). فقال آمرا أبا طلحة، أنه إذا أبى واحد، ورضي خمسة، فاشلخ رأس الواحد، ومن البديهي أن الواحد المفترض معارضته للجميع، هو علي بن أبي طالب (ع) ثم بقتل الاثنين، واللذين لا يمكن أن يكونا سوى علي والزبير في أسوأ الاحتمالات، وإذا ما انضاف طلحة، وكان هذا احتمال وارد، بسبب الكراهية التي لا يزال يحملها طلحة لعمر فإن عمر قضى برفض هذا الثلاثي من خلال قوله (فكونوا مع الثلاثة التي فيهن عبد الرحمن بن عوف) علما أن عبد الرحمن لا يمكن أن يكون إلا مع عثمان، وسعد لا يمكن أن يخالف الاثنين:

أولا: للعمومة التي تربطه بعبد الرحمن ولأنه من زهرة.

ثانيا: بأنه لا يزال يجد في نفسه من علي وهو الذي قتل الكثير من عشيرته:

وقتل أباه ببدر.


الصفحة 188
فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن، لن يكونوا منذ البداية - سوى:

عبد الرحمن وبالتالي سعد، وعثمان.

ولهذا قال الإمام علي (ع) (قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.

فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون: فيوليها عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعان بله إني لا أرجو إلا أحدهما).

وذكر الراوندي أن عمر لما قال: كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها قال ابن عباس لعلي (ع): ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان).

ونحن نتسأل، ما هي الحكمة التي تجعل عمر، يقضي بالقتل في الثلاثة التي ليس فيها عبد الرحمن بن عوف. ولماذا لا يقول بالعكس ما دام أنه قال: إن هؤلاء توفي الرسول صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض)، ثم لنفرض إن الأمر كما أراد إذا، لكان من المفترض لو عصت مجموعة علي (ع) أن يقتل هو والزبير، وعلى الرغم من أن عمر، رفض أن يكون ابنه خليفة بعده، وعجبت كيف خوله للاختيار ولو تساوت المعادلة إن عمر رأى ابنه لا يستحق الخلافة، وهو القائل (ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته)، مع ذلك جعله حكما بين الستة فيما لو اختلفوا ثلاثا، ثلاثا. حتى إذا رفضوا مشورته والتي في الغالب يفسرها الإجراء الاستثنائي - قتل أبو طلحة (113) والخمسون الذين معه، الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.

____________

(113) - بعد أن استتب الأمر لعثمان، قال علي (ع): أما لئن بقي عثمان لأذكرته ما أتى، ولئن مات لتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون، ثم قال:

حلفت برب الراقصات عشية * عدون خفافا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر قارنا * نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا

والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه: فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن) (ابن الأثير الكامل):

الصفحة 189
ذكروا أن عمر قال: لو كان أبو عبيدة لاستخلفته (114)، وهو بذلك يكون قد وفي بالعهد، ولو بإثباته بالكلام، ضمن الصفقة الثلاثية التي جرت في سقيفة بني ساعدة، غير أن موته أفسد المخطط، فأعد عمر بن الخطاب هذه (الهندسة) السياسية الحاقدة.

أما مجريات الأمور بين المستخلفين الستة، فإنها، تتحفنا بحقائق أخرى.

فعبد الرحمن بن عوف، كان عراب المشروع العمري، وهو الذي طرح نفسه كشاهد بعد أن تنازل عنها، وفجأة أصبح وكأنه هو المنصب الرئيس لما تسلم مجلس الرسول صلى الله عليه وآله، ولما بقي الأمر كله بيده، دعا عليا (ع) قبل عثمان.

وكانت هذه عملية تمويهية، فهو يدرك أن عليا سوف يرفض سلفا اقتراحه، وشروطه حتى أنه كان سبب عزل علي (ع) وتنصيب عثمان، اتباع سيرة الشيخين، وكان علي (ع) ذا موقف حاد من هذا الشرط. ذلك أنه شرط، لا مغزى له بعد شرطي (كتاب الله، وسنة رسوله).

وهذا كان يعني واحدا من أمرين:

- فإما أن سيرة الشيخين تمثل الكتاب والسنة، وبالتالي، فإيرادها هنا سيكون لغوا زائدا.

- أو أنها شئ جديد، فلا يلزم علي (ع) باتباعها، والدليل على أنه شئ جديد، إن عليا (ع) تمسك بالكتاب والسنة. فعزل بسبب عدم قبوله بسيرة الشيخين.

ولفتة أخرى وهي الأهم. إن الإمام عليا (ع) كان ينظر إلى الخلافة كحق مقدس، ومسؤولية ربانية. وهو لهذا تمسك برأيه، ولم يكن بينه وبينها - لو كان فعلا همه الخلافة - سوى الاعتراف، ولو علنا، بسيرة الشيخين. دعنا نر سيرة الشيخين في سياسة عثمان، وإلى أي وضع أدى المخطط السداسي العمري!.

____________

(114) أنظر الطبري وبن الأثير.

الصفحة 190

الصفحة 191

عثمان أو الفتنة الكبرى

الخليفة الثالث عثمان صنيعة وضع هو في حد ذاته مسلسل لواقع التآمر التاريخي على عصبة بني هاشم، وهنا يمكننا القول إن منطق القبيلة وارد في هذا الاختيار، وأيا كانت خلفيات هذا الاختيار، فإن عثمان لم يكن حلا للمجتمع العربي في تلك الفترة، بقدر ما كان نتيجة حتمية لسنوات طويلة من التقوية للجناح الأموي الذي كان عثمان يشكل واجهته الإسلامية، فشخصية عثمان، كما عرف عنها - على أقل التقادير المجمع عليها - ضعيف الإرادة كسيرها، لا يقوى على اتخاذ القرار، ولا على الصمود في العدل بين العامة والأقرباء.

لقد استفز عثمان بسياسته المسلمين جميعا، وبعضهم حاول أن يجد المبررات لعثمان، فراح يلفق ويركب، لخلق واقع تاريخي مزيف لا يعكس حقيقة، وواقع العهد (العثماني)، لقد أدرك هذا المأزق بعض المفكرين المتأخرين، ورأوا أن عثمان لم يكن يمثل اتجاها إسلاميا في سياساته، يقول سيد قطب:

(وإنه لمن الصعب أن نفهم روح الإسلام في نفس عثمان، ولكن من الصعب كذلك أن نعفيه من الخطأ، الذي نلتمس أسبابه في ولاية مروان الوزارة في كبرة عثمان) (115).

____________

(115) - العدالة الاجتماعية في الإسلام (ص 160) دار الشروق.

الصفحة 192
إن المسألة ليست بهذه البساطة، فعثمان منذ البداية سلك نمطا من الخلافة العشائرية، حيث حمل بني أمية على رقاب الناس، وهو إنذار سبق أن قاله عمر بن الخطاب عند مقتله، وقد مني عثمان بمعارضة قوية أكثر من أي خليفة آخر، والسبب في ذلك، هو أن عثمان بلغ مستوى أكثر تعسفا في تقريب عشيرته، وإعطائها المناصب الحساسة في الدولة الإسلامية.

ولو أخذنا بعين الاعتبار، عامل العشيرة في تشكيل الكيان المعارض لعثمان، سوف ندرك أن عثمان لم يتعرض للقتل لأنه، خالف الالتزام الديني فحسب، وإنما لأنه، رفع من عشيرته، ومكن لها، وسلمها مقاليد الخلافة. كيف - إذا - بدأت خلافة عثمان، وكيف انتهت؟.

لقد تعهد عثمان منذ تسلمه مقاليد الخلافة، بأنه سيتمسك بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان رجل يعي كلامه، وهو وأحد المقربين إلى الشيخين، ومدرك لكل مسالكها في الداخل والخارج. وهو الذي عاش مع الرسول صلى الله عليه وآله وشهد غدير خم، فهو يدرك أن الشيخين هما أول مغامرين في الإسلام، وعرف أيضا، أنه إذا سلك مسيرة الشيخين فإنه سينطلق من نفس منطلقاتها، وهي التعاطي السلبي مع آل البيت (ع) والصحابة الكبار، لقد بدأ بدعم الطلقاء وأبنائهم خلافته، بتعطيل حكم الإسلام في قضية عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان، وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، انتقاما لأبيه كما تقدم. وقد استفتى الصحابة، وقضى علي (ع) بقتله وعثمان، أقسم إنه سيقيم عليه الحد، إلا أنه تجاوز عنه بعد أن تدخل عمرو بن العاص، وكان ذلك بمثابة أول شرخ في جهاز القضاء في عهد عثمان، كان منذ البداية قد أسفر عن الوجه الحقيقي، لتوجهه السياسي. وهو العمل على بناء عشيرته وتقويتها. بعد أن كانت حركة الإسلام قد أضعفتها وكسرت شوكتها. كما كان جهازه الاستشاري مؤلفا من الذين أدخلهم الخوف إلى الإسلام. واستبعد كبار الصحابة، فلما وصل الخبر بما يروج حوله من نعي وانتقاد. أرسل إلى معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وآخرون مثلهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه، فلما اجتمعوا عنده قال: (إن لكل امرئ وزراء نصحاء، وانكم