كذلك كان عمرو بن العاص، تحركه المصلحة، وتملي عليه في الاختيارات الانتهازية. تحرك ضد عثمان لما عزله، ولم يوسع عليه في الإمارة مثل ما فعل بمعاوية. وهو لا يهمه أن تتقوى عشيرة بني عبد مناف. فهو أصلا لم يحص له التاريخ نسبا يفتخر به، وقد عرف بابن النابغة، لأنه وليد نمط معين من الزنا كان معروفا لدى الجاهليين (140)، فهو ليس ابن الفراش، لذا فإن ظروفه النفسية والاجتماعية مهيأة لسلوك هذا النوع من الاختيارات المزدوجة. فكان الدافع الاقتصادي والعشائري، إحدى محفزاته ضد عثمان. وكان بإمكان معاوية أن يذود عن عثمان ويمنع عنه الثوار ولو بالقمع. وكانت أمامه مندوحة للتعجيل بالقدوم، لنصرة عثمان بجيش الشام. غير أن معاوية أبى إلا أن يمارس دهاءه البطئ والهادئ. إنه لا يريد لعثمان أن يقتل ولكنه في سبيل الملك قد يفعل.
وكان قد كتب إليه عثمان أن يعجل في المجئ إليه، فتوجه إليه في اثني عشر ألفا، ثم قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره، فأتى عثمان، فسأله عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر.
إرجع، فجئني بالناس! فرجع، فلم يعد إليه حتى قتل (141).
كانت هناك شريحة في داخل جهاز السلطة العثماني، تريد أن تركب موجة التغيير، لتغير مجراها إلى قصيتها. ورموز هذا التيار، هما (معاوية بن أبي سفيان) و (عمرو بن العاص). ذلك إن معاوية وبحكم النفوذ الواسع الذي اكتسبه في بلاد الشام، حيث أصبح واسع الإمارة، لما انضافت إليه إمارة فلسطين
____________
(139) - التاريخ الكامل لابن الأثير / ج 3 ص 163.
(140) - هو أن يدخل مجموعة من الرجال على امرأة يطؤونها، فإذا حملت، تختار واحدا منهم، وتشير إليه، فيلحق به الولد.
(141) - تاريخ اليعقوبي / ج 3 / ص 175.
يذكر ابن الأثير في الكامل، إنه لما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رمز به الحادي فقال:
وكان كعب على عادته في النبوءات السياسية، يكذبه ويقول:
كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء، يعني معاوية، فطمع فيها من يومئذ. والحقيقة، إن معاوية يطمع فيها منذ ولاها الخليفتان. وهو رمز الأمويين بعد أبيه أبي سفيان. وهو مخطط قديم يمد جذوره إلى البعثة كما تقدم. فالقوم لا ناقة لهم ولا جمل في قضية الإسلام الرسالية، بقدر ما لهم مصلحة في ملك العالم الإسلامي. إنهم قد يملكون العرب لو أظهروا نعرتهم القومية، ولكن كيف يتسنى لهم حكم الأمصار. وما كان لأبناء أمية أن يحكموا عالما بهذه السعة لولا شوكة الإسلام. فالمخطط أدق مما تصور القشريون.
استطاع الصحابة أن يتصلوا بأهل الأمصار ليخبروهم بما يجري من مفاسد الداخل، واستفحل أمر عثمان، وذاعت أخبارهم في البلدان. وفي مصر كان محمد بن أبي بكر وكذا محمد بن أبي حذيفة، يقومان بتحريض الناس على عثمان، ويذكر ابن الأثير إن عثمان بعث إلى الأمصار برجال من عنده ليهدئوا الأوضاع، فبعث إلى الكوفة محمد بن مسلمة، وإلى البصرة، أسامة بن زيد وابن عمر إلى الشام وعمارا إلى مصر. فرجع الجميع إلا عمار. فظنوا أنه قد قتل، حتى وصل كتاب عبد الله بن أبي سرح يخبرهم إن عمارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه، منهم:
عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنافة بن بشر.
والواقع إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة هما اللذان أججا الأوضاع وانضم إليهما عمار بن ياسر الذي كان من قبل أحد المتمردين على خط الرأي. ثم اجتمعت كلمة المسلمين في الداخل والخارج، واجتمع رأي الأمصار على إرسال
1 - الوفد المصري يتألف من خمسمائة إلى - ألف (142) يتزعمهم محمد بن أبي بكر - رض، وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني. وكان محمد بن أبي بكر قد خرج وبقي محمد بن أبي حذيفة في مصر وغلب عليها لما ذهب عنها عبد الله بن سعد.
2 - الوفد الكوفي، يتألف من عدد أهل مصر، على رأسهم مالك الأشتر (رض) وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري.
3 - الوفد البصري، ويتألف من نفس عدد أهل مصر عليهم حكيم بن جبله العبدي، وذريع بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش، ويذكر ابن الأثير، أن أميرهم كان هو حوقوص بن زهير السعدي.
وكان خروجهم بشوال جميعا.
ورفع الوفد المصري (مذكرته) لعثمان حيث جاء فيها:
(أما بعد: فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله، الله، ثم الله، الله، فإنك على دنيا فاستقم معها آخرة، ولا تنس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم إنا لله ولله نغضب، وفي الله نرضى، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة مجلحة مبلجة فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام..) (143) وكان عمرو بن العاص أراد أن يكلم القوم لما دعاه إلى ذلك عثمان فصاح القوم في
____________
(142) - ابن الأثير / التاريخ الكامل / ج 3 / ص 158.
(143) - تاريخ الطبري 5 / 111 - 112.
ولما رأى عثمان أنه محاصر، ومطلوب لا محالة، عاهدهم على تنفيذ كتاب الله وسنة نبيه، وأن يعدل بين المسلمين، ويغير عماله ويعزلهم، وبأن يرد المنفي ولا يجمر في البعوث وأن علي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين. وحيث إن جماعة من المهاجرين والأنصار تبلغ ثلاثين رجلا تحت قيادة علي (ع) راحوا إلى المصريين يتوسطون، ويطلبون من المصريين الرجوع ويذكر ابن الأثير، إن عثمان جاء قبل ذلك إلى علي يطلبه النصرة وبأن يرد القوم عنه، فقال له الإمام علي (ع): على أي شئ أردهم عنك؟ قال على أن يصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي.
فقال علي: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. وفعلا تم رد المصريين استجابة لطلب الإمام علي (ع) فرجعوا.
إن الإمامة أو الخلافة قانون يحكم مجتمع الإسلام. ومهما ضعف عثمان عن تحمل هذا العبء فإنه لن يعذر أمام القانون، لأنه كم قد يفسد المجتمع لو أننا أعذرنا من يضعف أو يجهل القانون. وما كان عثمان سوى واجهة، ومطية للزمرة المشبوهة من بني أمية، يركبونها، وهو مرتاح لذلك، ويعز عليه أن يرضي الأمة بالعدل، على إغضاب أقربائه على الباطل.
كان مما اتفق عليه بين عثمان والمصريين هو عزل والي مصر، وجعل محمد بن أبي بكر. فأقرهم على ذلك، فرجعوا. وما أن ساروا قليلا، إذا براكب جمل، أرابهم أمره، ففتشوه فإذا به يحمل صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد:
إذا قدم عليك النفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم.. وبأن يقتل محمد بن أبي
وما أن رجع أهل مصر إلى عثمان وحاصروه، حتى تمخض القوم مرة أخرى على عثمان، واستنكف الجميع عن التوسط له عند الثوار لما رأوا ما رأوا. إلا أقرباؤه وحاشيته.
وذهب مروان إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس؟ قالت: قد فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج. قال:
فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت: لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لو وددت أنه مقطع بغرارة من غرائري، وأني أطيق حمله، فأطرحه في البحر (145) والمعروف عن عائشة إنها كانت أكثر تحريضا على عثمان وهي صاحبة كلمة: (اقتلوا نعثلا فقد كفر)!.
وثقل على الإمام علي (ع) أن يستمر في التوسط إليه مع القوم. ذلك لأن الإمام عليا (ع) يدرك أن عثمان هو المسؤول عن مقتله بسبب عصيانه مشورة كبار الصحابة، واقتصاره على الطلقاء.
كان (ع) يدرك أن الجماهير المسلمة غاضبة في الله، وتطلب تحكيم شرعه في قضية الحكم. وأقبل علي (ع) على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال:
أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قال نعم فقال علي (ع): أي عباد الله! يا للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيفه له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وقام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه! واسم الله إني لأراه يوردك ولا يصدرك! وما أنا عائد بعد
____________
(144) - اليعقوبي وابن الأثير في تاريخهما.
(145) - نفس المصدر.
لم يرجع الإمام علي (ع) إلى عثمان ولم يشأ أن يقف إلى جانب رجل، إنما ثار عليه الناس طلبا للعدالة والإصلاح، فأبى عليهم ذلك والتوى عليهم. وما بقي للإمام علي (ع) إلا أن يقوم بدوره الإنساني، وهو أن يبعث بابنيه لحراسة الباب حتى لا يهجم عليه الناس، فيقطعونه بالشكل الذي لا ينطبق مع حكم الشريعة، وينافي حقوق الإنسان كما يدركها المعصوم. تماما كما لم يشأ أن يمثل بقتيله هو عبد الله بن ملجم، وأوصى بالإحسان إليه ما لم يمت فإن مات فيقم عليه الحد الشرعي بلا زيادة ولا نقصان. هذا الانضباط الشرعي وإنسانية الإمام علي (ع) هي التي جعلته يرسل ابنيه إلى باب عثمان من دون أن يدخلوا في صراع مع ثوار الغضب، الذين أصروا على إسقاط عثمان أو تصفيته.
وحيث إن عثمان نقض الوثيقة وخان العهد مع الوفود، ولم يرد أيضا أن ينزل عن السلطة لصالح من هو أولى بها. قرر الثوار أن يقتحموا عليه الدار. ولما كان الحسن (ع) عند الباب، وحتى لا يصيبه أذى من الجماهير رأى الثوار بقيادة محمد بن أبي بكر، أن يتسلقوا عليه الدار، لينفذوا فيه الحد الثوري. فاقتحموا الدار من دار عمرو بن حزم. وسرعان ما تدفق عليه الناس، واكتضت الدار بالثوار، وانتدبوا من يقتله، وجرت محاورات بين الثوار وعثمان قبل قتله كلهم يطلبه لترك الخلافة وهو يأبى ذلك. وأي شجاعة هذه التي يملكها عثمان في الاصرار على الخلافة. هلا كان إصراره أيضا في العدل بين أقربائه والمسلمين!.
____________
(146) - ابن الأثير في التاريخ.
(147) - نفس المصدر.
ووثب عليه كنانة بن بشر التجيبي فقتله.
وهكذا شارك الثوار في قتله ومثلوا به، ومنعوا دفنه في قبور المسلمين وبقي ثلاثة أيام في مزبلة. وانطلق به جماعة من الناس خفية معهم عائشة بنت عثمان ومعها مصباح، حتى وصلوا به حشد كوكب، فحفروا له حفرة، فلما رأته ابنته صاحت، فقال ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عيناك، فدفنوه، ولم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراب حثوا (148).
لم يكن الثوار من الفئة الواحدة. فمنهم المؤمنون حقا. ومنهم من تضرر بالفقر، والظلم العثماني - ومنهم من جمع بين الإيمان والضرر الاجتماعي.
فكانت ثورة!.
ويذكر ابن الأثير إن من بين القوم من ثار فأخذ ما وجد، وتنادوا: أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس، وكان هؤلاء هم المتضررين اقتصاديا من سياسة عثمان المالية، وقد وثب عليه عمرو بن الحمق وكان ولا يزال به رمق، فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى. وأما ست فلما كان في صدري عليه. وأقبل عليه عمير ابن صامي ووثب عليه وكسر ضلعا من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن (149). وكان قتله في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 ه في يوم الجمعة
____________
(148) - ابن قتيبة - تاريخ الخلفاء.
(149) - ابن الأثير.
محمد بن أبي بكر، محمد بن أبي حذيفة، ابن حزم، كنانة بن بشر التجيبي، عمرو بن الحمق الخزاعي، عبد الرحمن ابن عديس البلوي، وسودان بن حمران (151).
لقد كانت حقا ثورة من أجل تثبيت العدالة الاجتماعية من جديد، ثورة شاركت فيها كل فصائل المعارضة في المجتمع، بكل همومها وأهدافها، فكل الناس قتل عثمان، وما من صغير وكبير إلا ونقم عليه. وفرضت عليه عزلة اجتماعية، ووقف منه الناس موقف الاعتراض والمداهنة والخوف، وفي كل الأحوال، كانوا يتربصون الفرصة التي سنحت لهم ليزيحوه عن الخلافة، ليزيحوا معه طغمته الطليقة. لكن هل استطاعوا ارجاع الأمور إلى نصابها، هل قضوا فعلا على النفوذ الأموي؟.
إنهم لم يفعلوا سوى أن صنعوا المنعطف الآخر، ليدخل التاريخ الإسلامي، إلى حقبة الاضطرابات الكبرى. فنفوذ بني أمية أوسع وأعمق وأقوى من أن تزيحه ثورة فقراء، وسنين من الخلافة مضت كان فيها بنو أمية على يقظة في بناء قدراتهم. إن قتل عثمان قواهم بدلا من أن يضعفهم. وما أن قتل عثمان، حتى اكفهر التاريخ عن وجوه ذميمة، طالما بيتت النفاق. مقتل عثمان كان مدخلا لفهم حقيقة التاريخ الإسلامي!.
____________
(150) - ابن قتيبة.
(151) - اليعقوبي.
بيعة الإمام علي (ع)
لقد اصطدمت المؤامرة - ضد الإمام علي (ع) مع التاريخ ولم يبقى أمام الناس سوى الرجوع إليه. وكان لا بد أن يكون للمؤامرة سقف تقف عنده. هذا السقف هو يقظة الجماهير المسلمة على أثر مقتل عثمان. لقد ثار هذا القطاع الواسع من الفقراء والمنبوذين والمؤمنين، على كل أشكال القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأموي في عهد عثمان. آن لهم أن يوقفوا زحف المؤامرة. فهم يتطلعون إلى من يسلك فيهم عدل محمد صلى الله عليه وآله ويسوي بينهم في التوزيع ويرشف قلوبهم عقيدة وتقوى. ليس أمامهم إلا علي. علي فقط!.
ولكم حاول بعض الخنافيس من البدو المقملين والطلقاء، أن يطرحوا بديلا آخر للخلافة غير علي بن أبي طالب (ع). لقد لجأ البعض جهلا أو عمدا، إلى أمثال ابن عمر وغيره.
أفابن عمر هو أيضا ممن منح التقدم على رمز الأمة الإسلامية؟ أيها المجرمون، ما لكم كيف تحكمون! ها هو ذا التاريخ يضع الأمة أمام الاختيار الصعب. أمام العدل كل العدل، وأمام الجور كل الجور. فكانت يومها بيعت علي بن أبي طالب، أتته تحبوا بعد أن عذرها التاريخ. وأتته رثة، خلقة، عليلة! ليتحمل الإمام علي (ع) مسؤولية سنوات من التخلف، مضت، وليعيد هندسة الاجتماع الإسلامي وفق المبدأ، وبمقتضى الإسلام كانت مسؤوليته يومئذ، مسؤولية تاريخية. كيف يعيد إلى الخط المستقيم، امبراطورية واسعة الأطراف
اتجه التاريخ بالأمة صوب علي (ع) لتركع أمام الحق، معترفة بخطيئتها!
ليتحمل الكل مسؤوليته، فلا غموض بعد اليوم. فأما حق بين وأما باطل مبلج!.
كان اليوم جمعة، لخمس بقين من ذي الحجة يوم بويع الإمام علي (ع) من قبل المهاجرين والأنصار. وكان فيهم طلحة والزبير. ورفض الإمام علي (ع) البيعة، وقال لهم: التمسوا غيري! إمعانا منه في تسجيل الموقف المسبق. فلقد أدرك أن القوم سيحاربونه لا محالة، وبأن الكثير ممن بايعه سينقلبون، وبأن المسؤولية جسيمة، ورأي علي (ع) فيها حاسم. ومتى قبلت الأمة الحسم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إنه يسجل عليهم موقفا تاريخيا. وإن الإمام علي (ع) قد قال للزبير إن شئت بايعني وإن شئت أبايعك. فبايع الزبير. وقد علم الزبير إن عليا (ع) يروم اختباره من خلال هذا العرض، واعترف بذلك لقد قالها الزبير وطلحة: (إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنه لا يبايعنا. وهرب إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر (152).
كان طلحة يومها أول من بايع. ذلك أن الأشتر أتاه فقال له: (بايع) فقال: (امهلني أنظر) فجرد الأشتر سيفه وقال: (لتبايعن أو لأضعنه بين عينيك).
فقال طلحة (وأين المذهب عن أبي الحسن)، ثم صعد المنبر فبايعه. فقال رجل من بني أسد:
____________
(152) - تاريخ ابن الأثير ص 191 ج 3.
لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول) (154). وكان لا بد أيضا للزبير وطلحة أن يبايعا، وقالوا: (إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت) لذلك بعث المصريون ببصري إلى الزبير، في نفر، وكان ذلك، حكيم بن جبلة وكذا بعثوا إلى طلحة كوفيا مع نفر، وقالوا لكل واحد منهما (احذر لا تحابه).
فراحوا إليهما يحدونهما بالسيف. والسبب هو أن الزبير وطلحة طمعا في الخلافة، وقد كان هوى البصريين على الزبير وهوى الكوفيين على طلحة كما ذكر المؤرخون، فيما كان هوى المصريين على علي (ع)، وأولئك هم مجموع الوفود التي جاءت للثورة على عثمان.
ويذكر ابن الأثير أن الأنصار بايعت إلا نفرا يسيرا منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان ابن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية.
كان سبب عدم بيعتهم، هو الخوف من عدالة الإمام علي (ع)، فهم الذين عاشوا كالفيروس الاجتماعي، ينخر ثروة الأمة، ويعيش على سبيل النهب. كان حسان بن ثابت - كما ذكر ابن الأثير شاعرا لا يبالي ما يصنع. وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حضر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصارا لله، مرتين، فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلا لأنه أكثر لك من العبدان، فماذا - بالله - تنتظر من هكذا رجل. خصوصا وإن الإمام
____________
(153) - مسكويه في تجاربه - ابن الأثير واليعقوبي في تاريخيهما.
(154) - مسكويه في تجارب الأمم.
وأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك له ما أخذ منها (155) وكذلك فعل عبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة. فهذا الأخير ما فتئ يلعب على الحبال.
تسلم الإمام علي (ع) مقاليد الخلافة وألقى خطبته الشهيرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(إن الله أنزل كتابا هاديا يبين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض، أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرمات غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم وأن ما خلفكم الساعة تحدوكم، تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض).
كانت تلك صرخة روحية في مجتمع أنشد إلى طينة الأرض ونتانتها. كلمة رسالية مسؤولة في قوم غدا أكثرهم متداعي العزيمة. وييأس علي (ع) صدمة نفسية لمجتمع، لانت عقيدته من فرط الاستغناء الفاحش بعد الفاقة المدقعة.
وبعد سنوات من النهب والأرستقراطية يأتي الإمام علي (ع) ليقول: (أيها الناس، إنما أنا رجل منكم لي ما لكم، وعلي ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمرت به. ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شئ. ولو وجدته قد تزوج به النساء، وملك الإماء، وفرق في البلدان لرددته. فإن في
____________
(155) - بن الأثير.
أيها الناس. ألا لا يقولون رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرققة، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، (حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا). ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته، فإن الفضل غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله.
ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله، فصدق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا.
فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء).
هذا هو علي (ع) وتلك هي البيئة التي وجد فيها. بيئة الثراء والاستغلال والامتيازات الطبقية.
أي الناس مستعد يومها، لتسليم ما تراكم لديه خلال سنين الغفلة والنهب وصراع الامتيازات؟.
أي إيمان تركه الجشع الأموي في المجتمع، والتفقير المقابل في صفوف الطبقات الصغرى؟.
وأي حرية تبقى بعد كل هذا القمع الذي أجراه الخلفاء على المجتمع، فعلي (ع) جاء ليرفع صخورا ثقال، إلى سماء الروح، وليعطي للجميع حقه، إنه شطب بالأحمر على إيديولوجية الجبر التي تقول: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه). جاء ليعلمهم أن الفقير يعيش أعلى مستوى من الحاجة في مجتمع الإسلام. وإن كثيرا من الفقراء إنما وجدوا بسبب سوء التوزيع. كيف وهو القائل: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع).
هذه الروح السامية، وهذه الاجتماعية الإسلامية هي منهج الإمام علي (ع) في مجتمع إقطاعي!، إنها النقلة البعيدة، والطفرة العليا، والمبادرة النقيضة، ولذلك لم يرضوا عنه، (يقول سيد قطب: ولقد كان من الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن
ولذلك دخل الإمام علي (ع) في معركة تاريخية مع فئتين، إحداهما إقطاعية، والأخرى فقيرة انتهازية. وهو صراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والجاهلية!.
كان هناك ثلاثة نفر من قريش لم يبايعوا بعد، وهم مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص. فقال أحدهم: يا هذا إنك قد وترتنا جميعا، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه. (157).
ثم اشترطوا عليه في البيعة أن يضع عنهم ما أصابوا ويعفي لهم عما في أيديهم، ثم تقتل قتلة عثمان، ورد الإمام عند ذلك - غاضبا: أما ما ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمن قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم. فقال مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى.
وكان القوم يدبرون عملية الهرب إلى الشام، ونقض البيعة. كانت كلمة الأشتر، على مقتضى التصور الشيعي لأئمة أهل البيت (ع)، حيث قال: أيها الناس، هذا وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن
____________
(156) - العدالة الاجتماعية في الإسلام - ص 163.
(157) - اليعقوبي.
ثم قام الإمام بعدها بعزل عمال عثمان عن البلدان، لقطع دابر الاستغلال.
فهو لم يأت في سياق خلفائي رسمي ليبقي على أزلام العهد البائد. إنها ثورة وتغيير للوضع من الجدور..
ولهذا سيلجأ إلى عزل الجميع سوى موسى الأشعري لما أشار الأشتر على علي (ع) بالإبقاء عليه. واستبدلهم جميعا برموز الثورة. فولى قثم بن العباس مكة، و عبد الله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف الأنصاري البصرة.
وتزلف كل من طلحة والزبير وطلبا من الإمام علي (ع) إشراكهما في الأمر.
فهما رجلان يلهثان وراء الدنيا. غير أن الإمام علي (ع) لم يأت إلى الخلافة ليعبث. أراد أن يعطيهما نموذجا للحق والالتزام. ليتركها صورة للأجيال حول سلوك الإمام، ومدى اختلافها عن سلوك المغتصبين. وماذا يا ترى، سيجدون من جواب عند الإمام علي (ع) الذي اختلطت زينة الحياة عنده وتدنت حتى لم يعد يفرز بين نعمة وأخرى ويقول عن الذهب والفضة كلاهما عندي حجر؟، كان جواب الإمام علي (ع) (أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود) (159).
وما كان لطلحة ولا الزبير، وقد فاضت عليهما الدنيا في زمن عثمان. ما كان لهما أن يشركا عليا (ع) في الزهد والتقشف. وأن ليندى الجبين لأنهما قد تمرغا في رغدهما، وهو يكسر الكسر اليابسة بركبته، ويقول للحسن ابنه (ع): امشوي الكراكر عند علي بن أبي طالب.. لا والله، ولمن يتركون الذهب في مخازنهم يكسر بالفؤوس. فأعلنا عند ذلك، الرفض!، بيد أنهما مشدودان إلى الواقع
____________
(158) - نفس المصدر.
(159) - نفس المصدر.
وهذه هي الفلتة النفسية التي أظهرها الواقع وعلى ألسنتهما، فالمسألة أصبحت تتحرك ضمن قوالب الأرحام. لم تعد القوانين والشرائع تجري وفق موازين العدل والانضباط. إنهما تعلما من الحقبة العثمانية، إن المسؤولية صلة رحم يشكر عليها، فهي عطاء وليست إدارة مسؤولية!، ولم يكن الإمام علي (ع) ليضعف أمام نعرة إنما ابتلى بها الله ضعاف العقول، وضيقي الآفاق أعطاهما درسا تاريخيا، تنتصر فيه العقيدة على القرابة، وتنتصر فيه المسؤولية على الرحم وتتكسر وشائج الدم والعرق على صخرة القانون! قال (ع):
وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين، واسترد العهد منهم، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال لهما: لولا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي (160).
كان من المفروض وفق النظرية السياسية الداعية للتمسك بالممكن، وأنصاف الحلول (والماكس - مين) و.. وأن يسكت عنهم الإمام علي (ع) أن يترك للزبير اليمامة والبحرين، ثم لطلحة اليمن، ولمعاوية الشام. فالقوم أصحاب دنيا، فليشغلهم بها. لقد كان هذا هو الصواب، هو السياسة!؟.
غير أن الواقع يختلف، والموضوع يتناقض مع مفهوم الممكن وأنصاف الحلول. فهذه غلطة وقع ضحيتها الكثير، والسبب في ذلك، إنهم لم يعيشوا شخصية الإمام علي (ع) بفضائها الأوسع، وإنما اقتصروا على البعد الضيق منها. وكذلك حال العباقرة والعظماء. وحتى استطاع الرعاع فهم العبقرية في
____________
(160) - نفس المصدر.
هنا أتفق بكل قوة مع الجابري، في أن منطق القبيلة والغنيمة والعقيدة، كان هو المحدد الرئيسي للعقل السياسي العربي. ولكنني لا اتفق معه في كثير من القضايا التي ترتبط بتلك المحددات. فالإمام علي (ع) بقي مرفوضا، لأنه حكم منطق العقيدة. ولكنه لم يراع المتطلب القبلي والغنيمي. لذلك رفض من قبل قطاع كبير من الناس كما تقدم، أولئك الذين تربوا في ترف الحقبة العثمانية.
إلا أن الشئ الذي غاب عن الكثير ممن استحمرتهم وأبهرت وعيهم، لعبة (الشعرة) التي أرسى قواعدها معاوية بن أبي سفيان، ليصبح بذلك الرجل القوي في المعارك السياسية ضد الإمام علي (ع) الذي بدا في عين الآخرين كأنه عديم الخبرة، هو أنهم لم يفهموا الواقع الذي جاءت فيه الخلافة لعلي (ع) وشخصية علي (ع) كذلك.
فالخلافة جاءت لعلي (ع) والأمة كلها تحت الهيمنة الأموية. ولأن كان عثمان قد قتل، فإن معاوية ومن حوله من الأمويين لا يزال مهيمنا على الشام. ثابت الأركان ذا نفوذ لا يطال. وأهل الشام لا يعرفون عن علي (ع) ولا غيره شيئا.
. وجاءت الخلافة لعلي (ع) والناس أشبه ما يكونون بالرجل المريض، لا يسمعون ولا يطيعون. وضاقوا من شدة علي (ع) وتنمره. فراحوا إلى السكون، والتمسوا السلام، على كل المفاسد التي لا تزال تهدد صرح الأمة الإسلامية. إنه في قوم قال عنهم: (لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان). وهو الذي ود لو يبدل أصحابه يومها ويصرف العدد الكبير منهم بواحد من أصحاب معاوية (161).
____________
(161) - لوددت لو أصرفكم - بأصحاب معاوية - صرف الدينار بالدرهم.
ولذلك يعلنها الإمام علي (ع) درسا للأجيال يقرع به منافذ الألباب: (والله ما معاوية بأدهى مني وأنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس). فالمسألة في جوهرها ليست مسألة سياسية تقتضي التواء وتحايلا، للقبض على أسباب النفوذ. أنها مسألة أمة، كتب لها أن تقوم على الحق وبالحق ليس إلا.
والإمام علي (ع) كان رجل عقيدة. يريد أن (يؤدلج) المجتمع بعقيدة الإسلام. لذلك لم يهتم بالفتوحات التي كانت مصدرا للغنيمة، ولا بالتقرب إلى القبائل والأقرباء، بتنصيب رموزها في الإمارات، على هشاشتهم، تزلفا، ومرونة.. وفي ذلك مكسب سياسي مصدره - عائممل القبيلة وهو يدرك نتائج هذه الإجراءات تجاوز المكسب السياسي من أجل الانجاز الحضاري الكبير!.
كيف؟.
الإمام علي (ع) كان رجل أيديولوجيا - عقيدة وليس سياسيا، مخادعا. له رسالة حضارية يؤديها، ويمارس دوره بوعي خاص ونظرة معينة. له معاييره في (الحقيقة) وليس في (اللعبة السياسية) أي إنه تجاوز (السياسي) من أجل (الأيديولوجي) من أجل التوجه الحضاري!، خسران (دولة) بالنسبة للإمام علي (ع) شأنه كباقي العقائديين، لا يعني شيئا. لأن دولة سياسية غير قادرة وغير قابلة لممارسة المهمة العقائدية، تساوي اللاشئ. لذلك أراد أن يوقف المسيرة.
يوقف التاريخ التآمري معها. لتنضبط الأمور، أو لا تنضبط. لكي يسير التاريخ في الوجهة المفضوحة الفصيحة. لا في خط التضليل والتلبيس!. الإمام علي (ع) بهذا المعنى كان استرايجيا ولم يكن سياسيا تكتيكيا.
(أنزلني الدهر حتى قيل علي ومعاوية)!.
أجل. لقد جاء من يفهم الحكم والسياسة على هذا الأساس. وكان المغيرة بن شعبة، ومن نصح عليا (ع) بهذا الأمر. غير أن الإمام علي (ع) أبى إلا أن يمارس منهجه، وموقفه الاستراتيجي. طلب منه ابن عباس، أن يهادن معاوية ويعطيه إمارة الشام. فطلب الإمام من ابن عباس، أن يطيعه - فقط - وأن ليس لمعاوية إلا السيف!.
خرج الزبير وطلحة إلى العمرة. لكن عليا (ع) أدرك أمرهما. وما همه ذلك. لأنه يسلك مخططا أبعد مما يتصوران. وقال لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة (162). لحقا بعائشة في مكة وحرضاها على الخروج. وعائشة من، ولماذا؟.
كانت عائشة من الناقمين الأول على عثمان. ومرارا صاحت: اقتلوا نعثلا فقد كفر، وهي أول من أطلق عليه ذلك الاسم (163)، ولم تجب طلب مروان لها لنصرة عثمان والتوسط له مع القوم يوم الحصار، وهي تتأهب للعمرة. وسارت تؤلب عليه الناس جميعا، واعتبرت من أشد الناس عليه في ذلك الوقت. وعندما وقف عثمان مرة فخطب، دلت عائشة قميص رسول الله ونادت:
____________
(162) - اليعقوبي وغيره.
(163) - ابن الأثير في التاريخ وابن أبي الحديد في الشرح.
وعندما سمعت بخبر مقتله، قالت: بعدا لنعثل وسحقا (165). ومن الجانب الآخر كان طلحة والزبير يتحينان الفرصة لمغادرة المدينة. فهما يهدفان إلى أكثر من إسقاط عثمان. يريدان الخلافة أو أقل أن يفضلهما علي (ع) على باقي المسلمين في العطايا. غير أنهما لم يفلحا في استدراج علي (ع) للمساومة، فقال طلحة، معربا عن حالة الفشل هذه: (ما لنا من هذا الأمر إلا كلحسة الكلب أنفه) (166).
وخرج بعد ذلك كل من طلحة والزبير، يبغيان الافلات من يد علي (ع)، ليلتحقا بعائشة. وما أن التحقا بها حتى أقنعاها بالخروج معهما لقتال علي (ع) والتحق بهم كل من الأمويين وولاة عثمان الذين عزلهم الإمام علي (ع). لم تكن عائشة تظن أن الأمر بعد عثمان سيؤول إلى علي (ع). كانت تتصور أن جذوة الهاشميين قد انطفأت، منذ أن أخذ منهم حقهم، أبوها وفاروقه. ورغم ما قامت به من تحريض على عثمان. فهي ترى أن الأمر سيؤول لا محالة لابن عمها طلحة.
وعندما لم يتوفق في ذلك، غيرت عائشة وجهة نظرها، وتبنت خطا نقيضا، وهو المطالبة بدم عثمان. فعندما بلغها خبر المقتل، وكانت بمكة، قالت: أبعده الله، ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد، وكانت تقول: أبعده الله، قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله، يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه، إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع - تقصد طلحة - ثم أقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وكانت تقول:
بعدا لنعثل وسحقا، إيه ذا الإصبع، إيه أبا شبل، إيه ابن عم، لله أبوك أما إنهم وجدوا طلحة لها كفؤا، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثوا الإبل
____________
(164) - اليعقوبي في التاريخ.
(165) - ابن أبي الحديد في الشرح.
(166) - الطبري في التاريخ
ثم قال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين والله لا أعرف بين لابتيها أحد أولى بها منه ولا أحق ولا أرى له نظيرا في جميع حالاته فلماذا تكرهين ولايته؟.
فراحت تقول: ردوني. ردوني. فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه! فقال لها ابن أم كلاب: فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، فلقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر، قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب:
ويذكر البلاذري في أنسابه إنها راحت إلى مكة ونزلت على باب المسجد فقصدت الحجر فتسترت واجتمع الناس إليها، فقالت:
يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه. وكانت تقول: يا معشر قريش إن عثمان قد قتل، قتله علي بن أبي طالب، والله لأنملة - أو قالت - لليلة من
____________
(167) - أنظر الطبري، وابن سعد.
لحق طلحة والزبير، بعد أن خسرا امتيازاتهما مع علي بن أبي طالب (ع)، فانتهيا إلى مكة حيث عائشة تقوم بالشغب. فكانت فرصة لها، ليجتمعا على مخطط يواجهون به علي (ع). والغريب، إنهما لم يكونا يفعلان هذا مع أبي بكر وعمر. إنهم يعلمان أن عليا (ع) رجل له أعداء في كل مكان، وأن بلاءه في الإسلام لم يترك له حليفا. وهو القائل: ما ترك لي الحق من صديق! استغلا الفرصة للتأليب على أمير المؤمنين (ع)، وزرع الفتنة في الأمة. وكان إلى جانب ذلك من العمال المعزولين من ليس له مصلحة في خلافة علي (ع) مثل ابن عامر ويعلي بن أمية وما أشبه. وكانا لا يزالان يملكان الثروة الفاحشة. فاستثمرا قسطا كبيرا منها في المعركة ضد علي (ع) ويذكر الطبري، أن يعلى بن أمية - وكان علي (ع) قد عزله عن اليمن - ساهم بأربعمائة ألف، أعطاها الزبير، وحمل عائشة على جمل (عسكر)، اشتراه بثمانين دينارا. كما ساهم ابن عامر بمال وفير وأربعمائة بعير.
واجتمعوا في بيت عائشة، يخططون للخروج فكانت النتيجة أن يتجهوا بادئ ذي بدء إلى الكوفة حيث للزبير شيعة وأتباع، وإلى البصرة حيث يوجد شيعة لطلحة. وساروا إلى المدينة بجيش يتألف من أهل المدينة والكوفة، يتسع لثلاثة آلاف رجل.
ولما قدموا على البصرة منعهم عامل الإمام علي (ع) عليها - عثمان بن حنيف - فغدروا به ووثبوا عليه، وهموا بقتله لولا أن خافوا غضب الأنصار، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه (168) وبقي كذلك رهينة بين أيديهم، ينتظرون قدوم الإمام علي (ع).
ولما علم حكيم بن جبلة بما صنعوا بعثمان بن حنيف جاءهم في جماعة من عبد القيس وسار نحو دار الرزق. وقال: لست أخاف الله إن لم أنصره. وحدث بينه
____________