ماذا بقي لها بعد ذلك من عقيدة تواجه بها الواقع؟
وفي الواقع المصري حدثت صدامات كثيرة بين تيار الجهاد وبين تيار الإخوان بسبب الصراع على المساجد في صعيد مصر. كما حدثت صدامات بين التيار السلفي وتيار الإخوان بسبب نفس الأمر، ثم تطور الأمر ليتحول إلى صدام مع الحكومة بسبب هذه المساجد التي اتخذت منها بعض التيارات مقرا لها تبث من خلالها دعوته خاصة تيار الجهاد في الصعيد، مما دفع بالحكومة مؤخرا إلى القيام بعملية مصادرات واسعة لهذه المساجد في بقاع كثيرة في مصر (1).
ولقد شكلت هذه المساجد نقطة ضعف لتيار الجهاد النشط في صعيد مصر وفي بعض أحياء القاهرة وأتاحت للحكومة فرصة رصدها بسهولة.
ويعود تمسك التيارات الإسلامية في مصر بالمساجد إلى أساس سلفي تدعمه النصوص النبوية الواردة في المساجد وأقوال السلف. ولما كانت التيارات الإسلامية في مصر يسيطر عليها العقل السلفي فمن ثم هي لا تهتم بالأبعاد الأمنية والسياسية لعملية استغلال المساجد أو هي في غفلة عنها بسبب عقل الماضي (2).
وكان طرح تيار التكفير الذي ظهر في منتصف السبعينات بمصر قد تحرر إلى حد كبير من فكرة الإمامة، حيث تبنى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل
____________
<=
ودعمها من قبل دول الخليج وباكستان وغيرها. ولما انزلقت الحركة الإسلامية في متاهة هذه الثورة
التي كان وقودها النفط والدولار. ولو لم يكن هناك إجماع من فقهاء النفط على مواجهة الكفر
البواح في أفغانستان ما شكلت الثورة الأفغانية أدنى جاذبية للشباب المسلم الذي اندفع أفواجا في
صفوفها، وقد أدت الثورة الأفغانية خدمة جليلة لحكام النفط وفقهائهم، إذ صرفت وجوه هؤلاء
الشباب عن الكفر البواح في بلادهم.
(1) أنظر لنا الحركة الإسلامية في مصر. وقد تركزت حركة المساجد في صعيد مصر حيث
ينشط تيار الجهاد السلفي..
(2) أنظر الحركة الإسلامية، والعقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف.
مأزق الوعي:
تشبعت الحركة الإسلامية المعاصرة بالفكر السلفي الذي تمخض عن الحقبة النفطية المعاصرة التي تغذى من قبل النظام السعودي الوهابي. وقد نتج عن هذا التشبع أن زهدت الحركة الإسلامية في فقه الواقع وانكبت على كتب السلف، خاصة كتب ابن تيمية، تستقي منها تصورها وعقائدها وأفكارها في مواجهة الواقع.
وهناك عدة كتب تراثية متداولة بين أيدي الشباب المسلم اليوم خاصة في مصر كان لها أثرها الفعال في دعم حالة اللاوعي التي تعيشها التيارات الإسلامية أمام الأحداث والمتغيرات الراهنة.
وفي مقدمة هذه الكتب كتب محمد بن عبد الوهاب وكتاب العقيدة الواسطية لابن تيمية والعقيدة الطحاوية للطحاوي والعواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي. وهذه الكتب الأربعة هي أعمدة الخط السلفي المعاصر وأساس التربية الفكرية للعاملين في ساحة الحركة الإسلامية (1).
ونحن هنا لن نعرض لهذه الكتب أو نناقش المفاهيم التي تطرحها وإنما يعنينا الدور الذي تلعبه هذه الكتب وغيرها في مأزق الوعي الذي تعيشه الحركة الإسلامية اليوم والذي يمكن تجسيمه في فكرة الإمامة المنعكسة في هذه الكتب على حركة التاريخ بحيث قتلت حدثيته وعومت حركته وشوهت معالمه مما أدى إلى اضمحلال الوعي التاريخي لدى أجيال الحركة المعاصرة ونتج عن الأخير تخبط الحركة في مواجهة الواقع.
فهذه الكتب، خاصة العواصم من القواصم، تعمى على الصراعات التي دارت بسبب الإمامة بين الصحابة وبعضهم وبين الإمام علي عليه السلام وعائشة ثم معاوية.
____________
(1) أنظر مناقشة هذه الكتب الثلاثة في كتابنا فقه الهزيمة.
ولقد دخل أمر السكوت عن هذه الأحداث في صلب الاعتقاد، بحيث أصبح المساس بها وبالشخصيات التي ارتبطت بها يعتبر مساسا بالعقيدة.
تقول العقيدة الطحاوية: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق.. وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
وتقول العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم مراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار.. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه الصحيح منه، هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون إن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل لا يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر. حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين وإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور.
وتقول جوهرة التوحيد: لما ذكر أن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون أحتاج للجواب عما وقع بينهم من المنازعات الموهمة قدحا في حقهم مع أنهم لا يصرون على عمل المعاصي. وإن لم يكونوا معصومين، وقد وقع تشاجر بين علي ومعاوية وقد افترقت الصحابة ثلاث فرق:
فرقة اجتهدت فظهر لها أن الحق مع علي عليه السلام فقاتلت معه.
وفرقة اجتهدت فظهر لها أن الحق مع معاوية فقاتلت معه.
وفرقة توقفت..
وقد قال العلماء: المصيب بأجرين والمخطئ بأجر واحد.
وقد شهد الله ورسوله لهم بالعدالة. والمراد من تأويل ذلك أن يصرف إلى محمل حسن لتحسين الظن بهم فلم يخرج واحد منهم عن العدالة بما وقع بينهم لأنهم مجتهدون.
ينص متن الجوهرة على ما يلي: وأول التشاجر الذي ورد، إن خضت فيه واجتنب داء الحسد.
ويعلق الشارح قائلا: أي إن قدر أنك خضت فيه فأوله ولا تنقص أحدا منهم، وإنما قال المصنف ذلك لأن الشخص ليس مأمورا بالخوض فيما جرى بينهم، فإنه ليس من العقائد الدينية، ولا من القواعد الكلامية، وليس مما ينتفع به في الدين، بل ربما ضر في اليقين، فلا يباح الخوض فيه إلا للرد على المتعصبين أو للتعلم. أما العوام فلا يجوز لهم الخوض فيه.
فتأمل كلام ابن تيمية تجده يضفي العصمة على جميع الصحابة ويبرر انحرافاتهم ويضمن لهم مغفرة هذا الانحراف.
وأمام هذا الكلام يجب أن يتوقف العقل عن التفكير ويكف اللسان عن الكلام وإلا حاد عن طريق الفرقة الناجية وأصبح في عداد الهالكين.
ويقول ابن حنبل: والكف عن مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، تحدثوا بفضائلهم وأمسكوا عما شجر بينهم، ولا تشاور أحدا من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك. ولا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم. فمن فعل ذلك وجب على السلطان تأديبه وعقوبته. ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وجلده في المجلس حتى يتوب (1).
لقد اعتبر أهل السنة كل من يخرج عن هذا المنهج مبتدعا، يجب اعتزاله ومعاقبته، وها هو ابن حنبل يحرض السلاطين على ردع المخالفين من أصحاب العقول الذين يريدون فهم التاريخ وأحداثه كمقدمة لفهم دينهم.
وهذا نداء وجهه مجموعة من فقهاء النفط إلى المسلمين يطالبون فيه المسلمين بالسمع والطاعة للحكام، عدلوا أو جاروا ما أقاموا الصلاة وإقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا. متبرئين فيه من الخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على الأئمة، بمجرد الجور والمعصية.
داعين إلى التمسك بسنة الخلفاء الراشدين محذرين من البدع ومحدثات الأمور (2).
لقد أدت هذه القواعد السلفية الجامدة إلى تكبيل العقل المسلم وتعطيله عن القيام بدوره الذي خلق من لأجله وهو التفكير والتدبر والبحث والتأمل (3).
ولا شك أن الاعتقاد بصواب موقف عائشة وطلحة والزبير وعثمان ومعاوية سوف يؤدي بلا شك إلى تمييع فكرة الحق في نفوس المسلمين وتسطيحها.
____________
(1) ابن حنبل، السنة وعقيدة أهل السنة والجماعة.
(2) نداء من علماء البلد الحرام في معتقد أهل الإسلام ط. السعودية.
(3) أنظر لنا العقل المسلم.
إن أخطر النتائج من وراء الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة وعدم الخوض في مساوئهم وانحرافاتهم هي ضياع فقه العدو الذي يعد الركن الأساسي لقيام مواجهة واعية وفاعلة من أجل التغيير وتمكين الإسلام.
وإن مثل هذا العقائد إنما هي من اختراع السياسة بهدف حماية الحكام وأصحاب المصالح والنفوذ. وقد طوعت لأجلها الكثير من النصوص من أجل إضفاء الصبغة الشرعية عليها حتى يقبلها الناس.
فما دام معاوية أصبح إماما ومجتهدا مأجورا عدلا وكل حكام المسلمين ممن على شاكلته أصبحوا أئمة للمسلمين يجب السمع والطاعة لهم، فمن هو الذي يتآمر على الإسلام إذن؟! ومن الذي عوق مسيرته وأوصلنا إلى مرحلة السقوط والضياع والانحطاط التي نعيشها اليوم..؟!
ولقد تفرخ عن هذا الاعتقاد إضفاء الشرعية على نظام آل سعود الذي يعد امتدادا للأنظمة السابقة التي حكمت المسلمين من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله والذي تمكن بعون الفقهاء وبعض التيارات الإسلامية وفي مقدمتها تيار الإخوان المسلمين من اختراق الحركة الإسلامية واحتوائها، وهذه النتيجة هي أخطر نتائج هذا الاعتقاد السلفي. أن أصبحت التيارات الإسلامية ألعوبة في يد الحكام وعلى رأسهم آل سعود..
ولقد عايشنا ولا زلنا نعايش تجربة الإخوان المسلمين مع آل سعود ومدى الآثار السلبية التي نتجت عن هذا التعايش بين الإخوان والسعوديين على الحركة الإسلامية بشكل عام.
وهنا نصل إلى تشخيص مأزق الوعي الذي تعيشه الحركة الإسلامية اليوم تشخيصا واقعيا له امتداداته من الماضي.
كيف يمكن للحركة الإسلامية أن تبني خطة فاعلة في مواجهة الواقع وهي لا تملك القدرة على التمييز بين العدو والصديق..؟
ولن يفرقوا بين الجهاد في فلسطين والجهاد في أفغانستان.
إنني لا أجد بين التيارات الإسلامية المعاصرة وبين الرموز البارزة في ساحتها من يجرؤ على الخوض في آل سعود أو سحب الاعتراف بهم كنظام إسلامي.
ذلك لأن بركات النفط قد حلت على الجميع وعلى رأسها التيارات الإسلامية، والفضل يرجع في ذلك كله إلى الإخوان المسلمين الذين لاذوا بهذا النظام واحتموا به، ووجدت التيارات الإسلامية ورموزها البارزة ما يبرر موقفها من آل سعود في عقائد السلف التي أضفت الشرعية على الأمويين والعباسيين وحتى المماليك.
والسعوديون لا يختلفون عن هؤلاء في شئ، وهم يرفعون راية السلف وينشرون دعوتهم في الآفاق، ففي نصرة دعوة السلف نصرة لهم. فعقائد السلف تمنحهم الشرعية كما منحت بني أمية وبني العباس، وتعتبرهم أئمة يجب على المسلم أن يسمع لهم ويطيع ويقاتل تحت رايتهم إيران والعراق وسائر البغاة المارقين ويصلي ويحج معهم.
إن تلك هي النتيجة الطبيعية لكل الذين يسيرون على خط بني أمية أن يكونوا في النهاية من السائرين على خط آل سعود..
وهذه النتيجة التي أوصلت الحركة الإسلامية إلى مأزق الوعي الذي تعيشه والذي أوقعها فريسة الأخطبوط السعودي.
مأزق الخروج:
يعد تيار الجهاد من أكثر التيارات الإسلامية حيرة في مواجهة الواقع.
فالتيار السلفي وتيار الإخوان قد تبنيا موقف السلف وعقائدهم في مواجهة الواقع والتي تحض على الاستسلام له والتعايش معه.
والنصوص السلفية التي ألحقت بهذه النصوص النبوية زادت الأمور تعقيدا ووضعت عشرات العراقيل أمام أية محاولة للخروج والانتفاضة في وجه الحكام. والتيارات الإسلامية الأخرى التي تتحصن بهذه النصوص تتربص به..
ومن ثم اندفع هذا التيار يخوض في تراث السلف عسى أن يجد شيئا يدعم به تصوره ويضفي عليه المشروعية.
وسرعان ما تم اكتشاف موقف لابن تيمية وبعض فتاوى خاصة به وببعض أتباعه تلقفها تيار الجهاد في شغف وصدع بها في مواجهة الواقع والتيارات الأخرى المناهضة. أما الموقف فيتمثل في رؤية ابن تيمية لحادثة وقعت في عصره لمجموعة من التتار الذين أسلموا ثم قاموا بإعداد دستور للحكم أسموه (الياثق) وهو خليط من أفكار جنكيز خان على آيات من القرآن والإنجيل والتوراة. فحكم ابن تيمية بكفرهم وردتهم عن الإسلام واعتبرهم من معطلي الشرائع الذين تستباح دماؤهم وأموالهم، وله فتوى كبيرة حول هذا الأمر (1).
وهذه الفتوى اعتمدها تيار الجهاد وطبقها على الواقع والحكام وجعل منهما منطلقه الفكري العقائدي في مواجهة الواقع بالإضافة إلى فتاوى أخرى له موجهة إلى أهل الذمة من اليهود والنصارى تستبيح أموالهم ودماءهم في أحوال معينة.
وقد نسي تيار الجهاد أو تناسى أن طرح ابن تيمية هذا يعد شاذا في وسط أهل السنة كحال أطروحاته الأخرى في مسائل الفقه والاعتقاد.
إلا أن ما يجب أن نبينه هنا أن معظم التيارات الإسلامية المعاصرة، خاصة التيارات الإسلامية في مصر، قد رضعت الفكر الوهابي السعودي
____________
(1) أنظر تفاصيل هذه الفتوى في الفتاوى الكبرى لابن تيمية..
ومن المعروف أن الخط الوهابي نهض أساسا على فكر ابن تيمية وأطروحاته الشاذة التي ضربت تاريخيا وتم بعثها من جديد على أيدي ابن عبد الوهاب.
وينبغي لنا أن نقرر هنا أن تيار الجهاد في مصر عندما قرر اغتيال السادات واستباحة دمه اعتمد في المقام الأول على فتوى ابن تيمية المتعلقة بالتتار.
كما اعتمد على فتاواه الأخرى المتعلقة بأهل الذمة في استباحة دماء وأموال نصارى مصر (1).
وكتاب " الفريضة الغائبة " الذي قام بتأليفه محمد عبد السلام فرج أحد الخمسة الذين أعدموا في عملية اغتيال السادات اعتمد في المقام الأول على آراء ابن تيمية ومن سار على نهجه في تكفير الحكام واستباحة دماء أهل القبلة..
وفتوى قتل السادات إنما صدرت في نهاية عهده أي بعد فترة لا تقل عن عشر سنوات من حكمه، وبعد أن كشر عن أنيابه في وجه التيارات الإسلامية، وأعلن فصل الدين عن الدولة، وقرر أنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وشبه حجاب النساء بالخيمة، ثم أصدر قراراته بتصفية الحركة الإسلامية.
ومثل هذه المواقف والقرارات من قبل السادات هي التي دفعت تيار الجهاد إلى البحث في أمر قتله واستصدار الفتوى التي تبيح ذلك.
ولو لم يكن السادات قد أقدم على هذه الأمور ما كان قد استفز التيار الإسلامي وعجل بصدور فتوى استباحة دمه.
إن القاتل الحقيقي للسادات هو ابن تيمية وما كان الذين أطلقوا الرصاص عليه سوى أدوات عصرية حركها عقل الماضي، لأجل ذلك فإن هذه العملية
____________
(1) جمعت هذه الفتاوى وغيرها في كتاب الفريضة الغائبة الذي ألفه محمد عبد السلام فرج وكان يوزع سرا في الوسط الإسلامي، وعمليات السطو على محلات الذهب التي يملكها المسيحيون تعتمد على هذه الفتاوى، وكذلك عمليات حرق الكنائس..
ويعود السبب في ذلك إلى أن منطلق التحرك لقتل السادات لم يكن منطلقا سياسيا تغييريا وإنما منطلقا شرعيا على أساس فتوى صادرة فيه وحده دون من حوله، حرص منفذوها على ألا تصيب رصاصاتهم غير السادات من باب الحرص الشرعي.
ومثل هذه الحادثة التاريخية التي عجزت الحركة الإسلامية في مصر عن استثمارها إنما تؤكد الانتكاسة الحركية التي منيت بها الحركة بسبب تلك الأفكار السلفية العقيمة التي تتعلق بفكرة الإمامة التي تضع عشرات المحاذير حول الخروج على الحكام والصدام معهم والتي هي في الأصل من اختراع السياسة..
لقد كان طرح تيار الجهاد يعد طرحا سياسيا سلفيا مهزوزا في مواجهة طرح التيارات الأخرى التي ترفض فكرة الخروج وتدين بالسمع والطاعة للحكام.
والمتأمل في الردود التي تصدت لتيار الجهاد من قبل الأزهر وفقهاء السلطة والتيار السلفي سوف يتبين له قوة هذه الردود وتحصنها بالنصوص التي تعصم دماء الحكام وتوجب السمع والطاعة لهم وهي مروية في الغالب في الصحيحين مما يجعل فرصة نقدها أو تضعيفها غير واردة.
من هنا يتبين لنا مدى جسامة المأزق الحركي (مأزق الخروج) الذي يعانيه تيار الجهاد بسبب هذا الكم الهائل من النصوص النصوص المتعلقة بالإمامة عند أهل السنة والتي تجعل مسألة الخروج على الحكام والصدام تتطلب الخروج على هذه النصوص وتحطيم الأطر السلفية واستبدالها بأطر أخرى أكثر وعيا وارتباطا بالواقع. وهذا ما يجرؤ أحد على فعله.
والتيار الإسلامي الوحيد الذي تجرأ على هذه الأطر السلفية هو تيار التكفير غير أنه لم يوظف تصوره توظيفا صحيحا.
الإمامة عند الشيعة
تعد الإمامة عند الشيعة أصلا من أصول الدين.. وهذا الأصل هو ما يميزها عن أهل السنة وعن الفرق الأخرى.
ولأجل تبني الشيعة قضية الإمامة نعتوا بالشيعة الإمامية، أي الذين يعتقدون في اثني عشر إماما بعد الرسول صلى الله عليه وآله.
والشيعة حين تتبنى قضية الإمامة إنما تستند في ذلك إلى حجج شرعية تتمثل في نصوص قرآنية ونبوية بالإضافة إلى حجج عقلية.
وهذه النصوص القرآنية والنبوية يعمل بها أهل السنة أيضا لكنهم لا يفهمون منها ذلك الفهم الذي تفهمه الشيعة منها.
وهذا لا يعني أن جميع نصوص الإمامة تعد نصوصا ظنية، بل هناك نصوص قطعية واضحة الدلالة على الإمامة إلا أن أهل السنة سيرا مع قاعدة التأويل والتبرير يخضعون هذه النصوص للمفهوم الذي يتناسب مع عقائدهم.
ولا يخفى أن السياسة تدخلت في تفسير النصوص المتعلقة بالإمامة بل إنها اخترعت نصوصا مضادة لها على ما سوف نبين.
وتحاول بعض الاتجاهات من القدماء والمعاصرين إثارة الشبهات حول فكرة الإمامة عند الشيعة، وذلك بهدف تقويضها والتشكيك في نشأتها لإيصال المسلمين إلى قناعة بأنها فكرة طارئة على الدين ومخترعة من قبل عناصر مدسوسة.
ولقد شغلت قضية الإمامة المسلمين من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وشهرت السيوف وأريقت الدماء ودب الخلاف بين الأمة بسببها، وما كان كل ذلك يمكن أن يحدث لولا أن هناك انحرافا حدث عن خط الرسول صلى الله عليه وآله بدأ مع مرحلة السقيفة وانتهى بظهور الملكية على يد معاوية (1).
____________
(1) أنظر لنا السيف والسياسة وهو كتاب يعرض لمحطات ظهور الخط الأموي في واقع المسلمين
=>
وجوهر الخلاف بين الشيعة وأهل السنة حول الإمامة إنما يكمن في موقف كل من الطرفين من آل البيت.
فموقف أهل السنة من آل البيت هو موقف عائم، فهم يعرفونهم بأنهم أزواج النبي وآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس (1).
أما موقف الشيعة فهو موقف محدد يحصرهم في ذرية علي عليه السلام، ولديهم من النصوص ما يدعم هذا الموقف.
وبالطبع فإن مثل هذا الموقف العائم من قبل أهل السنة لا تبنى عليه فكرة الإمامة خاصة أنهم لا يجعلون لآل البيت أي خصوصية تميزهم عن بقية المسلمين.
أما حصر آل البيت في ذرية علي وإيجاد خصوصية لهم بحكم النصوص فيفرض وجوب الإمامة عليهم وهو ما تقول به الشيعة.
وسوف نعرض في هذا الفصل نظرية الإمامة عند الشيعة مستعرضين للأدلة الشرعية والعقلية التي تقول بوجوبها.
هل الإمامة ضرورة..؟:
يعتبر الشيعة أن الإمامة ضرورة كضرورة الرسل. فكما أن مهمة الرسل هي هداية أقوامهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم كذلك مهمة الإمام بالنسبة لقومه.
والإمام هو وصي الرسول.. وما من رسول إلا وله وصي يكون حجة من على قومه من بعده كهارون بالنسبة إلى موسى.. وعلي بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وآله.
____________
<=
واختفاء خط آل البيت.
(1) أنظر العقيدة الطحاوية والواسطية شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين.
وإذا كان الله يرسل الرسل لأقوامهم لأجل هدايتهم وإصلاح معتقداتهم فيمكث الرسول فيهم إلى ما شاء الله حتى إذا توفي وطال على قومه الأمد، انحرف قومه وفسدت معتقداتهم مما يقتضي إرسال رسول جديد لهم..
فما هو الضمان الذي يحول دون انحراف أمة محمد من بعده وهم كبقية الأمم السابقة لا بد أن ينطبق حالها على حالهم؟
لعل الجواب البديهي على هذا السؤال هو القرآن.
لكن هذه الإجابة مردودة على أصحابها لسبب وجيه هو أن الرسل السابقين كانوا يتركون في أقوامهم كتبا ومع ذلك قد انحرفوا.
ترك موسى التوراة وضل بنو إسرائيل.
وترك عيسى الإنجيل وضل أنصاره في سبل شتى.
إذن لا بد من حجة قائمة تحمي الكتاب الذي جاء به الرسول وتحفظه للأمة من بعده وتكون علامات على طريق الهداية والصراط المستقيم الذي دعا إليه الرسول.
وقد يقول قائل: إذا كان هناك وصي للرسول يكون حجة من بعده وهدى للناس، فلماذا ضلت الناس إذن وتطلب الأمر إرسال رسول آخر؟
إننا يجب علينا أن نعلم أساسا أنه ليست مهمة الرسل هي هداية جميع الناس أو تحويلهم إلى ملائكة. فإن الرسول مهمته الأساسية هي البلاغ والسامع مخير بين أن يهتدي وأن يختار الضلالة.
وقد ذهب موسى لميقات ربه وترك هارون على قومه فعبدوا العجل ولم يستطع هارون أن يحول بين قوم موسى وبين عبادة العجل.
فإذا كان الناس يضلون في عهد الرسل أفلا يضلون في عهد الأنبياء.؟
وإذا كان الرسل لم يستطيعوا الحيلولة دون ضلال الناس فهل يستطيع الأئمة؟
ويقول (ولست عليهم بمصيطر) الغاشية / 22 وهي نصوص موجهة للرسول بهدف تبصيره بحقيقة موقف الجماهير من الدعوات الإلهية، فليس من سلطة الرسول إكراه الناس على الإيمان.
ولأجل ذلك فإن الذين اهتدوا واتبعوا الرسل هم قلة..
وكذلك الأمر بالنسبة للوصي.
إلا الأمر بالنسبة للأقوام السابقة أنه بعد الرسل وبعد الأوصياء كان الله سبحانه يجدد دعوته بإرسال رسل يكملون مهمة الرسل السابقين لهم، أو يأتون بدين جديد. لكن الأمر بالنسبة لقوم محمد صلى الله عليه وآله كان مختلفا.
إذ إن الرسول صلى الله عليه وآله كان خاتم المرسلين، مما يقتضي الأمر وجود أوصياء على مر الزمان من بعده وحتى قيام الساعة.
وهنا تبرز فكرة الإمامة وأهميتها.
إن دور الإمام إنما هو مكمل لدور الرسول ومتمم له. فقد يكون وسيلة لدخول أقوام آخرين في دين الله لم يدخلوا في حياة الرسول صلى الله عليه وآله. وقد يكون وسيلة لحسم الردة والخلاف من بعد الرسول. وهو سنة ثابتة تسير مع حركة الدعوات الإلهية وليست معصومة منه أمة محمد. وقد يكون وسيلة لتبصير الناس بحقيقة دينهم إلا أن ذلك كله ليس هو المهمة الأساسية للإمام. إنما مهمة الإمام الأساسية هي إقامة الحجة على الناس من بعد وفاة الرسول.
ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم..) الإسراء / 71.
فهذا النص إنما هو موجه إلى الأقوام التي سوف تأتي بعد الرسول، حيث لا رسل ولا أنبياء وإنما يدعون إلى حقيقة الإسلام ويكونون حججا على الناس يوم البعث والحساب.
فكأن الإمام هو الفيصل بين الإسلام والجاهلية، فمن تبعه فقد دخل في حظيرة الإسلام ومن خالفه دخل حظيرة الجاهلية.
وأهل السنة فسروا الإمام في النص القرآني المذكور بالكتاب وبالرسول كما فسروا الإمام في النص النبوي بالحاكم، ولذا كان ابن عمر وأنس والتابعون يسارعون إلى مبايعة الحاكم في زمانهم والالتزام بخطه مخافة أن يموتوا على الجاهلية. حتى أن ابن عمر بايع الحجاج في زمانه مخافة أن يموت دون أن يكون مرتبطا بإمام زمانه وكان قبل ذلك قد بايع معاوية ويزيد ولم يبايع عليا (2).
وتفسير الإمام بالكتاب هو قول مردود لعدة وجوه:
الأول: إن هذا التفسير مناقض للغة فلم يرد الكتاب بمعنى إمام في اللغة.
الثاني: إن هناك كثيرا من الأقوام لم يبعث إليهم رسل وليس لديهم كتب.
الثالث: إن تفسير الإمام بالرسول مناقض للغة، فالرسول يمكن أن يكون إماما من باب الوصف والمجاز وليس من باب المعنى الحرفي.
الرابع: إن الذين فسروا الإمام بالكتاب اعتمدوا في تفسيرهم على قوله تعالى: (فمن أوتي كتابه بيمينه..) وقوله: (إمام مبين).
وفاتهم أن الكتاب المقصود هنا هو سجل الأعمال الخاصة بالمرء في الدنيا. وليس الكتاب الذي جاء به الرسل.
الخامس: إن لفظ أناس يخص المؤمن وغير المؤمن. وغير المؤمن ليس له كتاب.
____________
(1) رواه الترمذي والنسائي..
(2) عاش ابن عمر حتى عصر الحجاج. انظر تاريخ الطبري وكتب التاريخ الأخرى.
وانظر حديث: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة. البخاري كتاب الفتن وهو يكشف موقف ابن عمر السلبي من موقعة الحرة عام 61 هـ بعد مصرع الحسين عليه السلام وقد ذكر ابن عمر هذا الحديث محتجا به على ضرورة التمسك ببيعته ليزيد الذي خلعته المدينة بعد وقعة كربلاء. انظر القصة بكاملها في كتب التاريخ. وفتح الباري ج 13 / 68 وما بعدها. وانظر لنا فقه الهزيمة فصل الرجال.
السابع: إن معاني القرآن صريحة ومحددة، ولو كان الله سبحانه يريد بالإمام الرسول لذكر ذلك صراحة.
الثامن: إنه لا يعقل أن يبعث كل إنسان يوم القيامة بكتابه. وهذا يناقض ما جاء في القرآن. والله سبحانه لم يبين لنا ذلك في حق الرسل فكيف يمكن أن يتحقق في أتباعهم وأقوامهم؟ ثم إن كل رسول هو حجة على قومه بالكتاب الذي جاء إليهم. فما هي الحاجة إلى أن يبعثوا بكتابهم..؟
إن وجود الإمام بالنسبة للأمة ضرورة حيوية ينبني عليها وجودها ومستقبلها. وإن ما عانته الأمة من بعد الرسول وحتى يومنا هذا من فرقة وشتات ومظالم ومفاسد وانحرافات أضاعت هوية الإسلام وأشقت المسلمين إنما يعود سببه إلى فقدان الإمامة من واقع المسلمين.
لقد أدى تعيين الحكام مكان الإمام وإلزام الأمة بطاعتهم بأحاديث مخترعة إلى دخول الأمة مرحلة عبادة الأصنام. فإن الإمام هو الممثل الحقيقي للإسلام وأية قوى تغتصب حقه في تمثيل الإسلام هي قوى صنمية تعبر عن إسلام زائف مخترع يهدف إلى إضلال الأمة وتعبيدها لغير الله.
إن الانحراف عن الإمام يعني الانحراف عن النص. والانحراف عن النص يعني عبادة الرجال بجعل أقوالهم نصوصا يتعبد المسلمون بها.
ولما كانت الأمة قد انحرفت عن أئمتها من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فقد استبدلت هؤلاء الأئمة بالصحابة والحكام والتابعين والفقهاء الذين شيدوا بالروايات إسلاما آخر غير الإسلام الذي تركه الرسول.
شيدوا أصناما كثيرة بينهم وأضفوا عليها قداسة مصطنعة كي تصد الناس عن سبيل الله وتحول بينهم وبين معرفة حقيقة الإسلام.
لقد نبت بعد الرسول أكثر من إسلام، وأكثر من حكومة، بالإضافة إلى آلاف الرويات، كل ذلك بهدف سد الفراغ الذي أحدثه غياب الإمام، أو بمعنى أدق تغييبه عن واقع الأمة.
ماذا جنت الأمة من الحكام على مر الزمان؟
وماذا جنت الأمة من الروايات التي اخترعتها السياسة؟
وماذا جنت الحركة الإسلامية اليوم من الأئمة الزائفين الذين حلوا محل أئمة الحق.
إن الحركة الإسلامية المعاصرة لن تنجح يوما في إقامة الدولة الإسلامية ما ظلت تتسلح بهذا الفكر الذي اخترعه الحكام وما ظلت متمسكة بعقيدة حكومية.
إن هذه العقيدة لن تعطيها القدرة على مواجهة الحكام. وهي تجعل صراعها معهم أشبه بالصراع العائلي الذي من الممكن أن ينتهي في أي وقت بالتصالح أو بالتنازل.
وإن تجربة الحركة الإسلامية اليوم مع الحكام لتشهد بذلك، وفي مقدمة هذه التجارب تجربة الإخوان المسلمين مع نظام عبد الناصر في مصر.
وقد بات من الضروري على الحركة اليوم أن تتسلح بعقيدة الإمامة الحقة في مواجهة الواقع، فهذه العقيدة هي التي سوف تمنحها القدرة والفاعلية على المواجهة والسعي بخطى ثابته نحو التغيير.
يقول السيد شبر: إن ما ذكر في بيان الاضطرار إلى الرسل فهو بعينه جار في الاضطرار إلى أوصيائهم وخلفائهم، لأن الاحتياج إليهم غير مختص بوقت دون آخر، وفي حالة دون أخرى. ولا يكفي بقاء الكتب والشرائع من دون قيم لها عالم بها. ألا ترى إلى الفرق المختلفة والمذاهب المتباينة كيف يستندون في مذاهبهم كلها إلى كتاب الله عز وجل.
فيستند إلى قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)..
و (يد الله فوق أيديهم)..
ومن قال برؤية الله إلى قوله: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)..
ومن قال بخلق الأفعال إلى قوله: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)..
وبالجملة فإنك لا ترى فرقة من الفرق المحقة أو المبطلة إلا وهي تستند إلى كتاب الله بل وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وآله، وذلك لأن كتاب الله فيه المحكم والمتشابه والمجمل والمؤول والناسخ والمنسوخ، والسنة فيها ذلك أيضا مع وقوع الكذب والتحريف والتصحيف. هذا كله مع جهل أكثر الخلق بمعانيها وتشتت أهوائهم وزيغ قلوبهم.
فلا بد حينئذ لكل نبي مرسل بكتاب من عند الله عز وجل أن ينصب وصيا يودعه أسرار نبوته وأسرار الكتاب المنزل، ويكشف له مبهمه ليكون ذلك الوصي هو حجة ذلك النبي على أمته، ولئلا تتصرف الأمة في ذلك الكتاب بآرائها وعقولها، فتختلف وتزيغ قلوبها كما أخبر الله تعالى بذلك فقال: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم..) (1).
إن إدراك مدى أهمية الإمامة وضرورتها يتبين لنا إذا ما قمنا برصد الجانب الآخر الذي حل محل الإمام وتسلط على الأمة. ماذا قدم للإسلام والمسلمين..؟
هل تمكن من سد الفراغ الذي حدث بغياب الإمام..؟
هل قضى على الفرق والخلافات والمظالم والانحرافات..؟
هل عبر عن الوجه الحقيقي للإسلام..؟
لا شك أن أي متأمل في واقع المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله يمكنه أن يجيب بالنفي..
____________
(1) حق اليقين في معرفة أصول الدين، ج 1 ط. بيروت.
إلا أن فقهاء السلاطين وجيوش المنافقين أرادت أن تضفي على هؤلاء صفة الأئمة حتى تضلل الأمة عن الأئمة الحقيقين، واخترعت مئات الأحاديث على لسان الرسول لتجبر الأمة على طاعتهم والسير على هديهم.
إننا لم نسمع أنه قيل الإمام أبو بكر أو الإمام عمر أو الإمام عثمان.
فقط سمعنا وعلمنا أنه قيل الإمام علي. فالقوم على الرغم من موقفهم من قضية الإمامة إلا أن الله أنطق الحق على لسانهم فمنحوا لقب الإمام لعلي وحده.
إننا إذا اعتبرنا الإمامة منصبا اجتهاديا أو يقوم على الشورى كما يقول أهل السنة فإن ضرورتها تنتفي وتكون بهذه الصورة مسألة اختيارية تتغير بإرادة الرعية.. أما إذا اعتبرناها منصبا إلهيا فهنا تكمن ضرورتها. فإن الله سبحانه لا يوجب على العباد شيئا لا ضرورة له أو تكون له أهمية هامشية. فغير الواجب يترك أمره للأمة تأخذ به أو تتركه، فهي في مواجهته بالخيار، أما في مواجهة الواجب فهي ملزمة مقيدة به.
ولقد عمل خصوم آل البيت على تعويم فكرة الإمامة والتقليل من شأنها حتى تهون في أعين المسلمين وبالتالي تنتفي ضرورتها وتفقد أهميتها. وألصقوا الإمامة بكل من هب ودب من الناس واخترعوا الأحاديث التي توجب السمع والطاعة لهم.
يقول الشيخ جعفر السبحاني: إن رحلة النبي الأكرم أحدثت فراغا هائلا في مختلف المجالات المادية والمعنوية، ومقتضى لطفه سبحانه وعنايته بالعباد أن يملأ هذا الفراغ بإنسان يخلف النبي، ولا يقدر على ذلك إلا الإنسان المثالي الذي يكون له من الوعي والتربية والعلم والشجاعة مثل ما كان للنبي سوى كونه نبيا ذا شريعة ومتلقيا للوحي.
كان النبي صلى الله عليه وآله يقوم بمسؤوليات كثيرة تجمعها الأمور التالية:
- تفسير الكتاب العزيز وتوضيح مقاصده وبيان أهدافه وكشف أسراره.
- الإجابة عن الأسئلة الشرعية التي لها مساس بعمل المسلم في حياته من حيث الحلال والحرام.
- الرد على الشبهات والتشكيكات التي يلقيها أعداء الإسلام ويوجهونها ضده من يهود ومسيحيين وغيرهم، فكان يرد عليها تارة بلسان الوحي المقدس وأخرى بلسان الحديث.
- صيانة الدين الإسلامي عن أي فكرة تحريفية، وعن أي دس في التعاليم. فلم يكن لأي دساس مقدرة على تحريف الدين أصولا وفروعا - يدفع بأمته في طريق الكمال والتقدم الروحي.
ولا شك أن النبي كان يقوم بهذه المسؤوليات، وكان فقدانه وغيابه عن الساحة يلازم حدوث فراغ هائل في حياة الأمة لا يسد إلا بإنسان يتمتع بتلك الكفاءات عدا النبوة وتلقي الوحي.. والفراغ الأول وإن كان يملأ باختيار الإمام من جانب الأمة، لكن الفراغ الباقي لا يسد إلا بإنسان مثالي تربى في وضع خاص من العناية الإلهية.
ولما كانت هذه الأمور النفسية والمؤهلات المعنوية التي يتمكن بها الإنسان المثالي من ملء الفراغ لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلا بتعريف من الله تعالى وتعيين منه، فلأجل ذلك صار الأصل عند الشيعة في مسألة الإمامة هو التنصيب والتعيين من جانبه سبحانه (1).
تعيين الإمام:
لما كانت الشيعة تتبنى عقيدة خاصة في الإمام، فمن ثم فإن مسألة اختياره تعتمد على النص في المقام الأول، ثم على العقل بعد ذلك.
____________