كلمة المركز
يسر مركز الغدير للدراسات الإسلامية أن ينشر هذا البحث تحية لروح كاتبة الذي انتقل إلى جوار ربه بعد معاناة طويلة مع الألم والمرض وبعد حياة قصيرة بحساب أعمال البشر ولكنها ممتدة غنية بحساب المواقف والأثر.
لقد آمن المؤلف الراحل بالاسلام أعمق الإيمان وأصدقه ونذر حياته الفكرية والعملية كلها من أجل جلاء صورته وتبيين معالم خطه الأصيل المتمثل بخط أئمة الهدى من أهل بيت النبوة (ع)، ولهذا انصبت بحوثه كلها تقريبا حول قضية الإمامة والوصاية وإثبات كونها سنة إلهية تاريخية عرفتها كل النبوات السابقة، وضرورة هداية ربانية اقتضتها استمرارية النبوة الخاتمة لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم
وفي هذا البحث الذي استللناه من مؤلف المفكر الراحل (ابتلاءات الأمم) يناقش المؤلف - رحمه الله - جانبا مهما من جوانب عقيدة الإمامة وركنا من أركانها الأساسية وهو عقيدة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجة.
رحم الله تعالى المؤلف الفقيد رحمة واسعة ونفع قراءه بعلمه ومؤلفاته القيمة. والله تعالى من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.
مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الفصل الأول
نور الظلام
أولا: موكب الحجة
بعد وفاة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم انطلقت المسيرة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، بعد أن أقيمت عليها الحجة في عهد البعثة، قال تعالى (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) (يونس: 13 - 14). ومن فضل الله - تعالى - على بني الإنسان أنه أحاط القافلة البشرية الخاتمة بالحجة الدائمة، بمعنى أن المعجزات التي كان الله - تعالى - يؤيد بها رسله قبل البعثة الخاتمة كانت تنتهي بوفاة الرسول، ولكن الله عندما استخلف الأمة الخاتمة أيدها بمعجزات، منها ما انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما استمر بعد وفاته وسار مع القافلة على امتداد المسيرة، ومن أمثلة ذلك القرآن الكريم وأحاديث الإخبار بالغيب، فهذه المعجزات مهمتها إرشاد بني الإنسان إلى طريق الهداية، الذي تتحقق به السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وهي شاهد صدق على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أن إرشادات النبي وتعاليمه، هي في حقيقة الأمر دعوة إلى الجنس البشري، على امتداد المسيرة من الحاضر إلى المستقبل، للإيمان بنبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فمن تبين حقيقة إرشاده، ولم يؤمن به في أي زمان، كان كمن كذبة عند بداية البعثة ونزول الوحي، ويقتضي المقام أن نلقي بعض الضوء على هذه المعجزات:
معجزات بين يدي الموكب
1 - القرآن الكريم
القرآن معجزة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها وقد تولى الله حفظه، فلا يمكن بحال أن يناله التغيير أو التبديل، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9)، وجميع المعارف الإلهية والحقائق
وفي عهد البعثة كان القرآن الملجأ الوحيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يقيم حجته على الناس، ولقد بين لهم النبي الخاتم ما أنزل إليهم من ربهم على امتداد البعثة، وألزم القرآن الناس بأن يكون لهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، وجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شرطا في حب الله، ولقد بين القرآن والسنة - منذ اليوم الأول للمسيرة - أن كل رأي ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن الكريم، حتى لا يتمكن الأجانب من نشر الأباطيل بين المسلمين، كما بين القرآن والسنة أن كتاب الله لا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير، وأن أي تعطيل سيفتح الطريق أمام سنن الأولين.
2 - الإخبار بالغيب عن الله
من لطف الله - تعالى - بعبادة أنه أخبر على لسان الأنبياء والرسل بالغيب، فأخبر بما ينتظر الإنسان في اليوم الآخر حيث أهوال القيامة ولهيب النار ونعيم الجنة، وأخبر بأساليب الشيطان وإلقاءاته إلى قيام الساعة، كما أخبر بمضلات الفتن، مقدماتها ونتائجها، وأخبر بالأمور العظيمة التي ما زالت في بطن الغيب، والإخبار بالغيب حجة بذاته، وبه يمتحن الله - تعالى - عبادة، قال عز وجل: (ليعلم الله من يخافه بالغيب) (المائدة: 94)، وقال:
(وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) (الحديد: 25).
وإن أي حدث لا بد أن تكون له مقدمة يترتب عليها نتيجة، والناس عند صنعهم لمقدمة الحدث، كبيرا كان أو صغيرا، يعلمون جانب الحلال فيه
فإن من أخذ بأسباب الدجال سقط في سلته، وهوى في نار جهنم يوم القيامة، ومن أخذ بأسباب الهدى شرب من حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الله - تعالى - يمتحن الناس بأخذهم الأسباب، وهم تحت مظلة الامتحان والابتلاء يتمتعون بحرية الأخذ بها، وكل مسيرة - على امتداد الزمان - يتخللها ماض وحاضر ومستقبل، والماضي يحمل دائما في أحشائه الزاد، ومهمة الحاضر أن يستمد منه أسباب، والهدى، وينطلق بها إلى المستقبل، فمن أدركه الموت وهو على هدى، بعثة الله على نفس السبب، وكل إنسان سيصل إلى ما هاجر إليه، وإن أخبار الغيب التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كشفت المسيرة، وظهر ما في بطونها من زاد الماضي، وإذا وقف الحاضر أمام هذا الزاد ثم رجع القهقري بتحليل الحوادث التاريخية، يصل إلى المقدمة في الماضي البعيد، فإذا أمعن النظر فيها وجد أنها تحتوي على أصول القضايا وأعراقها التي يراها في حاضره فكما تكون المقدمة تكون النتيجة، الدعوة الإلهية الخاتمة أمرت باتقاء الفتن، وهذا لا يتحقق إلا بالبحث في أصول القضايا، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (الأنفال: 24 - 25)، النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن الحاضر إذا رضي بانحراف الماضي، شارك بالمشاهدة وإن لم يحضر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا علمت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) (1).
____________
(1) رواه أبو داود، حديث رقم 4345.
من أحب أن يسأل عن شئ فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا) (2) وعن حذيفة قال: (والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة في ما بيني وبين الساعة، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعدها: منهن ثلا ث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري) (3)، وعنه أيضا أنه قال: (ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت سائقها وناعقها إلى يوم القيامة) (4)، وقال أيضا: (والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ معه ثلاثمائة فصاعدا، إلا قد سماه باسمه واسم أبيه واسم قبيلته) (5).
لقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عند المقدمة، وهو يخبر بالغيب عن ربه، وعندما انطلقت المسيرة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم تحت سقف الامتحان والابتلاء، لم تخل المسيرة من الفتن، بدليل أن حذيفة الذي يعرف الفتن وقادتها قال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقل من ثلاثين عاما: (إنما كان النفاق على عهد
____________
(1) رواه مسلم، الصحيح: 18 / 17، وأحمد، الفتح الرباني: 21 / 272.
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم، كنز العمال: 11 / 421.
(3) صحيح مسلم: 18 / 15.
(4) رواه نعيم وسنده صحيح، كنز العمال: 11 / 271.
(5) رواه أبو داود، حديث رقم 4222.
والطريق من توضيح النبي للفتن وهي في بطن الغيب إلى ظهور الفتن في عالم المشاهدة، طريق يخضع للبحث، بهدف اتقاء الفتن المهلكة، وحصار وقودها في دائرة الذين ظلموا خاصة، وعدم البحث في هذا الطريق يفتح أبوابا عديدة، منها مشاركة الذين ظلموا إذا رضي عن فعلهم، لأن الراضي عن فعل قوم كالداخل معهم، وقد جاء في الحديث الشريف: (المرء مع من أحب) (4)، وكما أن عدم البحث يلقي بالحاضر على الماضي، فكذلك يلقي به على ما يستقبله من فتن مهلكة. عن حذيفة أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب، فأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبة نكتة سوداء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخرة أسود مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب في هواه) (5). وما زالت في بطن الغيب أحداث وأحداث، لا ينجو منها العالم إلا بعلمه، وكذلك فإن هناك أحداثا إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها يومئذ، لأنها لم تبحث على امتداد الطريق فأنتج ذلك عدم معرفة الحق على امتداد الطريق، ولما كان الحق عند هذه النفس يخضع لتحديد الأهواء، تسقط النفس في سلة الدجال التي تحتوي على جميع الأهواء، وما يستقبل الناس من آيات كبرى، جاء في قوله تعالى:
____________
(1) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 230.
(2) المصدر نفسه.
(3) رواه أحمد وإسناده جيد، الفتح الرباني: 19 / 173.
(4) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 77.
(5) رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه، كنز العمال: 11 / 119.
وبالجملة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا، ليأخذ الناس بأسباب الهداية نحو ما يستقبلهم من أحداث ما زالت في بطن الغيب والأخذ بالأسباب من الوسائل التي يمتحن الله - تعالى - بها عبادة، وإخبار الرسول بالغيب هو في حقيقته دعوة للإيمان بالله، لأنه يأمر بالاستقامة ويبين أن عدم الاستقامة يؤدي إلى كفران النعمة، ويفتح الطريق أمام الفتن، وكفران النعمة عقوبته سلب نعمة الهداية، وبه يأتي الهلاك، وطريق الفتن يلقي بأتباعه تحت أعلام الدجال، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا، صغيرة أو كبيرة، إلا لفتنة الدجال (2).
ثانيا: التحذيرات الذهبية
1 - التحذير من لاختلاف
نهى الله - تعالى - في كتابه الكريم عن الاختلاف في الدين في أكثر من آية، منها قولة تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (آل عمران: 105)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) (3)، وقال جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
____________
(1) أنظر: تفسير ابن كثير: 2 / 195.
(2) رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح، الزوائد: 7 / 335.
(3) رواه البخاري، كنز العمال: 1 / 177 /.
وفي الوقت الذي أمرت فيه الدعوة الإلهية الخاتمة بعدم الاختلاف، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربة العليم المطلق، بأن الأمة ستختلف من بعده وسيتبع بعضها سنن اليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلك إحدى وسبعون فرقة، وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعين وتخلص فرقة، قيل: يا رسول الله، من تلك الفرقة؟ قال، الجماعة، الجماعة) (2): أما اتباع سنن الأولين ففي قولة تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) (التوبة: 68 - 69)،
____________
(1) رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن، والطبراني، قال المناوي: رجاله موثقون، الفتح الرباني: 1 / 186.
(2) رواه أحمد، الفتح الرباني: 24 / 6، والترمذي وصححه، الجامع: 4 / 25.
لقد حذرت الدعوة الإلهية عند المقدمة من الاختلاف في الدين وذكرت أن الاختلاف بعد العلم لا يمكن أن يضع أصحابه على طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها طريقة بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة، وحذرت الدعوة أيضا من سلوك سبيل الذين أوتوا الكتاب، وبينت برامجهم وأهدافهم، وأخبرت بأنهم يصدون عن سبيل الله، ويعملون من أجل أن تضل الأمة وتتبع
____________
(1) تفسير ابن جرير: 10 / 122.
(2) تفسير ابن كثير:، 2 / 368.
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم، الفتح الرباني: 1 / 197.
2 التحذير من أمراء السوء
حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلى الذين ظلموا، لأن على أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة، ينتج عنه شيوع المشكلات الزائفة التي تشغل الرأي العام وتجعله داخل دائرة الصفر، حيث الجمود والتخلف، وعلى أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وبهذا يتم التعتيم على نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين، قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) (هود: 113)، قال المفسرون:
نهى الله - تعالى - النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته عن الركوع إلى من اتسم بسمة الظلم، بأن يميلوا إليهم، ويعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا، يخرجهما عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة ولازم ذلك السلوك إلى الحق عن طريق الباطل، أو إحياء حق بإحياء باطل، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن الأمة ستركن إلى هؤلاء، وأمر بأن تأخذ بالأسباب، لأن الله - تعالى - ينظر إلى عباده كيف يعملون، فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) (1) وعن
____________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي، الفتح الرباني: 27 / 31.
اسمعوا، فقلنا: سمعنا، فقال: (إنه سيكون عليكم أمراء فال تعينوهم على ظلمهم، فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض) (2)، وعن حذيفة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون عليكم أمراء يظلمون ويكذبون، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعينهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض) (3) ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت بدليل أنهم لن يردوا على الحوض، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتى يردا على الحوض، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يكونوا في صدر القافلة، وأن هناك أحداثا ستؤدي إلى إبعادهم عن مركز الصدارة، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم، فلو كان أهل البيت في الصدارة، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم، لأن أهل البيت مع القرآن، والقرآن نهى عن ذلك وبالجملة، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت، وأن هذا التيار لن يرد على الحوض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض) (4) وقوله
____________
(1) رواه البخاري، الصحيح: 2 / 280، ومسلم، الصحيح: 18 / 41، وأحمد، الفتح الرباني: 23 / 39.
(2) رواه أحمد، الفتح الرباني: 23 / 30، وابن حبان في صحيحة، وابن أبي عاصم، وقال الألباني: رجاله ثقات، كتاب السنة: 2 / 352.
(3) رواه أحمد والبزار، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، والزوائد: 5 / 248، وابن أبي عاصم، وقال الألباني: رجاله ثقات، كتاب السنة: 2 / 353.
(4) رواه الطبراني، كنز العمال: 12 / 104.
(إن رحي الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى، نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة، خير من حياة في معصية) (2)، وروي عن معاذ قال: قلت يا رسول الله: أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني في أمرهم؟ فقال:
(لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل) (3).
وروي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقع يده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلا قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) إلى قوله: (فاسقون) (المائدة: 78 - 81)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(كلا - والله - لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا (أي: لتردنه إلى الحق)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم) (4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها،
____________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي: رجاله ثقات: 9 / 135.
(2) رواه الطبراني عن ابن مسعود، كنز العمال: 1 / 216، ورواه عن معاذ، كنز العمال: 1 / 211.
(3) رواه عبد الله بن أحمد، وإسناده جيد، الفتح الرباني: 23 / 44.
(4) رواه أبو داود، حديث رقم 4337، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، الزوائد: 7 / 269.
كانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما على امتداد المسيرة، أما بعد استفحال الظلم والجور، نتيجة للثقافات التي عمل منها المنافقون وأهل الكتاب غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترون إذا أخرتم إلى زمان حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا، وكانوا هكذا (وشبك بين أصابعه)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، ويقبل أحدكم على خاصة نفسه، ويذر أمر العامة) (2)، وفي رواية: اتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم) (3).
وبالجملة، بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن صنفا من الناس سيحرص على الإمارة من بعده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستصير حسرة وندامة يوم القيامة، نعمت المرضعة وبئست الفاطمة) (4). نعم المرضعة: لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية، وبئست الفاطمة: أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلى المحاسبة. قال صلى الله عليه وآله وسلم (ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر، أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا) (5)، وليس معنى هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة، فالإسلام يقوم على
____________
(1) رواه أحمد والبخاري، الفتح الرباني: 19 / 177، والترمذي وصححه، الجامع: 4 / 470.
(2) رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجال ثقات، الزوائد: 7 / 279.
(3) رواه أحمد، وإسناده صحيح، الفتح الرباني: 23 / 12.
(4) رواه أحمد، الفتح الرباني: 23 / 22، والبخاري، الصحيح: 4 / 235.
(5) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، الفتح الرباني: 23 / 23.
وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة أسباب الهدى على امتداد المسيرة، تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بين الأسباب في عصر فيه الصحابة، وبينها في عصر فيه التابعون، وبينها في عصور جاءت بعد ذلك، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
3 - التحذير من ذهاب العلم
إن كل موجود يحظى بالعلم بقدر ما يحظى بالوجود، والله - تعالى - يرفع الذين آمنوا على غيرهم بالعلم، ويرفع الذين أوتوا العلم منهم درجات، بمعنى أن العلم له مكان في دائرة الذين آمنوا، وهذه الدائرة مراتب ولها ذروة، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة: 11)، وذروة الذين أوتوا العلم، مع الذين ارتبطوا بكتاب الله، ولن ينفصلوا حتى يردوا على الحوض، ومن دائرة الذروة تخرج المعارف الحقة والعلوم المفيدة، لأن الذين في الذروة هم العامل الذي يحفظ الأخلاق ويحرسها في ثباتها ودوامها، ولأن من عندهم تتدفق العلوم التي تصلح
____________
(1) رواه البخاري، والصحيح: 4 / 128.
(2) رواه أحمد، ورجاله ثقات، الفتح الرباني: 23 / 132، الزوائد: 5 / 245، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي، المستدرك: 4 / 515.
وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته بأن يمسكوا بحبل الله ليردوا على الحوض، أخبر كذلك - بالغيب عن ربه - بأن العلم سيرفع، ورفعه هو نتيجة لذهاب أوعيته، عن أبي الدرداء قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا، وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) (1)، وفي رواية عن شداد بن أوس قال: (وهل تدري ما رفع العلم؟
ذهاب أوعيته) (2)، وفي رواية عن أبي أمامة قال: (وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يصبحوا يتعلقون بحرف واحد مما جاءتهم به أنبياؤهم، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته) (3)، وقال في تحفة الأحوازي: (ومعنى هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، أي أن القراءة دون علم وتدبر محل نظر، وقال القارئ: أي: فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بما فيهما فكذلك أنتم) (4).
وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب ظهر الذين يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وظهر الذين قرأوا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض، وظهر الذين قرأوا ثم اعتزلوا ثم خرجوا على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك،
____________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، تحفة الأحوازي: 7 / 412.
(2) رواه أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، الفتح الرباني: 1 / 183.
(3) رواه أحمد والطبراني بسند صحيح، والزوائد: 1 / 200.
(4) تحفة الأحوازي: 7 / 413.
(الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخصان هم الذين نقوا من كل عيب. وقيل الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء) (5).
ولقد دافع الإسلام عن العلم، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي، وأمر بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم
____________
(1) رواه الطبراني، كنز العمال: 10 / 268، الزوائد: 1 / 189.
(2) رواه أحمد ورجاله ثقات، والزوائد: 6 / 299.
(3) رواه الطبراني وإسناده حسن، الزوائد: 6 / 230.
(4) رواه مسلم وأحمد، الفتح الرباني: 1 / 190، وابن عساكر، كنز العمال: 6 / 73.
(5) الفتح الرباني: 1 / 190.
ثالثا: العترة بين التحذير والابتلاء
إن الله - تعالى - يمتحن الناس بالناس، قال تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) (الفرقان: 20)، فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية، فتنة لسائر الناس يمتحنون بها، فيميز بها أهل الريب من أهل الإيمان، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرون على طاعة الله وسلوك سبيله، وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته بأن يتمسكوا بحبل العترة حتى لا يضلوا، وقال: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) (1)، وقال: (إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (2)، فإنه أخبر أمته بأنهم سيمتحنون بأهل بيته، قال: (إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي) (3)، وأخبر - بالغيب عن ربه - بما سيسفر عنه الامتحان، فقال: (إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا) (4).
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب بما سيجري عليه من بعده، وقال له: (إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه (يعني لحيته) ستخضب من هذا (يعني رأسه) (5) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (ألا أحدثك بأشقى
____________
(1) رواه مسلم، الصحيح: 7 / 123.
(2) رواه الترمذي وحسنه، الجامع: 5 / 662، والنسائي، كنز العمال: 1 / 172.
(3) رواه الطبراني، كنز العمال: 11 / 124.
(4) رواه الحاكم ونعيم بن حماد، كنز العمال: 11 / 169.
(5) رواه أحمد، والحاكم وصحيحه، والمستدرك: 3 / 142، والدار قطني، والخطيب، كنز العمال:
11 / 167، والبيهقي، البداية: 6 / 218.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي بما سيجري عليه من بعده، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: أشهد لقد سمعت عائشة تقول: إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يقتل الحسين بأرض بابل) (2) وروى الحاكم عن ابن عباس، قال: (ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف) (3)، وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك فلينصره) (4)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه) (5).
والخلاصة، إن الله يختبر الناس بالناس، وبهذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) (الفرقان: 20)، وقال سبحانه: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) (الأنعام: 53)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما أتاكم) (الأنعام: 165)، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات. وأمر - تعالى - بمودة قربى النبي، حيث قال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (الشورى: 23)،
____________
(1) قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات، الزوائد: 9 / 136، والحاكم والبيهقي بسند صحيح، والمستدرك: 3 / 141، والبداية والنهاية: 6 / 218، كنز العمال: 13 / 136.
(2) البداية والنهاية: 8 / 177.
(3) رواه الحاكم، وقال السيوطي: سند صحيح، الخصائص، السيوطي: 2 / 213.
(4) رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن مندة وابن عساكر وأبو نعيم، والبداية والنهاية:
8 / 199، كنز العمال: 12 / 126، والخصائص الكبرى: 2 / 213، أسد الغابة: 1 / 349، الإصابة: 1 / 68.
(5) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار، والزوائد: 9 / 188، والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح، ص: 83.
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة، وقد أمروا بعدم مودتهم، قال تعالى:
(يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (الممتحنة: 1)، فالآية تنهى عن مودة المشركين والكفار، وتنهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (العنكبوت: 25)، قال المفسرون: وبخهم على سوء صنيعتهم في عبادة الأوثان، وقال: إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها صداقة وألفة منكم، بعضكم لبعض في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال، فتصبح هذه الصداقة والمودة بغضا وشنانا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعضهم، فمن سلك في ما أمر الله به نجا، ومن لم يأخذ بوصايا الله ضل، والله - تعالى - أمر بصلة الأرحام، وذروة الأرحام عترة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله - تعالى - جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن الله - تعالى - جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب) (1)، وقال: (إن لكل بني أب عصبة
____________
(1) رواه الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس، كنز العمال: 11 / 600.
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية، قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها، وفي عهد الإمام علي، خرج عليه أصحاب الأهواء، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن، وعنه أنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين) (3)، فالناكثون: أهل الجمل، والقاسطون: أهل الشام، والمارقون: الخوارج، وانطلقت مسيرة الإمام - رضي الله عنه - بأعلام الحمية، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي، من مات في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان، ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية، وحوسب بما عمل في الإسلام) (4)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية، ومن قاتل تحت راية
____________
(1) رواه الحاكم وابن عساكر، كنز العمال: 12 / 98.
(2) رواه الطبراني، كنز العمال: 12 / 104.
(3) رواه ابن عدي والطبراني، وقال ابن كثير: روي عن طرق عديدة، والبداية والنهاية: 7 / 334، كنز العمال: 11 / 292.
(4) رواه أبو يعلى، وقال البوصيري: رجاله ثقات، كنز العمال: 13 / 159.
وعلى هذا الضوء، انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، والله - تعالى - ينظر إلى عباده كيف يعملون لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
____________
(1) رواه مسلم، كنز العمال: 3 / 509، وأحمد، الفتح الرباني: 23 / 52.
الفصل الثاني
أضواء على المسيرة
أولا: أضواء على الساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان في الساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميع الأنماط البشرية، بها المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبها الذين في قلوبهم مرض أو زيغ وهؤلاء لا يخلو منهم مجتمع على امتداد المسيرة البشرية.
وكان الذين في قلوبهم مرض يختزنون في ذاكرتهم بعض ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ما يستقبل الناس، ومنه تفسيره لقوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) (الحج: 78)، قوله: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) (الزخرف: 41)، وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) (إبراهيم:
28)، وقول النبي القرشي: (يا معشر قريش، ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابكم على الدين، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل، وقد كان ألقى نعله إلى علي بن أبي طالب يخصفها) (1).
وكان في الساحة أفراد وقبائل ذمهم الله - تعالى - أو لعنهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه لعلم الله بما في قلوبهم، ومنه أمره صلى الله عليه وآله وسلم بجهاد مخزوم وعبد شمس (2)، وقوله: (إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم) (3)، وفي رواية: (بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة) (4) ولعنه للحكم بن أبي العاص (5)، ولعنه لأبي الأعور
____________
(1) رواه الحاكم، وأقره الذهبي، والمستدرك: 2 / 138، وابن جرير والضياء بسند صحيح، كنز العمال: 13 / 173، والترمذي وصححه، الجامع: 5 / 634.
(2) رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، كنز: 2 / 480.
(3) رواه نعيم بن حماد والحاكم، كنز: 11 / 169.
(4) رواه نعيم بن حماد، قال ابن كثير: رواه البيهقي ورجاله ثقات، كنز العمال: 11 / 274، البداية: 6 / 268.
(5) أنظر: مجمع الزوائد: 1 / 112، المستدرك: 4 / 481، البداية والنهاية: 10 / 50، الإصابة: