الصفحة 67
لروح هذه الحضارة.. التي بلغت ما بلغته من اوج التقدم التقني والقوة المادية والصناعية عبر المنهج العلمي الاستقرائي، ان هذه الحضارة كما سلمت به (المنهج الاستقرائي) في مجال العلم والتكنولوجيا عليها ان تسلم به في مجال الاعتقاد والايمان بالله.. ان المنهج الذي قاد إلى كل هذا الزخم العلمي والتقني يقود.. بنفس الخطوات إلى الايمان بالله عزوجل إنه التحدي الكبير الذي يُجابِهُ بِهِ باقر الصدر أرباب الحضارة الغربية والاختبار الصعب للضمير الإنساني الغربي ومصداقيته.. لانه ان كان حقاً صادقاً لا تمزقه ازوداجية مريضة لماذا لا يسلم بالنتائج على الصعيد الثاني ويلتقي بالغاية المقصودة؟

إن باقر الصدر.. بنى بنظريته هذه القاعدة المنهجية المعرفية الصلبة للحوار مع الغرب.. وهذه القاعدة تمثّل حاجة ماسة خاصة في ظل الدعوات الملحة والمتكررة لحوار الحضارات.. ليكون حواراً مرتكزاً على اسس علمية ولا يتحرك في فراغ.. ان المذهب الذاتي للمعرفة يمكن أن يشكّل الاطار المعرفي لهذا الحوار وبالتالي يقرب الهوّة بين الشرق والغرب ليلتقيا على كلمة سواء (معرفة الله).

وفي الوقت الذي يعلن الغرب فيه موت الإنسان يعمّق ويؤصل مفكرنا العظيم (نظرية الإنسان) ويقدّم بحوث العقيدة على أنها نظرية للإنسان والحياة.. وطريق الخلاص.. في الوقت الذي ينظر فيه الغرب لموت الإنسان وضياع المعنى.. وتلاشي القيم يعلن باقر الصدر قيام الإنسان وانتصار القيم وحتمية الخلاص.. الخلاص للارض وللبشرية جمعاء.. لان الإسلام في حله للمشكلة الاجتماعية وفي أطروحاته العقائدية والفكرية لا يفرق بين إنسان وإنسان.. إنه يحمل حلم البشرية وهمومها.. بدون انغلاق على فئة أو عرق أو مذهب: وهذا ديدن الصدر في مسيرته العلمية وجهوده الجبارة في صياغة النظرية الإسلامية.

انه يحمل هموم الإنسان.. ويقترح حلا اجتماعياً للإنسان.. ويقدم منهجاً معرفياً لكل انسان.. يمكن أن يوصله إلى الرؤية الكونية التوحيدية وهو عندما يناقش

الصفحة 68
المدارس والمذاهب الأخرى، ولقد بارز أهم التيارات الفكرية المعاصرة يناقشها بكل موضوعية وتجرد.. متنزهاً عن كل تعصب أو افتراء حتى ان اصحاب هذه الاتجاهات يقرون بأن عَرْضَهُ لاطروحاتهم بلغت من النزاهة ما يفوق التصور.

لقد تجاوز باقر الصدر أطر التاريخ الغارقة في الجدل.. ليدخل في حوار إنساني مفتوح يستهدف بناء المنهج الصحيح والاقتناع بالحل الامثل.

ومن الغريب حقاً أن يرمي (فهمي جدعان) رموز الفكر الإسلامي المعاصر بأنهم لم يرصدوا التحولات العلمية والفلسفية الحديثة في معرض إثبات التوحيد يقول: (لكن مشكلة رواد هذا التطور انهم لم يتابعوا بالجدية الكافية سير العلم الحديث والفلسفة الحديثة وتطوراتهما من أجل تأسيس المبدأ نفسه مبدأ التوحيد فهم قد ظلوا في الغالب الأعم يدورون حول حلقة الأدلة القديمة التي لم تعد تعني في الواقع شيئاً ذا بال في عالم بات يلزم أهله بإعادة النظر في أنماط المعرفة والعقل الموروث كله)(1)... ان تغييب باقر الصدر وأمثاله كمطهري والسيد الطباطبائي.. هو الذي أوقع الجدعان في الوهم.. وإلاّ فان إطلاله على إنتاج هؤلاء الفلاسفة وعلى نتاج الصدر خاصة (فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية) كافية للكشف عن باع هؤلاء عامة والصدر خاصة في مقارعة الفلسفة الحديثة والنظريات العلمية الجديدة واستفادتهم من هذه الثقافة المعاصرة في تأصيل النظرية الإسلامية وتشييد أركانها.

هذه هي النزعة الموضوعية الانسانية.. التي تستهدف اليقين والاقناع وتتعالى عن الجدل والتمذهب يكرّسها باقر الصدر أيضاً في حواره مع الاتجاهات الأخرى داخل الفكر الإسلامي.. فرغم تعاطيه مع أكثر المسائل حساسية في تاريخنا الإسلامي (خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومسألة ولاية الإمام علي(عليه السلام) وقضية فدك.. ودور الأئمة(عليهم السلام) في

____________

1- فهمي جدعان: اسس التقدم، (م. س)، ص544.


الصفحة 69
التاريخ ومسألة الإمام المهدي(عليه السلام)).. ورغم النفس المذهبي الطاغي في التعامل مع مثل هذه القضايا.. إلاّ أن باقر الصدر استطاع أن يبحث هذه المسائل باسلوب علمي رصين استفاد فيه من الآليات والتحولات المنهجية التي ابتكرها.. وادرك نتائج هامة.. لا تزال مثار بحث وتحليل العديد من الدراسات.

لقد انطبع خطابه السياسي أيضاً بهذه السمة حيث حرص أن يكون رمزاً.. لكل المسلمين في العراق(1).. بل لكل العراقيين حتى وصفته الصحافة البرطانية في السنوات الأخرة بأنه كان مؤهلا ليجسد مانديلا العراق(2).

____________

1- انظر النداءات الثلاثة الأخيرة.

2- الفينانشال تايمس: 12 آذار 1997 مقالة للصحفي الشهير ادورد مورنمر عن محمد باقر الصدر (الرجل الذي كان من الممكن أن يكون مانديلا العراق) (نقلا عن تجديد الفقه الإسلامي لشبلي ملاط ص11).


الصفحة 70

الفصل الثالث
المضامين الجديدة في ضوء المنهج الجديد


الصفحة 71
مع تحقق هذه النقلات المنهجية الهامة التي فصلناها في الفصل السابق كان لابد لعلم الكلام أن يتجدد لا في آليات البحث فقط وانما في المضامين والمفاهيم حتى انه يمكن القول أن (العقيدة) اضحت في تعريفها كنظرية للإنسان والحياة والثورة أقرب ما تكون من قاعدة للنهضة والتقدم والتغيير.

ولكن كيف أن ندرس المضامين الجدية والمفاهيم الناتجة عن المنهج المبتكر؟ خاصة وأن العقيدة في ضوء هذا المنظور الجديد تتقاطع مع الرؤية الكونية وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ والنظام الاجتماعي.

إن دراسة هذه المضامين خارج الاطار الكلاسيكي (التقسيم الخماسي) يجعلنا نواجه صعوبات ما.. أدناها انه لن تتضح العلاقات بين المطالب العقائدية والمجالات الأخرى..

خاصة في ظل العقلية القديمة التي تشكّلت عبر قرون عديدة ورؤيتها المسبقة لأصول الدين في تعيناتها الثابتة، في حين أن المشروع الفكري العام لباقر الصدر يستند إلى حلقات متلاحقة ومتراصة تحتل فيها العقيدة (الرؤية الكونية) إلى جانب نظرية المعرفة الأسس الجذرية للبناء الفكري العام في شتى ميادين الحياة (اجتماع، سياسة، اقتصاد... الخ...).

لأجل ذلك حافظنا على الاطار القديم للتصنيف المعروف في أصول الدين (اللوحة الخماسية) وهذا سيساعد على تلمس معالم التجديد العميق الذي أحدثه باقر الصدر في مستوى المفاهيم والمضامين والتي لا تقل أهمية التجديد في مجالها عن التجديد في المناهج والآليات. لأن السيد باقر الصدر يولي دائماً المفاهيم أهمية خاصة.. ويعتبرها قاعدة السلوك والخط الذي يختاره ويشقه الإنسان في الحياة.


الصفحة 72
لقد ضح هذا الأمر في معرض بحثه عن (الاقتصاد الإسلامي جزء من كل) وتحليله لعناصر الأرضية للمجتمع الإسلامي وهي:

(أولا: العقيدة: وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

ثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى جانب تلك المفاهيم لأن المفهوم بصفته فكرة اسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع ويحدّد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية)(1).

فَمَا هي المفايهم والمضامين الفكرية والحضارية لأصول الدين؟

الأصل الأول: التوحيد

أدرك القدماء أهمية التوحيد ومحوريته لكل الأصول الأخرى فسمّوه: أصل الأصول. واطلق على العقائد اسم (علم التوحيد) لأن الأصول الأخرى متوقفة عليه. وعرّف بعضهم علم الكلام بأنه العلم الذي يبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ويندرج تحت أفعاله: النبوة والإمامة والمعاد لأنها تمثّل تجليات الفعل الإلهي في الكون والحياة وما بعد الحياة.

يلتقي باقر الصدر مع رؤية القدماء حول مركزية التوحيد ويفجر في كتاباته مفاهيم

____________

1- محمد باقر الصدر، اقتصادنا، (م. س) ص310.


الصفحة 73
عديدة وتصورات مستجدة تواكب المعركة التي يعيشها الإسلام في عصره الحالي ولحظته التاريخية كما أنه استدل على هذا الأصل بأدلة مبتكرة.. أسست أو على الأقل ساهمت في تأسيس أسلوب جديد في اثبات الصانع:

ويمكن أن نختار القضايا التالية كعنوان للتجديد في مستوى هذا الأصل وكميزان للوعي التوحيدي ومداه الذي بلغه في هذه البحوث:

أولا: الايمان بالله وأدلة اثبات الصانع:

يعتبر باقر الصدر الايمان بالله ترجمان لنزوع أصيل في الانسان إلى التعلق بخالقه ولسان وجدان راسخ يدرك فطرته علاقة الانسان بربه وكونه، فالتدين والاعتقاد بالخالق توصل إليه الإنسان منذ أمد قبل أن يصل إلى مرحلة التجريد الفكري (فقد توصل الإنسان إلى الإيمان بالله منذ أبعد الأزمان وعبده وأخلص له وأحس بارتباط عميق به قبل أن يصل إلى أي مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي أو الفهم المكتمل لاساليب الاستدلال)(1).

إن هذا الإيمان لم يكن وليد التناقض الطبقي ونابع من مستغلين ظالمين كرّسوا الدين حفاظاً على مصالحهم ومناصبهم في المجتمع. ولم يكن هذا الايمان وليد خوف أو شعور بالرعب تجاه الظواهر الطبيعية أو كوارثها المدمرة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان أكثر المتدينين هم اشد الناس خوفاً وأسرعهم هلعاً ولكن تاريخ الاديان يعكس أن الذين حملوا مشعل مسؤوليته على مر التاريخ من أقوى الناس وأصلبهم عوداً، لقد ناقش الصدر في كتابه اقتصادنا النظرية الماركسية في تفسيرها لظاهر الدين وحلل جذور هذه التفسيرات المادية حيث ان الماركسة (وقد استبعدت عن تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية من الوحي والنبوة والصانع فكان لابدّ أن تصطنع للدين

____________

1- محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة الثامنة، ص11.


الصفحة 74
وتطوراته تفسيراً مادياً)(1). لقد بحثت الماركسية عن الظاهرة الدينية في الوضع الاقتصادي للمجتمع ولكن السيد باقر الصدر يناقش كل الفروض التي تتمسك بها الماركسية في هذا المجال(2) ويؤكّد بالمقابل على سننية الدين وانه قانون في التاريخ (فطرة الله التي فطر الناس عليها، فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله الذي الذي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (الروم 30). ويصف هذا القانون أو هذه السنة في القسم الثابت من سنن التاريخ التي تقبل التحدي، السنن ذات الاتجاه العام التي تقبل التحدي يتحداها الإنسان لكنه يدافع في النهاية ثمن هذا التحدي ويتحمّل تبعات هذا التمرد حيث تنقلب عليه النتائج الوخيمة (سنفصّل الحديث عن السنن واقسامها كما نحلل فعالية الله في التاريخ في فقرة لاحقة من أصل التوحيد).

فالدين نداء فطري لامس وجدان الإنسان الأول فانقاد إليه بعيداً عن التعقيدات والجدال ولكن مع بلوغ الإنسان مرحلة التجريد الذهني بسبب تطور الفكر الفلسفي وظهور اتجاهات فلسفية مادية ووضعية وتجريبية تعقدت أكثر المسائل واحتجنا إلى دليل يثبت وجود الله تعالى وصار الايمان بالله في ضوء هذا التنوع الفكري والثقافي مسألة نظرية تحتاج إلى عمق فكر وتأمل وبحث بل تصبح قضية لا معنى لها في مفهوم المدرسة الوضعية وقضية خارج نطاق البحث التجريبي في منظور المذهب التجريبي.

والعقيدة الإسلامية في تاريخها الطويل أسست لادلة متنوعة وبراهين عديدة، لكن المشكلة أن المصطلحات الموروثة والاثباتات القديمة لم تعد كافية لإشباع الحاجة الثقافية للناس في هذا العصر وغير كفيلة بالرد عن شبهات وإشكالات المدارس الأخرى. فلم يعد برهان الحدوث والامكان واستحالة التسلسل.. رغم قيمتها.. تقنع انسان العصر.. وتمثّل مضموناً عقائدياً.. قادراً على المواجهة والتحدي في هذه المرحلة.

____________

1- محمد باقر الصدر: اقتصادنا، (م. س) ص112.

2- انظر اقتصادنا ص112 و ص116 ـ 117.


الصفحة 75
في مثل هذا الجو استفاد باقر الصدر من منجزات العصر العلمية والمعرفية ليؤسس لنوع جديد من الادلة الصالحة لاثبات المطلوب فقدّ نوعين من الأدلة:

أ) الدليل الاستقرائي.

ب) الدليل الفلسفي.

وكأن بنية الأدلة عند باقر الصدر تعكس استجابة متفاعلة حية للتحولين الكبيرين تاريخ الفكر البشري (مرحلة التفلسف، ثم مرحلة بروز التجربة على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة).

وكلا الدليلين مما يمكن للذهنية المعاصرة ان تتفاعل معه حتى تلك التي تتحرك في إطار منهج معرفي مختلف لأن الدليل الاستقرائي يستند إلى نظرية باقر الصدر في المذهب الذاتي للمعرفة (فصلنا الكلام حوله في النقلة المنهجية الأولى انظر الفصل الثاني).

الدليل الأول: فقد صاغه باقر الصدر في موجز اصول الدين (مقدمة الفتاوى الواضحة) على مراحل خمس:

ـ أولا: مواجهة جملة من الظواهر الحسية.

ـ ثانياً: إيجاد فرضية لتفسير هذه الظواهر.

ـ ثالثاً: ملاحظة انه في حال كذب الفرضية وعدم ثبوتها في الواقع فإن احتمال وجود هذه الظواهر كلها مجتمعة ضئيل جداً.

ـ رابعاً: نستخلص صدق الفرضية ويكون الدليل على ذلك تواجد كل تلك الظواهر.

ـ خامساً: ملاحظة أن درجة إثبات كل الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذبها فكلما كانت النسبة أقل كانت درجة الاثبات أكبر حتى تبلغ درجة اليقين الكامل لصحة الفرضية وهذا يكون وفق نظريته في تراكم الاحتمالات على

الصفحة 76
محور واحد.

ففي الخطوة الأولى كما شرحناها في الموجز يستعرض الصدر جملة من الظواهر العلمية التي رصدها العلماء ويستفيد هنا من نتائج العلم الحديث على خلاف أكثر الكتب الكلامية التي جمدت على أطر الثقافة العلمية القديمة.

فيذكر أمثلة من الفلك والابعاد التي تفصل الأرض عن القمر وعن الشمس ويذكر أمثلة من البيئة وعلوم (الإنسان) والنبات والحيوان، هذه الظواهر تتوافق كلها مع تيسير الحياة واستمراريتها...

في الخطوة الثانية: يستنتج ان هذا التوافق العجيب بين هذه الظواهر لا تفسره إلاّ فرضية واحدة: تفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة ويسر مهمتها فان هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات(1).

أما الخطوة الثالثة تقودنا إلى ان فرضية اثبات الصانع إذا لم تكن صادقة فان احتمال وجود هذه التوافقات بين الظواهر الطبيعية تحتاج إلى مجموعة هائلة من الصدف.

في الخطوة الرابعة: يرجح بلا شك ولا ريب صدق الفرضية التي طرحت في هذه الخطوة الثانية.

في الخطوة الخامسة والأخيرة: نقارن بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الذي قررناه في الخطوة الثالثة: (أي احتمال وجود هذه الظواهر على فرض كذب الفرضية) فان هذا الاحتمال ضئيل جداً وتزداد ضآلته كلما ازداد عدد الصدف... وبالمقابل فان نسبة الترجيح تكبر وتكبر... حتى يزول الاحتمال المقابل نهائياً.. ونصل إلى القطع بأن للكون صانعاً حكيماً.

هذا باختصار شديد توضيح لمراحل الدليل الاستقرائي.

____________

1- محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، (م. س)، ص35.


الصفحة 77
الدليل الثاني فهو الدليل الفلسفي الذي يعرفه باقر الصدر بانه الدليل الذي تكون بعض مقدماته على الأقل ليست تجريبية ولا ارتباط لها بالحس: لذلك يلزم من رفضه رفض الدليل الرياضي الذي يقبله الجميع لانه يستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي لا علاقة له بالحس والتجربة ويقدم باقر الصدر نموذجاً لهذا الدليل الفلسفي. يقوم على مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: لكل حادثة سبب.

المقدمة الثانية: الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.

المقدمة الثالثة: ان الموجودات بالاستقراء تتفاوت في الدرجات وتتنوع في الاشكال.

انطلاقاً من هذه المقدمات يطرح سؤال: من أين جاءت هذه الزيادة النوعية؟ كيف ظهرت هذه الاضافة النوعية التي نراها في بعض الموجودات المتمتعة بدرجات عالية من الكمال؟

في مقام الجواب لا يمكن أن نقول أن الزيادة جاءت من المادة نفسها لأن هذا الجواب يتعارض مع المقدمة الثانية (الأدنى لا يكون سبباً للأرقى). والجواب الصحيح: (ان هذه الزيادة جاءت من مصدر يتمتع بكل ما تحويه تلك الزيادة الجديدة من حياة واحساس وفكر وهو الله سبحانه وتعالى.

ويفنّد باقر الصدر كل المحاولات الميكانيكية والمادية في تفسير تطور المادة ومحاولة ارجاع هذه الزيادات النوعية والمراتب الكمالية إلى المادة نفسها(1) ويجزم قائلا (ان حركة المادة دون تموين وإمداد من خارج لا يمكن أن تحدث تنمية حقيقية وتطور إلى شكل أعلى ودرجة أكثر تركيزاً فلابدّ لكي تنمو المادة وترتفع إلى

____________

1- انظر فلسفتنا (الجزء الثاني) حيث يثبت أن هناك وجود جهة عليا وراء المادة تسبب هذه الزيادة النوعية.


الصفحة 78
مستويات عليا كالحياة والتفكر من رب يشع بتلك الخصائص ليستطيع أن يمنحها للمادة وليس دور المادة في عمليات النمو هذه إلاّ دور الصلاحية والتهيؤ والامكان دو الصالح والمتهيء لتقبل الدرس من مربيه فتبارك الله رب العالمين)(1).

كصيغة ثانية لهذا الدليل الفلسفي يمكن اعتبار فصل (المادة والله) في كتاب فلسفتنا وجهاً آخر للدليل حيث اثبت باقر الصدر أن المادة صفة عرضية زائلة في ضوء البحوث العلمية ولا يستند إليها الكون في وجوده ولا تستطيع أن تفسر لنا هذا العالم ولذلك لا يمكن أن تكون هي العلة الواضحة التي هي المرد والأساس والباعث للكون والعالم لأنها لا تمتلك الأصالة بل هي عرض زائل.

ثانياً: التوحيد والمثل الأعلى المطلق

نظرة جديدة تلك التي يطرحا باقر الصدر عبر مفهوم (المثل الأعلى المطلق) فالمجتمع والفرد سواء بسواء يتشخص سيرهما ومعالم هذا السير من خلال اختيار المثل الأعلى (فبقدر ما يكون المثل للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات صالحة وممتدة وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً)(2). فالمثل الأعلى هو محور أي حركة تاريخية لأنه يحدد غاياتها وأهدافها وبدورها هذه الأهداف هي التي ترسم حدود الانشطة والحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

لقد صنف المثل العليا إلى ثلاثة أقسام:

ـ القسم الأول: المثل الأعلى المنتزع من الواقع المعيش بكل ما يحويه من ظروف وملابسات.

ـ القسم الثاني: المثل الأعلى المحدود هذا النوع ليس تعبيراً تكرارياً عن الواقع كما

____________

1- م. ن، ص52.

2- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص145.


الصفحة 79
هو القسم الأول بل هو تطلع للمستقبل لكنه منتزع عن جزء من هذا الطريق المستقبلي الطويل.

ـ القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق: الذي تؤمن به عقيدة التوحيد وهو الله جل جلاله.

النوع الأول يمثّل محاولة لتجميد الواقع ويكون المستقبل تكراراً للواقع و(هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية إلى مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية أن تتجاوز الواقع وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع)(1).

إن تبني هذا النوع من المثل العليا يرجع إلى أحد سببين:

أولا: سبب نفسي: وهي حالة الخمول والالفة التي تجعل المجتمع يعيش حالة ضياع فينغلق على آلهة ينتزعها من واقعه يحوّلها إلى حقيقة مطلقة وقد عبّر القرآن الكريم عن ظاهرة تقديس الواقع الموروث وتحويل رموزه النسبية إلى حقائق مطلقة في آيات عديدة(2).

(قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أوَ لَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون )(البقرة: 17).

السبب الثاني: اجتماعي ويتمثل في التسلط الفرعوني: فالفراعنة يرون في التوحيد تجاوزاً للواقع الذي يسيطرون عليه وبالتالي خطراً يهدد سلطانهم ويزلزل كيانهم فيكون من مصلحتهم أن يغمضوا عيون الناس عن أي أفق وراء الواقع.. ولن يحصل ذلك إلاّ بتحويل هذا الواقع إلى مطلق إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه.. ففرعون يحاول دائماً أن يعبىء الجماهير ويؤطرها في ظل وجوده ورؤيته هو (وقال فرعون ما اريكم إلاّ ما أرى وما اهديكم إلاّ سبيل الرشاد) (المائدة: 29)، (وقال فرعون يا أيها الملأ ما

____________

1- م. ن، ص149.

2- من نماذج هذه الآيات: (المائدة 104)، (يوسف 78)، (ابراهيم 10)، (الزخرف 22)، (هود 62)..).


الصفحة 80
علمت لكم من إله غيري) (القصص 38).. إنه خط الطاغوت في التاريخ الذي يسعى لتجميد حركة المجتمع البشري وتحويل الواقع إلى مطلق وسجن الجماعة البشرية في ضيق الماضي وحُدُودِ رموزه.. هكذا تتحول معركة التوحيد والكفر إلى معركة بين قوى التقدم وقوى التآمر والجمود وتكون (الفرعونية) بكل مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. المؤسسة الطاغوتية التي تشد المجتمع إلى الوراء.. وتحول دون نهضتها التوحيدية وتحررها الرسالي.. إن مصير الأمم التي تخضع لهذه المثل العليا المنخفضة إنها تتحول إلى ما أسماه(قدس سره).. (شبح أمة) تعيش الفرقة والتمزق لأنه بغياب عقيدة التوحيد.. ينتفي الإطار الذي يوحد صفوف الأمة و(يبقى كل إنسان مشدود إلى حاجاته المحدودة إلى مصالحه الشخصية إلى تفكيره في أموره الخاصة كيف يصبح كيف يمسي كيف يأكل كيف يشرب كيف يوفر الراحة والاستقرار لأولاده ولعائلته أي راحة؟ أي استقرار؟ الراحة بالمعنى الرخيص للراحة والاستقرار بالمعنى الرخيص من الاستقرار.. يبقى كل انسان سجين حاجاته الخاصة سجين رغباته الخاصة..)(1)، ويحدد باقر الصدر مصير هذه الأمة النهائي بأحد الإجراءات الثلاثة التالية:

الاجراء الأول: ان تتداعى الأمة لغزو عسكري من الخارج لأن الأمة أفرغت من محتواها وصار كل فرد يفكر في ذاته.

الاجراء الثاني: الذوبان والانصهار في مثال أعلى أجنبي مستورد.

الاجراء الثالث: أن ينشأ في اعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمة.

أما النوع الثاني (المثل الأعلى المحدود) فقد نجد لتبني المجتمعات والأفراد لهذا النوع عذراً لأنهم لا يستطيعون أن يستوعبوا المطلق بحكم محدودية الأذهان، ويكمن

____________

1- م. ن، ص161.


الصفحة 81
الخطر هنا أيضاً في أن يضفي على هذا المستقبل القريب الاطلاق من جميع الجهات، لا شك أن هذا النوع يعطي للجميع طاقة نحو المستقبل ودفعاً ولكن في حدود آفاق هذا المثل الأعلى لأنه سرعان ما يبلغ مداه الاقصى فيتحول إذا لم نتجاوزه إلى عائق يعطل المسيرة ويشدها إلى عهود تكرارية.

بهذه الموازنة بين هذه الأنواع المختلفة للمثل العليا يبرز الصدر الأهمية الحضارية لعقيدة التوحيد وللمثل الأعلى المطلق الذي يجعل من الله غاية للمسيرة (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) (الانشقاق 6) بكل ما يعنيه ذلك من تألق المسيرة وديمومتها وتكاملها اللامحدود.

إن عقيدة التوحيد تصنع التوافق بين الوعي البشري والواقع الكوني الذي يفرض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة ثابتة.. ولذلك عبرت الآية عن الكدح بصيغة خبرية لا بصيغة إنشائية. فالبشرية تكدح نحو الله شاءت أم أبت حتى الذين يتمردون على الله هم يسيرون نحو الله ولكن من حيث لا يشعرون.. لان كونه سبحانه مثلا أعلى حقيقة كونية على الانسان أن يعيها ويرتبط بها.. (والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (النور 39). وعقيدة التوحيد عندما توحد بين الوعي والواقع بين الاعتقاد والحقيقة.. يحدث تغيراً كمياً وكيفياً على مسيرة الإنسان فالمثل الأعلى المطلق يحفز الإنسان والمجتمع نحو التقدم ويضفي على المسيرة اندفاعاً وتجدداً لا ينضب فعلى المستوى الكمي يفتح آفاقاً لا نهاية لها لانه كلما قطعت المسيرة شوطاً نحو الله انفتحت أمامها أشواطاً جديدة.. وتسقط حينئذ وتتهاوى كل الاشكال من الالوهيات المزيفة على هذا الطريق الزاحف نحو المطلق (من هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع كل اشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تحدد من كمية الحركة من

الصفحة 82
أن توصل الحركة إلى نقطة ثم تقول قف أيها الإنسان)(1).

(أما التغير الكيفي تتجلى في حل الجدل الداخلي للإنسان بإعطاء الشعور الداخلي بالمسؤولية الموضوعية لأن الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ)(2). وسبب ذلك أن المثل الأعلى المطلق حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان وبذلك يتفق الشرط المنطقي للمسؤولية وجود جهة عليا يؤمن هذا الإنسان بأنه مسؤول أمامها.

وعقيدة التوحيد إضافة إلى كونها تستند أساساً إلى الاعتقاد بالمثل الأعلى المطلق فإنها توفر الأرضية الملائمة وسائر الشرائط لتبني هذا المثل الأعلى فهي:

أولا: تتوفر على رؤية فكرية واضحة تقوم على الايمان بالله عزوجل الذي تتوحد فيه كل الغايات وكل التطلعات البشرية.

ثانياً: إن تبني المثل الأعلى المطلق يتوقف على طاقة روحية مستمدة من هذا المثل كي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للارادة البشرية على مر التاريخ وهو ما تمنحه عقيدة التوحيد عبر عقيدة المعاد.

ثالثاً: المثل الأعلى المطلق ليس جزء من الانسان بل هو منفصل عنه وهذا ما يستوجب قيام صلة موضوعية بين (الله) و(الانسان) وهذه الصلة تحقق بدور النبوة (فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة يركب بين هذين العنصرين ثم يجسّد بدور النبوة الصلة بين المثل الأعلى

____________

1- م. ن، ص185.

2- م. ن، ص185.