ولكن ما يهمنا في المقام كيفية دراسة باقر الصدر للمسألة انطلاقاً من منهجيته المتميزة ففي منظوره أن الإمامة كالنبوة حاجة حضارية متأصلة في حركة المجتمع والتاريخ. لقد شرح باقر الصدر هذا التوافق والانسجام بين النبوة والإمامة وانهما يعبران عن حقيقة واحدة في أطروحته (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) حيث أبرز كيف أن البشرية في مسيرتها تمثّل خط الخلافة لله عزوجل.
وهذه المسيرة تحتاج إلى إشراف وتوجيه وتسديد: وهو الخط الثاني الذي تولى هذه المهمة (خط الشهادة) (وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خط الخلافة خلافة الإنسان الخليفة من الإنحراف وتوجيهه نحو اهداف الخلافة الرشيدة)(1). لقد حدد الصدر أهداف هذا الخط: خط الشهادة (ذكرناها في أصل النبوة)، ولقد اعتمد في تحديد هذا المهام على الآية 44 من سورة المائدة (إنَّا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) كما استخلص من هذه الآية في تفسير فريد مبتكر حلقات هذا الخط ـ خط الشهادة ـ وهم: الأنبياء ـ الأئمة ـ فالفقهاء العدول، ويقدم بذلك استدلاللا متميزاً غير مسبوق ولقد التفت (شبي ملاط) في دراسته (تجديد الفقه الإسلامي محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم) لهذا الابتكار فقارن بين تفسير باقر الصدر للآية وبين غيره من المفسرين من علماء الشيعة والسنة ليستنتج: (أن قراءة الصدر لهذه الآية قراءة دستورية تختلف مع القراءة القديمة التي تحصر الآية في أسباب النزول)(2). إن هذه الأهداف: أضحت في فترة تاريخية معنية من مسار خلافة الإنسان تمثل حاجة ماسة فالمجتمع البشري مر بمرحلة الفطرة (التوحيد) ولم تكن هناك انقسامات أو
____________
1- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، م. س، ص161.
2- شبلي ملاط، م. س، ص86.
ولكن لما كانت هذه الثورة الالهية على يد الأنبياء ثورة شاملة. على الجاهلية والانحراف بكل محتواه الفكري والنفسي وبكل جذوره العفنة ومظاهره المتخلفة من استبداد واستغلال (كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد وكان لابد للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق ليلتحق بالرفيق الأعلى وهي في خضم أمواج المعركة بين الحق والباطل)(3). فالإمام كالنبي شهيد وخليفة لله في الأرض من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة وتحقيق أهدافها غير أن جزء من دور الرسول يكون قد اكتمل وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها فالوصي ليس صاحب رسالة ولا يأتي بدين جديد بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التي جاء بها الرسول(4)، هكذا وفي ضوء هذه النظرية للنبوة كثورة إلهية والامامة كامتداد لها في الزمن تصبح الأصول العقائدية الخمسة البرنامج الثوري لهذه القيادة
____________
1- البقرة: 213.
2- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، م. س، ص178.
3- م. ن، ص181.
4- م. ن، ص182.
الدليل الاستقرائي في بحوث الإمامة:
إلى حد الآن كنا نتحدث عن الإمامة العامة في فكر الصدر أما الإمامة الخاصة فنحن نلتقي معه على منهج جديد لاثبات ولاية علي(عليه السلام) حيث يستند إلى دليل يقترب في جوهره من نظرية الاحتمالات كما بلورها في المذهب الذاتي للمعرفة(2). حيث يحصر الطرق التي كان بامكان رسول الله اتخذاها لتدبير مستقبل الدعوة في ثلاثة احتمالات ثم يبطل كل من الاحتمال الاول والثاني ليثبت الاحتمال الأخير بعد ان يعزّزه بشواهد يستقرئها من تاريخ الدعوة الإسلامية ومن أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) أما الاحتمالات الثلاثة فهي:
الاحتمال الأول: الطريق السلبي وإهمال أمر الخلافة وهذا لا يمكن قبوله في حق رسول الله(صلى الله عليه وآله) لانه ناشىء من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يعتقد الرسول ان ذلك غير مؤثر في مستقبل الرسالة.
الأمر الثاني: نظرته للدعوة نظرة مصلحية ولا يهمه إلاّ أن يحافظ على الرسالة ما
____________
1- م. ن، ص52.
2- صاغ هذا الدليل في بحثه حول نشأة التشيع. نُشر تحت عنوان بحث حول الولاية وكذلك تحت عنوان نشأة الشيعة والتشيع. وهو في الحقيقة مقدمة لكتاب عبدالله فياض (تاريخ الإمامة واسلافهم من الشيعة، صدر سنة 1970).
الاحتمال الثاني: الموقف الايجابي المتمثل في نظام الشورى ولكن الصدر بحكم طبيعة الأشياء واستقراء جملة من الشواهد من تاريخ الرعيل الأول ومواقفه يبطل هذه الفرضية.
الاحتمال الثالث: الإيجابية متمثلة في إعداد من يقود الأمة (وهذا هو الطريق الوحيد الذي بقي منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولا في ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبي(صلى الله عليه وآله) وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً فيختار بأمر الله سبحانه وتعالى شخصاً يرشحه عمق وجوده في كيان الدعوة فيعده إعداداً رسالياً وقيادياً خاصاً لتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة)(1)، ويستدل على هذا الاعداد الخاص بشواهد من التاريخ ونصوص من أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) كحديث (الدار) وحديث (الثقلين) و(المنزلة) وحديث (الغدير) وغيرها...
أمّا التطبيق الثاني للدليل الاستقرائي في بحوث الإمامة: فيتمثل في الاستدلال على إمامة المهدي (عج) رغم صغر سنه ودفع الشبهة الواردة في المقام: لقد مثلت الإمامة المبكرة ظاهرة في الفترة الأخيرة من تاريخ الأئمة الأطهار فالامام الجواد تولى الإمامة وهو في الثامنة والإمام الهادي تولاها وعمره تسع سنين والإمام العسكري والد المهدي تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره.. إن هذه ظاهرة حسية عاينها الناس ولمسوها عن قرب (ولا يمكن ان نطالب باثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة)(2).
ولكن يمكن أن نستل من كلمات السيد استدلالا استقرائياً قائماً على رصد جملة
____________
1- محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، تحقيق عبدالجبار شرارة، مؤسسة الثقلين، ص63.
2- محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، دار التعارف، ص52.
فلابدَّ أن نسجل هذه الحقائق أولا: وهي:
أولا: إن الإمامة لم تكن مركزاً من مراكز السلطان وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشيعة من الاقتناع الفكري والروحي للجماهير بهذه الزعامة.
ثانياً: أن القاعدة الشعبية الشيعية تشكلت في عصر الباقر والصادق(عليهما السلام) وأصبحت مدرسة تتسع للعديد من الفقهاء والمتكلمين والعلماء وتياراً فكرياً واسعاً.
ثالثاً: إن الشروط التي تؤمن بها هذه المدرسة في الإمام شروط شديدة.
رابعاً: إن المدرسة وقواعدها كانت دوماً تقدم تضحيات جسام في سبيل الصمود على عقيدة الإمامية.
خامساً: إن الأئمة(عليهم السلام) لم يكونوا معزولين عن قواعدهم ولم يكونوا يحتجبون عن الناس إلاّ أن تفعل ذلك السلطات القائمة: فالأئمة لهم أصحاب ينشرون علومهم في الآفاق ولهم وكلائهم في البلدان حتى في الظروف المستعصية لهم قنوات خاصة للاتصال بشيعتهم.
سادساً: إن الخلافة المعاصرة للأئمة(عليهم السلام) كانت تنظر اليهم على أنهم مصدر على كيانها ووجودها. لذلك تبعث للتنكيل بالأئمة وبشيعتهم.
وبلحاظ هذه النقاط السابقة: لا يمكن أن نُفسر انقياد الشيعة بكل رموزها وعلمائها، وصمود الشيعة وتضحياتهم الجسام في سبيل اعتقادهم بامامة الحجة وعدم لعب السلطات بهذه الورقات لتشويه الشيعة والطعن في الإمامة لا يمكن أن نفسر كل هذه الظواهر إلاّ بالاقرار ان ظاهر الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية وأن إمامة المهدي (عج) مثلها كمثل نبوة يحيى(عليه السلام) في تاريخ الرسالات (يا يحيى خذ الكتب بقوة وآتيناه
العصمة ومدلولها الاجتماعي:
من النكات الدقيقة التي اشار اليها الصدر في بحوثه حول الإمامة رؤيته المتميزة للعصمة وإلحاحه على القراءة الاجتماعية لهذه المفردة العقائدية التي تبدو لأول وهلة موغلة في الغيبية بعيدة كل البعد عن الجانب الرسالي والحركي للمعصوم.
لكن الصدر له تقريبان أساسيان لمسألة العصمة يدفع من خلالهما هذا الوهم المسيطر:
التقريب الأول: نقرأه في محاضراته: (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف)(2) فانه يؤكد أن العصمة ليست بدعة شيعية وإنما هو شرط يشترطه أي اتجاه عقائدي فان (أي اتجاه عقائدي في العالم ان يبني الإنسان من جديد في إطاره ويريد ان ينشىء للإنسانية معالم جديدة فكرية وروحية واجتماعية يشترط لأن ينجح وأن ينجز وأن يأخذ مجراه في خط التاريخ يشترط أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً)(3)، ولكن كل ما في الأمر أن العصمة في الإسلام ذات صيغة اوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الاخرى لأن رسالة الإسلام رسالة شمولية تمس كل جوانب الحياة وتدخل في كل ابعاد الإنسان. ولما كان الإسلام يؤسس لعاطفة وفكر وسلوك معين اقتضت العصمة الاندماج الكامل في هذه الأبعاد الثلاثة وتكون (عصمة الإمام عبارة عن نزاهة في كل فكرة وفي كل عاطفة وكل شأن والنزاهة في كل هذا عبارة عن انصهار كامل مع مفاهيم وأحكام الرسالة الإسلامية في كل مجالات هذه الأفكار والعواطف والشؤون)(4).
التقريب الثاني: نعثر على هذا التقريب في اطروحته (خلافة الانسان وشهادة
____________
1- مريم: 12.
2- انظر ص73.
3- محمد باقر الصدر، أهل البيت، م. س، ص73.
4- م. ن، ص75.
وفي محاضراته القرآنية (المدرسة القرآنية) يعطي سراً آخر من أسرار العصمة والاستقامة على خط الجهاد والتغيير(3)، قد يسأل: لماذا كان الأنبياء على مر التاريخ اصلب الثوار على الساحة التاريخية؟ لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة وفوق كل مهادنة وفوق كل تملل يمنة أو يسرة؟ لماذا كانوا هكذا؟ لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبياً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟ ثم
____________
1- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (م. س)، ص179.
2- م. ن، ص182.
3- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص187.
ومن هنا كان النبي معصوماً على مر التاريخ)، ان هذا التحليل وإن كان يهم مباشرة النبي لكن بنفس الملاك يجري على الإمام وهو يعتبر ان الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي يمثّل حاجة ماسة للإنسان تساهم العبادات في إشباعها كما بين الصدر في نظرة عامة في العبادات (خاتمة الفتاوى الواضحة).
ولكن هذه الحاجة تشهد لدى المعصوم أقوى استجابة وأعمقها فهو يعيش ارقى الاتصال بالله والانشداد له ومن هنا يستشعر أعلى درجة ممكنة من المسؤولية تجاه الله عزوجل. والعصمة في المنظور الصدري لا تلغي الجانب الموضوعي من تكامل المعصوم وخضوع دوره التاريخي وتفاعله الاجتماعي للقوانين العامة والنواميس الكونية لأن العصمة لا تخرج المعصوم عن الاطار التاريخي لحركة الإنسان لانها لا تخرجه عن كونه انساناً متعالياً ولا تجعل منه (ما فوق الإنسان)، ان حال المعصوم في هذه الجهة حال الرسالة نفسها التي رغم كونها في مضمونها الرسالي ربانية ولا ترتبط بالظروف الموضوعية و(لكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف)(1).
كنموذج لخضوع (العصمة) للقوانين الموضوعية وسنن التغيير:
نذكر مثالين أشار إليها في موضعين مختلفين:
المثال الأول: تفسيره لظاهرة أن الأوصياء يكونون دائماً من سلالة النبي. حيث يؤكد (أن هذا ليس من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل اساساً للتوارث بل من
____________
1- محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، ص76.
المثال الثاني: تفسيره(قدس سره) لسر غيبة الإمام المهدي (عج) وارجاع ذلك في بعض الأبعاد لما يمكن أن يسمى (بتكامل ما بعد العصمة): أي (ذلك الكمال الذي يؤهله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من اساليب القيادة العالمية العادلة)(3)، فالشهيد محمد باقر الصدر يعتقد ان غيبة الإمام وطول عمره من عوامل نجاح ثورته العالمية (لأن التغيير العالمي الذي سيمارسه المهدي يتطلب وصفاً نفسياً في القائد الممارس مشحوناً بالشعور بالتفوق والاحساس بضالة الكائنات الشامخة التي اعد للقضاء عليها بتحويلها حضارياً إلى عالم جديد)(4)، فالإمام المهدي بمعاصرته لحضارات عديدة ودول كثيرة قامت ثم زالت تجعل الباطل متصاغراً في نفسه ولن يخشى أي قوة حضارية مهما كانت قوتها اضافة إلى ان مواكبته لهذه الحضارات من شأنه أن يعمق الخبرة القيادية للمهدي (عج).
الأصل الخامس: المعاد
الدليل الذي يقدمه الصدر على المعاد على (التلازم بين العدل والجزاء) فالعقل الفطري يدرك ان الظالم الخائن جدير بالمؤاخذة وان العادل الأمين الذي يضحي في سبيل العدل والامانة جدير بالمثوبة وكل واحد منا يجد في نفسه دافعاً إلى مؤاخذة
____________
1- البقرة: 124.
2- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ص185.
3- محمد الصدر، تاريخ الغيبة الكبرى، منشورات ذو الفقار قم، ص277.
4- محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، ص42.
ولكننا نلاحظ أن هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أنه مقدور لله سبحانه وتعالى وهذا يبرهن على وجود يوم مقبل للجزاء يجد فيه العامل المجهول الذي ضحى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته والظالم الذي افلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل وهذا هو القيامة الذي يجسد كل تلك القيم المطلقة للسلوك (العدل والاستقامة والامانة والصدق الوفاء ونحوها...) وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى(1).
دور المعاد النفسي والاجتماعي:
لم نعد بحاجة للقول أن المعاد والايمان بيوم القيامة يدخل في المركب الحضاري الإسلامي لحل الجدل الإنساني إلى جانب التوحيد والنبوة بل قد سبقت الاشارة ان النبوة تعتمد على عقيدة المعاد في حل هذا التناقض بين المصالح الاجتماعية ومقتضيات الحياة المدنية من جهة وبين مصالح الفرد من جهة اخرى وتستند إلى التوحيد لتعميق الشعور بالمسؤولية الموضوعية تجاه المثل الأعلى المطلق. وهكذا يحل الدين استناداً إلى (التوحيد والنبوة والمعاد) المشكلة الاجتماعية ويضمن التوازن بين حاجات الفرد ومتطلبات الجماعة بين تكامل الفرد وتقدم المجتمع.
ولكن لندفق في ابعاد المعاد داخل هذا المركب الحضاري العام: حيث ان المصالح
____________
1- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص55.
المصالح الطبيعية يمتلك الإنسان دافعاً ذاتياً يضمن تحقيقها (فالانسان ركب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصة يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة)(1)، كما إن الإنسانية تمتلك القدرة على معرفة هذه المصالح.
اما المصالح الاجتماعية فهي بدورها ايضاً تتوقف على ادراك النظام الاجتماعي الاصلح وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك النظام.
أما الشرط الأول: فانه لا يمكن للبشرية ان تضع بنفسها النظام الاجتماعي الاصلح لأن (الانسان لا يستطيع ان يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية وينسجم مع طبيعته وتركيبه العام لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه والطبيعة الانسانية بكل محتواها)(2)، من هنا يستدلون على ضرورة الدين في حياة الناس والحاجة إلى الوحي والنبوة لطرح المصالح الحقيقية والنظام الذي يؤدي إلى السعادة الحقة ولكن أيضاً الدافع نحو هذه المصالح حتى وإن أدركت لا يمكن تحققه بسهولة لأن حب الذات تدفع الانسان إلى تقديم مصالحه الفردية على مصالح الآخرين فالدوافع الذاتية (تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية وايجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم)(3) هنا يأتي دور المعاد بل هو طاقة روحية ليعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الحياة الدنيا أملا في
____________
1- محمد باقر الصدر، اقتصادنا، م. س، ص319.
2- م. ن، ص320.
3- م. ن، ص320.
إن عقيدة المعاد تحدث تغييراً جوهرياً في مجال الأهداف التي يتحرك لأجلها الفرد والمجتمع. فعدة المجتمعات اللادينية والنظم العلمانية لا تنظر إلى الحياة إلاّ من خلال شوطها القصير ولا ترى للسعادة في سبيل سوى اشباع غرائز الإنسان وشهواته وتلبية رغباته... بينما في اطار عقيدة التوحيد يكون الله ومرضاته وعبادته هي عناوين للاهداف الكبرى لمسيرة الإنسان ولا يعود المال والجاه والقوة والشهوة وغيرها من (القيم) المحدودة منتهى الآمال وغاية السير... فالإسلام اعطى للساحة التاريخية حجمها الحقيقي وربطها بعالم آخر غير منظور حسياً... وإن هذا العالم هو دار الخلود... وإن الإنسان يخلد بعمله وكدحه... لا: بغيرها من الموازين وهذا يمنحه قدرة على الثبات والاستمرار والسعي الدؤوب، (فعقيدة يوم القيامة تعلم الإنسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يتحرك عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر وان مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائماً
____________
1- م. ن، ص325.
(فالمعاد يلعب على صعيد الثورة الاجتماعية للانبياء دوراً اساسياً بوصفه الاساس الواقعي لما يتبناه انسان الأنبياء الصالح من أهداف وقيم في الحياة)(2).
____________
1- محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية، م. س، ص194 2- محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة، م. س، ص52.
على طريق التجديد الكلامي
هذه هي معالم التجديد منهجياً ومفاهيمياً في البحث العقائدي، كما حاولت الدراسة الكشف عنها في منحى تحليلي، وباستقراء النتاج العلمي في مجال البحث العقائدي بعد باقر الصدر وعلى امتداد الساحة الإسلامية بمختلف مذاهبها نلمس بوضوح أن هذا الإنتاج العقائدي لم يستفد جيداً من هذه النقلات المنهجية الهامة التي أسسها باقر الصدر ولم يعمّق كثيراً هذه التحولات.
إن هذا القصور للأسف يواجهنا أيضاً في كل المجالات الفكرية الأخرى: في نظرية المعرفة والمذهب الاقتصادي والنظرية السياسية، والنظرية الاجتماعية.. الخ. ان الساحة الفكرية لم تشهد من بعده نقلة نوعية حقيقة ولا يزال الفكر الإسلامي يتحرك في حدود الآفاق التي رسمها باقر الصدر بريشة عبقريته وإبداعه، بل بدونه أحياناً حيث نرصد تراخياً وركوداً فكرياً.
إن أطروحة الصدر الكلامية لا تزال تختزن داخلها مشاريع عدة تستوجب جهوداً كبيرة لتفجيرها والرقي بالطرح العقائدي إلى مستويات أعلى قادرة على مقارعة كل التيارات المستحدثة واقتحام كل الساحات الفكرية والفضاءات الثقافية وتحدي كل المشاريع المضادة..
وهذا الجهد مر حتماً عبر تمثل واستيعاب تفاصيل هذه الاطروحة الصدرية ثم قراءتها نقدياً (كما مر معنا في المقدمة) قراءة تتخطى النزعة الاستصحابية التي تحاول تجميد الفكر في مرحلة ما.. وتحول ابداع باقر الصدر إلى عائق معرفي يحول دون نهضة جديدة.. ودرجات أعلى من تكامل الفكر ونضوجه.
إن باقر الصدر نفسه يعلمنا ان نتخلص من هذه النزعة المدمرة التي تجعل من
نعم انه من الطبيعي أن المجددين الكبار يرحلون قبل أن يتموا مشاريعهم الكبرى لأن مشاريعهم الفكرية والحضارية هي دوماً أكبر من اعمارهم وتحتاج إلى أجيال عديدة تستوفي اغراضها على أيديهم.. ولكن مع ذلك.. لابد من توجه صادق وقوي نحو هذه المهمة حتى نحقق بعد سنين نتائج مثمرة على هذا الطريق.
وفي انتظار جهد علمي مدروس، وعمل مؤسساتي مركز لقراءة نقدية لفكر باقر
____________
1- فقرات: من المحاضرة الثانية من محاضرات المحنة.
2- لاحظ تحليل هذه الظاهرة بقلم الشهيد الصدر في كتابه المعالم الجديدة للأصول: من ص68 إلى ص80 (دار التعارف للمطبوعات).
سلام عليك باقر الصدر يوم ولدت وسلام عليك يوم استشهدت وسلام عليك يوم تبعث حياً في وعي الأمة ووجدانها وثوراتها الآتية سلام عليك يوم تحشر مع أجدادك الاطهار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق
كانو الثاني 2000م
رمضان 1420هـ
قائمة المصادر
آل ياسين، جعفر:
الفكر الفلسفي عند العرب، دار المناهل، 1993.
اغروس (+ رورت م):
العلم في منظوره الجديد سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 134.
الافغاني، جمال الدين:
الرد على الدهريين، ترجمة: محمد عبده، اسلام العالمية.
اقبال، محمد:
تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1955.
جدعان، فهمي:
اسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979.
جنابي، ميثم:
علم الملل والنحل، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.
الحاج محمد، أبو القاسم:
العالمية الإسلامية الثانية، دار المسيرة.
الزمخشري:
الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت.
الشهرستاني:
الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني.
صبحي، أحمد محمود:
علم الكلام.
الصدر، محمد باقر:
ـ الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.
ـ الإسلام يقود الحياة، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.
ـ أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف. دار التعارف للمطبوعات، لبنان.
ـ اقتصادنا، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.
ـ الفتاوى الواضحة، دار التعارف، لبنان.
ـ المدرسة القرآنية، دار التعارف، لبنان.
ـ المدرسة الإسلامية. دار الكتاب الإيراني.
ـ اخترنا لك. دار الزهراء، بيروت.
ـ نشأة الشيعة والتشيع، تحقيق: عبدالجبار شرارة، مؤسسة الثقلين.
ـ بحث حول المهدي، دار التعارف.
الصدر، محمد صادق:
تاريخ الغيبة الكبرى، منشورات ذو الفقار، قم.
الطباطبائي، محمد حسين:
ـ الميزان، الأعلمي، 1997.
ـ الشيعة في الإسلام، دار التعارف.
عبده، محمد:
رسالة التوحيد، دار إحياء التراث، بيروت.
مطهري، مرتضى:
ـ الفلسفة، دار التيار الجديد.
ـ الكلام والعرفان، الدار الإسلامية.
المظفر، محمد رضا:
الفلسفة الإسلامية.
ملاط، شبلي:
تجديد الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم.
الهاشمي، محمود:
بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر.